حين أتأمل ما كتبت، وما مر بحياتي حتي الآن أجد أن أعمالي تشبه أسلوب حياتي إلي حد كبير، وأن وراء كل عمل قصة تحول قصري بالحديد والنار، تحول بقرار اتخذته بوعي شديد، ربما بقلب بارد أيضاً وبدون تردد .

وإذا ما أخذت خطوة إلي الوراء لكي أتأمل معكم بحياد ما فعلته بحياتي وبالكتابة فلابد أن أعترف لكم بأني لا أعرف مصدر تلك القوة الداخلية التي ترفض بعد تأمل طويل وصامت إلي اتخاذ تلك القرارات التي أراها الآن مرعبة، وإن كانت ضرورية، والتي صدرت عني في لحظات فارقة لتعيد تشكيل حياتي، والكتابة معاً

وسأبدأ معكم بتأمل التحول الأول

كنت قد نشأت في أسرة مثقفة واعية تقدم لأبنائها الفرصة لممارسة رياضة يومية، وتتيح لهم التعامل مع عناصر الثقافة المتنوعة، وقد التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة، وحصلت علي بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية، وأتاح لي البرنامج التثقيفي الأسري التعرف علي الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ، وحين لاحظوا ولعي بالقراءة حفزوني علي الاشتراك في مكتبة المدرسة والنادي، وهكذا سار الخطاف الرياضي والثقافي في حياتي في نمو مطرد معاً، وكنت قد بدأت أحلم بالكتابة؛ فكتبت الشعر والخواطر في الثانية عشرة من عمري، ورحت أهيئ نفسي بوعي شديد لأن أكون كاتبة حتي جاءت لحظة التحول مع دخولي الجامعة إذ اشتركت في عامي الأول في إصدار مجلة الكلية، وجاء بعض الصحفيين لينقلوا أحداث الحركة الطلابية عام 1972 فأخذوني معهم إلي مجلة روزاليوسف.

وتعارضت الكتابة للمرة الأولي مع بطولات السباحة التي كانت تقتضي تدريباً يوميا لست ساعات وتصل إلي تسع أثناء الاستعداد للسباقات، وكان علي أن أتخذ القرار، ولم أكن أكملت الثامنة عشرة من عمري بعد، وقررت الاعتزال دون لحظة تفكير واحدة حتي أعمل في روزاليوسف، ناقشتني أسرتي، وطالبوني بمراجعة القرار لأن مستقبلي الرياضي مفتوح لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة؛ فأعطيت ظهري للأمر كله، ولم أشاهد سباقأ واحدا إلا بعد سنوات طويلة فبكيت .

عملت بالصحافة، وأنا أرعي امتلاك أدوات الكتابة كل يوم، وصدقت أن كل ما أكتبه قادر علي تحقيق حلمي بأن أكون كاتبة للأدب و للمسرح علي وجه الخصوص، لأنني تعلمت من درس البطولة الرياضية أن الأحلام تتحقق بجهد صاحبها، فقد أخضعت نفسي لنظام قراءة صارم يجعلني أقف علي قاعدة معرفة صلبة للتراث و الأدب العربي والعالمي .

فلما تخرجت في كلية التجارة جاءني أبي بفرصة عمل في فرع شركة أجنبية تعطي مرتباً يصل إلي تسعين جنيها عام 1975، وكان مرتب خريج الجامعة يبلغ سبعة عشر جنيها لا غير، وتعطيني مجلة روزاليوسف عشرة جنيهات، قررت الاستمرار في روزاليوسف، وفضلت الجنيهات السبع (بعد الخصم) .

وحين جاء رجل يطلبني للزواج وسط حماس الأسرة الشديد له، وحاولت الإفلات فلم أفلح، وشرحت له أن الكتابة هي كل حياتي، وأنني لن أعمل إلا في الصحافة، وسأكتب في الأدب ما أشاء بحرية شديدة دون تدخل منه سألني : إذا تعارضت الكتابة مع مصلحة الأسرة هل تختارين الكتابة ؟.

قلت أنا فرد في هذه الأسرة ومصلحتي هي في الكتابة الحرة؛ فكيف تتعارض مصلحة الأسرة مع مصلحة أحد أفرادها ؟ مصلحة الأسرة تتطوع حسب ظروف أفرادها، سأختار الكتابة لأنها مصلحة الأسرة.

وافق علي الزواج مني وأشهد أنه رعي حريتي وساندني، وكنت أنا من يتردد أحياناً، وأغلب القرارات التي تفيد راحة باقي أفراد الأسرة حتي لو جاءت علي حساب الكتابة، وأقول بلا تردد أن حريتي قد نقصت كثيرا حين غاب عن الحياة، وحين أسأل نفسي الآن هل كنت سأقبل الزواج منه إذا لم يقبل بحريتي المطلقة في العمل والكتابة ؟ أقول لم أكن لأقبل.

كنت في الثامنة عشرة، عملت بالصحافة، وانتقلت للعمل كمراسلة صحفية لروزاليوسف في بغداد فور تخرجي لكي ألحق به، ورحت أنشر القصص القصيرة، وأخطط لثلاثة مشروعات روائية، الأول كان بعنوان "سفينة النساء"، وموضوعه الحب، وقد استبعدته لأنني لا أريد أن أكتب عن الرجل باعتباره هدفا مثل أجيال من الكاتبات سبقتني، الثاني بعنوان "ألوان الطيف السبعة"، وكان موضوعه جماعة المغتربين المصريين في العراق، وبدأت بالفعل في كتابة الرواية، ووضعت علي الطريقة المحفوظية ملفات لشخصياتها، وبعد أن قطعت شوطا لا بأس به قررت التوقف، كنت قد لاحظت بمناقشتي لزميلي وأستاذي في الصحافة فتحي خليل أن نظرتي لهؤلاء المغتربين والسياسيين منهم بصفة خاصة هي نظرة شديدة الإدانة، وسألت نفسي إن كان الابتعاد عن بغداد واكتساب خبرات في الحياة يجعلني أغير رأيي فيما أري وما أكتب، واخترت أن أؤجل كتابة العمل وعدت إلي مشروعي الثالث لأبدأ به، وكان فريق للسباحة؛ أولاً: لأنني أعرف هذا العالم، ولا أحتاج للكثير من البحث حتي أقدم أبطاله، وثانياً: لأنه لم يسبق أن قدم مجتمع الرياضة في الرواية العربية رغم أن إحسان عبد القدوس كتب عن مجتمع الأندية لكنه اكتفي بعالمهم الاجتماعي ولم يقترب من الملاعب..

وكان هذا هو التحول الثاني

وجاءت الرواية رواية عن النمو بصبية يتحسسون الحياة بوجل للتعرف علي العالم، وسواء تم هذا بوعي أو بدون وعي فقد تسربت قضية الحرية لتحتل الرواية، وتكشف النقاب عن جماعة تعيش في مصر في الفترة من منتصف الستينات حتي عام 1973، ونتساءل عن معني البطولة والولاء لقائد نجح أن يسير بها إلي هدفها لكنه سرق روحها حين كبلها.

حيت أتأمل الآن هذا القرار الصارم بالتوقف عن كتابة رواية الاغتراب، وعدم الرجوع إليها مطلقاً طوال ربع قرن أحتار في نتائجه لأنني حين عدت إليها وكتبتها حزنت بشدة علي تركي لها وعدم تدوين ما كنت أدونه من ملاحظات بدت ساخنة وطازجة في فترة من أخصب فترات العراق، لكني في ذات الوقت اكتشفت أنني قد غيرت نظرتي بالفعل لتلك الجماعات السياسية التي كانت تتحرك أمامي، ورحمت الكثير من الشخصيات التي تعاليت عليها في حينها لأنني لم أر إلا الصغائر الإنسانية، ونسيت في غمار ضيقي منها أنها جماعات تناضل من أجل الحرية، وتدفع ثمن تمردها علي الأنظمة بالتشرد، والنفي، والفقر، والرفت من الأعمال، وغيرها من أثمان كنت أعرفها نظرياً فحسب مع قلة خبرتي وصغر سني، نعم أعطتني الحياة و السنوات الماضية نظرة أعمق أري بها الضعف الإنساني بعين رحيمة، ومنحتني الفرصة لتقدير هؤلاء البشر، وتقديم حركتهم بشكل أعمق، وإذا قدر لهذه الرواية أن تصدر (تحت الطبع) سأكون مدينة لقراري الصارم بالتوقف عن كتابتها في ذلك الزمن بخروجها علي ما هي عليه الآن.

بعد ست سنوان من العمل مراسلة صحفية في بغداد قررنا العودة إلي القاهرة عام 1980 ليدخل ابني المدرسة ووقفت حائرة، أريد أن أذهب إلي بيروت لرصد تجربة المقاومة، والدخول في معترك الصراعات العربية، مؤمنة تماماً بأنني سأخسر كثيراً إذا لم أعش هذه التجربة مع المقاومة الفلسطينية، والعمل في صحفها ليس من أجل الصحافة، ولكن من أجل تكويني ككاتبة عربية، ووقفت حائرة بين زوجي الذي وافق علي سفري وحيدة إلي بيروت، وعودته وابني إلي مصر، لكنني اتخذت قراري بالعودة معهما، وظل هذا التحول يؤرقني مدي الحياة لأنه طبع حياتي ببصمة التوازن ولم أستطع الإفلات من الحياة تحت وطأة غزل حبل التوازن إلا بصعوبة، وبقرارات صارمة أيضاً.

كان هذا هو التحول الثالث

حين عدت إلي القاهرة لاحظت في قريتي تحول المجتمع والإنتاج من النظام الزراعي التعاوني إلي الصناعي التجاري؛ فرصدتها وعشت سنة كاملة في القرية، وكتبت مسودة عمل بعنوان "بيضة من خشب"، ثم جاء قراري الحاسم بعدم النشر، وعمل بحث طويل عن الفلاح المصري وتاريخه القديم والمعاصر..

ليكون التحول الرابع

إذا كانت الرواية التي قرأتها طموحة وكاتبها ضعيف، واستمر عملي علي هذه الرواية عشر سنوات كاملة دونت خلالها عدة أفكار لمشاريع روائية، وضعتها في ملف وأغلقته، وكتبت قصصا قصيرة، وأصدرت مجموعتي الأولي "رقصة الشمس والغيم"، ثم "أجنحة الحصان"، والتي كتبتها وأنا غاضبة أحاول أن أفهم بالكتابة لماذا يقبل الإنسان بالهزيمة؟، وهل ينهزم دون أن يقطع نصف الطريق إلي السقوط؟، وقد تركتني هذه المجموعة وأنا أسأل نفسي عن الوسيلة التي تمكنني من قلب الإنسان الذي خاطبته بعنف؛ فقررت أن أجعله يستمتع وأن أتسلل إليه بأفكاري بهدوء، ساعتها حلت كل المشاكل الفنية التي صادفتني، وأنا أخطط لمشروع رواية، وبدأت في الكتابة التي استغرقت ثلاث سنوات أخري وكونت قاموساً خاصاً بالأرض استخدمته في الصياغة النهائية في محاولة للاقتراب من الفلاح الذي أحببته، وفتنت بعشقه للحياة، ومحاولاته لغزل الفرح بأبسط الخيوط، وقدمت بانوراما عن الحياة في قرية مصرية في الفترة من الحرب العالمية الأولي وحتي أزمة مارس 1954 .

الآن وأنا أتأمل قراري بعدم نشر روايتي "بيضة من خشب"، والتي أفرخت ـ معذرة ـ روايتين هما "منتهي"، و"ليس الآن"، ورواية ثالثة لم أنته منها بعد، أجد أنني لم أكن مخطئة في قراري رغم أنني دفعت ثمنه أربع عشرة سنة من العمل المضني، بل علي العكس فلم تكن "منتهي" هي رحلة بحث عن الفلاح المصري، بل كانت رحلة نمو لأدواتي كان لابد منه حتي أستطيع أن أكتب رواية تقدم نقلة نوعية مختلفة عما قدمته في روايتي الأولي "السباحة في قمقم".

توقفت كثيراً وأنا أسأل نفسي عن المرحلة التالية لهذا المجتمع، ما هو المسار الذي اختاره لكي يعبَّر عنه، لم أجد مفراً من أن أختار الصراع العربي الإسرائيلي موضعاً للجزء الثاني من"منتهي"، والذي كتبته كرواية متصلة منفصلة يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول، واخترت بطلي ضابطاً في القوات المسلحة، وهو ما استدعي العودة إلي البحث لكي أتعرف علي عالمه العسكري، فلم تعطني الحياة فرصة الاشتراك في الجندية، أو حتي الاحتكاك بها، وظهرت الرواية بعد أربع سنوات بعنوان "ليس الآن".

كانت قد تراكمت مادة واسعة للجزء الثالث لكنني بعد ثماني عشرة سنة من العمل كانت قد تاقت نفسي لأكتب رواية تدور أحداثها في المدينة في الزمن الراهن؛ فتركت مشروعي، وانتقلت إليها، وكتبت رواية عن التحقق في الحياة، عن الصراع الذي يعيشه المثقف بين رغبات وإمكانيات تحقيقها..

وكان هذا التحول الخامس

وكنت إذا كتبت قصة قصيرة أكتب مسوداتها الأولي، وأتركها خوفا من أن تخرجني من العالم الذي يستغرقني، وبعد انتهاء الكتابة في "امرأة ما" قررت أن أتفرغ لهذه القصص، أعدت كتابتها وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان "قصر النملة"، ثم دخلت بجهد ثقيل في معركة مع نفسي لكتابة سيرة ذاتية موضوعها الموت، ولم أستطع أن أنشرها..

وكان هذا التحول السادس

وحتي أستطيع التحدث عن هذا القرار الصارم بعدم النشر والانتقال إلي كتابة روايتي"أيام منسية من دفتر بغداد" اعتماداً علي مخطوطي الأول الذي كتبته في العراق عام 1977، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، لابد أن أحكي لكم قصة الصراع المستمر بيني وبين الرقيب الداخلي لعله يلقي الضوء علي هذه التحولات.

أعترف أن المسكوت عنه في الحياة، ما نتواطأ علي إغفاله، ونتعامل معه باعتباره غير موجود، هو أحد المناطق التي أهوي اللعب في مضمارها سواء أكان المسكوت عنه خارجيا في حركة المجتمع أو داخليا في الذات نفسها، فهو منطقة غنية جديرة بمتابعة الخيوط والغوص في الأعماق حتي لو عجزت اللغة لطول ما عانت من قلة الاستخدام للعبير عن هذا المختفي.

منطقة تحتاج في الغالب إلي نحت لغوي خاص ليعبر عما تفاجئه بالضوء، والمسكوت عنه الحافز الأول لظهور الرقيب الداخلي، ولقد عانيت من هذا الرقيب أثناء كتابتي لروايتي ليس الآن بسبب موضعها الشائك : ضابط لا يقبل بتوقف الحرب مع إسرائيل، لقد سألت نفسي وأنا أبدأها ماذا سأفعل مع آلاف المحاذير التي يلقيها هذا الرقيب أمامي وأنا أفكر؟، أعترف أنني أحببت بطفولة شديدة أن أزيحه من طريقي، لأن الكتابة هي فعل الحرية الوحيد الذي أمارسه، كيف أحدد حريتي بيدي ؟، لكن مواجهه المؤسسة العسكرية المصرية بالنقد أمر لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، القلق يفاجئني وأنا أقود السيارة، والحرارة والضجر يذهبان بأعصابي فأكاد أجن لأن لا شيء يقهره، ولا حتي ضغطي علي البنزين، وارتطامي بخط السير، أختار إذن أسوأ الأوقات للانفراد، وأكثرها ضعفاً، وحين أكون بعيدة عن الورقة والقلم لأنهما كانا السلاح الوحيد الذي حاربته به، واستطعت بعد جهد إقناع نفسي بأنني قهرته، ورضيت عما كتبت لكني أحياناً أسأل نفسي هل حقاً أزحته ؟ أم أنني أسكنته الأعماق، فراح يعيد ترتيب الأشياء قبل أن تصل إلي الوعي ؟ سؤال لا أهرب من الإجابة عليه خاصة وأنني لا أؤمن بالحلول الوسط ولا أنصاف الأشياء.

لم أسمع أي اعتراض من أي جهه رقابية علي الرواية بعد صدورها، وطبعت في مطابع الدولة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأعيدت طباعتها مرة ثانية في مشروع مكتبة الأسرة أيضا كاملة، لكن ناقدا واحدا من الذين كتبوا عنها لم يأت إلي ذكر أزمة هذا الضابط مع المؤسسة العسكرية، وتناولها من جوانب أخري تماماً، لقد عمل الرقيب الداخلي مع الناقد أكثر بكثير مما فعل معي.

هكذا وصلت إلي رواية "امرأة .. ما"، وأنا أشعر براحة وثقة تدفعني لكتابة ما شئت واخترت موضوعاً شائكا عن إمكانية التحقق، واخترت الحب بين المرأة والرجل روحا وجسدا متسلحة بإيمان حقيقي في إمكانية الدخول إليه، والتعبير عنه حتي أصل لما أريد، وراح الغزل يتحول إلي نسيج متماسك بعدما يزيد علي ثلاث سنوات، وكدت أكتب كلماته، ولكن أحداث "الوليمة" فاجأتني ذات صباح فاضطرب الغزل في يدي، ورحت أتأمل مزيدا من الأسئلة الصعبة عن المناخ الذي يعيش فيه الكاتب وتأثيره علي كتاباته، وبعد حوار طويل مع نفسي انتهي بهدوء إلي دخول هذه الأسئلة جسم الرواية التي كنت أصوغها في ذات اللحظة، وأن تكون إجابتي كما قال بطلها عمر مأمون الكاتب الروائي: أراهن علي حضارة السبعة آلاف عام، وأقرر أن أنشر روايتي كما هي تخزني الشكوك : هل تقبل دار نشر الآن ما أكتب ؟.

أجيب بروح مرحة تتفاءل بالمستقبل حتي لو لم أجد في مصر سأجد في بيروت أو في المغرب، ستقبع في الأدراج إلي أن يحين نشرها، ولن أغير منهجي لأخضع للظلام .

نشرت رواية "امرأة .. ما" أول دار نشر عرضتها عليها وهي دار الهلال، وقرأتها مطبوعة بتأن فوجدت أن كل محاولاتي للفكاك من الرقيب انتهت بانتصار ما .. له، لأنني راوغت كثيراً في الكتابة، ولم أسم الأشياء بأسمائها أبداً، تأملت هذا باسمة، وقبلت أن يستمر اللعب بيننا، لكن ما فاجأني حقيقة هو الفارق الشاسع بين موقف القارئ العادي من الرواية، وموقف القارئ المثقف إذ أخبرني عدد كبير من المثقفين، والكتاب بصفة خاصة بخشيتهم من خلط الأوراق بيني وبين بطلة الرواية التي تعيش حياة مزدوجة بين الزوج والحبيب، وقال لي كل منهم علي حدة إنه يفهم دوافعي لكتابتها، لكنه يخشي من مواقف الآخرين، في حين لم يسأل القارئ العادي أي أسئلة من هذا النوع، ولم ينشغل إلا بما أردت قوله بالفعل، وما مسّ حياته، فاحتفي بها احتفاء خاصا ومازال يدهشني حتي الآن، ذلك أنني فتحت جرحا كان يبدو لي متقيحا؛ فإذا به يكشف عن خلل يكاد يودي بالحياة نفسها.. (غرغرينا).

وتصورت أنني قطعت شوطا بعيدا في الكتابة بحرية، تلك الحرية التي لا أتصور كتابة حقيقية بدونها، ولا كاتباً عظيماً يتردد في ولوج دربها، حتي قررت أن أكتب رواية سيرة ذاتية تعتمد علي لحظة إنسانية بالغة الصعوبة، الإنسان في مواجهة موت أقرب الناس إليه، تصورت أنني بما أمتلكه من أدوات في رحلتي قادرة علي الدخول إلي الموضوع بثقة، ورحت أعيش مقاومة الانهيار بالكتابة؛ فلما انتهيت منها اكتشفت أنني لم أستطع بلا أقنعة أن أكتب مشهداً حميماً واحداً، علي عكس ما حدث في كتابة "امرأة .. ما"، ورغم أنني أعلم صعوبة أدب الاعتراف لأننا لم نَّدرب عليه، وقامت الحضارة الغربية علي فكرة التطهر المسيحية بالاعتراف إلا أنني لم أجد هذا عذرا مناسباً لأن تكون الرواية ناقصة من وجهة نظري كناقد أول لعملي، واتخذت قرارا بعدم نشرها حتي أصل لحل لهذه المعضلة إما بالشجاعة، وكتابة هذا الشأن، وإعطاء التجربة نفسها لأشخاص متخيلين، وفتح باب الحرية أمام الخيال لكي يقوم بفعله علي راحته.

لهذا حين قررت أن أكتب روايتي"أيام منسية من دفتر بغداد"، وكان الإغراء كبيراً لأن أكتب شهادة أو سيرة ذاتية استبعدت الفكرة علي الفور، وأعطيت إحدي بطلات العمل تجربتي وخبرتي عن بغداد لكنني لم أعطها ذاتي، وبنيت شخصيات وهمية تحمل عبء الرواية عن كاهلي، حتي أتمتع بالحرية التي لا أري عملا أدبياً أو فنياً بدونها.

أما كيف أختار شخصياتي فهو موضوع تنفتح أمامه كل الطرق؛ أحيانا من الخيال الكامل، أبدأ من فكرة وأظل أركبها حتي تتحول إلي لحم ودم، وأحياناً من صنعة أراها في أحد الأشخاص فآخذها، وأنسج حولها شخصيتي، وأحيانا من حدث أو من فعل يقوم به شخص لا أعرفه أمامي أو يحكي لي عنه. أما الأشخاص الذين أحببتهم ورغبت في الكتابة عنهم؛ فقد عجزت إلي حد كبير عن تقديمهم في كل عمل فني وأجلت هذا حتي تزداد خبرتي بهذا الفن، وأظن أنني في المرحلة القادمة من حياتي سأقدم بعضهم.

أما كيف ألتقط الفكرة، ففي كل مرة كان المصدر مختلفاً، بدءا من شخصية تستهويني؛ فأقرر الكتابة عنها دون أن أعرف إلي أين، أو موضوع غامض أحوم حوله حتي أمسك طرف الخيط، أو حادث معين يستفزني، لكنني لا أبدأ بالكتابة إلا بعد استفزاز طويل، وحالة عاطفية تتملكني نحو عالم أريد أن أعرفه فأبدأ المناوشات معه.

وفي بعض الأحيان تتولد فكرة من داخل عمل أكتبه بالفعل ؛ فأصدقها وأمشي وراءها، حتي أنهيها، كما حدث مع عملي الأخير الذي هيمن علي عقلي وانتزعني من وسط الإعداد لرواية أخري.

أتصور أن الرواية أو القصة هي التي تختار شكلها ولم يحدث غير مرة واحدة في كتابة "امرأة .. ما" أن وصلت إلي الشكل علي الفور؛ ففي كل مرة كنت أقوم بالعديد من التجارب حتي أقرر شكل البناء الفني.

أما الأسلوب فأعتقد أن كل عمل له أسلوبه أيضا؛ فالحديث عن قرية وسط دلتا النيل في بداية القرن يحتاج إلي لغة تختلف كثيراً بخشونتها عن شاعرية اللغة في رواية عن الحب، واللغة المحددة في رواية عن الحبيبين، واللغة التقريرية في رواية عن الغليان السياسي.

التحولات إذن رسمت خريطة الطريق، لكن ما ذكرته منها لم تكن كل التحولات، فقد لعب الرقيب الداخلي معي لعبته في تحديد الاختيار.

2 تعليق:

استمتعت جداً بشهادة هالة البدري
وحاساها قريبة وحقيقية

بجد الكلام فيه سلاسة وصدق
وصعب أوي متكملوش لآخره

27 ديسمبر 2008 في 1:52 ص  

شكرا يا ست الحس
على متابعتنا
والجدير بالذكر أن هوبدا صالح ذكرتك فى المائده المستديره و ردك على قصة أحمد بيحب نوجا
وستدونها بشكل منفصل بالمدونه

28 ديسمبر 2008 في 2:17 ص  

Blogger Template by Blogcrowds