أولا: السرد والأسئلة النقدية

تدخل الرواية العربية زمن التحول البنيوي منذ عقدين أو أكثر من الزمن، بفعل خصوبة حياتها السردية.يشخص ذلك التحول حالات التغير التي تعرفها السياقات الاجتماعية العربية ،والتي أصبحت تغذي الرواية بإمكانات معرفية وفنية، وتخصب نظامها بأشكال جديدة من الوعي والرؤي.

بدأ الوعي النقدي يشتغل في اتجاه البحث عن مظاهر التبدل في الحالة السردية، منذ تغير أفق انتظار القارئ، الذي تعود إستراتيجية معينة في تلقي النص السردي الروائي العربي. وهي إستراتيجية تولدت عن إيقاع اشتغال السرد في النماذج الروائية العربية التي جعلت الحكاية تتحقق روائيا، وفق نظام يجعل من الحكاية حالة تخييلية قابلة للأخذ بها دفعة واحدة. بناء علي نظام العلاقة بين المؤلف Auteur باعتباره ذاتا واقعية ملموسة تؤلف الكتاب، ولا تسرده وتبقي خارج مجال النص Texte وبين الساردNarrateur باعتباره تقنية سردية ليس إلا، تقوم بوظيفة حكي الحكاية، وجعلها تتحقق نصيا، ويمكن لشخصية تخييلية أن تقوم بوظيفة السرد، لكن ذلك يدخل في إطار نظام السرد ككل الذي يحكمه منطق الجنس الأدبي. أنتجت هذه الإستراتيجية السردية ساردا يتدبر شأن القصة من زاوية رؤيته الخاصة، المتحكمة في خيوط القصة، من خلال السرد الأفقي الذي ينتج بدوره قارئا محافظا علي صمته السردي، لكونه يتلقي القصة بإيقاع خطي، ويتموضع في زمن انتظار ما سيحكيه السارد. انعكس هذا الوضع العلائقي علي مفاهيم عديدة، تشتغل لإنجاز الحالة السردية للجنس الروائي. من بينها مفهوم الحدث الذي يأتي مكتملا ضمن بنية القصة. والحكاية التي تصبح لها محطات من التلقي، تبدأ عقدة وتنتهي تلاشيا سرديا، يحقق إشباعا لدي القارئ الذي ينتظر نهاية ،تكون في غالب الأحيان سعيدة أو لها علاقة بقيم إيجابية. والسارد العالم بكل شيء، والموجود في كل مكان. والمؤلف الذي قلما يطرح سؤالا، نظرا لكون وضعية السارد المتحكم في شأن القصة ،يضعف السؤال لأنه يمنح الحكاية المكتملة.

لقد أنتجت هذه الحالة السردية شبه اطمئنان، لدي القارئ الذي كان يرافق السارد وهو يسرد الحكاية من البداية إلي النهاية. غير أن هذا الاطمئنان سرعان ما تلاشي، و خرج القارئ من سلطة الحكي المبرمج بواسطة السارد العالم، عندما تغير إيقاع الحالة السردية، وتحول منطق السرد، وتلاشت القصة، ودخلت أصوات عديدة ومتناقضة داخل مجال النص، تنجز الكلام الروائي، وتحقق للنص حالته السردية بناء علي موقعها، ورؤيتها الخاصة.كما انفلت الزمن من سلطة الحكي الأفقي، وأصبح الوضع السردي الروائي وضعا سرديا متعددا من حيث الإنجاز السردي.

عمل هذا التحول في بنية السرد علي تنشيط أسئلة من وحي الممارسة السردية التي باتت تعرف تحولات في منطقها. وظهرت أسئلة من مثل: من يكتب؟ من يسرد؟ من يتكلم؟ من يري؟ من يؤلف؟ من ينجز الفعل الروائي؟ .وهي أسئلة وإن كانت قد رافقت زمن تكون الجنس السردي الروائي، غير أن طرحها مع التحول السردي خاصة، فيما عرف بالرواية الجديدة، كان وراءه هذا التحول الذي عرفه نظام السرد في إنتاج الرواية مما جعل مفهوم الرواية الجديدة يظهر في النظرية السردية الروائية.

اشتغلت نظرية السرد الروائي علي هذه الأسئلة ،التي انبثقت من داخل الإنتاجية التخييلية الروائية. وجاءت الطروحات النقدية متعددة ومتنوعة، تنوع الحالة السردية في الجنس الروائي. وبدون الدخول في مجال النظرية السردية، نشير فقط إلي الناقد الفرنسي Gérard Genette الذي يري بأن كل حكي Récit يتضمن بالضرورة جزءا من تشخيص الأفعال والوقائع، والذي يعني السردNarration/. وجزءا يهتم بتشخيص الأشياء والشخصيات، والذي يعني الوصف Description? وقد حظي السرد باهتمام نقدي مهم، نظرا لكونه يشكل منطق القوة في تحقيق الفعل الروائي.

- لماذا يعيش السرد تحولات في طرائق اشتغاله؟.

- هل تغير السرد يؤدي بالضرورة ، إلي الانتقال إلي حالة سردية جديدة ومن ثمة إلي نوع أدبي جديد؟

للاقتراب من هذه التساؤلات نقترح الملاحظات التالية:

1 - لا ينتمي السرد في جوهره فقط إلي المجال الأدبي، ولكنه ينتمي إلي مختلف الأشكال التواصلية الشفوية أو المكتوبة. إنه يظهر في كلام المتكلمين، وتبادل الكلام، وفي وسائل الإعلام، بل يمكن اعتباره حالة بيولوجية ستظل ترافق الإنسان الذي يوجد باستمرار في حاجة إلي التبليغ والحكي والسرد. ولذلك، فالسرد ليس ثابتا، أو مغلقا في وضعيته وطريقة اشتغاله، لأنه مرتبط بأنظمة عديدة من أهمها الموقع الذي من خلاله يتم إنجاز السرد، وموقع المتلقي. فحكاية الراوي الشعبي مثلا ليست حكاية واحدة، ولكنها تتغير بتغير طريقة سردها، فالراوي يسرد حكايته شفهيا وهو في علاقة مباشرة مع الجمهور المستمع، وكلما تغير نوع الجمهور، وتغيرت جلسة الراوي، تغير إيقاع السرد.

السرد حالة متغيرة في علاقة بنيوية مع عناصر متداخلة.

2- انطلاقا من الزمن التكوني للجنس الروائي، فإن الرواية جاءت من رحم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ومن واقع أزمة الفرد، وبالتالي فقد عبر ظهورها عن زمن التحولات التي عملت الرواية علي سرده وفق نظام العلاقات بين مكونات المجتمع. ولعله الوضع الذي أدي بالناقد الروسي ميخائيل باختين إلي اعتبار الرواية من أكثر الأجناس الأدبية التي تأخذ شرعيتها من استمرار انفتاحها علي المحتمل في التبدلات الاجتماعية. وهو وضع يجعلها قادرة علي تبني كل جديد داخل منطقها، واستثماره من أجل جعله مكونا روائيا، يتعزز به نظامها. وهذا ما جعل من الرواية جنسا أدبيا حيويا. من هنا، يمكن اعتبار الجنس الروائي باعتباره جنسا سرديا ، حالة سردية تعيش التغير والتحول باستمرار، بفعل استثمارها لمختلف تطورات الحالة السردية في الأشكال التواصلية المختلفة.وكلما تغيرت الوسائط التواصلية، تغير إيقاع التواصل العام ،ومعه تغيرت حالة السرد.

3- إن هذه الاختلافات التي نلمسها بين نصوص تبني الحكاية بشكل مختلف سرديا في التجربة العالمية ،وليس فقط العربية، عن نصوص روائية عودتنا علي نظام معين للحكاية، سواء في شكلها الأفقي مع النموذج الكلاسيكي والواقعي، حيث الحكاية تسرد وحدة متكاملة، أو في شكلها التجريبي مع النصوص التي تنزاح عن هذا الشكل، من خلال تدشين الاختراق وجعل النص أكثر انفتاحا علي التعدد في الأصوات المتكلمة والساردين، وفي اللغات وأنماط الوعي، وحضور الحكاية مجزأة ومتشظية سرديا..إن هذا الاختلاف لا يعبر عن قطيعة مع نظام الكتابة الروائية، كما لا يشكل تناقضات حادة بين أنظمة صنعة النص الروائي. فالرواية لا تعيش الثبات ، وإنما تتغذي من منطق التحول، انسجاما مع علاقة الفرد بالمجتمع والواقع. إذن، الذي يحدث مع هذه التحولات ليس تناقضات حادة ،وإنما هي اختلافات تمس نظام توزيع مكونات بناء الحكاية الروائية بسبب تغير إيقاع السرد.

4 - يتغير إيقاع السرد تبعا لتغير مواقع الساردين،ووضعية السارد، والذوات المتكلمة داخل النص الروائي. كما يعرف النص السردي تحولات في نوعه الأجناسي، بناء علي وضعية المؤلف في علاقته بالمجال النصي. مثلما بدأنا نري في نصوص كثيرة تبدأ سيرذاتية في افتتاحها السردي، وفي إعلان المؤلف عن رغبة توثيق سيرته، ثم يحدث التحول السردي باتجاه الحالة الروائية. أو كما نجد في نماذج "السير روائي" والتي باتت تعين كثيرا من النصوص العربية، بعضها يصرح بهذا التداخل الأجناسي في غلاف النص كما نجد في نماذج مغربية كثيرة منها علي سبيل المثال الضريح (1994) للكاتب عبد الغني أبو العزم الذي جاء بتجنيس" سيرة ذاتية روائية". وهناك نصوص تنتمي سرديا إلي هذا النوع الروائي، غير أنها تحافظ علي تجنيسها المألوف /رواية، ونلتقي بهذا النموذج في نصوص عربية كثيرة، علي سبيل المثال، رواية الكاتب البحريني أمين صالح "رهائن الغيب"(2004) التي تنفتح علي تمظهر سيرذاتي تشخصه إشارات إعلانية واضحة سرديا، لكن، البعد الروائي يفتت السيري ويحل محله. غير أن الوضعية البنائية لهذا النص تجعله سيرروائي تبعا لتكونه الداخلي.

تطرح هذه النماذج التي تأتي في علاقة جديدة مع المؤلف باعتباره ذاتا سردية، تدخل مجال النص بقوة الحضور السردي، سؤالا أساسيا، يتعلق الأمر بالوضعية الأجناسية لهذه النصوص، مع ما يترتب عن هذا السؤال من أسئلة تجدد النقاش حول من ينتج الفعل السردي في المجال النصي الروائي.

5- لا يقوم الجنس الأدبي علي معيار ثابت، إنه في علاقة بنيوية دائمة مع تجدد السياقات، ولهذا فهو يختلف من مجتمع إلي آخر. إنه حالة ثقافية بامتياز.وهذا ما يجعل الرواية تتغذي من التحولات التي يعرفها الإنسان في علاقته بذاته، وبالعالم من حوله.وفي الوقت نفسه تصبح الرواية شكلا من أشكال التفكير في هذه العلاقة. هذا ما يجعل من وصف النص الأدبي، وصفا للجنس الأدبي علي حد تعبيرTODOROV تودوروف.

إن ما يحدث في تركيبة الجنس السردي الروائي ، ليس إذن، تجاوزا لمنطقه القادر علي استيعاب التحولات التي تعرفها العلائق الاجتماعية، والمسألة مفهومة بالرجوع إلي زمن تأسيس الرواية التي انبثقت من رحم الأزمات والتحولات وتمكنت من تشرب ذلك باختلافاته وتناقضاته والتباساته، وحولته إلي نظام دال. إن الذي يحدث هو تغيير في نظام ترتيب البيت الداخلي للنظام السردي. وذلك انسجاما مع التحول الذي تعرفه المواقع في علاقتها بالمواضيع. عندما أخذت الذات موقع الفعل والحكي، وجعلت موضوع الحكي والفعل هو الذات نفسها، فإن رؤيتها للأشياء تغيرت، وانعكس ذلك علي اللغة والحدث الذي أصبح حالة، والموضوع الذي تحول إلي رغبة.

يؤدي بنا هذا التخريج إلي إمكانية الحديث عن مبدأ التنوع السردي داخل الجنس الروائي. وهو تنوع بدأ التصريح به من خلال مجموعة من التعيينات التجنيسية خاصة في التجربة المغربية.

ثانيا: مظاهر التحول السردي في الرواية

يتجلي التحول السردي في الرواية في مظاهر عديدة، ومتنوعة تبعا لطبيعة اشتغال الحياة السردية في المجال النصي، نقف عند مظهرين اثنين يشخصان هذا التحول بشكل واضح:

1- الحكاية من الاكتمال إلي التشظي

تبني كثير من النصوص روائيتها من عنصر تجاوز المألوف في الحياة السردية في النص العربي، فإذا تعودت الذاكرة المقروئية تلقي الرواية حكاية مكتملة ، لها مقومات منطق العلاقات بين الشخصيات والأفعال، مما جعل كثير من النصوص حاضرة بقوة في الذاكرة بحكاياتها وقصصها ، فإن النص الروائي العربي شهد انزياحا عن عنصر اكتمال الحكاية، من خلال اعتماد مبدأ الاشتغال علي الخطاب السردي الذي اهتم أكثر بمظاهر تشخيص الحكاية أكثر من الاهتمام بضمان تحقيق حكاية قابلة للأخذ بها دفعة واحدة، وهو ما عرف في الدرس النقدي بالتشظي الحكائي أحيانا، وبالاكتمال الحكاية أحيانا أخري. وهو مظهر شخصته كثير من النصوص ابتداء من منتصف الثمانينيات من القرن العشرين.نذكر علي سبيل التوضيح رواية الكاتب التونسي كمال الرياحي" المشرط"(1) التي تأتي عبارة عن شذرات نصية، أو أوراق حكاها أصحابها، فطارت في السماء وفقدت أصلها، وأعاد سارد الرواية وضعها في نظام مغاير، فجاءت غريبة في القراءة الأولي، صعبة من حيث لم شتاتها، وجمع أطرافها.

غير أن قراءة المنطق السردي للنص، تعبر عن مستوي آخر من الاشتغال علي مستوي الحكاية.

يتشكل النص من قصاصات حكائية سردية، ومن أخبار صحفية، ونصوص مفكرين ،وهو تشكل يتم عبر أزمنة يتعالق فيها الماضي بالحاضر. نص ينفتح علي مشاهدات متنوعة. يحدث أحيانا الانفلات من الحكاية، لكن الوصال السردي سرعان ما يعود بفعل كون كل حكاية تأتي مشبعة بذاكرة الحكاية السابقة. هناك ما نسميه بالإشباع السردي ليس علي مستوي الحكاية، إنما علي مستوي الخطاب التشخيصي للحكاية.

كل حكاية تذكر بالحكاية السابقة، إنه نص غير مقيد بالخط الأفقي للحكاية.بل إن الحكاية تنتعش من هذا الامتلاء القصصي وبالساردين/ الرواة الذين يخرجون من زوايا المقاهي أو مقاعد الحافلات أو أروقة الكتب. تنتعش الحكاية بنوعية الشخصيات المهمشة في الواقع (المومس/ العاهرة...)، والتي تصبح لها وظيفة في تفعيل الأحداث. ولعل دخول هذا النوع من الشخصيات إلي المجال السردي، يحرر المجال من سلط راسخة في الملفوظ ونوعية الخطاب، وطريقة التبليغ والترميز. إن الشخصية الروائية تدخل إلي المجال السردي صاحبة ملفوظ ولغة وصوت ونمط من الوعي، وكلها وضعيات ذات علاقة بالسياق الاجتماعي والاقتصادي، إنها وضعيات اجتماعية تحرر اللغة كما تحرر شكل الكلام ومعجمه.

ينتمي هذا النص إلي عينة النصوص التجريبية التي تخرج القارئ من المتلقي للحكاية ،إلي صانعها من منطلق المشارك في تفعيل الحياة السردية، التي لا تستقيم إلا بتفاعل القارئ معها.

نص حركي في زمنين متباعدين، يحكي ضمن الماضي لكنه يدخل الواقعي والراهن، ويحقق عبر منطق السرد حوارا بينهما. ولعل الإشارات الحاضرة في الزمن الراهن هي التي تذكر القارئ بأن الحكي، وإن اعتمد نصوص الذاكرة فإن مآلها الزمن الحاضر. سارد النص سارد غير يقيني ، يجعل الحكاية تنفتح علي تعددية التبليغ، سارد يشك في كل الأصوات والرهانات. وهو وضع سردي سمح بدمقرطة السرد الذي كان وراء تدمير عينة من السلط الفكرية والاجتماعية والتاريخية، فابن خلدون مثلا أخرجته الحياة السردية في نص "المشرط" من موقعه الفكري التاريخي، وزعزعت وجوده عندما جعلت تمثاله يهتز، والقمل يهاجمه " كان ابن خلدون الحزين قد ترك كتابه وانشغل بفلي القمل الذي هجم علي لحيته منذ أن أغلق الشارع، وهجره المصورون والسياح"( ص 110)? كما سيتخلي ابن خلدون عن عمامته " لذلك قررت وزارة الثقافة والمحافظة علي التراث نزع عمامة ابن خلدون تصحيحا للتاريخ واحتراما لرجل خدم البلاد والعباد"( ص 112) ( التشديد في النص وليس مني) السارد لا يحاكم هنا الفكر الخلدوني، وإنما قراءات الفكر الخلدوني، تلك التي صنعت منه تمثالا جامدا.

كما يعرف النص التجريبي تحولات سردية مختلفة، فبعض النصوص قد يوهم أفقها السردي بانتمائها إلي النموذج الكلاسيكي لكون الحكاية تسرد بطريقة متتالية، تجعل من الحكاية جوهر السرد وأفقها المنتظر، ولكن طريقة التشخيص تعبر عن شكل جديد في تبليغ الحكاية، مثلما نجده مع رواية الكاتب المصري سعد القرش"أول النهار"(2) التي تعطي الانطباع بأنها رواية ذات بعد أفقي، نظرا لاعتمادها علي نظام تسلسل أحداث القصة. إلي حد أننا نشعر أحيانا بنوع من التوازي بين زمن القصة Temps dصHistoire وزمن الخطابTemps de Discours. يدعم هذا الانطباع الأولي هيمنة السارد بضمير الغائب.

غير أن تكسيرات سردية تحدث في زمن القصة ، لكن بشكل سردي مرن ولين، منها تلاشي منطق السببية الذي يدعم نظام القصة في النمط الكلاسيكي. لأن الأحداث لا تخضع لمنطق تطور الأحداث، بقدر ما يتداخل العنصر الغيبي في تصريف الأحداث، فيساهم بدوره في خرق منطق تعاقد الأحداث وتسلسلها مثلما وجدنا مع مفهومي النبوءة والموت اللذين لعبا دورا بليغا في مسار الأحداث، وإقامة علاقة توتر مع القصة. وحضرا في التركيبة السردية في مستوي عنصر العجائبي الذي وجدناه يمنح للنص الروائي التجريبي العربي بعدا من الترميز المفتوح علي الدلالات.

نلتقي في رواية سعد القرش" أول النهار" بمحكي عام يتناول سيرة حياة الحاج عمران وأسرته. ثم هناك محكيات تولدت عن اشتغال العنصر الغيبي ( النبوءة)، نتجت عنها تحولات في مسار اشتغال المحكي العام بالإضافة إلي ظهور محكيات جديدة مثل محكي هند.إن توليد المحكيات بفضل العنصر الغيبي خرقت منطق السببية، وأجهضت قانون التسلسل السردي، وغيرت موقع القارئ الذي لم يعد منتظرا لما سيحكيه السارد، ولما سيؤول إليه المحكي العام الخاص بحياة الحاج عمران، بقدر ما أصبح قارئا مرنا في علاقته مع الحكاية.قارئ ينتظر كل الاحتمالات التي قد توقف تدفق المحكي العام، وتحول المحكيات الصغري إلي محكيات كبري.

لقد انعكس هذا الوضع التركيبي السردي علي تقنيات التبليغ ، حيث هيمنت عناصر التكثيف التعبيري، والتلخيص المركز والمقتر والذي لا يسمح بخلل في التواصل مع أحداث القصة. كما أن اللغة حضرت موضوعا للتشخيص الروائي، وليس فقط وسيطا سرديا لحكي القصة. إنها لغة مركبة، مشبعة بتنويعات لغوية تنتمي إلي سياقات مختلفة (اجتماعية، دينية، تراثية، تاريخية...)، بهذا الشكل اللغوي تم تجاوز السارد بضمير الغائب، عبر ملفوظات السياقات الاجتماعية. فلغة الشخصيات تخترق لغة السارد، وتوجهها وتتجاوزها و تقلص سلطتها في تدبير شأن القصة.

إن قراءة "أول النهار" قد تمنح بعض الانطباعات الأولية بوجود حكاية مكتملة. يتوفر السارد العالم والمتواجد في كل مكان علي خيوط فصولها، غير أن منطق اشتغال السرد يزيح الوعي النقدي عن هذه الانطباعات، ويجعلها رواية تبحث عن زمن تكون حكايتها، بناء علي نظام ترتيب حياتها السردية. وهذا ما يعزز دور القارئ الذي سرعان ما يجد نفسه يتخلي عن دور المتلقي، إلي دور المتفاعل والمنتج لحكاية مفتوحة علي احتمال اشتغال منطق الغيبي.

إنها لعبة سردية باتت تشخص كثيرا من النصوص العربية، حين تصرح بالقضية الأساسية في المظهر السردي العام، لكنها تتخلي عن القضية، لتدخل عالما آخر يتحقق نصيا ، مثلما يحدث مع نص الروائي المغربي سعيد علوش "تسانو ابن الشمس ملعون القارات"(3) فهناك تصريح بالقضية الجوهرية لزمن الحكاية، ولكن طريقة السرد انزاحت عن الأفق المصرح به من قبل الكاتب Ecrivain/ وحكت الرواية شيئا آخر له علاقة بمكونات الحياة السردية التي شكلت هوية النص الروائي.

يعلن الكاتب Ecrivain قبل النص، عن طبيعة الحكاية التي تتعلق بقصة أول مهاجر مغربي إلي أمريكا في القرن السادس عشر.أول مغربي تطأ قدماه فلوريدا. يعزز الكاتب محتوي الحكاية بمعلومات إضافية تخص الأمكنة والقارات التي عبرها المهاجر المغربي،قبل الوصول إلي أمريكا. (ابن أزمور دكالة- رحل إلي البرتغال ذبيع إلي الإسبان ذ رافقهم إلي أمريكا ذ كان الناجي الرابع من بين ستمائة بحار ذ أطلق عليه المؤلف تاسانو ذ لقبه الإسبان استبانيكو ذ نعته الهنود الحمر ابن الشمس ذ احتفلت به أريزونا في ذكراه الخمسمائة- ملعون قارات( إفريقيا/ أوربا/أمريكا) ذ قطع الهنود الحمر أوصاله إلي سبعة أطراف وزعت علي سبع مدن).

يقدم الكاتب مجموعة من المعطيات التي تحدد طبيعة الحكاية، بشكل يعطي الانطباع بالبحث عن مفقود.

يتأسس التصريح علي الاعتقاد بإمكانية تجميع شتات الحكاية التي توزعت بين ثلاث قارات سرديا، وتبريرها حكاية عبر إعادة حكي الحكاية رواية. إن إعلان الحكاية قبل النص مع ما تحمله من إغراء الاكتشاف، هو العنصر الضامن للوصال مع نص يطرح صعوبة القراءة المسترسلة بحكم اعتماده علي سياقات خارجية، تتطلب من القارئ التفاعل الوظيفي معها. لهذا، فإن الرواية وإن أعلنت عن حكايتها قبل الشروع السردي في احتواء الأفق التكويني للحكاية،فإن المحكي تنكر للحكاية كانشغال وحيد سرديا، وكسر البرنامج التعاقدي بين الكاتب والقارئ وخرق السرد أفق انتظار القارئ، دون أن يحدث شرخا في القراءة أو يتعطل فعلها،بل حول القراءة إلي ممارسة إنتاجية للنص من خلال إنتاج حكاية غير مرئية، حكاية تنبني من ملفوظات وخطابات الساردين الذين يدخلون المجال النصي في رواية علوش من باب التاريخ والتراث والدين والجغرافيا والفقه والفلسفة ، والذين يغادرون مجالات انتمائهم وينخرطون في السرد التخييلي، إذ يحولهم السرد إلي ساردين متخيلين، يعيدون حكاية نصوصهم عن طريق المناظرة التخييلية، التي معها يتلاشي سؤال البحث عن أول مغربي هاجر إلي أمريكا كا ادعت الرواية في مشروعها.

2- دخول المؤلف إلي مجال النص

أحدثت تركيبة بعض النصوص الروائية لبسا في سؤال التجنيس. وذلك عندما بدأت ذات المؤلف تظهر بكل وضوح، مع إعلان صريح في مجال النص، ومنطق التخييل. أو بعدما ارتأي بعض الروائيين تجنيس نصوصهم بغير المتعارف عليه في التقليد الكلاسيكي ( الرواية)، واستبدلوا ذلك التعيين بمصطلح آخر مثل المحكي والمحكيات والتخييل الذاتي مثلما فعل الروائي المغربي محمد برادة في نصه" مثل صيف لن يتكرر"(1999). ولعل جوهر التحول السردي في هذا المقام التجنيسي يتعلق بما سماه الناقد المغربي الدكتور رشيد بنحدو بـ "هذا أنا- هذا غير أنا"، وذلك في معرض دراسة له تحمل نفس العنوان(4). ويبدو أن المتغير هو حالة الضمير السارد الذي يأخذ بعدا واقعيا وآخر تخييليا. وقد عمل الناقد بنحدو علي توليد بعض المصطلحات الإجرائية لإدراك وضعية هذا الضمير، مثل الاستيقاع علي وزن الاستفعال الذي يعني به "نزوع النص إلي مضارعة الواقع واستلاحة الحقيقة في شكل أقرب ما يكون إلي البوح الأطوبيوغرافي"(5) والاستخيال يقصد به الناقد "توسل نفس النص بوسائط بلاغية واحتيالات أسلوبية ...من أجل كبح هذا البوح الواقعي"(6) ثم التخطيب، وهو مجموعة من الإجراءات التلفظية التي تسمح بضمان عملية العبور الرمزي من الواقعي إلي الخيالي، وهو ما يعرف عادة في النظرية الروائية بالخطابDiscours /.

لا يتعلق الأمر في هذا المقام التجنيسي السردي، بما يصطلح عليه بالسيرة الذاتية، حيث ضرورة توفر نسبة من المطابقة بين المؤلف والسارد والشخصية، مع اعتماد المرجعية الواقعية في عملية الإسناد التخييلي، وإنما صيغة هذا المحكي الذاتي تطرح النقيض من خلال اعتماد المرجعية التخييلية باعتبارها سندا لتشخيص وإدراك الحالة الواقعية.

إنه وضع تركيبي نلتقي به في كثير من النصوص حتي تلك التي تأتي تحت تجنيس رواية، غير أن نظامها السردي يحيلها إلي نوع ما نسميه بالمحكي الذاتي مثلما وجدناه مع نص الروائي المغربي عز الدين التازي "امرأة من ماء"(7) حيث يتماهي السارد مع المؤلف، أو المؤلف مع السارد ليحكي النص حكاية الذات المأزومة بسبب وضعيتها مع ذات أخري (زهرة /الزوجة)، وحكاية فضاء طنجة التي تصبح هي الأخري ذاتا مأزومة.

تسرد حكاية "امرأة من ماء" بطريقة مونولوجية ، تجعل الحركة ممكنة في التذكر، وتحول الحدث إلي حالة تتحكم في مصير الشخصيات والأزمنة واللغة.

ينطلق الحكي في «امرأة من ماء» من إحساس الذات بالفراغ، وهو فراغ من طينة الفراغ الوجودي، يدفع هذا الفراغ باتجاه البحث عن معني وجود الذات.

"امرأة من ماء" حكي ينساب مع خطوات السارد في شوارع وأزقة وأحياء طنجة، ومع يقظة الذاكرة. تحاور الذات هنا ذاتها بشكل مباشر عبر المونولوج الداخلي، أو من خلال استحضار ذات الآخر(زهرة /الزوجة). لكن في النهاية يركز السرد تبئيره علي الضمير السارد الذي يلتقي فيه الواقعي/ المؤلف والتخييلي/ السارد، وينتج عن هذا الملتقي رؤية سردية تعطي للنص بعده التجنيسي في إطار محكي ذاتي Auto- récit. تعرف بعض النصوص الروائية حضور إشكالية هذا الضمير بطريقة مغايرة عما سميناه بالمحكي الذاتي.نلتقي بشكل تجنيسي آخر، يندرج بدوره ضمن التحولات السردية التي يعرفها الجنس الروائي، ونعني بذلك تلك النصوص التي يلتقي فيها السيري بالروائي كما في رواية الكاتب البحريني "أمين صالح" رهائن الغيب"(8) حيث تذهب كثير من الإعلانات السردية إلي الإفصاح عن انتماء تجربة الافتتاح النصي لرهائن الغيب إلي السيرة الذاتية، بعضها جاء مدخلا تشويقيا لإمكانية سرد سيرة حياة "والحبلي بي كانت تصقل مرآة الولادة وتقطف قدري من رحم الصدفة، وكنت أرضع حليب الغواية من ثدي المجهول، الحامل مصيري بيدين من صلصال".(ص11). وبعضها مصرح به عبر الحكاية، نستخرجه من محكيات ضمير المتكلم" أنا"، الذي يفصح عن رغبته في حكي الطفولة وإحياء الذاكرة". وحميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض نحو مشارف الصبا، خارجا من مهب الطفولة، ومعه تتراكض منازل تشتغل حجراتها شهوة إلي المصادفات." ( ص 12).

كما تجتهد الكتابة السردية في هذا النص في تحديد تمظهرات السيرة الذاتية، من خلال تعيينات خطية، تميز مقاطع السيرة بضمير المتكلم ،عن غيرها من مقاطع السرد بضمير الغائب. فتأتي بسمك غليظ ، ولون أقرب إلي السواد الداكن، و بطريقة مختلفة في برمجتها علي الصفحة. إلي جانب كونها مقاطع تحتفي بمشاهد الطفولة وشغبها، وتركز علي توثيق سيرة أمكنة وأزمنة ذات علاقة بسيرة الضمير السارد ورفاقه.

وهي مقاطع سينطلق بها النص لتبدأ في الخفوت تدريجيا مع امتداد السرد، وانخراط ضمير الغائب في الحكي، لتتلاشي مع نهاية النص.

إنه وضع يثير مسألة العلاقة بين السيرذاتي والروائي في نص "رهائن الغياب" وهذا التجاذب بين الضميرين/ المتكلم والغائب في تجنيس النص، هو الذي يمنح للنص هويته السردية ضمن نوع السيرروائي.

تركيب استنتاجي

لا شك أن هذه التحولات السردية التي تعرفها تجربة الممارسة الإنتاجية الروائية في الزمن العربي الحديث، تنتج مجموعة من المفاهيم والدلالات، يمكن استنتاج بعضها علي شكل نقط:

- يعرف مفهوم السرد تحولات، من واقع تجربة الممارسة الروائية العربية. وهو بهذا يعكس دور التجربة الروائية العربية في تطوير منطق الجنس الأدبي، بناء علي شروط سياقاتها التاريخية.

- استعاد مفهوم التخييل الروائي باعتباره فعل تحويل المادة إلي حالة متخيلة، راهنيته بسبب التحول السردي الذي باتت تعرفه كثير من النصوص الروائية العربية ،والتي جعلت ضمير أنا يحضر بقوة سردية.

- تعمل النصوص السردية الجديدة علي تنشيط سؤال الجنس الأدبي من خلال راهنية سؤال التخييل.

- تشخص الحياة السردية المرنة في التجربة الروائية العربية الحديثة، حالات التحول التي تعرفها المجتمعات العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

- تؤكد التجارب الروائية العربية، والتي باتت تطرح شرعيتها من طبيعة بنائها للحياة السردية لنصوصها مسألة كون الجنس الأدبي (ومنه الروائي السردي) مسألة ثقافية ذات علاقة بوضع المجتمع ونوعية التفكير والإدراك.

- تجدد النصوص الروائية علاقتها بالنقد، وتحفز هذا الأخير علي تنشيط أسئلته، وتطوير أدواته من أجل علاقة متوازنة بين اللحظة الإبداعية ولحظة التفكير.

- إن تنوع تركيبة التجارب الروائية العربية انسجاما مع مبدأ اختلاف السياقات المحلية، يحول الروايات إلي مراجع لاشتغال النقد.

الهوامش

1- الرياحي (كمال): المشرط (من سيرة خديجة وأحزانه) عيون المعاصرة- دار الجنوب للنشر، الطبعة الأولي:2006 .

2- القرش(سعد): أول النهار، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولي:2005 .

علوش( سعيد): تاسانو ابن الشمس ملعون القارات، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولي: 2007 .

3- بن حدو ( رشيد): هذا أنا- هذا غير أنا، دراسة (من ص 32 إلي 44) ضمن كتاب جماعي: الشكل والدلالة، قراءات في الرواية المغربية.

5و6 : المرجع السابق، ص: 33 .

5- منشورات نادي الكتاب بكلية الآداب بتطوان، الطبعة الأولي: 2001 .

7- التازي( عز الدين): امرأة من ماء.

8 - صالح(أمين): رهائن الغيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولي، 2004

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds