ككل البشر في مرحلة النضوج والولوج من الطفولة للرجولة تمتلئ الجوانح بالحاجة للشعر.

" الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا "

جان كوكتو

أنا أزعم أن سبعة مليارات البشر حاولوا كتابة الشعر، بل أزعم أن كل الكائنات حاولت كتابته . . أليس هديل ذكر الحمام في أذن أنثاه شعرًا؟!

حتي الكلب إذا لمح أنثاه؛ تحرك ذيله برقصة أجمل من رقصة الفراشات فرحًا بها لأنه يريد أن يقول بيتين من الشعر.

وحتي النباتات.. فعباد الشمس يميل بقرصه مع حركة محبوبته الشمس!

والصفصاف.. آه من الصفصاف ومن أ.ع حجازي:

وصفصافه

علي شبَاكك الحرّان هفهافه

وكنت بحافة المخدع

تردين انبثاقة نهدك المترع

وراء الثوب.

وشاعر آخر:

مالت علي الماء الغصون كما انحنت

أمّ تعانق طفلها المحبوبا

والأحجار، حتي الأحجار

" صخرتان تحابتا فغار الماء " - رينيه شار.

أنا واحد من هذه الكائنات الشاعرة. وأتذكر الآن يحيي الطاهر عبد الله وإهداءه لي نسخة من مجموعته المعنونة ( حكايات للأمير حتي ينام ) إلي ابن الشرقية البار.. وسيفها البتارر.. الشاعر الجبّار أحمد بك والي.

كان الشعر عشقي فكنت أنسخ وأنا في المرحلة الثانوية بخط يدي دواوين كاملة أستعيرها من دار الكتب بالزقازيق لأنني غير قادر علي ثمن شرائها، فنسخت دواوين للأخطل الصغير وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والشابي وجبران وصلاح عبد الصبور ونزار قباني والعظيم محمود درويش . . فلما التحقت بطب القاهرة قادتني قدماي لقريب لي يسكن إحدي حارات السيدة زينب وكان معي جنيهات ثلاثة كي أشتري حذاءً شعبيًا بعد أن فُتق الحذاء الوحيد الذي أنتعل، فوجدت أمام بابه مخزن كتب قديمة لعجوز اسمه الشيخ علي خربوش فلم أملك نفسي عندما سألته عن ديوان المتنبي شرح البرقوقي والذي يربو علي الألف صفحة فقال جنيه واحد بس، فأخذته بحضني ومعه سقط الزند للمعري وديوان امرئ القيس بجنيه آخر لكليهما، أما الجنيه الأخير فكان من نصيب البحتري.

تخيلوا بثمن حذاء فقير اشتريت دواوين لا أعدل مال الدنيا ببيت واحد فيها . . فالله الله يا أبا الطيب، إذ تخلص الفتي الغضّ من أوهام الحب وهوس الرومانسية.

وما الحب إلا غـرّة وطمـاعةٌ

يعرّض قلبٌ نفسـه فيصـاب

أعز مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

ذلكم هو الشعر، فما هي إذًا حكاية القصة معي ؟

أنا إنسان بسيط وابنُ إنسان بسيط وفقير كان يعمل موظفًا بسيطًا بالسكة الحديد. وكنا سبعة أبناء، اثنان بكلية الطب واثنان بالصيدلة وواحد بالآداب وأخري بالحقوق وصغير يحبو هو الآن مستشار بوزارة العدل. وكنتُ شديد الولع بفيروز وكان يقتلني الحنينُ في آخر الليل وأنا عائد من صلاة الفجر أتأمَل البدر المنير أعالي الكافور المحيط بنهر مويس الذي يطلّ عليه منزلنا القديم، أموتُ حنينًا إلي صوتها وهي تشدو بواحدة من فرائد عقد الشعر العربي، وربما تكون القصيدة الوحيدة التي كتبها بالفصحي ابن الشرقية البار والشاعر الأكثر رقة وعذوبة مرسي جميل عزيز.

لم لا أحيا وظلُ الورد يحيا في الشفاه

. . . . .

ليس سرًا يا رفيقي أن أيامي قليله

ليس سرًا إنما الأيامُ بسمات طويله

إن أردت السرَّ فاسأل عنه أزهار الخميله

عمرها يوم وتحيا اليوم حتي منتهاه

سوف أحيا-

من أين آتي بالمسجلة وليس لي قريبّ ببلاد النفط، بل أني لي أن آتي بمائة من الجنيهات وراتب أبي كان ثلاثين جنيهًا إلا قليلاً؟

وينقذني إعلان صغير في لوحة الإعلانات بكلية الطب عن مسابقة تجري بين جامعات مصر في القصة والشعر والمقال ومسرحية الفصل الواحد وقيمة الجوائز تسيل اللعاب: خمسون جنيهًا للفائز الأول وأربعون للثاني في كل فرع. ولقد كان الهاجس أن الشعر العاطفي لا يحظي بالرضا لدي شيوخ المحكمين لذا اضطررت لكتابة قصيدة وطنية حتي تليق:

سائل التاريخ واقرأ ما رواه

واسأل الميدان عما قد رآه

حرةََ عاشت بلادي، شـعبها

لقّن العالم أسـرار الحياه

من قديم الدهر شيدنا الهرم

وبه نزهو علي كـل الأمم

وحديثـًا قد بنينـا سـدّنا

بمداد الفخـر فاكتب يا قلم

وكان المقال " غزلية في عشق مصر " ودارت برأسي قصةٌ عشتها طفلاً. كانت أمي تجمع ثمر الباذنجان وأقوم بحراسة أختي وهي طفلة تحبو، فلما نامت من الهدهدة فرشت لها ثوبي في ظلة التيل حتي أحميها من نتوءات الأرض، وذهبت أجمع ثمرات نخلتنا العامرية العالية التي كان الغرابُ ينقر بلحاتها الرطب الطرَية.

ياغراب يا بو قطية

وقّعَ لي بلحة عامرية

لعملك فطيرة بزيت

وأحطها لك جنب الحيط

وبينما أنا عائد أتلذذ برحيق عسلها إذا بي لا أجد أختي حيث تركتها ولمحتُ ثوبها طافيًا في القناة، ولم يأكل الرعبُ قلبي وإنما انسحق .ورفعتها إلي حضني فشهقت فعادت الروح لقلبي المسحوق وكان همي بعد أن أطمئن فؤادي وعادت لكلينا الروح أن أجفف ثوبها حتي لا تضربني أمي.

وتاقت نفسي لأبي البعيد في سرابيوم الإسماعيلية، هناك حيث يحرك عصا التحويلة الحديدية ليمرّ قطار صفارته دائمًا حزينة لأنها تذهب للبعيد بالأحباب.

عاشت أختي ودخلت كلية الصيدلة خلف مستشفي الزقازيق الجامعي، وكلما تقابلنا صدفة عند المكتبات أو بطرقات الجامعة يحمرّ وجهها فرحًا بي ويرقص قلبي الطري الطفلُ الصغيرُ لأنها عاشت.

عندما كنتُ عائدًا أتأمل البدر المنير العالي فوق الكافور وأفكر في فيروز تذكرت مطيعة التي هي كالبدر، فكتبتُ القصة لوحاتٍ بعناوينَ جانبيةٍ ثم أسميتها "الحصاد" لكني في القصة لم أنقذ أختي من الغرق ولم أنقذ الطفل الصغير الذي هو أنا من عجلات القطار ذي الصفير الحزين.

أخذت المركز الأول علي جامعات مصر في كل من الشعر والقصة والمقال وحصلتُ علي المائة جنيه ويزيد. وهكذا اشتريت آلة التسجيل وستصبح تلك هي المرة الوحيدة تقريبًا التي أتقاضي فيها أجرًا لقاء كتابتي حتي اليوم.

كنا نقوم بعمل ندوات في كليات الجامعة وتعرفت علي الشاعر حسين علي محمد ابن ديرب نجم الذي احتفي بالقصة وزاد في مديحها وتمني أن تنجب الشرقية كتابًا آخرين بقامة يوسف إدريس.

لقد اجتهدت في المرحلة الثانوية وأنا أذوبُ توقًا لأن أدخل كلية الطب لأصبح كإبراهيم ناجي شاعر الأطلال، فإذا بي في منتصف الطريق أتخلي عنه وأحمد الله لأن إدريس كان هو الآخر طبيبًا.

كتبت القصة وبدأ الشعر يتواري، لأننا لم ننجح في علاقة حب كي نذكي نار الكتابة، وأنّي للأولاد الفقراء حبٌ حتي من الفقيرات مثلهم واللواتي يتقن إلي زميل ثري ؟؟

وهكذا استجابت القصة لمشاكلنا الاجتماعية فكتبت بعد الحصاد، موسم الفقراء، وأيام العائلة الكبيرة، واللباس التحتاني، وزمن الحرب، وقطار جميل أخرس !

وجاءت الأستاذة فريدة النقاش في إحدي ندوات التجمع بالزقازيق فأعطيتها في نهاية الندوة وعلي استحياء القصص الثلاث الأولي فنشرت إحداها بأدب ونقد وأرسلت في طلبي إذ كانت إحدي صفحات " أيام العائلة الكبيرة " قد ضاعت وتريد أن تنشرها في العدد القادم، وتلك كانت المكافأة الثانية، وهكذا أصبحت مجلة أدب ونقد وبعدها " إبداع " الدكتور عبد القادر القط بيتي الذي أشعر فيه بالونس.

تخرجت وعملت في بلدتي طبيبًا وأصبحت مقلا بعد أن شغلتني العيادة قليلاً، ولأنني بحكم انتمائي الطبقي لا أميل إلي أجهزة الحكومة ولا أثق فيها أصدرت مجموعتي الأولي "ثلاث شمعات للنهر" عام 1988علي حسابي الخاص وبدأت أخسرُ من جرّاء الأدب لكنني كنتُ أكسبُ نفسي، وكان في الدنيا بقية من خير فاحتفي بعض النقاد (رغم بعُدي عن القاهرة) بالعمل وكتبوا عنه. وفي منتصف التسعينات كانت قد اكتملت لدي من القصص المنشورة مجموعة أخري أسميتها "كائنات فائضة عن الحاجة" وحاولت أن أنشرها في هيئة قصور الثقافة إذ أصبح النشر الخاص مكلفًا والتوزيع غدا بالغ الصعوبة، ولم لا وأنا أري كتابات غثّة ورديئة في سلاسل شاحبة لا تصنع كاتبًا ولا تشجعُ قارئًا.. ونزل اسمي في ترويسة آخر كتاب بالسلسلة العمل القادم "كائنات فائضة عن الحاجة" لكنها لم تنزل لأنني ببساطة بعيدٌ عن التربيطات والشلل والعنكبوت الذي كبّل الحياة الثقافية، وكانت جريرتي ليس البُعد فقط ولكن نفوري الشديد من الرياء وإطراء المشرفين.

كنا معزومين أنا وشقيقي الأكبر الدكتور بركات في فرح زميل له بإحدي قري ديرب نجم تدعي المناحريت وكانت ليلة الحناء ، جلس العريس في منتصف المندرة علي حصر السمار وحوله الأقرباء والأصدقاء وباقي المعازيم يسندون ظهورهم علي مساند الكنب العديدة التي يتطوع بها الجيران مع حصائر السمار، وفي منتصف المندرة صينية كبيرة مملوءة بالحناء ومغروس فيها الشموع التي ملأت جوانب المندرة بالأضواء المتراقصة مع أضواء الكلوبات المتبرع بها أيضا من دكاكين القرية. وبديهي أن من يقوم بجمع الحصر والمساند والكلوبات وشراء الحناء والقيام بخضب أكف العريس وقدميه وكذا من يحب من أصحابه والأقرباء هو حلاق القرية … وبجوار صينية الحناء توجد صينية أخري يلقي فيها النقوط من العملات الفضية البراقة قبل أن تختفي فتأخذ مكانها العملة القصدير وينتشر الورق ، ويكون النقوط هو مكافأة الحلاق علي رعايته العريس منذ الصغر بدءاً بالعلاج والختان وانتهاء بحلقة وزيانة العريس.

في ليلة الحناء هذه تتعب أكف الذين لم يتخضبوا في التصفيق وتتعب أقدام بعضهم من الدبدبة والرقص علي نقر الدرابك والدفوف، توشيها زغاريد النسوة في الغرف المجاورة وهن يطبخن الأرز باللبن والمهلبية ومشاريب القرفة فيتحلب ريق الراقصين والمصفقين من بخارها المضمخ برائحة الفانيليا وماء الورد ، وبين لحظات الراحة من الرقص والتصفيق وأثناء تناول شراب القرفة الدافئ والأرز باللبن ينطلق عقال النكات والحكايا فتعلو الضحكات وتفرقع القهقهات ، والنسوة هن الأخريات يتوقعن ما يدور بغرفة العريس فلابد أن الحضور دخلوا في القصص الجنسية لذا أثناء نقل الاكواب والأطباق تتصنت بعض النسوة خصوصاً المتزوجات قبل أن ينقرن خفيفاً علي باب المندرة عسي أن تلتقط آذانهن بعضاً مما يدور من حواديت الشباب لتعود هي الأخري فتحكي في غرف الحريم طرفاً مما دار وما استطاعت أذناها اللاقطة أن تقتنص.

في ليالي الاعراس يمسي اختلاط الرجال بالنساء مباحاً دون أن يلجأن إلي مداراة أفواههن بطرف طرحتهن أثناء الحديث دلالة الخفر والحياء ويسمح الرجال ببعض المرح والخروج عن بعض التقاليد والعادات دون أن يتعدي ذلك الاختلاط حدود الكلام حتي وإن شابه بعض التلميح لما هو قبيح... لتعود الحياة بعد الفرح سيرتها الاولي من الانفصال والحديث خلف الحجب من أبواب أو طرحات سود لمداراة الوشوش .

عجبت ليلتها حين حكيت واقعة تخص جارا لنا كان يتنصت علي رجل يأتي زوجته في غرفة مطلة علي الشارع وقد فتح ضلفتي الشيش ليخفف من احترار بؤونة اللزج ، ومن شدة اندماج المتنصت انزلقت رأسه بين أعواد الحديد التي تسيج الشباك .... فلما انتهي الرجل من جماعه لمح ظل الرأس يتحرك علي الحائط ومن ارتباك المتصنت لم يستطيع تخليص رأسه ، فما كان من صاحب البيت الا أن رفع بلغته ونزل علي رأس المتنصت حتي تورم صدغاه ثم انتبه لزوجه ولنفسه فأمرها بأن ترتدي لباسها وارتدي هو الآخر لباسه وأكمل الضرب الذي التم علي إثره رجال ونسوة الحارة من جعير المضروب .

فرقع العريس بالضحك وغرق الحاضرون في الكركعات وانسل واحد من الحضور فلعلعت الضحكات أكثر حتي أوجعتهم بطونهم ومسحوا دموعهم بالاكمام والكراسيع لأنهم يقبضون علي الحناء ...

كانت دهشتي أن الذي انسل من الجلسة غاضباً قد أكل في صدر شبابه علقة علي. صدغيه عندما انحسرت رأسه في الحديد هو الآخر وحسب أن أحدهم أوعز لي أنا الغريب عن قريتهم البعيدة عن بلدي حتي ألفق الحكاية فأحكيها عن جار لنا لأكيد له. عجبت من تكرار الحدث ليزداد بعد ذلك عجبي عندما ذهبت الي لبنان لمراجعة كتاب " المتننصتون " وكذا توقيع العقد ، إذ حكي لي الاستاذ رياض الريس أمد الله في عمره وكان وقتها قد تجاوز السبعين أن جده كان يحكي وقائع التنصت هذه لأصحابه وهم جلوس حول مدافئ الشتاء دون أن يأبهوا بالاطفال ولا بذاكرتهم الواعية ، واستغرب عندما سمع من بعض أصدقائه في أمريكا اللاتينية قصصاً عن التنصت شبيهة بما كتبت عما يحدث في قري مصر ونجوعها وما سمع من أحاديث جده ، كان ذلك أيام بيوت اللبن الطينية التي من دور واحد قبل أن ترتفع العمائر الحجرية من القرميد الأحمر في الريف لتختفي معها قصص المتنصتين .

كنا في سكن الأطباء بالمستشفي العام نحكي ونحن نسترجع الزمن الجميل فنقوم بعمل الارز باللبن والمهلبية وننخرط في النكات والقصص التي تغلفها القفشات الجنسية فجاءت قصص التنصت علي رأس الحكايات فاندهش عصمت النمر من روعة الحكي " لماذا لا تكتب هذه القصص ؟" فقلت سوف تفقد معناها إذا رفعت منها الالفاظ الخادشة وأي ناشر ذاك الذي يجرؤ علي نشر هاته القصص بعبلها وألفاظها الحوشية الوحشية ؟ قال اكتب وبعدها فكر في المخرج... وكنت أيامها خارجاً من أزمة نشر " كائنات فائضة عن الحاجة " فكتبت لأثار لذاتي من المؤسسة ولأثبت جدارتي وموهبتي !

وكتبتُ قصص التنصت بألفاظها الحوشية الخارجة وأسماء الأعضاء الحسية بمسمياتها كما هي في معجم أهل الشارع لا معاجم اللغة حتي لا أقطع الاسترسال عن نفسي وأنا أبدل وأغيرّ لتحتفظ الحكاياتُ بدفئها، وفي النهاية من الممكن أن نستبدل ونغيّر. وخلال أسبوعين لا أكثر كنتُ قد كتبت قصص " المتنصتون " وكأنما أمتحُ من بئر يفيض. وأسقط في يدي، لو تم تبديل الألفاظ لوقع العمل، وهكذا انتظرنا معرض الكتاب عام 1998وأعطينا المسودة لمدير التوزيع بدار رياض الريس. وكان معي نسخة مصورة من " كائنات فائضة عن الحاجة " طلبها المشرف علي سلسلة تصدر في اتحاد الكتاب وقابلنا بالمعرض صدفة وألحّ علي عصمت أن أعطيها له فرفضتُ لأنه تجاهل الموضوع، وما كان قد انقضي سوي أسبوع بعد طلبه المجموعة ( أهو ماركيز حتي ينسي من هم مثلي؟ أم تراه يريدني أن أفرك اليدين وأتوسل ثم أمتدح كتابته وبعد ذلك أعطيه القصص؟) وعدتُ من فوري إلي جناح رياض الريس وأعطيته المجموعة ليس من أجل النشر بل من أجل أن يتحمس لكتاب "المتنصتون " فلا يعتقدنّ أنه بيضةُ الديك. وكان فيما فعلتُ الإنقاذ إذ لم يمض سوي شهر علي انتهاء المعرض حتي تلقيتُ هاتفًا من بيروت يفيد بأنهم موافقون علي النشر بشرط أن يقوموا بضم الكتابين في كتاب واحد لأنهم ملتزمون بحجم وصفحات معينة وثانيًا حتي يفوتوا الفرصة علي الرقيب، وهكذا خرجت القصص متداخلة متشابكة رغم اختلاف الموضوعات، لكنني رحبتُ بذلك الإجراء حتي أحوز اعترافًا جاء من عاصمة النشر بعد أن دعّني بلدي.

وأشهدُ أن صدور الكتاب من هذه الدار أعاد لي ثقتي خصوصاً بعد محادثة هاتفية من لبنان أخبرني فيها الصديق محمد الجعيد مدير التوزيع برياض الريس أن كتاب المتنصتون قد تم الاحتفاء به في صحافة لبنان وأنه قد أرسل بالبريد علي عنواني صوراً ضوئية من بعض المقالات وتمني أن أكون علي معرض القاهرة القادم قد أنجزت رواية أخري فتمنيت أنا الآخر أن يتحقق ذلك إن شاء الله .

كان ذلك التمني محفزاً لي علي الكتابة وأنا أتململ وأتنقل بين الموضوعات والحكايات وقتها ، كنت مشغولاً بعائلة في بلدتنا مشهورة بالفشر والنخع وتحتكر في الوقت ذاته رياضة رفع الاثقال... كانوا يلقبون أنفسهم عائلة الأبطال .

وحواديت فشرهم تحتاج إلي جاحظ آخر يتتبع حكاياتهم وعوراتهم ....

في إحدي أماسي الشتاء كنت ساهراً مع صديق لي يقيم في فرنسا وقد جاء في أجازة نصف العام ومعه زوجه الفرنسية لتري الأهرام والنيل فأصابها رمد تورمت علي إثره عيناها فقررت العودة الي بلدها للعلاج خشية أن تصبح مثل "تاها هسين" ولم تشأ أن تأخذ معها زوجها حتي لا تفسد عليه متعة البقاء مع والديه الشيخين وهكذا أمضي معنا الاجازة دون الأهرام والآثار ، وقبيل الفجر بقليل سمعنا خبطاً عنيفاً علي الباب فقام المضيف يفتح ثم عاد سريعاً " الأسطي عبد الودود عايز الدكتور أحمد " فخرجت اليه حاسباً أن أحداً من أهله أو جيرانه بحاجة إلي إسعاف وكان قد نزل فهرولت خلفه فإذا به يستعجلني آمراً " أركب ورايا بسرعة "وكنت أخشي ركوب الموتوسيكلات لأني أثناء فترة الخدمة في الريف وأثناء ركوبي خلف أحد الذين استدعوني لإسعاف أمه وكان وحيدها وقعنا في المصرف وهكذا انكسر ذراعي ولم نسعف أمه فماتت !

ليلتها حلمت أمي أنني أغوص في الوحل وتناديني فلا أرد عليها دون أن ترقأ دموعي الهاطلة علي الصدغين فأيقظت أبي وأجبرته علي أن يذهب الي بوحدتي الصحية ليطمأن علي سلامتي"

- أروح فين دلوقتي يا ولية واحنا الفجر وأسافر أزاي ؟

- اتصرف يا حاج محمود ابني ضروري فيه حاجة ، قلب الام مش بيخيب.

- يا ولية دا حلم ... تكونيش فاكرة روحك من الاوليا !

لكنه طبعاً رضخ وجاء للوحدة فأخبره العامل النوبتجي أنني بمستشفي الجامعة .

حرنت في الركوب وقلت للاسطي سأتبعك لكنه نهرني " بسرعة مفيش وقت أبوك بيتقطع من الوجع "

كان أبي ليلتها نوبتجيا في بلوك السكة الحديد فأصابه المغص الكلوي الحاد وليس بمقدوره أن يطلب عربة الاسعاف ولا أن يترك البلوك وقطار الصهاريج علي وصول.

" بالصدفة كنت بأوصل محمد ابني المحطة علشان يروح الجيش فسمعت المنازعة والآهات جاية من فوق خدت سلالم البلوك في فشقة لقيته بيتقلب علي الارض الحقني يا عبد الودود شوف حد من اولادي يلحقني بحقنه لحد ما النهار يطلع وييجي البديل يستلم البلوك ، رحت للدكتور بركات قالوا عند حماته في كفر صقر ، لفيِت عليك البلد حارة حارة ودار دار لحد لما واحد ابن حلال قال أنا شايفه مع شلة من أصحابه داخلين العمارة دي يا اسطي ، قلت يبقي عند المهندس جوز الخواجاية ما أني عارفه ،أبوه صاحبي "

كان يحكي وأنا لا أستطيع أن التقط الا النزر اليسير مما تنثره رياح الشتاء الباردة من ألفاظ ، ناسياً خوفي ورهابي من الالات البخارية حتي وصلنا .... ولم يتركنا وأصر أن يذهب لشراء الحقن ويطمئن علي صديقه وجاره وصاحب عمره " أروح أيه يا جدع دا محمود إن كان أبوك فهو حتة مني ، داحنا فارزين مع بعض في الجهادية وإنشاء لله مش هيفرقنا عن بعض الا الحق" مشيراً للسماء ومكنياً عن الموت حتي لا يذكره صراحة فلا يكون فأل سوء، هكذا كان مع كل أهل البلد ... كان الاستثناء في عائلة الابطال .

في أواخر أيامه كان ابنه سانداً له وهما يمران علي الشوارع والحارات والدكاكين ليشبع من البلد والناس قبل رحيله وقد أحس بدنو الأجل ، وكنت في بقالة عبد العزيز ابن عمي فدخل وسلم وأخذني في حضنه " يا غالي يا ابن الغالي ....اتوصي بأبوك وسلم لي عليه إن مش حصل نصيب وشفته ....حطه في عنيك أنت وأخوتك... محمود استحمل كتير لحد ما وصلكوا لبر الامان وأعلا المناصب " وصدق حدسه فمات بعد أيام !

كان مغرباً كابياً ملفعاً بغبار الخماسين وكانت مضيفة المركز بها عزاء رجل مهم يعمل أبناؤه في مناصب حساسة ولم يسر خلف جنازته بالنهار الا نفرٌ قليل لانهم لا يعزون أحداً وليس عندهم واجب فاستدعوا الطبلاوي لكي يقرأ في المضيفة وكان أيامها موضة ويأخذ الف جنيه في الليلة أيام كان الجنيه جنيه بصحيح ، ذهب الناس ليس للعزاء ولكن ليسمعوا مقرئ التليفزيون ، وتحول المكان المحيط بالمضيفة الي ما يشبه المولد ... باعة السوداني والحلبة والترمس واللب ... لم يكن ينقص الا السيرك والغوازي ليصبح مولداً بصحيح... فضاع وقار العزاء واكتمل ضياع الهيبة والوقار لما انطلقت ميكروفونات الجوامع ناعية الاسطي عبد الودود فخرج القليل الذي كان بداخل المضيفة غير مصدقين وانطلق الخلق الي داره لتسير البلد بكاملها خلف نعشه .

وفي رحلة العودة من المقابر وحتي الهزيع الاخير من الليل كان كل واحد يعزي نفسه ويحكي عن الأسطي مكرمة أو طرفة أو حكاية!

تذكرت صنيعه معي منذ سنوات ليلة أصابت حصوة الحالب أبي - أمد الله في عمره -بالمغص الكلوي فراح تململ حصان الكتابة وقررت أن يكون الاسطي موضوع روايتي التي تمناها صديقي اللبناني .

كتبت عنه وعن متولي أخيه وعائلة المعاملي الأبطال الفشارين المزاعين خفيفي الظل ، وكان لابد أن اكتب عن أصدقاء الاسطي وجيرانه في شارع البحر : عبد الرحمن أبو فول والشبراوي والشيخ عبد العزيز سلامة وما جري لزوجه ليلة الدخلة ودخولها المستشفي بين الحياة والموت لانها لم تحتمل آلته العجيبة ، وكذا عن المرحوم فارس فريح الكادر الإخواني الذي اغتالت الجماعة ابنه عبد الغفار لظنهم أنه وشي بهم لدي الزعيم ناصر فأطلقت الحكومة سراحه دونهم !

كان الأسطي محباً لوطنه ولعبد الناصر وطه حسين ولم يك محباً للسادات ولا من خلفه. وظني أنه ومن هم علي شاكلته يطيلون عمر هذا الوطن بإخلاصهم وتفانيهم من أجله دون أن يملكوا فيه شروي نقير فكتبت عنه وعنهم في جغرافيا لا تتعدي شارع البحر الذي أسكنه معهم لكني أزعم أنني ربما لمست بعضاً من أفراح وجراح الوطن الكبير وأنا أحكي عنهم !

وبدأت أكتب الحكايات التي أتلوها من الذاكرة علي أصحابي فكانت "حكايات شارع البحر" وانتهيت من كتابة مسوداتها أواخر 2002ودخلت الأمة العربية والعالم أجمع أزمة العراق في مجلس الأمن الذي اكتسحت شرعيته جحافل المغول الجُدد عام 2003 وفي التاسع من أبريل انسحق فؤاد الطفل الصغير الذي غرقت أخته وهو لاهٍ وكنت حسبته قد برئ . . فواها لما جري لك يا عراق السيّاب وواها لما جري لك يا بغداد الرشيد.

أشرفتُ علي حالةٍ أشبه بالجنون من شدة العجز والضعف والهوان . . وما كان أمامي سوي أن أبيّض مسودات الحكايات لأتناسي قليلاً ما جري لبلاد الألف ليلة، وأتناسي عذابات شهرزاد.

وأعطيتُ المخطوط لرياض الريس في معرض 2004 وبعد شهر اعتذروا . وكان السبب أن الألفاظ هنا أكثر من التي وردت في " المتنصتون " الذي منع في معظم البلاد العربية (التقدمية منها والتأخرية) فيا ليتك تعيدُ النظر في بعض الألفاظ. لكنني فشلت !

ونصحتني الكاتبة والزميلة الدكتورة عزة رشاد أن أنشرها علي حسابي في دار نشر جريئة لتتكرر الأزمة بعد عام من الانتظار، وكانت حجة الناشر في التعطيل أن رسام الأغلفة قد رفض لأن بها الكثير مما يخدش الحياء.

هل أصرخ شاتمًا لاعنًا كشاعر العراق الحزين مظفر النوّاب بعد نكسة 1967:

أعترف الآن بأني مبتذل وبذيء

وحزين كهزيمتكم

يا حكامًا مهزومين ويا شعبًا مهزومًا

ما أوسخنا ما أوسخنا

ونكابر ما أوسخنا

لا أستثني أحدًا

ما أوسخ كل الأشياء.

يا حضرات الخجْلي.. أو بعد سقوط بغداد بقيت ذرةُ حياء أو حمرةُ خجل؟

تأزم الموقف وطلبت الثلاثة آلاف جنيه التي دفعتُها فماطل بدعوي أنه متحمس لنشر العمل شريطة أن أقوم بتغيير الألفاظ المسيئة المشينة وطلب وساطة الصديق العزيز والشاعر الرقيق عصمت النمر فوافقتُ علي الفور ليقيني أنه لن يوافق علي الحذف.

وهكذا جلس عصمت أمام الكمبيوتر وكنتُ قد أعطيته ثبتًا بالألفاظ التي اعترض عليها الناشران فلم تطاوعه أصابعه إلا بتبديل أربعة ألفاظ من أصل أربعين، أضاع بعض الوقت في التدخين وشرب القهوة ثم خرج علي الناشر " خلاص يا عم. . كله تمام " فأُعطي أمرُ الطبع في الحال.. وهكذا خرجت " شارع البحر " للنور بعد ثلاث سنوات من كتابتها.. ولقد تم تعتيم غريبٌ عليها من الجميع فلم يُنشر عنها خبر ولم يذكرها أحدٌ بسوءٍ حتي خشية أن يعرفها الناس. أستثني مقالين عظيمين للصديق الدكتور رشدي يوسف بأخبار الأدب تحت عنوان " تفجير قدسية اللغة " والثاني في جريدة المصري اليوم بعنوان " في الأدب المصري الجديد.. أحمد والي.. الكتابة علي اتساع الصفحة " للناقد الكبير النزيه فاروق عبد القادر الذي تتلمذنا مثل كثيرين علي يديه إلا أنني لم أكن قد التقيته من قبل!

تم التعتيم لأنني لا أملك صحفة بجريدة ولا برنامجًا بقناة، ومع هذا فقد قرأ الكثيرون روايتي واحتفوا بها فتلقيت مكالمات تهنئة من أساتذة عديدين من مصر والقدس وزغرب وأمريكا، وأقمنا لها ندوة بالأتيليه عرفت خلالها أصدقاء مبدعين أعتز للآن بهم وأدلي الكاتب الجميل سعيد الكفراوي بشهادة أحسن من عشرات المقالات وهمس في أذني"لو كنت ستبيت الليلة بالقاهرة فاذهب من فورك باكرًا إلي مؤسسة ساويرس بالزمالك وقدم لهم خمس نسخ. فالغد هو الموعد الأخير في مسابقة الرواية " فترددت لكنه شجّعني.. " أنا متأكد أنها ستكسب ثم إنك إن لم تفز فستكون قد كسبت نقادًا قرأوا " وعملت بنصيحته ثم نسيت الموضوع حتي أعلنت النتيجة وفازت رواية أخري لكنني تلقيت اتصالاً هاتفيًا علي عيادتي من الأستاذة العزيزة فريدة النقاش تؤكد فيها أنها فرحت بالرواية كثيرًا وأنها والأستاذ فاروق عبد القادر أعطياني أعلي الدرجات وكانت واثقة من فوزي إلا أن العضوين الأكاديميين قد وقفا ضدها بدعوي أن الألفاظ الخشنة ربما أطلقت الألسنة علي المؤسسة وصاحبها فلم يجيزاها.

وكانت هذه المكالمة من الأستاذة التي نشرت لي أول قصة دون أن تعرفني هي الجائزة !

وهكذا خلوت لنفسي من جديد لأكتب العمل التالي. وفي تلك الأثناء تم ضبط عصابة تسرق الجثث من المقابر الجديدة ببلدتنا. فعادت ذاكرتي لحادث قديم أوائل السبعينات حيث أقنع جارٌ لنا بطب الإسكندرية حانوتي البلدة أن يسرق له جثة يدرس عليها وبعد ذلك يعيدها إليه لدفنها وله علي ذلك أجر يُجري اللعاب وكان معوزًا وأبا بنات فوافق بعد تردد إلا أنه وقع في يد العسس قبض عليه ومات في المحبس قبل أن يصدر عليه حكم فاستلهمت من الحادثين روايتي " ديار الآخرة " عن سماسرة الأراضي ومتاجري المقابر والجثث وحكايات عن موتي رحلوا وموتي علي قيد الحياة بديار الدنيا.

ولبثت بضع أسابيع لعلني أبدّل أو أحذف أو أضيف. ثم جاءت حرب تموز علي لبنان فجلسنا أمام شاشات الجزيرة والمنار ولم أتذكر العمل إلا في نشوة الانتصار فقمت بتبييض المسودات وقلت فلتصدر من الدار التي نشرت أختها " شارع البحر " فلم ألق إلا التعطيل والتسويف عساني أضيق ذرعًا ويعال صبري فأدفع بالذي هو أحسن من الكتابة والكتّاب ألا وهو الجنيه أو الدولار إن وُجد. لكنني أبيْت الدفع لأنني ضحيت في الأولي من أجل أن تخرج الرواية كما أردت لها. أما هذه فلن.

وبعد ما يزيد علي العامين اضطررت إلي سحب العمل وقدمته إلي ناشر آخر مبدعٍ يعرف قيمة الكتابة، وهأنذا بانتظار الوليد الجديد.

ولا زال في جعبتي من الحكايات بقية إن كان في العمر بقية.


3 تعليق:

الله....الله....الله...مااجمل الكتابه هنا...مااجمل ماقرأت ...مااجملك شهادة ابداعية ...الروائى الفذ احمد والى انا لا اعرفك ولكننى قرأت لك رواية شارع البحر عن دار ميريت ولم تغمض جفونى يوما كاملا حتى انتهيت منها ويومها خرجت للشارع وعندما قابلت مارا لا اعرفه قلت له اننى اليوم مبتهج لقد قرأت رواية اسمها شارع البحر ..ظن الرجل اننى مخبول....وتركنى ..سافرت بعدها الى قريتى بالشرقية واعطيتها لصديق ...ومن المذهل اننى اكتشفت ان اكثر من خمسون جامعيا تداولها وهم ليس من متعاطى الادب حتى صارت النسخة متهرئة ...سعدت اكثر ...سوف اذهب خصيصا الى ى هيهيا حتى التقى بك ....اشكرك ياعم احمد ياوالى ياصانع البهجة لمحبى الرواية...سعدت ان هناك من انتبه الى ابداعك اخيرا...سعيدا بكونك شرقاويا ..سعدت انك تعشق يوسف ادريس كاتبى المجنون الرائع ...

26 ديسمبر 2008 في 5:07 م  

شكراً لك على المجهود المتميز في نقل الحدث أولاً بأول

26 ديسمبر 2008 في 8:33 م  

الله عليك يادكتور احمد والي يامبدع في كتاباتك الواقعية من داخل البيت المصري الشرقاوي الههياوي ومااروعك في مهنتك ياجابر بالخواطر وربنا يقدرك علي فعل الخير يارافقا بالغلابة ربنا يبارك في عمرك وتسعد الناس بكتاباتك ومهنتك ياطيب ياابن الطيبين اعزكم الله ياصانع البهجة انت فخر مصر عموما وههيا خصوصا .
محمد عبد الودود. ابن احد من تناولتهم في رواياتك وافتخر

15 ديسمبر 2021 في 9:43 ص  

Blogger Template by Blogcrowds