الكتابة رسالة حضارية نبيلة . أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا . الكتابة فعل إنساني قيمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلي ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله .. الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة، وتفضح الظلم والتحيز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّي أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوي الوعي والفكر للإنسان، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالي الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها، ولن يكون لوجوده علي الأرض أي معني إلا بتأدية هذه المسئولية، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته، وبما يوفره له من أسباب العيش.. الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا في الفراغ، هي فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه، وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين، وكلما كانت الكتابة " واقعية"، والواقعية هنا لا بمعني التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل، بل بالمعالجة الواقعية، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلي وعيه المتوازن، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية، كان أدْخلَ إلي القلب وأفْعلَ في النفس .

إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل، من أجل العثور علي الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل . ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا، وتنقاد لأي مخربش بسهولة، وقد قال الجاحظ قديما :

(المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و.....) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟

من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص - أي السرد - ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولي وجهي، فهل لذلك علاقة بما قلت من أنني أحب القصص أي السرد ؟

بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس، اكتشفت حين تم لي الوعي بما حولي أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا، ليعلن بعدها أن الأوان قد صار مواتيا للخروج إلي الماء، وربما في إحدي هذه المرات التي يتطلع فيها إلي السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة، فهناك " نوة " في الأفق، كنت أري السماء حيادية، وأندهش من جرأة هذا علي التأكيد بيقين لا يقبل أي ذرة من شك، أن الرياح سوف تهب، وأنها ستكون عاتية، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها، مع أنها غشوم ما زالت، وسوف تظل، ينبغي التعامل معها بحكمة وفهم، بأفق واسع، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها، وليس لها من انتهاء، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق، وتأتي أسماء النساء، يتجلي فيهن حضور الاجتماعي، وما هو طبقي وتأتي الأسرار منفلتة من سريتها إلي العلن، ثم تأتي الشكاوي من الحياة نفسها، وتأتي السياسة أيضا، وتحط بثقلها علي الألسنة، ولا شيء يمنعها من خوف، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أي ممثل للسلطة علي المراكب في رحلة الصيد، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر، ولا تأتي الأغنيات إلا علي شكل همهمات تستغل للتحفيز علي مواصلة العمل، لا شيء إلا العمل، وكل ما كان هو تكئة لا أكثر، أكتشف الآن أنه لم يظهر علي يابستي شاعر، وأندهش، فأنا أعرف أن أي جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتي، وهذا ليس قدحا في الشعر، فأنا أحبه، وأقف هازا رأسي عندما أري كثيرا من الشعراء قد تحول إلي كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلي مملكته ؟

أهلي وعشيرتي إذن كانوا من الحكائين العظام، حتي لو أخبرك واحد منهم بخبر ما، فسوف يقدم ويؤخر، ويومئ، ويمثل، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاك دهشا، فقد استحوذ عليك كليا، ويثيرني هذا العنوان " أسئلة السرد " وأحاول تأمله من زاوية أخري غير تلك المقصودة بطرحه النقدي والجمالي مع تغير موجات من يكتبون السرد، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلي باب آخر عليك فتحه فتفاجأ بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلي الأبد فلن تنتهي إلي الباب الأخير للسرد أبدا، أحاول أن أتأمل مقولة " أسئلة السرد» من منظور الماء والسماء، فأما من ناحية الماء فيحضرني شيئان، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل، فيؤخذ خلاصه في آنية، ويوهب للماء، بعض القبائل في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص، ولكنا نهبه للماء، ويحضرني هنا - وهذا هو الشيء الثاني - ما كتبه ميرسيا إيلياد - في كتابه صور و رموز - ترجمة حسيب كاسوحة ، حيث كتب : " ترمز المياه إلي مجموعة القوي الكامنة، وإلي جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل، وإنها الحوض الذي يضم كل إمكانيات الوجود، وهي تسبق وجود كل شكل، وتدعم كل خلق، يشار إلي أن الصورة النموذجية لكل خلق هي الجزيرة التي تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج، وبالمقابل يرمز الغطس في الماء إلي الارتداد إلي حالة سبقت تشكيل الشكل، وإلي استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود. إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكوني المتمثل في ظهور الأشكال، وأما الغوص في الأعماق فيوازي انحلال الأشكال، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة علي الموت وعلي الانبعاث علي حد سواء".

أما من ناحية السماء فهي الأفق الذي ينحني علي الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برذاذه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره، هو الروح التي تظل تسعي ولا تهدأ أبدا، في مفهومي هذا المتواضع للسرد يمكنني أن أزيد وأفسر حالتي أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان علي جزيرتي بين الماء والسماء، ينبغي علي السارد أن يكون في حالة كتابة دائمة حتي لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت علي وجهه رؤية السارد لهذا العالم، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان، وقبل التحقق أخرج بصفتي السردية للناس، أثرثر كثيرا، وأثير الكثير من الأسئلة، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة، وهي لا تمتلكها، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلي المعرفة، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمي بالتجربة الإبداعية .. في كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة، وبين ما يتحقق علي الورق، إلا أن حالة "البحث" و "الدهشة" و"التأمل" و"الانغلاق" و"التفتح" تلازم السارد فترة من الزمن، ثم تأتي الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بي، ولا فكاك منها، وهذا سر خاص بالسارد، يحاول أن يفض غموضه، إلا أنه ينسي أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلي العلانية، شيء آخر - مهم جدا - قبل الشروع في عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد، يعرف السارد أنه سوف يأتي إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل، طال توتر القوس، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه، يحاول السارد مجاهدة كل هذا، ويبقي مع هذا سر العمل الكتابي الذي تقوم قيامته علي الورق .. إذن يلزم السارد في هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته، وتظل تطارده إلي أن يصرخ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..

هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟

قد تحدث - رغم هذه القاعدة ـ استثناءات، فجأة بلا مجاهدة، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر، والغضب، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهي يعج بضجيج الحياة، إذا قلنا مع "أرنست فيشر" في كتابه الهام " ضرورة الفن " إن المضمون تقليدي بينما الشكل ثوري، يجابهني فورا سؤال جاءني من القائمين علي أمر هذا المؤتمر والشعار الذي رفعوه " أسئلة السرد الجديد " توقفت قليلا إلي أن تذكرت ما كتبته ماري تيريز عبد المسيح في مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلي حال من الأزمة والالتباس، إذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر أن الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.

ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد علي مكان الكاتب، وعلي الأبعاد «السياسية» للسرد - علي رغم عدم التوصل إلي اتفاق علي تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما أدي إلي انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».

إلا أن الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون إلي مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967 . إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي أصبحت راسخة.

إلا أنه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية أو السياسية المتباينة. بل أصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد أو من دون قصد، ويتطرق إلي المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة أو علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً علي عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره علي أنه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف إقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما أصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».

وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلي عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس - وكذلك دولة الحزب الواحد - فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.

أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية».

أردت بهذا النقل المطول بعض الشيء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين علي تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما، ورجوعا إلي استكمال شهادتي الشخصية ودخولا إلي معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعني لي كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية، كما أن عقيدتي الفنية تعتقد أن القصة هي ساحة التجسيد، وأعدي أعدائها هو التجريد، إذن القصة عندي هي حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك، ولا أعطي تلك الروشتة أهمية والتي يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة - موقف واحد إلي آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها - هذه الروشتة - إنها ضد عقيدتي - إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن علي التجاوز دائما، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلي الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندي هي الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن - وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفني فيما هو الأكثر غيابا، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتي لما أري وأسمع، لا ما أري وأسمع، وأري أن تكون قدما السارد علي الأرض (الأرض - الواقع) ورأسه في السماء (السماء - الخيال) لي بيئة يعيش عليها وفيها ناسي الذين أنتمي إليهم ولا أستطيع خيانتهم - لا دهشة من قولي - فإن الكتابة لدي السارد التزام ليس بالمعني السياسي، بل بالمعني الكامل المحتوي ابتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح، وضيق الأفق وقصر النظر ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها، الشاهد عليها في تحولاتها، شهيدها كذلك، للسارد بيئة أي أن له رمزه الذي يتميز به ثقافيا، البيئة هي التي تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادي الرحب والغني، السارد نشأ في بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين، عائلات تنتظم في منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل في القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هي البداية وهي كل ما في غيب مستقبلها، وكل الكامن في حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لي أن أخون رمزي ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودي من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزي يمتلك خيالي، وخيالي يمتلك سمائي، واقعي يمتلك خيالي، خيالي يمتلك واقعي .. منظومتي إذن هي غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية علي استنطاق رمز قارئي المستخفي داخل ذاته فيري ما لا يري ويسمع ما لا يسمع في واقعه..

هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة علي لسان ساردين جدد:

صفاء النجار

الإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالي عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل أو مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.

هناك كتابة جديدة علي مستوي الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوي دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوي عدد محدود (ألف نسخة علي أقصي تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ علي ثوابتها.

مصطفي ذكري

ودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبري التي كانت محط نظر الجيل القديم.

لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي إلي الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.

إبراهيم فرغلي

نجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة أن يقتحم آفاقاً أرحب، وبدأ كل كاتب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن أسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفي ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي أبو جليل وياسر عبدالحافظ، أو محاولة كسر صيغ السرد التقليدية إلي لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة أحمد العايدي، أو احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.

منصورة عز الدين

أهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر - إن جاز لنا استخدام هذا التعبير - هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.

تتسم الكتابة الجديدة أيضاً في معظمها بالتجرؤ علي الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية. ولكن من ناحية أخري ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر إلي مأزق كبير، خصوصاً أن سهولة النشر ادت إلي تجرؤ بعضهم علي فن الرواية من دون توافر الموهبة أو الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.

لكل سارد أن يؤمن بقضيته التي يري أن يعلنها علي الناس، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية في تقسيم السرد والساردين في عقود زمنية، مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخري أشد منها شيطانية، وهي تقسيم البلاد إلي قاهرة وأقاليم، إلي أي شيء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلي الأدب، البحر ملآن وليس بفارغ علي امتداد الخريطة، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه، لا يقفز قفزة في الظلام، ولكن يبقي اجتهاده أصيلا، وليس عليه في هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة في السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أي ادعاء، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون في هذا الادعاء غائبين، وهم الذين ينبغي علي السارد أن يكونوا محل اعتباره، بعيدا عن دعاوي التطور أو التنظير البعيد عنهم، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدي ارتباطهم بشكل سردي معين، أو دراسة في تلقي عمل سردي وكيف ولماذا حاز القبول، كما أنني هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا، بمعني أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشوا مشاكل الإبداع ذاته، وكيف يوسعون رقعــة القراء، إلي جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر.

هذه شهادتي التي لا ألزم أحدا باعتناقها، ولكنها قابلة للحوار المثمر في مواجهة هذا التشرذم والتباعد بين الكتاب، وكل منهم يركب جزيرة في بحر واسع ..

هذا وعلي الله قصد السبيل ..

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds