ما الذي يجعل للكتابة ذلك السحر الغامض بلا خلاص، بلا يقين. أن تقابل همس الكلمات داخلك كغريب يبحث عن غربته. غربته مجاز وسطوره نقطة الضوء في خفايا ظلمة الظلال.

ككل البدايات الساذجة في المرحلة الإعدادية بدا لي ما أكتبه نوعاً من القصيد، حلماً شعرياً تصورت أني أستطيعه، وللكلمات الأولي حظ الخطيئة في المغفرة. حين أدركت أنها مجرد خواطر تترفق بالآتي. أضاء صلاح عبد الصبور ثم من بعد صلاح جاهين وفؤاد حداد تلك الارتعاشة الخفية التي يطلقها فينا الشطر / البيت / القصيدة / الرباعية. أدركت أن الشاعر نصف نبي يبحث عن الخلاص من نقشه الأرضي، ولم أستطع. توقفت قليلاً لألعن نفسي أو أحبها من جديد. قلت : كي تكتب لابد أن تحب نفسك قليلاً، وفي كل مرة بجديد، فرحت أقرأ .

الآن وقد بلغت بعضاً من النضج أحاول تأمل ذلك الإلحاح الضاغط الذي يجعل إنساناً يصر علي الكتابة كأنها غريزة لابد من إشباعها، كغريزة السياسي لإرضاء الحيوان السياسي داخله. هل هي نوع من الخلاص ؟ هوس الكلمات التي تموج في قاع الرهبة إن لم تتشكل يختنق صاحبها بها. لكل كاتب وتر في آلته الداخلية لم يوجد من قبل في قلب أحد، ولن يكون بعد. لكنه أمل العازف أن يبلغ شعرة المستحيل لأن المستحيل أكبر مما يظن اللحن نفسه .

في بهو الكنيسة، وفي حضرة الرب طالما جلجل صوت الكاهن متوعداً من أنكروا كلمة الرب، مشيراً بإبهامه إلي اللامكان يومئ إلي أسطورة برج بابل. صغيراً كنت حين احتوتني الرهبة لا من تهديد ووعيد الكاهن، بل من تلك الصورة التي كانت تتجسد لي. بابل تتلألأ بالكلمات والألسنة اختلطت وتوزعت اللغات وانهار البرج الذي جمل ذراها. أحياناً حين أكتب تهرب مني الكلمات. أظل أبحث عنها في برج أسطوري. أهو أعلي من الكلمات أم طوفان قد أغرق الحروف الخافية .

طوفان اللغة الذي حاصرني في حضارة عشقت المفردات فتوالدت المفردة مفردات، وأنا أجول في حديقتها تجولت بفرس عتيق هزمته الريح حتي أنّت حوافره. كنت أبحث عن نفسي في لغة مستعارة، ولغة انهارت بين السطور القديمة. لغة تكلست من واقع آسن وتجمد الخيال فيها. وأنا ابن يومي، ويومي لم يعد أمسي. قلت: اتئد للصوت القادم وأعد كتابة السطور، وكنت أحاول.

بهرتني قراءة التاريخ، واكتشفت أنه ليس ماضياً تحنط في الوثائق والكتب الصفراء كما علمونا. وأنه العين الثالثة بين ما كان وما هو قائم والقادم. وتخايلت في صحوي ومنامي بإصرار الفلاح الفصيح، وشجاعة الإسكندر، وخطط بونابرت، ونبل الحسين، وسحر الأندلس، وروعة فنون عصر النهضة ... إلخ. قرأت ببعض فهم وكل الرغبة في الوعي بحثاً عن كنه معني التاريخ الحي، وحين بلغت قسم التاريخ جامعة عين شمس تحنط التاريخ في وقائع تاريخية لا حياة فيها، بلا دلالة أو رؤية أو معني. وكانت جدران الجامعة تهمس احفظ تسلم، وضع حجراً في عقلك ـ ولم أقدر .

علي أن قراءة التاريخ ـ وليس دراسته الأكاديمية ـ علمتني أن أري امتداد خيوط الأحداث إلي ماض قد يكون سحيقاً. وعن رواسب تكمن في قاع الإنسان وفي الفعل البشري، قد يتجلي في لفظ عفوي أو سلوك عادي قد لا نلتفت لجلجلاته في الأعماق. ومازلت أقرأ الوقائع البسيطة عبر عمقها التاريخي، وتلك روعة الوعي بقراءة التاريخ .

كشفت لي دراسة التاريخ الفارق بين الدين والمؤسسة الدينية. بين النبي في تجلي رسالته ووكلاء الرب من ذوي الكروش. وكما أحببت المسيح بعيداً عن الطقوس الكنسية الصنمية. وفي الجوهر الأكثر إلحاداً في كيانه. جوهر هذا الملحد الرائع والكافر بكل ما سبق وما تم تكريسه وتجميده علي أيدي كهنة اليهود. جوهر رفض السائد والآمن والمستقر إلي حد النمط البليد. أعطاني معني المبدع الأصيل أن يقول كلمته وهو يدرك أنها سقطته الدرامية ليجترح المعني الآخر والخفي. كاكتشافي لكنز يدعي "نيكوس كازنتزاكس" تحولاً في رؤيتي وإدراكي للمعني. ومازالت جملته في رواية الإخوة الأعداء تطن في رأسي " أنا اريد مسيحاً جائعاً مقهوراً كذلك الذي كان يمشي علي أرض عمواس ". وبدت لي تلك القداسة التي يتم تكريسها نوعاً من الإخضاع لكبرياء إنساني كان من الممكن أن يكون جميلاً دون إذلال. بدت لا إنسانية وخارج الطبيعة إلي حد الاصطناع .

وكان إلحاح ما يدفعني دون إرادة مني لمزيد من التأمل في الأسئلة الحرجة والجوهرية. تلك التي لا تتبدي علي سطح المألوف والسائد، تلك التي نخشاها ونهرب منها إلي الوهم. وكان لمدينتي نهر طفولي لم يبرح طفولته عبر الزمن. وكان لي حجر علي جرف النهر. قبل الغروب أجلس واضعاً قدمي العاريتين في مائه الشفيف. ومن قدمي تتصاعد الدغدغات إلي حواسي. قد أقرأ قصيدة فأمتلئ وأتملي. قد أكتب خواطر أكثر بلاهة عن معني لا أدركه كي يدركني يوماً. وقد أصمت وللصمت حق الدمدمة في الكلمات القادمة.

بدأ إدراك مبهم يطاردني. إننا نولد بين كذبتين. كذب أفكار ماتت منذ زمن تربينا عليها وترسخت فينا، وكذب أننا نصدقها. وبين وهمين تتنامي أجسادنا علي خواء روحي وفكري، والخواء أسئلة مؤجلة وإجابات بين الكذب والوهم. توأمان لا ينفصلان، وتكون حياة. شيء حسي ومبهم جعلني أشعر أننا حين نكتب نحاول قليلاً وعلي استحياء أن نجد إجابات علي أسئلة قد تبدو وهمية ـ وربما كانت كذلك أحياناً ـ. من يقترب من الأسئلة الحرجة بحثاً عن الإجابات التي في قعر السؤال ستتوالد له الأسئلة حتي تغرقه. جحيم الأسئلة سيفح بلهبه ولن يتوقف. لكن عفواً، من قال إن الجحيم هو ما صوروه لنا ؟

ربما الكتابة حياة وموت. أمل حياة لموت مؤجل أو موت يخشي الحضور في حياة تبدو استحالة حضور لمن أدرك حقيقته تحت الاختبار. ودون كيان لم يولد نص بعد، وقد يولد خلال الدوران حول الفكرة، فإن الكتابة كشيء لا بأس به نحو الحضور تبدو كروح الغياب في الحضور وسطو المفاجأة في الانحسار إلي الحافة .

تدفقت الأسئلة ولم أستطع وقف طوفانها، والسؤال يتوالد أسئلة والإجابات غائمة أحياناً واضحة قليلاً. لكن غربة بدأت تطاردني عمن حولي. عشاق " أقل العيشات ولا الميتات " ومن استقروا علي عيش الموت حياة. حاولت أن أقول لهم لا تخافوني لأني أخاف نفسي .. مهلاً .. قليل من العري قد يكون أكثر احتشاماً من الأسئلة المغلقة علي عفتها. ربما العفة أكثر تعفناً لكنها لا تبدي رائحة .

لكنني كلما عرفت أكثر أو كتبت أكثر كنت أزداد يقيناً بأن الكلمات هي خوف سدوم من الجمال. سدوم انتحرت بالخراب. آه لو أدركت السحر الخافي. لو آمنت للحظة بالجمال في الكلمات لاستحرت بديلاً عن انتحار إطار الحمام كي لا يشهد سواد العدم.

وبعيداً عن العقم الأكاديمي للدراسة كانت الأنشطة السياسية والفنية هي الخلاص من التكلس الدراسي. ممر الصحافة بآداب عين شمس كان جامعة موازية صنعها الطلاب بعيداً عن سطوة أبوية الجامعة الرسمية. ليس أبوية الجامعة فقط، بل أبوية مجتمع بأكمله وسلطة آمرة قاهرة لا تعرف سوي الكاف والنون. شيء ثقيل كان يثقل أنفاسي تبخر. ذلك الإحساس بالتحدي. ذلك الإحساس الرائع لطلق الصوت المخبوء يتجلي ويرفرف فوق الهامة .

التمرد يتبلور ويكشف عن سطوة المواجهة. أو كما قال أمل دنقل " ألقته يد الله في التجربة " وأنا كنت أرغب في التجربة كي أتحلل من صلاتي التي تربيت عليها "أبانا الذي في السماوات ... ولا تدخلنا في التجربة ". كان المسرح الجامعي مهرجاناً فاتناً وراقياً. رمم الكثير من الشقوق في الذاكرة والوعي وأضاء اكتشافات لرؤي غائمة كانت تخايلني. وانداحت مشاهد المسرح الكنسي في الطفولة البعيدة، والتي لم يتح لي رؤية سواها. مسرحيات عن قصص من التوراة ومسرحيات الخلاص، بأداء يحاكي جلجلة يوسف وهبي، فأدركت أن العصور الوسطي قد سقطت من ذاكرتي .

يوماً شاهدت عرضاً مبهراً لأسطورة أوديب. هي أسطورة ربما أكثر واقعية من رغبة واقعيتها. لم أعبأ كثيراً بالأسطورة ـ رغم إبهارها ـ ولا بالواقعية التي حاول المخرج أن يفسر بها النص. لكن ما شغلني ومازال، تلك الرغبة في الانتهاك. انتهاك رب الأسطورة. لم يشغلني أوديب أو جوكاستا أو سفنكس أو الطاعون. شغلني أكثر ترسياس الأعمي. ذلك الكاهن ـ لا أحب هذا اللفظ ـ لنقل المتنبئ. لأنه علمني معني الحواس. الرؤي حين تغيب الرؤية. صمت الحواس يجعل لها رنينا. حين يكون الزمن بليداً فللحواس أن تتجلي .. لكن هل هناك من يدرك قبل فوات الأوان ؟. هنا أدركت تلك الجملة الإنجيلية تتردد علي لسان المسيح " من له عينان تبصران فليبصر .. من له أذنان سامعتان فليسمع ".

بهرني المسرح. صمت الخشبة والدقات الثلاث، وانكشاف المشهد عن البقعة المظلمة، والطقس الإلهي الكامن في المخايلة. وبنهم رحت أقرأ وأتابع البروفات في المسرح الجامعي ومسارح الدولة. أربي حواسي وأمتلئ بكتابة نصوص لم أجرؤ علي تنفيذها عملياً، رغم رغبة البعض في ذلك. وربما كان لفشل مخرج تحمس لنص لم يستطع إكمال تنفيذه. تعلمت من المسرح كيفية رسم الشخصيات، وكثافة الحوار، وإدارة الصراع إلي حوافه، وتشكيل المشهد، والأهم من ذلك كله ،الإيقاع .

وحين تجاوزت الانبهار كان طموحي إلي فكرة المعمل المسرحي، كعمل جماعي ليس للفرد فيه سطوة ديكتاتورية الكاتب أو المخرج. نوع من المسرح يزيل الحواجز بين كل الأنواع ويلغي الحدود المتعارف عليها ليخلق لغة مغايرة عن السائد، ويضفي نوعاً من الحرية علي حركة النص النهائي. لكن ذلك لم يتحقق .

حتي الآن لا أذكر أو أعرف علي وجه التحديد لماذا تحولت أوائل الثمانينيات إلي كتابة القصة. أحياناً تقودك أسباب غير مبررة لفعل شيء ما. كما فقدت الكثير من كتاباتي دون أسباب مبررة سوي الإهمال، وأحياناً لأسباب عبثية. لم أكن أعرف عن حرفيات كتابة القصة شيئاً حين كتبت القصص الأولي. ومازلت غير عابئ بالقواعد. لكن ما أذهلني كان رد الفعل الذي لقيته القصة الأولي في المؤتمر الأول لأدباء مصر في الأقاليم في المنيا عام 1984. وربما لو لم أذهب إلي ذلك المؤتمر ما كتبت قصصاً فيما بعد. انتبهت أن لي صوتا ولغة ورؤية خاصة، أو هكذا قال الأستاذ فؤاد حجازي وغيره من كتاب ونقاد .

وفيما بين وعي ينمو ومساحات حسية ترغب في الاحتفاظ ببراءتها الأولي يظل الوعي دافعاً ومانعاً معاً. دافعاً لرؤي أكثر تفتحاً، ومانعاً في الخوف من السقوط عن جماليات الكتابة كشرط أساسي لدهشة النص من كاتبه. ذلك الصراع يجد طاقته القصوي عبر الكتابة بنوع من حميمية الاكتشاف للغامض الذي قد يتبدي جزءاً ما منه للكاتب نفسه، لكن الجزء الأكبر يبقي خبيئاً .

العري الداخلي للفكرة وعري الزمن في استبطاء الوقت أو انفلات اللحظة عن حدودها. تصبح الكتابة أن تكتمل بالنقص. ذلك العدو اللاهث خلف المعني أو تبعثر المعني في أرجاء النص. أن تنقص برغبة الاكتمال إلي الكمال حيث لن ترتوي. أن تتحقق بظلك ظلالاً قد تبدو أكثر وحشة من حقيقتك المتجسدة. تجترح الزمن أزمنة غريبة غربة اللذة في منتهاها .

قد تهزمني الكتابة حين أصدق الواقع. أغيب قليلاً لأحضر أحياناً. وأحياناً أدرك أنها تحتاج إلي قسوة أكبر مني وأكثر سخرية من الوقائع وأني إن لم أملك الدوران حولهما فلن أعرف المرايا التي تنضح بالصور لتملي المشاهد الأولي للنص .

كنوع من الزجاج هو الكاتب والكتابة، أقل شيء يجرح أو يلمع. الفارق الذي لن يدركه الكاتب ـ وبالتأكيد الكتابة ـ تلك الصلاة بين الحروف الأولي وصاحبها. تلك الاستحالة أن يكون الكاتب مجازاً للحروف البعيدة، تلك التي لن يبلغها .

بدأ اهتمامي بالسرد يزداد وأصبح شاغلي. ورغم الاستغراق في قراءة الأعمال السردية من قصة ورواية وما يصاحبها من أعمال نقدية، إلا أن مساحة في الوعي جعلتني أحاول جاهداً ألا تمس حسية الفطرة أو تخضع للمقاييس والقواعد والأسس النقدية المتعارف عليها. وكما تعلمت من المسرح " أن القاعدة في الفن .. ألا قاعدة ". حاولت أن أرهف السمع إلي صوتي الداخلي بعيداً عن إغواء الكتابة المسالمة. وأطلق العنان لجموح المغامرة شكلاً وموضوعاً. ألا أتلف الحواس بالوعي المسبق، وأترك مساحة بيضاء للايقين. وكثيراً ما نظرت بدهشة لمن يتحدثون بيقين راسخ عن تفاصيل تكمن حيويتها في تحولاتها. ولم أرغب في الاستسلام لأدوات تهالكت من فرط استهلاكها. اليقين الوحيد الذي خضعت له هو التجريب إلي أبعد مدي وبلا حدود قصوي وهو اللمسة السحرية للكتابة. كل الفنون تجتمع في الكتابة السردية. كلها تتحقق داخل النص، وتتبدي عبر اللغة وتتخلق في المشاهد .

في المدن الصغيرة يرتبط الكاتب بجغرافيا المكان فهي محدودة، وبطقوسه فهي متعددة، وبناسه فهم مرصودون في دائرة مغلقة، وبثقافته وهي سلوكهم اليومي .المدينة التي نشأت فيها ظلت قروناً لا تتغير ولا تتبدل. مجرد مدينة صغيرة لا تزيد دائرتها عن اثنين من الكيلو مترات. مجرد معبر للتجارة بين السودان وإفريقيا إلي الوجه البحري. لا يستطيع أحد أن يدعي أن خياراته واعية تماماً. لكني سألت نفسي كثيراً لمَ لم أكتب عن المكان الذي عشت تفاصيله وعاش داخلي. اتسعت المدينة وطالت أطرافها الجبال وزحفت فوقها. وسألت نفسي أيهما أكثر حيوية المكان في جموده عبر الزمن أم الإنسان الذي يغير المكان ويحيل الراكد إلي ذكري. المكان ثابت والإنسان متحرك. الزمان عذري في كل لحظة تتخلق. الإنسان متحول دائماً طالما لديه إرادة الفعل وماء الحياة يتدفق عبره. لم آخذ من المدينة سوي إيقاعها، واكتفيت.

حين بدأت إدراكاتي الأولي كانت مدينتي الصغيرة تتحول وتتمدد. كان السد العالي قد جذب إليها أكثر من ضعف عدد سكانها وموجات البشر تتوالي، وجرت علي الألسن لهجات مختلفة وتنوعت الأزياء واختلطت الألوان والأعراق. وانفتحت المدينة علي تنويعات لم تألفها وإيقاع له بريق الحلم. لم يأسرني المكان في ضيقه أو تمدده. ولم أخضع لطقوسه أو ثقافته المتأصلة أو المتحولة. لكنه الإنسان هو من أخضعني لدهشة عينيه أمام الفيض القادم من البشر وحركة الأجساد تشق طريقها بحثاً عن موضع قدم. الزمن في اتساع العين علي دهشتها أو انكماشها خجلاً. الصوت الجهوري في فضاء مزدحم يفتقد عالماً ريفياً آت منه القادم بحثاً عن عمل. الزمن الراسخ في الإنسان كلعنة أبدية. الدهشة هي الاكتشاف الذي لم أبرأ منه وأغترف من مشتهاه بحثاً عن مزيد من الدهشة .

قال لنا من كانوا قبلنا الكتابة هي الوطن. صدقنا أو حاولنا أن نصدق. قال لنا من كانوا منا ثم من أتوا بعدنا نحن أنفسنا بلا وطن، حاولت أن أصدق. ونظرت أسفلي فلم أجد أرضاً، ونظرت من حولي فلم أجد إلا عشباً صحراوياً، نظرت فوقي فكان غيم، ولم أعرف موقعي. فهل كنت غافياً، وهل من يقين يستطيع أن يدعيه أحد.

لا تعنيني الكتابة بأكثر من كونها حالة مزاجية خاصة، دون انتظار قدح أو مدح. شيء كتدخين السجائر أو الكأس في لحظة تجل. فأجيالنا لم تنجز مشروعها الإبداعي لأسباب كثيرة. والكتاب الحقيقيون منها أقل جاذبية من كتاب أدركوا مطالب السوق وطبيعة المصالح. أما المغامر والباحث عن لغة مغايرة وسرد غير مألوف فعليه أن يتجرع كأسه بلا مرارة في زمن " فن اليأس ". كما أنني كسول بطبعي ولا يحق لي الادعاء. وقد أهدرت من الوقت ما يقيم حياة أخري قصيرة، وغير عابئ بالقادم .

قال لي صوت : تمهل قليلاً يا فتي ولا تنبئ عما بداخلك كي لا يقتلك. قلت : حقاً لا بأس قد أوجد في زمن الالتباس لأعود لزمن أكثر ألفة وأحار قليلاً كي لا أوجد بعد. فإذا وجدت، فربما يكون زمن المصادفة أو اللاوعي. لكن ما أدركه منذ كتبت سذاجاتي الأولي، أنني لن أكون بعد، كما كنت من قبل .

كل الأسباب التي تقنع بها الكتاب كي يبرروا خطيئة كلماتهم كاذبة " دفاعاً عن الحياة ـ هرباً من الاكتئاب أو الموت ـ أو بحثاً عن جنون فوق جنون الحياة .... إلخ ". الحقيقة البائسة أن أحداً لا يدرك علي وجه صريح .. لماذا ؟ لأنه غامض بأكثر من الظلال ولا أحد يعرف مصدراً للضوء .

قلت لنفسي : أن تختصر نفسك وعالمك في كلمات لتتسع المساحات أمامك. أن تعود ثانية وتنظر داخلك علي آخر يضيء لك الظلال. هو نفسك التي لم تدرك، وعينك التي رأت. ربما يكون ذلك بعضاً من سحر الكتابة

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds