القصة مازالت تثير الدهشة

نزهة في المقبرة



فى وقت يتحدم فيه الاهتمام بالرواية ، تحاول القصة القصيرة ـ وفي صمت ـ أن تعيد رسم ملامحها على ضوء المتغيرات التى عصفت بمفهوم الإبداع الأدبي ، وظني أن القصة القصيرة استشعرت أزمتها بعد يوسف إدريس ، إذ وجد القاص نفسه سجين النموذج الأدريسى الذى سيطر قرابة ثلاثين العام منذ الخمسينيات ، وشكّل النواة الحقيقية للقصة العربية الحديثة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد إرهاصات التجديد منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، مؤسسة على دعوة للكتابة عابرة النوعية ، تنطلق من القصة القصيرة بالتحديد ، ولإدوار الخراط الذى حقق نموذجه السيادة منذ الثمانينيات ـ فضل فى هذا ، بل وألف كتابا فى التعريف بقدرات السرد القصصي على مفارقة نمط الحكاية المتبعة. وهوالكتاب المعروف بالقصة عابرة الأنواع .
لكنى أعتقد أن القصة القصيرة ـ الآن ـ تعيش مرحلة جديدة تماما ، توسع من مفهومها ، بحيث نجد تجليات جديدة لها ، ليس فقط على صفحات الجرائد والمجلات السيارة ، بل وعلى شبكات الأنترنت ، وشاشات التلفزيون من خلال الأفلام الوثائقية والإخبارية ، فكثير من الخواطر والأخبار والتقارير والحوادث واليوميات تشتمل على طابع سردى مكثف يستعير أبنية وطرائق السرد المألوفة فى القصة القصيرة ويدمغها بطوابع عديدة من التجديدالتقنى والأسلوبي .
أدى هذا ـ فى الأونة الأخيرة ـ إلى شيوع أشكال بينية فى السرد ، فلم يعد الأمر حصريا بين نمطي القصة والرواية ، سنجد مثلا : النوفيللا ، وحلقات السرد أو المتتاليات القصصية التى تنتظم عبر سردات صغيرة تتواصل فيما بينها بروابط أسلوبية أو تقنية أو موضوعية ، وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى نوازع التجريب التى يحققها قاص متميز مثل محمد المخزنجى ، الذى قدم مؤخرا نصوص : " حيوانات أيامنا " وهى بمثابة بحث سردى فى عالم الحيوان . يطيب للباحث حسين حمودة أن يطلق عليه :" الكتاب القصصى " لكونه يجمع بين صفة الكتاب العلمي البحثي والسرد القصصي ، وكان المخزنجي قد قدم من قبل ، وفى سياق التجريب القصصي ـ أيضا ـ نصوص : " غرق جزيرة الحوت " التى تعتبر بمثابة تقرير سردي لواقعة انفجار المفاعل النووي الروسي تشرنوبل .
وتأتى نصوص : " نزهة فى المقبرة " للقاص (محمد أبو الدهب ) ، فى سياق هذا النزوع التجريبي للقصة القصيرة ، فالنصوص تقوم على وحدات سردية مكثفة ومنفصلة عن بعضها البعض ، لكنها فى نفس الوقت تتواصل فيما بينها بموضوع واحد وهو الموت ، فيبدو الكتاب وكأنه بحث سردى فى الموت ، وذلك باعتبار الموت أكثر سرديات التاريخ البشرى غموضا وغرائبية وديمومة.
وإذا اعتبرنا أن السرد القصصي ليس مجرد شكل مميز عن السرد الروائى إلا بقدر ماهو زاوية نظر مختلفة للموضوع مناط السرد ، فنستطيع أن نلمح فى نصوص " نزهة فى المقبرة " محاولات سردية لرصد الموت من أكثر من زاوية . فالموت موضوع كتبت فيه روايات وتناولته السير والملاحم والأساطير والدراما المسرحية والشعر الغنائي ، ولكن ، عندما تتوفر مجموعة من النصوص القصصية على موضوع مثل الموت ، فهذا يعنى رؤية أدق ، بمعنى أنها رؤية لاتضيع ملامحها فى تشابهات أو تفاصيل جانبية .
إننا نقرا فى نصوص هذه المجموعة عدة وجوه وزوايا للموت ، وكـأننا نتأمله وندرسه ونقلبه على كل وجه . فالموت هو اليقين الوحيد الذى عرفه البشر ، وهو المجهول الغامض المحاط بالأساطير والحكايات حتى ليبدو أكثر سرديات التاريخ البشرى تعقيداً وغرائبية وتنوعا ، لهذا فإن تفكيك هذه السردية الكبرى فى عدة سردات صغرى يسهم بطريقة ما فى فهم الموت ورصد تجلياته ،وصوره التى تتفاوت بين الموت الحقيقي والموت المجازي النفسى ، فالخوف ، وإنعدام الرغبة والتوحد، مثل هذه المشاعر تبدو أحد تمثيلات الموت ، والطريف أن النصوص تكشف أن معكوسها أيضا يكون صحيحا ، فالتهور والنهم وتأخر الوعى بالذات هى من صور الموت أيضا .
وقصة ( الخوف ) تصور هذه الطبيعة المتناقضة للموت ، فللموت حيله التى لاتنفد وطرائقه التى لاتنتهي . كما أن الموت يمثل أكبر صور المفارقة فى الوجود بوصفه تغيرا من الحركة إلى الثبات ومن الوجود إلى العدم ومن الشك إلى اليقين ، لهذا نجد من الحكمة قولاً مثل :" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " . إن المقولة تنطوى على حكمة التجربة الإنسانية بين الحياة والموت ، إنها المفارقة ، ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد المفارقة ملمحا رئيسا يسري فى كل نصوص المجموعة، وتأخذ المفارقة عدة صور موضوعية وأسلوبية على نحو ما نجد فى العنوان : " نزهة فى المقبرة " الذى يحوى أكثر من دلالة ترتبط بمفهوم الموت فى الثقافة الشعبية والدينية ، سواء من حيث هو مجرد رحلة أخيرة يقوم بها الإنسان، ينتقل فيها من دار الباطل إلى دار الحق ، أو من حيث هو تجسيد دراماتيكي لسخرية الحياة . ويمكن أن نلحظ أن السخرية سمة ممتدة فى كثير من نصوص المجموعة ، حيث تتعرض الشخصيات للموت بطرائق عدة ، وحيث يأتى فى لحظات يتصور فيها الإنسان أنه أبعد ما يكون عن الموت .
فى قصة (الكاتب يبكي ) ، نجد تجسيدا ساخرا لكاتب يجلس على مكتبه يحاول الكتابة عن الموت ، ويبدأ فى استدعاء الصور والمفارقات التى ارتبطت بحكايات الموت التى سمع بها ، يقلبها جميعا فى ذهنه وكأنه يختبرها كمادة لكتابة مفارقة ، وأثناء ذلك يلقى الموت عليه بثقله ، فيجهش بالبكاء : " سقط القلم من قبضة الكاتب على غير المتوقع، فغطى وجهه بيديه ، ثم نزل به على الأوراق ، وأنبرى يبكي ، ارتعش جسده مع ارتفاع نشيجه ، وابتلت أوراقه بدموعه ، ولم يرفع رأسه ليكتب شيئا عن البكاء " .
تتميز النصوص بكثافة لغتها حتى لتقترب إلى لحظات من الشعر ، أوالإخبار ، أو الحكمة ، لتعمق هاجس الموت ، كما تكشف عن معرفة عميقة بالمفهوم الواسع للموت سواء فى تصوراته العلمية الفيزيقية ، أو فى مفهومه الشعبي والدينى ولاسيما التصور الصوفى للموت .
ونتيجة لهذاالتكثيف والالتقاط الذكي للحظات فارقة أحيانا ومتشابهة أحياناً ، تبدو النصوص فى تجاورها وكأنها تنويعات على معزوفة جنائزية ، لاتخلو من مفارقات ساخرة على نحو ما نجد فى هذا النص : " فجأة عرف الخوف . لايفهم كيف ولا متى ، هو الذى يتمنى الخلود بين مزرعة الدواجن التى امتلكها أخيراً ، ومدرسة بلدته الابتدائية التى صار ناظرها وحامل تاريخها .أحب هذه الصيغة من الحياة .. الانتقال الذي لا يراه مختلفاً بين التلاميذ والدجاج .. ابتسامته المتسامحة كل صباح ـ وقت تحية العلم ـ إذ يتذكر أمنيته القديمة بأن يصبح ضابطاً فى الطيران .. وقفته المطمئتة وهو يراقب العمال ينقلون البيض من مزرعته إلى الشاحنة المسافرة بعيداً ، لكن الخوف نغص عليه ، أرسل إليه هاتفاً بحذره من القادم ، يقوم صباحا فلايجد أثراً للمزرعة على جسر النيل .. يدخل المدرسة فيقرأ ورقة مختومة تطالبه بالخروج .. أو يأخذه شيء إلى بعيد ، فلا يرجع .
والنص السابق ، المتوسط فى طوله يعطى مثالاً لطابع الكثافة اللغوية التى تشيع فى النصوص كلها ،ومن ثم نجد نصوصا أطول من ذلك قليلاً ، كما نجد نصوصا لاتتجاوز خمسة الأسطر . لهذا فإن الكتاب يحوي بين دفتيه ( 68 نصا ) يمكنها من خلال التجاور أن تقدم هذا التنوع الهائل لصور الموت ، وكأننا بالفعل أمام تنويعات على معزوفة جنائزية كبرى .
من الطريف أن هذا ليس الكتاب السردي الوحيد للكاتب محمد أبو الدهب الذى يتناول الموت ، فمن قبل تناوله فى عدة إصدارات وكأن الموت صار مشروعه الذى يدرسه سردا ، محمد أبو الدهب له من قبل مجموعات قصصية منها : " أوراق صفراء ـ آخر الموتى ـ نصف لحية كثيفة " .
نزهة فى المقبرة : صادرة عن دار الناشر بالقاهرة ـ 2008 ।
كتبها : سيد الوكيل

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds