تثير الكتابات السردية الجديدة العديد من الإشكاليات المتعلقة بطبيعتها ومرجعيتها المختلفة والمتعددة في آن، حيث تجبرنا علي الحديث عن ذاكرة جديدة أو ربما رؤية جديدة ننظر من خلالها إلي الواقع الذي يتسم بالتعددية والتشظي وبالإيقاع السريع اللاهث نحو التكنولوجيا . والسؤال الآن: هل تغيرت طبيعة الواقع أم تغيرت طبيعة الكتابة ؟

عادة ما ينظر إلي الواقع من زاوية متعددة وخاصة فيما يتعلق بعلاقته بالكتابات الأدبية. ما الأدب الذي يتبني الواقع ويصبح أدباً واقعياً لابد له من أن يلتزم بمفهوم أرسطو ورؤيته للإنسان من حيث هو "حيوان اجتماعي" وهذا الأدب يقدم كما يري جورج لوكاتش نمطاً جديداً لكل مرحلة جديدة في تطور المجتمع، فهو يعرض المتناقضات القائمة داخل المجتمع وداخل الفرد في إطار وحدة جدلية، وهنا نجد أن الأفراد الذين يجسمون عواطف انفعالية عنيفة وشاذة مازالوا داخل مجال التنميط العادي من الناحية الاجتماعية، فالإنسان العادي مجرد انعكاس مهزوز للتناقضات التي توجد بشكل دائم في الإنسان والمجتمع (1) ولا شك أن الكتابات السردية لم تفرز ذلك الإنسان بل وضعته بين قوسين بالمفهوم الفينومينولوجي حتي يتسني لها تقديمه والتعبير عنه، وهي لم تقدم أرقي تعبير عن ذلك الواقع بالمفهوم الأرسطي القديم بل حاولت أن تقدم توصيفاً ظاهراً لذلك الواقع بحيث أنها تمثلت بالواقع جمالياً وفلسفياً .

إن ما يمر به الواقع الآن من تحولات جذرية قد يري البعض أنه يستحق التوقف للنظر والتأمل والرصد، ولكن طبيعة الأسئلة النقدية والجمالية لا تتيح لنا أن نرصد الواقع بوصفه ظاهرة مستقلة، ولكننا من الممكن أن نتأمل ما ينعكس منه فينومينولوجيا علي مستوي الكتابة أو ما تبغي من ظاهراتيته علي المستوي العام وتجلياته داخل الكتابات السردية الجديدة .

حينما طرحت علي الساحة النقدية مصطلحات كالذاكرة الجديدة والسرد الجديد والكتابة العابرة للأنواع كان لابد لنا من التساؤل هل كانت الذاكرة القديمة والسرد القديم والكتابات الراديكالية القديمة إن جاز التعبير لا تعبر عن واقعها ؟ وهل نحن انتقلنا فعلا من عصر إلي آخر؟ وهل هناك فجوة كبيرة بين ما تم إنجازه في السنوات الأخيرة وبين ما أنجز في الأدب في نهاية القرن الماضي أو في ربعه الأخير علي الأقل؟! .. فالغربيون أنفسهم لم يتخذوا قراراً ولم يطرحوا أسئلة حول ما إذا كان يحسن بهم أن يغادروا عصر الحداثة إلي عصر ما بعد الحداثة .. لقد وجدوا أنفسهم في زمن الما بعد. ووجدوا أن الحداثة لم تعد هي الطبيعة الفكرية القادرة علي مجاراة شروط العصر وظروفة، ولقد حاول بعض الغربيين مقاومة ما بعد الحداثة منهم هابرماس ومثقفو روسيا وشرق أوروبا، ولكن لابد من ملاحظة أن هابرماس الرافض للمصطلح هو نفسه من غرقت أطروحاته في أعماق ثقافة الما بعد وهو واحد من أبرز فلاسفة المرحلة علي الرغم من تظاهره برفض المصطلح (2).

وهابرماس حتي في أوج نقده لتيارات ما بعد الحداثة يفترض الإجابة علي السؤال الميتافيزيقي الكبير حول دور المعرفة والكتابة في التعرف علي العالم ؟ فهابرماس يجادل هيجل حينما يري أن هيجل في مقدمة "فينومينولوجيا الروح" عثر علي تلك الحجة التي تعود مراراً لتظهر في سياقات أخري، ومؤداها أن الفلسفة النقدية تتطلب من الذات العارفة، أن تتأكد من الشروط التي تتيح لها مبدئياً معرفة ممكنة قبل أن تثق في الحقيقة بمعارفها المكتسبة نحن لا نستطيع أن نختبر معارفنا فيما إذا كانت تقديرية أم لا بمساعدة معايير موثوقة تبين لنا مصداقية أحكامنا، ولكن كيف يمكن استقصاء قدرة المعرفة نقدياً قبل التعرف وخصوصاً إذا كان النقد ذاته يتطلب معرفة؟!(3).

وإذا كان هابرماس ومن قبله هيجل ومن قبلهما كانط أيضاً يقفون علي أعتاب الواقع للإجابة حول إمكانية المعرفة وشروطها وأنساقها المختلفة، وإذا كانت الكتابات علي مدار التاريخ لم تجد إجابة شافية حول إمكانية المعرفة بالواقع وشروطها، فإننا حينما نطرح إشكالية الكتابة الجديدة وتجلياتها السردية، فإننا لابد أن نقف عند رؤية الكتابة للواقع. للإجابة علي التساؤل التالي هل عبرت الكتابات السردية الجديدة عن واقعها ؟ لا أعتقد أن هناك من يمتلك إجابة، لأنه ببساطة لا أحد يستطيع رؤية الواقع كما هو ، ولا تستطيع أي كتابة حتي لو ادعت الاختلاف والتميز أن تؤمن أو تؤسس حتي رؤيتها للواقع، حتي الكتابات التسجيلية المنوط بها ذلك الفعل تفشل فيه، فالواقع الذي نعيشة الآن لا نستطيع الإمساك به، فهو دائماً ما يعبر ويمر، وما نقوم بالتعبير عنه هو تجلياته في ذلك الوعي حين يقوم الكاتب بمعايشة فينومينولوجية لذلك الواقع فيقوم بعمليات توصيف وإزاحة وتحديد لكل ما يختمر في وعيه ليخلق واقعه الجديد.

وإذا كنا نستطيع من خلال هذا التصور الإمساك بالواقع، فكيف لنا أن نستطيع الإمساك بما عايشناه داخلياً علي مستوي الوعي وعلي مستوي العالم العقلي الروحي. هذا العالم الذي أتحدث عنه، عالم يجب تأكيده بصورة غير مشروطة، عالم يختلف جوهرياً عن العالم الواقعي المتمثل في النضال اليومي من أجل البقاء، لكنه قابل للتحقيق من جانب كل فرد لنفسه "من الداخل" بدون أي تحويل للواقع الاجتماعي (4) هذا العالم هو عالم بين عالمين يعايش الكاتب منه ذاته وواقعه ويخلق بديلاً لهما يعايش بديلهما ويكتب عنه، هذا الفهم الإبستمولوجي للعالم هل يستطيع السرد الجديد أن يجليه أو يعبر تجلياته أو يظهره ؟!

والسؤال الآن هل السرد شكل جوهري للمعرفة (أي يمنح معرفة للعالم من خلال فهمه) أو هل السرد بنية بلاغية تشوه قدر ما يظهر؟ هل السرد مصدر للمعرفة والإلهام ؟ هل المعرفة به ترمي إلي عرض معرفة ما تكون نتيجة للرغبة ؟ .. إننا بحاجة إلي معرفة بالعالم تكون مستقلة عن السرديات، وبحاجة أيضاً إلي أساس ما للحكم علي هذه المعرفة بأنها أكثر وثوقية مما تقدمه السرديات، ولكن إذا كان هناك مثل هذه المعرفة التي يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها تفترق عن السرد، فهي بالضبط ما يكون مخاطراً به في السؤال عن أن السرد مصدر للمعرفة أو للوهم، لذلك فإنه يبدو مرجحا أننا لا يمكن أن نجيب علي هذا السؤال، إذا كانت له إجابة في الحقيقة، فبدلا من ذلك يجب أن نتحرك إلي الأمام وإلي الخلف، بين إدراك السرد بوصفه بنية بلاغية تنتج إبهام الحصافة أو التبصر، ودراسة السرد بوصفه النوع الرئيسي لفهم تصرفنا، وعلي الرغم من كل ذلك، فإن عرض السرد بوصفه بلاغة يملك البنية لحكاية ما، أي أنها قصة ينقاد وهمنا المبدئي، من خلالها، إلي الضوء الحقيقة القاسية، ويبرز حزينا ولكن حكيما، مسترشدا ولكن مهذبا، إننا نتوقف عن الرقص دائريا ونتأمل السرد ... هكذا تسير القصة (5).

وإذا كنا نبحث من خلال السرديات الحديثة أو الجديدة إذا جازت التسمية عن فهم للعالم نتمثله ظاهرياً فإننا سنواجه بعالم لا تقصده تلك السرديات هو عالم "ماك "؛ ذلك العالم الذي يقف مع التكنولوجيا والحداثة وما بعدها ويصور المستقبل بأزهي الألوان، ويري الكون كلوحة تموج بالحركة ويري الموسيقي الإيقاعية السريعة، وأحدث أجهزة الكومبيوترات، وكذلك الوجبات السهلة السريعة" أم . ت .في" و "ماكينتوش" و "ماكدونالدز" ويري الأمم وكأنها في سوق تجارية عالمية، هذا واقع آخر يجب الإشارة إليه" فعالم ماك" لم تعد فيه دوله ذات سيادة تامة، وهذا هو معني مصطلح "أيكولوجي" الذي يشير إلي السقوط التام بكل الحدود التي أقامها الإنسان، وعندما يصل الأمر إلي الأمطار الحمضية، أو بقع الزيت، أو المياه الجوفية، أو ملوثات الفلوروكربون، أو التسرب الإشعاعي، أو النفايات السامة، أو الأمراض التي تنتقل بالاتصال الجنسي، فإن الحدود الوطنية تصبح بكل بساطة لا معني لها، فالسموم لا تتوقف في نقاط الجمارك للتفتيش، والميكروبات لا تحمل جوازات سفر (6)، وأقرب مثال علي ذلك ما تم من انهيارات اقتصادية وسقوط بورصات عالمية وإفلاس مجموعة كبيرة من البنوك الغربية وذلك في شهري سبتمبر وأكتوبر عام 2008 ذلك كله ألقي بظلاله علي العديد من المجتمعات في عدة قارات مختلفة.

إنه عالم جديد تماماً تواجهه السرديات الجديدة، فكل اقتصاد وطني مميز، وكل شكل من أشكال المصلحة العامة معرض اليوم لاعتداءت التجارة الانتقالية، فالأسواق تكره الحدود كراهية الطبيعة لوجود أي فراغ، وفي داخل مناطق نفوذها الرحبة، التي يمكن اختراقها، المصالح الخاصة، التجارة الحرة، والعملات قابلة التحويل، والطريق إلي البنوك مفتوح، والعقود واجبة النفاذ، وتفوق سيادة قوانين الإنتاج والاستهلاك وقوانين البرلمانات والمحاكم، وفي كل أوروبا وآسيا والأمريكتين، انتقصت هذه القوانين من السيادة الوطنية، وأفرزت طبقة جديدة من المؤسسات والبنوك الدولية والاتحادات التجارية وجماعات الضغط الدولي كالأوبك.. والخدمات الإخبارية العالمية مثل"سي.إن. إن" و"بي.بي.س" والشركات المتعددة الجنسيات وجميعها مؤسسات تفتقر إلي الهوية الوطنية المميزة، ولا تعكس أي منها الانتماء للأمة كمبدأ منظم أو ضابط ،ولا تحترمه. وبينما تقع المصانع في كل مكان من أرض ذات سيادة تحت بصر الدول في متناول لوائحها الممكنة، فإن أسواق النقد وشبكة الإنترنت موجودة في كل مكان، وإن لم تكن موجودة في أي مكان بعينه، وفي غياب العنوان أو الفرع الوطن، نجد أنها بعيدة عن أجهزة السيادة، بل إن المنتجات صارت مجهولة الهوية ،أي عمالة وطنية يمكنك تحميلها خطأ عيب ما في إحدي الدوائر المتكاملة المكتوب عليها: مصنوعة في واحدة أو أكثر من الدول التالية:" كوريا ـ هونج كونج ـ ماليزيا ـ سنغافورة ـ تايوان ـ مورشيوس ـ تايلاند ـ أندونسيا ـ المكسيك ـ الفلبين، دولة المنشأ غير معروفة علي وجه الدقة (7).

ولهذا فقد أصبح الوعي بالعالم بعيداً تماماً عن التقنية، فهو يفترض الكلية لكنه في جوهره لم يستطع التوصل إلي شيء محدد، ولذا فالتركيز علي وعي المتلقي هو الملجأ الأخير في إنقاذ الكتابة. والقراءة بمفهومها الفينومينولوجي تحاول معايشة الوعي في صيرورته، فأن تقرأ لا يعني بالضرورة أن تكون واعياً بخصائص العمل البنيوية والأسلوبية، بل أن تكون مستغرقاً في أسلوب تجريب المؤلف للعالم، والاهتمام بتجرية القارئ والوصف الدقيق لها هما المهمتان المركزيتان للنقاد الظاهراتيين ومنهم جورج بوليه، ولكن الفعاليات التي يصورونها لا يبدو أنها تشبه تلك التي وصفها ميشيل ريفاتير، فبوليه لا يفترض علي أي نحو أن معني الأعمال الأدبية يعتمد علي القارئ ولكن "مصيرها" وشكل وجودها يعتمدان علي القارئ فالأعمال الأدبية تنتظر شخصا ما ليأتي ويعتقها من ماديتها وجمودها، وحتي اللحظة التي يحرر فيها القارئ الكتاب من صمته يصبح سجين وعي المؤلف، لأنه خلال المدة التي يكون فيها ذهن القارئ تحت تأثير ذهن آخر ،فإن وعي القارئ بالنص يتلاشي (8)، إذن وعي القارئ بالنص في مقابل وعي المبدع بالعالم، هما إذن في مواجهة لا محالة، وهنا لابد علي القارئ/الناقد/المبدع تجاوز مادية العمل وجزئيته والمثول في حضرته القدسية. والطريق لتحقيق لحظة الرؤية الصوفية هذه يكون من خلال إذعان المرء للوعي الذي يولد من العمل، إن الوعي المتأصل في العمل هو وعي فعال وخصب (9).

هذا الوعي لا يتبدي لنا علي المستوي الفينومينولوجي بسهولة، فبعد الانتهاء من قراءة العمل الفني الأدبي نحتفظ بانطباع حيvivid impression عنه ولكننا لا نستطيع الإلمام بكل جوانبه بسهولة، وذلك لأننا إذا احتفظنا بالعمل في الذاكرة النشطة بعد القراءة وإذا كنا مانزال نستدعيه بشكل حيوي، إذن فنحن نمتلكه في منظور إيقاعي واحد ومن نقطة محدودة هي تحديدا نهاية العمل، وهذا المظهر له مميزات خاصة عن تلك التي امتلكناها أثناء القراءة، فهو يمنحنا علي الأقل ومبدئياً العمل ككل، ونحن نعرف أنه لا توجد أجزاء باقية لنتتبعها، ونظريا يجب تفسير كل شيء عند هذه النقطة، ثم نفاجأ بأن هذا المظهر لا يمد إلي توصيل العمل بأي طريقة كافية من المظاهر السابقة التي تمت قراءتها، ولهذا يكون من الصعب أن ندرك العمل ككل (10).

وبعد أن يقوم القارئ بقراءة العمل الأدبي فإنه يمتلك كل المواد الخام raw material إذا جاز التعبير- حتي في علاقاتها المتنافرة، ومعرفة هذا التنافر يسمح للقارئ بأن يبذل جهداً إدراكيا ـ يعتقد البعض أنه يوازي جهد المؤلف ـ إضافيا في العمل ويتيح له وبشكل خاص أن يؤدي أفعالاً تحليلية وتركيبية analytic and synthetic للفهم، تعتمد عليها المعرفة الأعمق بالعمل ،وهذه الأفعال الإدراكية التي يمكن أداؤها بعد القراءة يجب أن تتعرض لتحليل خاص، فهي متنافرة تماما ويجب أن تتيح مسارات مختلفة اعتمادا علي المميزات الغربية للعمل نفسه علي موقف واهتمام قدرات القارئ، ولكن كل هذه الأفعال تفترض مسبقاً أن الشخص الذي يحاول تأديتها يجب أن يكمل قراءته للعمل وبدون هذه القراءة لن تكون لنا خبرة به (11).

وعلينا أن ننتبه تماماً أن قارئ العمل الأدبي يقوم بإعادة تأسيس موضوعات لها طابع فريد خاص، من المستحيل تحديده بدقة من خلال لغة الحياة اليومية، فالقارئ هنا يعيد تأسيس عالم فريد من أشياء وأشخاص ومواقف وأحداث تكون في علاقات معقدة ومتداخلة(12) (ü) والقارئ غالبا ما يسعي حين يقرأ النصوص السردية إلي محاولة السيطرة عليها، وهذا ما يراه الفيلسوف والمنظر الأدبي نورمان هولاند، الذي تبني نظرية مفادها أن كل طفل يتلقي عن أمه سمة من "هوية أولية" وينطوي الراشد علي "تيمة هوية" أشبه بالتيمات الموسيقية التي تقبل التنوع مع بقاء بنيتها الأساسية ثابتة، ومعني ذلك أننا عندما نقرأ نصا نمارس معه عملية تتوافق مع تيمة الهوية التي تميزنا، ونستخدم العمل علي نحو يرمز إلينا ويكرر نفسياتنا في النهاية، ونعيد صياغته لنكتشف إستراتيجياتنا المميزة الخاصة، ونتغلب علي المخاوف العميقة والرغبات التي تشكل حياتنا الروحية، إذاً لابد من تهيئة آليات الدفاع المشوشة عند القارئ لتتيح مدخلا إلي النص (13).

وهكذا نحن في مواجهة مع وعي المبدع نحن في حالة من التوتر والدفاع في محاولة للسيطرة علي النص الأدبي، والقراء غالباً ما يحاولون السيطرة علي النصوص باكتشاف تيمات موحدة تساعدهم علي استيعاب النص، إنك عندما تنقل النص في داخلك تتحكم في شيء يقع في الخارج حيث لا يمكن السيطرة عليه بل يسعي إلي السيطرة عليك (14).

وعلي هذا فمحاولة اكتشاف وإدراك الوعي المتأصل في العمل الأدبي وكذلك اكتشاف تيماته وجمالياته لا يأتي إلا من خلال وسائل اتصال أساسية بالنص تتأتي من قدرة المبدع علي طرح نصه بطريقة سردية تمكن المتلقي من بناء المعني، وقد استطاعت بعض النصوص السردية الحديثة طرح ما يسمي بالقدرة السردية narrative competence ، والسؤال الأساسي في عملية السرد هو لماذا نعرف ضمنياً الشكل الأساسي للقص الذي يمكننا من أن نميز بين قصة تنتهي كما ينبغي وقصة لا تنتهي حيث تترك الأشياء معلقة، إن نظرية السرد يمكن أن تكون مدركة بوصفها محاولة لشرح وتوضيح القدرة السردية (15)، وإذا كان ـ كذلك ـ أرسطو قديماً قد طرح فكرته الأساسية حول "الحبكة" وأكد أهميتها في عملية السرد فإن ثمة طريقتين للتفكير في الحبكة: فمن زاوية أولي تعد الحبكة طريقة في تشكيل الأحداث لكي تجعلها قصة صحيحة؟ إن الكتاب والقراء يشكلون الأحداث في إطار حبكة ما من خلال محاولتهم لفهم الأشياء، ومن زاوية أخري فإن الحبكة هي ما يعد شكلا من خلال المسروداتnarratives التي تعرض القصة نفسها في طرق مختلفة. وتميز نظرية السرد تمييزاً أساسياً بين الحبكة والعرض والقصة والخطاب، إن القارئ عندما يواجه نصاً، فإنه يفهمه من خلال تمييز ما يحدث، أي أننا نكون قادرين علي أن نفكر في البقية من المادة اللفظية بوصفها الطريقة التي تصور ما يحدث، هكذا فإننا يمكن أن نتساءل عن نوع العرض التي تم اختياره، وما الاختلاف الذي نصنعه؟ هناك كثير من المتغيرات التي تكون مهمة لنتائج السرد، فلقد اكتشفت نظرية السرد ـ إلي حد بعيد ـ الطرق المختلفة لإدراك المتغيرات (16).

وعليه لابد أن يدرك القارئ أن كل عمل أدبي وكل قصة لديها سارد ما؟ يقوم بسرد قصته إلي قارئ ما؟ وأنه في داخل كل رواية هناك من يتكلم ؟ وهناك من يستمع ؟ وأن هناك لغة ما يتحدث بها السارد؟ وأن هناك ما يمكن تسميته بتعدد الأصوات؟ وأن السارد حينما يصدر حكماً حول شخصية ما داخل العمل الأدبي لابد من أن نتشكك في مصداقية هذا الحكم؟ ولابد كذلك أن يتم التأكيد علي أهمية التعدد اللساني، الذي يدخل إلي الرواية "بشخصه" ويتجسد داخلها عبر وجوه المتكلمين دائماً وأنه بمثوله في خلفية الحوار يحدد الصدي الخاص لخطاب الراوي المباشر ومن ثم تلك الخصوصية البالغة الأهمية لهذا الجنس التعبيري، ففي الرواية الإنسان هو أساساً، إنسان يتكلم، والرواية بحاجة إلي متكلمين يحملون خطابها الأيديولوجي الأصيل، ولغتها الخاصة، إن الموضوع الرئيسي الذي "يخصص" نسق الرواية ويخلق أصالته الأسلوبية هو الإنسان الذي يتكلم وكلامه (17) (üü).

وفي النهاية فللسرد جماليات يضيفها إلي الحكاية، التي تمنحنا المتعة، والمتعة كما يقول أرسطو، تكمن في محاكاتها الحياة، وتواترها أو تعاقبها أو إيقاعها، إن قولبة السرد التي تنتج انحرافاً عن المألوف و المعتاد تمنح المتعة في ذاتها، والكثير من السرديات لديها بطريقة جوهرية تلك الوظيفة، أن تسلي المستمعين عن طريق منحهم انحرافاً جديداً للمواقف المألوفة، إن متعة السرد متصلة(18).

وتواصل "المتعة" الجمالية لن يتأتي إلا من خلال إدراك كل من الكاتب والقارئ أنه من خلال السرد قد يتأتي لنا معايشة العالم وإدراك جمالياته، كما يتأتي لنا خلق عوالم بديلة قد تشبه أو لا تشبه عالمنا، وأننا لابد أن نقوم بمعايشة حقيقية لما نكتبه أو نقرأه، فالكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة لن نستطيع إحكام النظر إليها وامتلاكها إلا من خلال السرد، وهكذا فللسرد أهمية بالغة في فهمنا للعالم ومدي إدراكنا لمتغيراته وتناقضاته وأيضاً جمالياته .

الهوامش

(1) جورج لوكاش: معني الواقعية المعاصرة، ترجمة أمين العيوطي، دار المعارف، القاهرة 1971، ص35 .

(2) عبد الله محمد الغذامي: آفاق ما بعد الحداثة، علامات في النقد، النادي الأدبي الثقافي جدة 1996، ص 18 .

ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلي كتاب هابرماس:

t.habermas: the theory of comnicatine action vol 2. lifeword and system: t. mecarthy، beacon. press. boston. 1987.

(3) يورجن هابرماس: المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، المشروع القومي للترجمة، العدد 326، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة 2002، ص 13 .

(4) فيل سلتير: مدرسة فرانكفورت نشأتها ومغزاها، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومي للترجمة، العدد154، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة 2000، ص 164 .

(5) جونثان كلر: مدخل النظرية الأدبية، ترجمة مصطفي بيومي عبد السلام، المشروع القومي للترجمة، العدد514، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة 2003، ص 127 .

(6) بنجامين باربر: عالم ماك المواجهة بين التأقلم والعولمة، ترجمة أحمد محمود، المشروع القومي للترجمة، العدد 42، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة، ص 15، ص 16 .

(7) المرجع السابق: ص16، ص 17 .

(8) جين ب . تومبكنز : نقد استجابة القارئ من الشكلانية إلي مابعد البنيوية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاتم، المشروع القومي للترجمة، العدد73، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة ،ص 24 .

(9) المرجع السابق : ص24، 25 .

(10) Ingarden R :the cognilion of the literory work of art، trans ruth an crouley and kenneth r. olsom، evanston north western uniresity press 1973، p143.

(11) Ibid p144

(21) سعيد توفيق، الخبرة الجمالية، دراسة في فلسفة الجمال الظاهرية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1992، ص 443.

(ü) لمزيد من التفصيل حول القراءة الفينومينولوجية للأعمال الفنية الأدبية، ورصد جماليات سردياتها الرجوع إلي كتاب د.سعيد توفيق السابق ذكره، وأيضا إلي دراسة كاتب هذه السطور، علم الجمال الأدبي عند رومان إنجاردن، سلسلة كتابات نقدية، هيئة قصور الثقافة، القاهرة 1998 ،وجماليات التلقي دراسةفي نظرية التلقي عند كل من هانز روبرت ياوس وفو لفجانج ايزر، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة 2002.

(13) رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1991، ص 203 .

(14) المرجع السابق: ص203، 204 .

(15) جونثان كلر: مرجع سابق ص 118 .

(16) المرجع السابق: ص119، ص 120 .

(17) ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1987، ص 101 .

(üü) لمزيد من التفصيل حول دور المتكلم في الرواية يمكن الرجوع إلي الفصل الخاص بـ "المتكلم في الرواية" من كتاب باختين السابق ذكره، والذي يضيف المزيد من الأبعاد الجمالية لعملية السرد ودور السرد في بناء العمل الأدبي ودوره كذلك في تعضيد خطاب المبدع الأيديولوجي علي أساس أنه خطاب اجتماعي يراعي الظروف التاريخية والاجتماعية وأيضا علي أساس أنه منتج أيديولوجي . ولمزيد من التفصيل كذلك يمكن الرجوع إلي كتاب واين بوث: بلاغة الفن القصصي، ترجمةاحمد خليل عردات وعلي بن أحمد الغامدي منشورات كليةالآداب، جامعة الملك سعود، السعودية ،4991 وذلك في الفصول الخاصة بأنواع السرد وجمالياته.

(18) جونثان كلر: مرجع سابق ص 126 .

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds