" كل من هبَّ ودبَّ يستطيع الآن أن يكتب وأن ينشر ويضع علي غلاف كتابه الجذّاب صك "رواية" دون أدني حرج، وإن لم يفلح في النشر الورقي، فالإنترنت أوسع انتشارًا ". هذا الكلام لسان حال كثير من النقاد والكتّاب الذين تشكّل عقلهم النقدي وتكونت ذائقتهم الأدبية في إطار عقد اجتماعي نصّ في أحد بنوده علي أن الكتابة موهبة أو احتراف، وبالتالي لا يحق إلا لأفراد بذواتهم أن يطلقوا علي أنفسهم مسمَّي "كاتب" وأن يطلقوا علي ما يكتبونه مسمَّي "كتابة"، بحكم أن هؤلاء الأفراد موهوبون أو محترفون في عملية الكتابة.

لا أستطيع أن أقول إن هذا العقد الاجتماعي قد عفي عليه الزمن، خاصة أنه ليس سهلاً علي مجتمعات تري أن ترميم البالي وتنكيس المتهالك قد يكون أكثر استجلابًا لبركات الاستقرار من أن تُلقي بأمنها و أمانها في غياهب المجهول الذي قد يستجلب كل مكروه.

ولا أعني بذلك أن ذلك العقد الاجتماعي المتوارث أصبح باليا أو متهالكًا، وإنما ما أعنيه بالضبط أن هذا العقد الاجتماعي الذي يخصّص مهنة الكتابة ويمنح شرفها التاريخي للموهوبين والمحترفين قد واجه في السنوات الأخيرة من استطاع أن يعترض عليه ويرفض التوقيع عليه.

ويبدو أن هذا الاعتراض ذاته ليس جديدًا في تاريخ التجريب الأدبي، فهو أمر مألوف يواجه المجتمعات في لحظات مفصلية تتحول فيها أشكال الكتابة ويتغير فيها مفهوم الجمالية أو الأدبية.

معني هذا الكلام أن ما يندرج ضمن الأدب لا يخضع لمعايير الجودة الأدبية المرتكزة علي الصفات الداخلية للنص، وإنما إلي جانب ذلك هناك معايير الجودة التي تحددها اللحظة الثقافية التي يتم فيها إنتاج هذا العمل الأدبي أو ذاك، بل الأدق أن نقول إن اللحظة الثقافية هي، بالأساس، التي تحدد المعايير التي يتم علي أساسها التواطؤ المجتمعي علي تنصيب هذا الشكل من الكتابة موقع الشكل المهيمِن في مقابل تنصيب الشكل الآخر من الكتابة موقع الشكل المقاوم والساعي للهيمنة.

وعلي هذا فـ"روائية" عمل مكتوب علي غلافه "رواية" هي عبارة عن خصائص داخلية وأخري خارجية، والعلاقة بينهما ليست بسيطة ولا ثابتة، لأنها علاقة تتشكل نتيجة تفاعلات معقدة بين النص وسياقه الثقافي. فإذا كانت اللحظة الثقافية تنحاز نقديا وإعلاميا وجماليا لنمط من الكتابة الروائية علي حساب نمط آخر، ففي المقابل هناك نصوص متفردة بقدرتها علي أن تغير شروط اللحظة الثقافية المنتجَة في ظلها لتؤسس لوعي قرائي جديد.

لكن جرت العادة أن تقع الكتابة في فخاخ التنميط بمجرد أن يسلك نصٌ مسلكًا جديدًا فينال تقديرًا أو تهليلاً، فتحذو عشرات النصوص حذوه، فيتحول الجديد إلي مبتذل، والمتفرد لتقليد، والإبداع إلي تكرار. ولاشك أن كل كاتب روائي يتمني وهو يكتب عمله أن يفقد ذاكرته القرائية فلا يكرر جملة ولا وصفًا ولا شخصية كتبها روائي قبله، وهو في سبيله هذا يدخل في محاورة مع تراثه الروائي القريب والبعيد، وما وصله من تراث النوع الروائي. وغاية كل روائي أن يحقق التفرد الذي هو أحد معاني الخصوصية. وباختلاف فهم الروائي لمكمن خصوصيته وتفرده وباختلاف مسلكه لتحقيق ذاته روائيا، يختلف تصوّره للرواية. لاسيما أن الرواية نوع أدبي يتسم بقدر عالٍ من المرونة التي تسمح، بل وتثمّن التواطؤ بين الثقافة الإنتاجية والثقافة الاستهلاكية للرواية.

وهنا تتضح أهمية إسهام الباحث مجدي توفيق في قراءة "الروايات الجديدة" التي قامت علي فرضٍ أثبت صحته، وهو أن "نصوص الأدب- بخاصة النصوص التي تبحث عن طرق جديدة تمشي فيها- تحقق إبداعها بأن تصنع ذاكرة جديدة، بما تعنيه الذاكرة الجديدة من معارف جديدة، وتصور جديد للحياة، ومن اختيار لتراثٍ جديد، ومن طرق جديدة في الكتابة، وجماليات جديدة للنصوص" (1).

إن الروايات التي قام توفيق بتحليلها من منطلق مفهوم الذاكرة الجديدة تنتمي وفق مسلك المجايلة النقدي لجيل التسعينيات، وقد كان شاغل الباحث الأهم الكشف عن خصائص سردية يقيم عليها مفهومه النقدي "الذاكرة الجديدة"، وهو ما جعله يعلن منذ البداية تجنبه الخوض في مسألة تحقيق مفهوم "الرواية الجديدة" أو السعي لتقديم تعريف له. ويبدو أن مسلك اجتناب التحقيق في التعريفات المطروحة لمفهوم الرواية الجديدة، ثم عدم التورط في عملية تبنٍ لأي من هذه المفاهيم أو عدم التورط في تقديم مفهوم جديد يضاف للمفاهيم المطروحة للرواية"الجديدة"، يفضي بالباحث لقول نصف الحقيقة حين يذهب إلي القول بأن ثمة خصائص أو سمات كامنة في عدد من الروايات صدرت حديثًا أو مؤخرًا تؤسس لكتابة"جديدة" أو "خصوصية سردية" أو "قطيعة روائية"، لأن النصف الآخر من الحقيقة المسكوت عنه هو أن ادّعاء الجدّة وادعاء المجايلة ادعاءان ينفي كل منهما الآخر، فهما متغيران لا يحكمهما ثابت، ونحن نحتاج لثابت لنحتكم إليه كمعيار نقدي ليس في التقييم الجمالي للروايات فحسب، وإنما في تصنيف الروايات وفقًا لخصائص سردية تَسِمُ خطابَها السردي. وإذا لم يكن هناك ثابت نحتكم إليه أو نتواضع عليه، فليس بمقدورنا سوي أن نقنع بأحد أمرين أولهما هو الربط بين المتغيرين (المجايلة/ الجدة) فتكون النتيجة بديهية أو مجرد تحصيل حاصل ولا جديد فيها، وهي أن لكل جيل جديده مع وجود خروجات عن القاعدة هنا أو هناك، أما ثانيهما فهو أن نطرح أحد المتغيرين جانبًا، وأعني هنا مفهوم المجايلة، ليكون البحث عن المتغير الثاني وهو " الجدّة" في كل عمل روائي ندرسه مستندين إلي تصوّر "للرواية الجديدة" نتبناه لغرض هذه الدراسة. هذا التصوّر يقدمه الباحث شكري عزيز الماضي في كتابه "أنماط الرواية العربية الجديدة" علي خلفية مقارنته بين مفاهيم ثلاثة يستدعي كل منها الآخر (الرواية التقليدية- الرواية الحديثة- الرواية الجديدة)(2) باعتبارها ثلاثة أشكال تمثل تطور الرواية العربية دون الوقوع في فخاخ التحقيب الزمني، وأحاول هنا أن أستخلص أهم السمات المائزة بينها مصنفًا إياها:

الرواية التقليدية

-تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد

- وظيفتها متمثلة بالتعليم والوعظ والإرشاد

- ظهرت في مرحلةالنشأة والبدايات بصفة أساسية لكنها مازالت موجودة.

- من صفاتها النوعية أنها ذات أفكار جاهزة تسقط داخل الشكل الروائي.

- هناك حرص علي التوثيق والتسجيل باسم الواقعية مرة وباسم الإيهام مرة

- الاهتمام بالوقائع أكبر من الاهتمام بالشخصيات

- وسائل الربط بين الأحداث القضاء والقدر أو تدخلات السارد المباشرة

- ينهض بمهمةالسرد راوٍ عليهم بكل شيء

- الشخصيات تتكلم لغة الكاتب

الروايةالحديثة

- تصميم يجسد رؤية وثوقية للعالم.

- مهمتها تقديم تفسير فني للعالم يعكس الإحساس بالقدرة علي التفسير والتعليل لظواهر العالم، من خلال التغلغل في جوهر الظواهر وتصوير العلاقات من الداخل.

- ذات بناء متماسك ومترابط ومتدرج فنيا (بداية- ذروة- نهاية)

- يختفي الكاتب من أجل الموضوعيةالفنية الإيهام بالواقعية بغرض إقناع القارئ.

- تهدف لأن يحل التناغم مكان الخلل، حتي لو كانت ذات رؤية عبثية تعكس تصور الخلل في العلاقات بين الإنسان ومحيطه.

الرواية الجديدة

- تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم.

-هي جديدة لأنها ضد التحديد والتصنيف بدليل كثرةالمسميات التي تحاول الإمساك بها:

(رواية للارواية- الرواية التجريبية- رواية الحساسية الجديدة- الرواية الطليعية- الرواية الشيئية).

- الذات المبدعة تحس غموضاً يعتري حركة الواقع، كما تشعر أنها مهددة بالتلاشي.

- تسعي لتأسيس ذائقة جمالية جديدة أو وعي جمالي جديد

- تستند لجماليات التفكك بدلا من جماليات الوحدة والتناغم لذلك تقوم بتفجير منطق الحبكة والتسلسل.

- من أجل تحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية يتدخل الروائي الجديد بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل ويخاطب القارئ ويحاوره ، ويعلق ويشرح.

يتعمد الروائي الجديد الانحرافات السرديةالمتكررة والانتقال من حدث لآخر ومن زمن لزمن، وإخفاء الزمن أو المكان أحيانا.

- موضوع الرواية لا يتصف بالتناغم أو الوحدة والشخصيات مجرد أطياف او حروف أو أصوات.

- هناك مستويات لغوية متعددة

ومن هنا يمكن القول إن أية محاولة لاستخلاص خصائص لما يسمي بالرواية الجديدة هو عمل تثبيتي لكائن متمرد يقاوم أي فعل تثبيتي. وبالتالي فإن عملنا هذا محكوم عليه بالفشل النسبي أو بالأحري النجاح المؤقت و المقتصر علي نطاق الروايات الثلاث التي ندرسها (العمة أخت الرجال لأحمد أبو خنيجر(3) - كيد النسا لخيري عبد الجواد(4)- فانيليا للطاهر الشرقاوي(5)، والتي ما هي إلا روايات تلقيناها علي اعتبار أنها ذات أنصبة متباينة من مفهوم"الجدّة"، وهي في نفس الوقت تشترك بدرجات متفاوتة في أنها تندرج ضمن ما أسماه الباحث صلاح صالح في كتابه:"سرديات الرواية العربية المعاصرة" بـ" سرد الشئون المحلية(6)".

وسرد الشئون المحلية هو السرد المعني برصد الخصوصيات الثقافية للبيئات التي تتصف بصفة المحلية من منظور قارئ الرواية، وهذا ما يفضي إلي القول بنسبية مفهوم المحلية، فكل بيئة هي بيئة محلية بمعني من المعاني ولها سماتها الثقافية التي تميزها عن البيئات الأخري. إن معيار التمايز الثقافي بين البيئات للقول بمحلية ما أو بخصوصية ما يستدعي في المقابل مفهوم التجانس الثقافي أو المشترك الثقافي للقول بالانتقال من حيز المحلية أو الخصوصية إلي حيز الدولة/ القومية. لكن ما نعتبره وطنيا وقوميا منطويا علي خصوصيات ثقافية متباينة هو نفسه يكون محليا من منظور قارئ لا ينتمي لنفس القومية.

ويبدو أن غايات اللجوء لسرد الشئون المحلية متباينة، فهناك من يعتبر ذلك مسلكًا يسيرًا للوصول للاعتراف الخارجي/ الترجمة نتيجة أنه سرد قادر علي إشباع الفضول المعرفي لدي الآخر /المترجِم عن سمات هذه البيئة المحلية أو تلك ثقافيا. كما أن هناك من يراه مسلكًا لتحقيق شكل عربي للرواية متميز عن الشكل الغربي لها والخروج بالتالي من دائرة "التبعية الإبداعية". وهناك من يعتبر ذلك رهانًا للكشف عن عالمية الشئون المحلية من خلال تجسيد الإنساني (العام) عبر المحلي (الخاص) لتبرز التقاطعات الكبري بينهما باعتبارها أدلة للباحثين عن المشترك الثقافي الإنساني.

ولم يزعم أحدٌ من كتّاب الرواية الجديدة - فيما أعلم- أنه يسلك هذا المسلك أو غيره من أجل تقديم شكل عربي للرواية خروجًا من نفق التبعية الإبداعية، لكن مثل هذا القول قد نقرأه كثيرًا لدي كثيرين من كتّاب الرواية الحديثة، لكن في نفس الوقت هناك اتهامٌ موجّه لكتّاب الرواية الجديدة خاصة في العقد الماضي باستهداف الترجمة عند الشروع في كتابة رواية الشئون المحلية.

وبغض الطرف عن الغايات المعلنة أو المضمرة وراء كتابة سرد الشئون الملحية، نجد أن طرق معالجة تلك الشئون المحلية سرديا هو الأولي بالاهتمام النقدي هنا. تختلف طرق معالجة الرواية للخصوصيات الثقافية أو البيئات المحلية تبعًا لموقف الراوي من تلك البيئة من حيث تعاطفه معها أو نفوره منها، ومن حيث كونه أحد أبنائها أو كونه غريبًا عنها يكتفي برصد المظاهر البصرية السطحية. ويصعب أن نوزع هذه المواقف علي أشكال الرواية (تقليدية/ حديثة/ جديدة) فنزعم أن الرواية التقليدية تميل للتعاطف، أو أن الرواية الحديثة أو الجديدة تميل إلي العداء مع البيئة المحلية. ولذلك ليس مستحيلاً- نظريا علي الأقل- تصور أن تتلاقي رواية تقليدية مع رواية حديثة مع رواية جديدة في واحدة من طرق التناول للبيئة المحلية التالية:

1ـ التناول الداخلي المتعاطف: (موسم الهجرة للشمال/ مدن الملح).

2 ـ التناول الخارجي المتعاطف:( فساد الأمكنة).

3 ـ التناول الداخلي غير المتعاطف:(الحرب في بر مصر).

4 ـ التناول الخارجي غير المتعاطف:( يوميات نائب في الأرياف)(7)

إن هناك أفضلية محفوظة مسبقًا لروايات السرد المحلي التي ينهض بمهمة السرد فيها راوٍ من أبناء البيئة المحلية (داخلي) علي تلك الروايات التي ينهض بالسرد فيها راوٍ غريب. وذلك لما للراوي "الداخلي" من قدرة علي رصد الجوهر وعدم الوقوف عند المظاهر البصرية أو الخصائص السطحية للبيئة. كما تتمايز روايات الشئون المحلية فيما بينها أيضًا ليس بالحشد الكمي لمظاهر الخصوصية الثقافية، وإنما بالانتقاء الكيفي للمادة التي تتفرد بها البيئة حتي لو كان لهذا الشيء النادر والمتفرد هو" الغسيل الوسخ" الذي ينشره الراوي أمام القارئ. ومن وجهة نظري يصعب علي الرواية التقليدية أن تنشر الغسيل الوسخ للبيئة المحلية لأنها تسعي بشكل عام للحفاظ علي الوعي السائد واستمرار العالم علي ما هو عليه. لكنها قد تفعل ذلك من باب الإحساس بالدونية تجاه الآخر، وهو ما تشترك فيه الرواية الحديثة أحيانًا، لكن الرواية الحديثة قد تلجأ لهذا الفعل أيضًا لتحقيق هدفها التقدمي من باب أن نقد الذات ضرورة للتقدم. أما الروائي الجديد فإنه يفعل نفس الفعل بغرض التعرية والفضح وتفكيك الصورة الإيجابية المختزنة عن تلك البيئة المحلية، دون أن يتورط في إعادة بناء جديدة لهذا العالم لأغراض أيديولوجية أو سياسية لأنه يشعر بفعله الفضائحي أنه ينتقم من عالم يشعر فيه بالتلاشي، فيما يشبه عملية تفجير للذات، بعد إدراكها يائسةً أن العالم لن يتغير من حولها ما لم تفجّر نفسها فيه، لأنها ذات عاجزة عن الحلم بالتغيير وهي في مأمن من التلاشي.

ومن هنا، يمكن القول إن ما تتمايز فيه روايات السرد المحلي يكمن بالأساس في عملية انتقاء المادة المتفردة والنادرة التي تحقق الدهشة للقارئ في مناطق متفرقة من العالم. وبنفس الدرجة تتمايز الروايات في طريقة صياغة تلك المادة. ومن هنا فإن رواية السرد المحلي تفشل جماليا وتنجح أنثربولوجيا حين تتحول لمتحف تتجمع فيه الآثار الأصلية والمقلّدة من كل صوب وحدب.

«العمة أخت الرجال» لأحمد أبو خنيجرة ..

رواية تستحي أن تتمرد

"قلت بفراغ صبر: وأنت الآن مهيأ للمّ العائلة !! قال: من حقك أن تسخر يا مثقف. (ص109) .

"كثيرًا ما كان يتهمني محمد بالخوف، قال :الكتابة تحتاج إلي شجاعة كما الحياة تمامًا ..ويبدو أنك أوقفت حياتك للفرجة دون الخوض في معركتها (.....) فأطلق ضحكة وهو يقول: ينقصك الخيال يا ابن العم. (ص113)

"خبِّرني ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة .. لم يكن الجنوب في حساباتها أبدًا، يبدو في نظرها كتلة يمكن إهمالها وتجاهلها .. فقط الانتباه لنهب خيراته وتشريد ناسه عبر طول البلاد وعرضها. (ص130)

هذه المقتطفات تثير سؤال العلاقة بين الراوي وعالمه الروائي، ليس فقط من زاوية طبيعة هذا الراوي بوصفه تقنية سردية، وإنما أيضًا بوصفه ذاتًا تربطها بهذا العالم الروائي علاقة معقدة تتراوح بين الانتماء والاغتراب عنه.

اختار أحمد أبو خنيجر الراوي بمواصفات معينة تلائم العالم الروائي الذي يدخله، فهو راوٍ مشارك في الأحداث، فهو ابن أحد الرجال الستة الذين تشتتوا في البلاد، لينطبق عليهم - اسمًا وفعلاً- عائلة الرحال تاجر العبيد، و الراوي بهذه الصفة يكتب تاريخ عائلته. وعلي الرغم من هذه الصلة الوثيقة بين الراوي وعالمه الروائي (الذي هو عائلته)، فإن المقتطفات السابقة من الرواية توضح لنا أننا أمام رؤيتين مختلفتين ليس تجاه العالم الروائي فحسب، وإنما للعالم بشكل عام.

فالشتات هي الكلمة التي تنبني عليها الرواية بوصفها تأريخًا فنيا لعائلة الرّحال، وتفسير الشتات في الرواية يروي علي ألسنة العديد من الشخصيات مرةً كعقاب أخلاقي علي تجارة العبيد التي كان يمارسها الجد الأكبر مشتتًا بذلك العبيد عن أهاليهم، ومرةً كقدر محتوم من الله علي هذه العائلة دون أن يكون في ذلك عقابًا أخلاقيا. وكلا التفسيرين ينتميان لرؤية قدرية، تعتمد علي الإيمان بالله في تفسيرها لكل ما يحيط بها من ظواهر، وما يلم بها من أحداث. وفي مقابل هذه الرؤية القدرية نجد الرؤية العقلانية لدي الراوي الذي يوظف معرفته وثقافته ليدحض الركن الأساسي في الثقافة القدرية وهو الاعتقاد بأن تجارة العبيد حرام، و يعاقب الله من يقترفها بشتات ذريته، حيث يقول الراوي ردًا علي ابن عمّه محمد الإسكندراني:"قلت بنوع من الاعتراض : في البداية حين بدأ الرجل الرحال الكبير تجارته، والتي لم يكن العبيد جزءًا منها، لم يكن هناك حس من التجريم أو التحريم لهذه التجارة، بل علي العكس كان هناك غطاء ديني كامل مشمول بدعم سلطوي يؤمِّن هذه التجارة، ويكفل لها ازدهارها، هل يمكن للأحفاد تحمُّل أوزار لم يقترفوها.. لنكن أكثر صراحة: لم تكن أوزارا عند الرعيل الأول.( ص129)

إن الراوي يرفض التفسير الأخلاقي لشتات العائلة، ليتبني التفسير الاجتماعي والسياسي لشتات الجنوب بأكمله والمتمثل في إهمال الحكومات للصعيد علي مر سنوات وعقود.

إن الزمن الثقافي لكلتا الرؤيتين مختلف بطبيعة الحال، وبالتالي من الصعب أن نتوقع من محمد الاسكندراني أن يمتثل لتلك الرؤية، خاصة أن صاحب تلك الرؤية العقلانية الشجاعة في إدانة الحكومات المتعاقبة هي شخصية موصومة بالخوف والفرجة علي الحياة دون المشاركة فيها من قبل محمد الاسكندراني وكل من ينتمي لنفس الرؤية القدرية. والمفارقة أن صاحب الرؤية القدرية (محمد) هو القادر علي مواجهة الشتات بزواجه من زينب مما يعني استمرار العائلة، وكانت وسيلته لخوض تلك المغامرة التي لا يجرؤ الراوي عليها، هي الحلم الذي رآه وأعاده من الشتات ليلمّ شمل العائلة، ذلك الحلم الذي لم يستطع سعيد ابن العمة أن يحققه من قبل. إن الحلم ضرب من الخيال، وقد استعان محمد بالخيال لمواجهة الواقع/ الشتات، فكان من الطبيعي أن يدين محمد ذلك الراوي / المثقف بنقص الخيال، وهو اتهام قاتل.

يأتي الراوي من زمن ثقافي مختلف، وهذا الاختلاف يحدد لنا ما الذي يلفت نظره فيراه جديرًا بالرواية، والأهم الكيفية التي يرويه بها.

هذه رواية تقليدية من حيث البناء، تبتدئ بمقدمة طويلة تمتد لتشمل الفصل الأول كله (كتاب العمّة)، يسير الزمن السردي فيه بطيئًا رتيبًا، وينحصر المكان في بيت الرّحال القديم حيث العمة، وذكرياتها مع العائلة، أما الراوي فلا حضور له في القص. فنحن في الفصل الأول أمام راوٍ عليم يسكن بيت الرحال وذاكرة العمّة في نفس الوقت. فهو راوي حكايات لا راوي أحداث بالدرجة الأولي. وعلي الرغم من مشاركته في الأحداث بدءًا من الفصل الثاني (كتاب الرجال) إلا أن هناك بعض المواقف التي سردها لنا دون وجه حق، فكونه راويا مشاركًا في الأحداث لا يتيح له التواجد داخل غرفة نوم العمة بعد موتها وهي تحاور امتدادها الإنساني الحي(زينب) وقد تعري جسدها، في هذه اللحظة الخاصة التي أتت فيها روح العمة فاطمة محملة برسالة من العالم الآخر حيث الجدة فاطمة لتنصح زينب "الفارسة تعرف متي ترخي اللجام"، لترخي زينب اللجام أمام محمد الإسكندراني. في هذا السياق السردي لا يحق للراوي التواجد بأي صفة، فضلاً عن أن ينقل حديث المتوفاة (فاطمة) إلي الحالمة المستيقظة(زينب):

" كانت تحاول التيقن من كونها مستيقظة، بيدها الخالية قرصت صدرها، تأوهت، والعمة أوقفت ضحكتها وأعقبتها بسعلة قبل أن تقول: الأيام بتروح يا بتي....قالت في نفسها: أنا صاحية». (ص120)

ولم ينج من أحبولة الراوي المتحدث باسم الجميع عمه عثمان العجبان نفسه، وذلك حين استوجب السياق السردي دخوله في لحظة حيرة تناسبها تقنية المونولج أو الخطاب غير المباشر الحر (8) حيث يعمد الكاتب أن يتداخل صوت الراوي بصوت الشخصية فلا نتبين لأيهما يكون الكلام بالضبط، ومع هذ لا يتحقق ذلك التداخل لتحقيق هذا الإيهام:

"وهاجمه سؤال: هل ستمتد يده علي ابن عمه، إن فازت فاطمة؟ .... لا يدري علي أي نحو يتصرف، ما الذي دفع مصطفي لهذا الفعل؟..إلخ (ص143) .

والسؤال ما هي الحكايات أو العادات والتقاليد التي رواها أو الموتيفات التي وصفها لنا هذا الراوي العليم ؟ وهل تحققت خصوصية روائية ما لهذه الرواية؟

"تذكر أن خرّاط البنات كان يغامر كي يزورها ليلا، ليجعل جسدها يستدير، كما تقول جدتها حين تأخذها في حضنها: بالليل عندما تنامين، يأتي خرّاط البنات، متلصصًا يرقب إخوتك الرجال، ولما تأخذهم الغفلة، يدخل إليك، تكونين نائمة، يعمل يديه في جسدك. (ص11)

هذا التفسير الذي تقدمه المخيلة الشعبية للبنات في سن المراهقة للتحولات الفسيولوجية التي تحدث لأجسادهن لا يقتصر علي جنوب مصر، وإنما هو تفسير شائع في أنحاء مختلفة من البلاد العربية، لكنه خاص بفئة اجتماعية معينة لا يمكّنها مستواها التعليمي من التثقيف الجنسي لبناتهن.

إن وجود الحكاية خارج الرواية له غاية التوظيف الحياتي لذاك التفسير الشعبي بين الأم والابنة، مع الوضع في الاعتبار ما يتعرض له المأثور الشعبي بشكل عام من انحسار. لكن وجود الحكاية في الرواية يجب أن يكون له وظيفة روائية حيث تأتي الحكاية في إطار تذكر العمة فاطمة لعلاقتها بالجدة فاطمة التي سميت علي اسمها، فقد كانت أقرب إليها من أمها حتي تحكي لها تحولاتها الفسيولوجية علي هذا النحو. والملحوظ أن كل الذاكرة يتم سردها بطريقة الاستعادة من الماضي لكن دون حضور معقول لصوت العمة صاحبة الذاكرة نفسها!

إن ذاكرة العمة كانت بالنسبة للروائي مصدرًا لم يقدّر قيمته فنيا، علي الرغم من حاجة السرد لها سواء لإضفاء حيوية وطابع إنساني علي المروي أو لإقناع القارئ ببعض الأحداث التي لا يقف وراءها المنطق السائد اليوم بين جمهور القراء، وإنما يقف وراءها معتقد شعبي لا يحتاج القارئ لتفسير وتبرير وإقناع بصدقه خاصة إذا كان من بيئة ثقافية مغايرة بقدر ما يحتاج لأن يصله الإحساس بمدي إيمان تلك الشخوص بذلك المعتقد ومدي تأثيره علي حياتهم. ومن هذه المعتقدات الشعبية الإيمان الشديد بالحسد، فهذا المعتقد هو أساس الشتات الذي تقوم عليه الرواية، فالجد الرّحال كان يعتقد في حسد أهل القرية له بشكل قد يراه القارئ مَرضيا ما لم يصله إحساس صاحب المعتقد بغير ذلك، وذلك حتي يمكنه أن يتقبل ما ترتب علي ذلك المعتقد من انعزال عن القرية خلافًا لطبيعة البشر في تشكيل التجمعات السكانية سواء كانت قروية أو مدينية.

إن الذاكرة قد تختزن موروثًا ثقافيا جديرًا بالحكي، لكن هذا الموروث الثقافي إنما هو في الحقيقة عبارة عن علاقات إنسانية كانت قائمة بين حاملي هذا الموروث في ذاكرتهم الفردية والجمعية. وإذا كان هذا الموروث هو المقوم الأساس للخصوصية الثقافية للمكان الذي اختاره الروائي ليكون عالمه الروائي فإن استعادة أصوات حاملي الموروث ليكونوا هم رواته هو جزء هام من عمله السردي افتقده الفصل الأول.

ومن ناحية ثانية، إذا كان المعتقد الشعبي حول الحسد يفسّر حدثًا هامًا في الرواية وهو انعزال الجد الأكبر الرحال عن القرية، فإن المعتقد الشعبي يلعب دورًا هامًا في الاعتراف بتميز وتفوق "عيد" في رسم الجداريات الخاصة بالحج، التي هي نفسها أيقونات تختزن ثقافة الجماعة الشعبية. إن الاعتراف بـ"عيد" هنا ليس كرسّام فحسب، وإنما كفنان قادر علي تمثيل روح الجماعة الشعبية بأفراحها وأتراحها من خلال أيقونات تضرب بجذورها في تاريخ الجماعة. ومن هنا كان المعتقد الشعبي في شخصية سيدنا الخضر عليه السلام وظهوره كداعم للأبطال الشعبيين، مفسِّرًا ليس لموهبة "عيد" المفاجئة في رسم الجداريات فحسب، وإنما مفسِّرًا للعلاقة الخاصة بين الرسوم والرسّام والحالة النفسية للعمّة /المرسوم.

" أين يكمن الخطأ؟ تساءل (عيد) مُحدِّثًا نفسه: في حالات مشابهة تغلبني هواجسي، لكني الآن فقط أعيد رسم الصورة القديمة. مدّ يده مشيرًا إليها، لكن ما الذي حدث، أهي الصورة التي تتحكم في إظهار ذاتها كيف تشاء، أم هي معايشتي لها ولحزنها الذي بات مُسيطرًا عليها؟ رغم قوتها التي تحاول أن تدعيها لتداري بها ضعفها وحاجتها للحماية والتعاطف!! (ص87).

إن الوصول لهذه الحالة من التوحد الإنساني بين الفنان ولوحاته سواء كانت أيقونات علي الجدران أو شخوصًا يعاشرهم، قد مهدت له الرواية باستدعاء تراث الجماعة دون حواجز تاريخية بين تلك الموروثات؛ فمن الخضر ومباركته لعيد إلي استدعاء فعل "دثريني دثريني" المحفور في الذاكرة الجمعية بوصفه علامة لغوية تستدعي كل الحالة النفسية التي عايشها الرسول (ص) بعد تلقي الوحي وعايشتها معه السيدة خديجة.

"فبعد الذي حدث بينه وبين الرجل الطيب عند ضفة النهر جري عائدًا، مرتعدًا إلي أمه التي دثرته، ومن خلال ارتجافه علمت بما جري له، قالت له : إنه سيدنا الخضر(ص27).

ثم انتقال هذه العلاقة الخاصة للراوي نفسه في نهاية الرواية، حيث تتحول الرسوم لما يشبه اللوح المحفوظ الذي يستقي منه ما سيلي من أحداث.

" وللمرة الثانية داهمني إحساس بأن ما أراه الآن سبق وشاهدته بين الرسوم، رفعت عيني للحائط المواجه لي، كان شاب حائر يتحرك بين قافلة، يريد الوصول لسيدها الذي علي جمله في المقدمة، (....) ضحك عيد ..قال : عقبالك وعقبي له. وأشار إلي محمد الذي كان في هذه اللحظة يجلس بجوار عمه وقد وضع يده علي كتفه..صعقتني المفاجأة، ...جلست مبهورًا، وعيني جرت للرسوم، وكان شاب قد توقف بجوار فتاة، لم تكن موجودة قبلاً، وكانت يده ممدودة لراكب الجمل: سيد القافلة." (ص142)

هل يمكن أن نعتبر أن ذلك بمثابة تحول في رؤية الراوي للعالم؟! يبدو أن ثمة ما يشير لاكتشاف الراوي بأن في عالم الجماعة الشعبية أشياء لا تخضع للمنطق والعقل كما كان يجادل في الفصل الأول، فإذا كان "لم الشمل" مكتوبًا في جداريات الفنان/ اللوح المحفوظ للعالم الروائي، وقد قرأه، علي هذا النحو، الراوي نفسه، فإن من قرأ "لمّ الشمل" بوصفه قدرًا مقدورًا، ليس أمامه سوي أن يعيد النظر في قراءته لـ"الشتات"!!

وهنا يمكن القول إن تحول موقف الراوي من راوٍ داخلي غير متعاطف إلي راوٍ داخلي متعاطف لدرجة الانبهار بما يكتشفه من أسرار بيئته المحلية وما فيها من شخوص، هو تحول وإن كان يتم علي استحياء وعجل في نهاية الرواية إلا أنه يمكن أن نعتبره علامة الجدّة في هذه الرواية حيث يتزعزع اليقين والرؤية الوثوقية للعالم والتي كانت مهيمنة علي رؤية الراوي وعلاقته ببيئته المحلية طوال الرواية كما تجري العادة في غالب الروايات الحديثة.

إن الشتات كلمة تحمل شحنة عاطفية سلبية، لكن إذا حاولنا تجريدها من تلك الشحنة العاطفية، لا يتبقي منها سوي أنها تشير لابتعاد عن "مركز"، وتأسيس "مراكز"جديدة، أي أنه نوع من الانتشار والتوسع للعائلة، ضريبته ضعف هيمنة المركز الأول علي الأطراف/ المراكز الجديدة.

إن الاعتقاد في أن الشتات قدرٌ، بذنب أو بدون ذنب، يعني أنه أخذ قوة "المعتقد الشعبي"، وبالتالي يستلزم أن تنتج الجماعة الشعبية حيلا حياتية أو طقوسا وشعائر قادرة علي مواجهة ذلك المعتقد لتحافظ علي استمرارها وتواصلها. وهو ما رصدته الرواية من تناسخ الأسماء فنجد عيد الجد ثم عيد الأب ثم عيد الحفيد، مع استمرار الموهبة، ونجد الجدة فاطمة والعمة فاطمة مع استمرار قوة الشخصية الفارسية وقوة الحنان وحكمة المرأة التي تعرف متي ترخي اللجام . وتسمية زينب / امتداد فاطمة باسمها احتاج من عثمان لتأكيد أن الأم /ابنة عمه الصحراوية هي التي أسمتها. ووراثة الاسم كمقاومة لموت الأحباب أو فراقهم لنا خصيصة ثقافية تستهدف استحضار كل ما هو بعيد عن المركز ليحضر معنا هنا والآن. وقد تصل المسألة إلي ما يسمي بعبادة الأسلاف، ولا يتم التخلي عن تلك العادات إلا إذا مسّ الأبناء والأحفاد سوء المصير الذي لحق بالأسلاف، أو خيف منه عليهم وهو ما دفع العمة فاطمة للكف عن تلك العادة مع أبنائها بعد فراق أبنائها الذين أسمتهم علي أسماء أخوالهم.

ويبدو أن الرواية قد بالغت في تناسخ الأسماء والمصائر حتي الغموض، وهو ما شعرت به تجاه شخصية "الغريب" . "الغريب" يظهر في الفصل الثاني "كتاب الرجال" ويضفي حيوية عالية علي السرد لقدرته علي الاستهزاء بعائلة الرحال في حلقة التحطيب، ويبدو أن من ورائه سرًا غامضًا، وهذا السر لا يبين إلا عندما يكشف الراوي علاقة العم عثمان بهذا الغريب العائد للانتقام منه. لقد ضخ العم عثمان دماء جديدة في شرايين الرواية حين أقسم بأن يصفع من ينهزم أمام أخته فاطمة في سباقات الخيل، إغلاقًا منه لباب "السداح مداح" في المنافسة، وذلك لأن الرواية لا يمكنها أن تسرد مسابقات معروفة نتائجها سلفًا بذكرها أن الفائز بالعمة فاطمة هو ابن عمها مصطفي الذي تزوجها وأنجب منها، و بالتالي كل من سيتسابق معها هو من المنهزمين، وبالتالي لا جديد في السرد، وذلك خلافًا للسرد في السير الشعبية، فعلي الرغم من معرفة الجمهور بانتصار البطل أبي زيد في هذه المعركة أو تلك إلا أن الشغف بالسرد له أسبابه الأخري، ولهذا فإن قسَم العم عثمان جعل الشغف بالسرد في هذه المسابقات يتعلق بموقف العم عثمان من المنهزم، هل سيستطيع صفعه علي وجهه أم لا؟ وماذا سيكون رد فعله؟

يعود الغريب لينتقم لكرامته من العم عثمان الذي صفعه أمام الناس، لكن هذه المرة في حلقة التحطيب وبشروطه : إما أن ينازله في حلقة التحطيب، أو يرد له الصفعة، أو يزوجه من زينب ابنته.

والسؤال: أي غريب هذا الذي كان صالحًا للتقدم للزواج من العمة فاطمة، ومازال صالحًا للتقدم للزواج من زينب الحفيدة، بل وأن يعود ليهزأ من كل من يبارزه، بل ويوصف بأنه "رباية مدارس"؟ إن عدم معرفتنا بعمر الغريب، مع وجود شخصية واحدة تحمل اسم الغريب يجعلنا نعتقد في أحد أمرين: إما أن الرواية تمارس نوعًا من أسطرة الشخصيات برفعها فوق الزمان فلا تجري عليها تغيرات الزمن، وإما أن هناك نوعًا من تناسخ الأسماء الذي تمتد الشخصية عبره في الزمن لتؤدي نفس الدور، فيكون الدور هنا أكثر أهمية من الاسم. وفي كل هذه الأحوال هي شخصية لا تعدو أن تكون طيفًا يمكن استبداله بـ"س" أو "ص". وكأنها شخصية تنتمي لعالم الرواية الجديدة في ضيافة رواية حديثة.

إن أسطرة العادي والمألوف سمة من سمات هذه الرواية(العمة أخت الرجال) محاكاةً للسرد الشعبي واليومي، فالرسوم تتحول للوح محفوظ يقرأه عيد والراوي، والنخلة تتحول لكيان مقدس، لا تقربه إلا العائلة، أو كجبل مقدس لا يصعده إلا أبناء الجد الأكبر، حتي عيد الرسام حفيد عيد الجد مستلم الموهبة من سيدنا الخضر، ممنوع من صعودها، والطيور أرواح تربطها علاقة وثيقة بروح العمّة حتي أنها تموت بموت العمة(الدجاج/ القطة)، وتنكسر عيون النعجة والخروف، وانكسار العين مذلة، لكنهما يؤديان مهمتهما القديمة التي كلفتهما بها العمة وهي تسوية الحشائش حول النخلة، بل إن الريح تُسير خصيصا لا لتلقّح النخلة كبقية النخيل، وإنما لتهزها فتسقط بلحها علي الحشائش، والأهم أنها نخلة تأبي أن ينبت بجوارها أي نخيل آخر، وكأنها، في موازاة رمزية مع عائلة الرحال واجتنابهم الناس/ الآخرين، سلف بلا خلف!! هل يمكن أن نقول إن الآخرين بالنسبة لعائلة الرحال لم يكونوا إلا العبيد أو الغريب، وأن وسيلة التعامل معهم كانت القوة وبالتالي الانتصار في مسابقات الخيل أو التحطيب، مما جعل منها عائلة منغلقة علي نفسها ومعرضة للانقراض، وأن محمد الإسكندراني بعرضه للزواج من زينب دون تحطيب كما فعل عثمان مع عمه عبد الله البشاري عند زواجه من ابنته(فاطمة أيضًا)، ودون سباق خيل (كما تزوج مصطفي من العمة فاطمة) تكون الدنيا قد بدأت تتغير بالفعل، وإن كان ما زال الوقت طويلا ً حتي يتحول الغريب إلي شريك في الحياة.

إن ميراث هذه العائلة القسوة، علي حد تعبير العم عثمان الذي رفض أن يحضر جنازة أبيه، ردًا علي طرده من البيت. وعلي الرغم من إجلال الموت في الثقافة الشعبية بشكل لا يجوز معه إلا الخشوع أمامه وليس التشفي أو الانتقام، فإن شخصية عثمان المتمردة هنا مؤهلة فنيا للانحراف عن الثقافة الجمعية / الذاكرة القديمة وتأسيس ذاكرة جديدة يتجاور فيها المدنس/ الفردي مع البطولي/ الجمعي، فالبطل عثمان هنا يدخل في عملية أسطرة مستمدة من الحكايات الشعبية والأساطير حيث يجب عليه مثلما كان يجب علي كل الأبطال الشعبيين أن يفعلوا من تخطٍ لكل العقبات لينالوا الاعتراف بكونهم أبطالاً، وبالتالي مؤهلين للزواج من الأميرة، فعليه الذهاب لخور السلم ليقطع شجرة "خور السلم" وليس معه سلاح سوي البلطة، ومن غرائب الخور أن فرع الشجرة يتحول لحية، ثم يقتلها عثمان فتنزف دمًا، والدماء تجري خلفه حتي تكاد أن تغرقه، ومع شروق الشمس تتحول الغابة إلي جبال.

إن هذا الخيال الخصب يشد الرواية شدًا إلي موروث ثقافي حكائي أنتجته الجماعة الشعبية، وبهذا تبتعد الرواية عن تاريخ طويل من الكتابة الروائية العربية التي جرت العادة فيها علي أن يكون سرد البيئة المحلية سردًا واقعيا، لكن في الوقت نفسه يجب القول إن رواية "العمة أخت الرجال" لا تعيد إنتاج مفردات عالم الحكي الشعبي علي حساب كونها رواية تكتب هنا والآن، فالبطل العم عثمان علي ما شهده من عملية أسطرة فهو لم يكن يؤمن بهذا العالم الخرافي إلا باعتباره عالم الحكايات الخرافية فقط، وهذا خلافًا لاعتقادات الأبطال في الحكايات الشعبية. كما أن مكافأة البطل بالزنا وتحقيق شهوته الفردانية مع نعيمة وتجاور ذلك مع موروثه العائلي المحافظ ومع تحقيقه للبطولة بعد ذلك هو نوع من تجاور المتناقضات الذي تبرزه الرواية في الشخصية دون إدانة أخلاقية.

إن تلك السمات ليست بسبب مفردات البيئة المحلية الجنوبية أو خصوصيتها فحسب، وإنما هي نتيجة تفاعل الرواية مع تراث سردي طويل رفضًا وقبولاً، تسعي من خلال هذا التفاعل أن تحقق لنفسها خصوصية روائية، لكن يبدو أن هذه الرواية كانت تتمرد أو تقترب من "الرواية الجديدة" علي استحياء، فهي تضع قدمًا حينًا في البناء التقليدي للرواية حيث يستنسخ الراوي العليم الشخصيات والحكايات بلغة الكاتب غير المتعاطف مع البيئة حتي قرب النهاية، وحينًا تسكن في الحيز الروائي للرواية الحديثة بامتلاك الراوي القدرة علي تفسير العالم علي أساس أيديولجي أو سياسي، وهو ما يجعلنا نري أنها رواية تستحي أن تتمرد، فهي أشبه بذاكرة قديمة يستنسخ الراوي منها الشخصيات والحكايات.

«كيد النسا» لخيري عبد الجواد ..

محاكاة السرد الشفاهي تمرُّدٌ علي قواعد كتابة الرواية الحديثة

في هذه الرواية علاقة مركبة بين الكاتب / الراوي والبيئة العشوائية (بولاق الدكرور)، حيث تسقط المسافة بين "جمال" الملقب بـ" الكاتب خيري عبد الجواد" والراوي لسيرة هذا المكان وناسه، وبالتالي لا مجال للإيهام بالواقع عن طريق خلق عالم روائي مطابق في جغرافيته وشخوصه وعلاقاته للواقع، وما يستلزمه ذلك من حيل فنية، وذلك لأن الكاتب / الإنسان يعوّل علي أن الكلام المروي يكتسب مصداقيته من كونه كلامًا علي مسئوليته الشخصية ككاتب لأنه واحد من أبناء تلك المنطقة يروي ما سمعه وما رآه، وهو لا يكتب نتفًا من سيرته الذاتية في مرحلة حرجة من حياته فحسب، إنما يكتب سيرة شخصيات كانوا بمثابة أركان بيئته المحلية التي اختزنتها ذاكرته وهو طفل حتي أصبح الكاتب والباحث في الدراسات الشعبية خيري عبد الجواد.

لا يتحايل خيري لإيهام قارئه بأن ما يرويه واقع، وإنما يتحايل ليحاور القارئ الذي يشاركه نفس الخصوصية الثقافية بهدف أن يفيقه من سطوة الخرافات المتوارثة التي تسكن عقله ووجدانه، ويدرك الباحث خيري عبد الجواد أن أقصر الطرق لإقناع الجماعة الشعبية بشيء أن تفعل ما يفعلون وتؤمن بما يؤمنون به حتي يعتبروك واحدًا منهم ليستمعوا لك بعد ذلك فيما تريد تغييره جزئيا، ومن هنا كانت منهجية خيري في الحكي هي منهجية أقرب للتمرد علي الحكي الكتابي الذي جرت عليه عادة كثير من الروايات الحديثة، ومحاكاة الحكي الشفاهي وطرائقه الذي جعل "كيد النسا" أقرب للرواية الجديدة، حيث تعتمد علي الخروجات المتعمدة من السرد وتوجيه الكلام للقارئ والاستطرادات وإخبار القارئ صراحة بالبرنامج السردي العفوي للراوي حين ينتقل من حكاية لحكاية أو حين يحتاج للعودة لحكاية لم تكتمل، أو حين يؤجل حكاية لأنه لم يأت الوقت المناسب لحكايتها.

"وقع في حب "صفاء" ابنة الناس الذين كان يبيض شقتهم في شبرا من أول عينه ما وقعت عليها وحكايتهما طويلة ومعروفة ـ ليس هذا أوانها. ( ص 22)

وكذلك:

"هذا ما ستعرفونه إذا ما تبعتموني في الصفحات التالية - فكونوا معي (ص81).

وكل ذلك محاكاة متعمدة لطرق الحكي الشفاهي الشعبي، لكن الراوي هنا هو خيري عبد الجواد الكاتب والمشارك في الأحداث.

"هنا أبدأ الحكاية وأنا علي يقين مما حدث في تلك الفترة، فقد كنت طرفًا فيها، ذلك لأن العائلة التي أقامت عندها بديعة عائلتي. (ص14)

يؤسس خيري عبد الجواد لثقة القارئ فيه كراوٍ يسرد ما يعدُّ من الحكي السري المضنون به علي غير أهله، وأهل هذا الحكي الذين يروي لهم ليسوا أقل من أصدقاء أو قراء سيرة ذاتية لا قراء رواية.

"أصبحت أنا ابن السادسة أري بديعة أمامي في كل لحظة، بل أنني كنت أصحو من نومي في بعض الأحيان لأجدها نائمة بجواري علي سريري بملابسها الداخلية... صرخت وقامت منتورة تتلفت حولها في ذعر، وبعد لحظة تنبهت إلي أن الفاعل لم يكن سواي فنظرت إلي وتبسمت. (ص14-15)

حضور"خيري" الكاتب والراوي في هذه الرواية ليس مجانيا أو من باب إشهار نفسه، كما أنه لا يكتب علي غلاف كتابه "سيرة ذاتية" وإنما كتب رواية، لكنه يعرف أن الحكي عن الذات يذيب المسافات بين الكاتب والقارئ، لاسيما إذا كان يمس الجانب الإنساني، لأن الإنسان واحد في مكان، وحيثما تجد خصوصيتك وتطلعني عليها فإنك تساعدني علي أن أجد خصوصيتي إما بطريق المشابهة أو بطريق المخالفة. وهنا نجده يؤرخ لإصدار المجموعة القصصية الأولي لخيري عبد الجواد ككاتب بأحداث في الرواية وكأنه ينتمي وشخوصه لتقويم مختلف عن التقويم المألوف في غير تلك البيئة المحلية (بولاق الدكرور).

"عشرون عاما مرت علي موت نور، وأنا كبرت وبدأت أكتب قصصا قصيرة نشرت معظمها في الصحف والمجلات، حتي تشكلت مجموعتي الأولي، وظللت أنا وأستاذي الكاتب الكبير إدوار الخراط في حيرة من اختيار الاسم، (.....)، لكني اخترت أحد عناوين القصص وأضفت إليه كلمة حكايات ليصبح عنوان المجموعة هكذا : حكايات الديب رماح" .( ص103)

وإذا كان موت نور قد أصبح أقرب لنقطة بدء التقويم علي غرار ميلاد المسيح أو هجرة النبي محمد، فإن خيري يقيم في نفس الوقت تاريخًا موازيا للتاريخ الوطني والقومي يستند لأحداث روايته. فحرب أكتوبر توازيها في تقويم "كيد النسا" حرب السحرة، وكارثة الخامس من يونيه توازيها وفاة الأخ الأكبر للراوي وإصابة جده وابن عمه بالعجز بعد أن طارت رجله بفعل أحد السحرة الأشرار.

" عشت تلك الأيام العصيبة من عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، كانت بدايتها، بالتحديد في شهر يناير، وبالتحديد أكثر، في الثالث عشر منه حين أعلنت الحرب الكبري بين نجية وأم وجدي من ناحية وبديعة وفتحية ومن بعد حليفتهما أم جمال - أمي - فكيف دخلت أمي تلك الحرب ؟ (ص81).

إن خيري لا يؤرخ لبولاق الدكرور التي اختزنها في ذاكرته بهذا التاريخ الموازي للتاريخ الوطني فحسب، وإنما يرمي ليتواضع مع القارئ علي أن يكون هذا التقويم هو التقويم الذي يؤرخ به مسيرته ككاتب ينتمي لتاريخ تلك البيئة المحلية وينفصل عنها في نفس الوقت، فكانت رواية "كيد النسا" بمثابة توثيق لظروف إنتاج كتابات خيري عبد الجواد، لاسيما كتاباته الأولي التي يستقيها من تلك البيئة المحلية ، لكنها في نفس الوقت هي التي نقلته من كونه "جمال" إلي كونه الكاتب الملقب بـ"خيري عبد الجواد".

"لاقت روايتي الأولي (كتاب التوهمات ) نجاحا ملحوظا، واستقبلها الوسط الأدبي بترحاب وحفاوة كبيرين، حتي أن البعض كتب عنها باعتبارها كتاب الموتي الحديث، مقارنا بينها وكتاب الموتي الفرعوني، ولهذه الرواية حكاية، كانت أمي قد توفيت....» (ص160)

ومن هنا بدت الرواية ذات مواضيع متعددة وكأنها جلسة سمر بين صديقين (الكاتب/ القارئ)، ينتقلان فيها من موضوع لآخر حسب ما تمليه عليهما الذاكرة والحالة النفسية للكاتب، وليس وفقًا لبرنامج سردي محدد تتسلسل فيه الأحداث زمنيا ويفضي بعضها إلي بعض علي أساس وجود علاقة سببية بينها. فخيري الراوي الذي يصحب بديعة للمقابر لزيارة زوجها نور، يستدعي خيري الكاتب صاحب التوهمات، لأنه يشعر أن في نفسه حاجة للهمس في أذن قارئه برهبة الموت في داخله، وهذا الشعور أقوي من قواعد الكتابة التي يعرفها جيدًا، لكنه يعرف أن التمرد علي تلك القواعد وليس الامتثال لها هو الإبداع. فيأخذ القارئ معه في رحلة طويلة مع مشاعره تجاه الموت في خروج عن مسار الرواية وأحداثها وكأنها لحظة شرود شاركه القارئ فيها:

"قادتني وسط الطرقات وشواهد القبور حتي توقفت أمام مقبرة بلا شاهد وأشارت :عمك نور نايم هنا . للموت رهبوته ولي معه وقفة، في التوهمات، توغلت إلي أبعد حدود التوهم، ودخلت في سكة اللي يروح ما يرجعش، وصعّبت الحياة علي نفسي، وعشت في نكد ما بعده نكد ، وكدت أفارق من شدة توغلي في تصور لحظات المغادرة، هل أطلعكم علي نتف مما كتبته في تلك الفترة المحنة ؟ وهل يسمح المجال بذلك ؟ ولم لا، واذا كانت هناك قواعد للكتابة فالتمرد عليها أولي، انظروا لهذا التوهم : توهمت أن روحي راحت ( ص107)

بعد المشاركة في هذه الحالة الإنسانية يتملك الكاتب قلب وعقل القارئ لأنهما وجدا نفسيهما في مواجهة رهبوت الموت، وهنا يعود الكاتب بصديقه القارئ إلي مسار الرواية من باب تناسي الحقيقة التي يواجهانها معًا:

"يقول شيخي محيي الدين ابن عربي : الموت سهم صوّب إليك لحظة مولدك، وحياتك بقدر وصول السهم إليك . قضي الأمر وطويت الصحف ولا راد لقضائه، فالسهم انطلق، وهو آت لا محالة، مسألة وقت ليس إلا، فصلت ذلك في توهماتي لمن أراد المزيد من النكد، أما أنا فأرد نفسي عن شرودها وأعود الي روايتي . (ص113-114)

إن العلاقة القوية التي أسسها الكاتب/ الراوي مع القارئ بإزالة الكثير من الحواجز الكتابية بينهما تعفي الراوي كثيرًا من التحايل الفني لتبرير علاقة التداخل أو "التلبس" بين صوته وصوت العديد من الشخصيات، وكذلك بين لغته و لغاتها، بل والأهم بين رؤيته ورؤيتهم.

لم يزعم الراوي موضوعية فيما يروي، وإنما أعلن صراحة أن مروياته تستند لنوع من الثقافة مشكوك من وجهة نظر الثقافة الكتابية في مصداقيته وبالتالي موضوعيته، وهي الثقافة السمعية، فكل ما هو منقول سماعيا لا يعوّل عليه كثيرًا لمن أراد الموضوعية أو التوثيق أو التدقيق وكلها أشياء قرينة الثقافة البصرية/ الكتابية.

"أما بديعة، فقد دخلت في شرنقتها الخاصة وتوحدت مع نفسها، لم أعد أراها، لكني كنت أسمع عن أحلامها وهلاوسها المتعلقة بنور وإصراره علي إقامة ضريح له بأية طريقة . (ص162)

إن "التلبس" كلمة مناسبة لوصف العلاقة بين خيري الراوي وشخصيات عالمه الروائي في بولاق الدكرور ليس لأنه أسير ذاكرة تقوده أينما ولّي وجهه ككاتب، وإنما لأنه قد تلبّسه الموروث الشعبي فأصبح مضروبًا به فتسقط المسافة بين الباحث (الذات) والمبحوث (الموضوع/ الموروث الشعبي)، ليحدث نوع من تبني الباحث لرؤية المبحوثين للعالم لأنه في واقع الأمر باحث ومبحوث أو ذات وموضوع في آن. وهذه الحالة من تلبس الشخصية للراوي ليذوب فيها لغويا واستعاريا ومعرفيا هي حالة تتجاوز علاقات التعاطف المعتادة بين الرواة وبيئاتهم المحلية سواء كانوا من أبنائها أو من ضيوفها. وقد كان خيري واعيا بذلك فنبّه القارئ لما يمكن أن يترتب علي ذلك من التباس لديه في موقف الراوي مما يروي من خرافات وأساطير:

"وفي تلك المرحلة، كان اهتمامي بالموروث الشعبي قد وصل لحد الهوس المبالغ فيه. (ص162)

حيث نجد الراوي يؤكد بوصفه شخصية مشاركة في الأحداث معجزة نور زوج بديعة الذي بقي في كفنه دون تحلل بعد عشرين سنة من وفاته، وهو ما يجعلنا نري أن خيري الكاتب والراوي قد تجاوز بذلك منطقة أنه راوٍ يروي عن الذات الجمعية أساطيرها إلي منطقة أنه واحد من المؤمنين بتلك الأساطير، وهو ما يعد تمردًا علي تقدمية وعقلانية تراثه الروائي الحديث.

"وأنا أردت التأكد فاقتربت من الجسد ولمسته بأصابعي لمسا خفيفا فسرت رعدة في جسدي، كان غضا ودافئا، والماء الذي غسّل به مازالت نداوته يحملها اللحم الطري الذي تفوح منه رائحة ماء الورد.» (ص 114-115)

بل إن حالة التلبس تلك تتعدي الرواية كنوع أدبي إلي المقالة حيث يروي خيري أنه كتبت عن الولي الذي لم يتحلل جسده مقالة ونشرت في جريدة:

"وفي إحدي الجرائد وقعت عيني علي عنوان بدا لي للوهلة الأولي أني أعرفه : الولي الذي تم اكتشافه في بولاق الدكرور . وتحت هذا العنوان وببنط أصغر :دفن حيا وبعد خمسة وعشرين عاما يخرج من قبره ليظهر كراماته.» (ص118)

وتتجسد حالة التلبس تلك لغويا ليس في نقل حكايات شعبية(كيد النسا- حكاية العجوز والقرد- حكاية المرأة التي أنجبت قردا) علي ألسنة الشخصيات الروائية بلغة الحكي الشعبي فحسب، وإنما بحدوث الهجنة بين لغة الحكي الشعبي ولغة الراوي عند نقله لخطاب الشخصيات.

" فما حكايتك الله يفتح عليك .

قالت زوجة الأسطي حمامة: ما انتهيت من قولي حتي رأيت دموعها سحت علي وجهها،. ثم أنها أجهشت بالبكاء فأخذت أطبطب علي ظهرها حتي هدأت.» (ص64)

وحين ينتقد الراوي موقف حفني الذي خانته زوجته صفاء مع محمد عبدون زوج أخته صديقة، ولم يقتلها أو يطلقها، فإنه ينتقده علي أساس ما تنص عليه التقاليد في تلك البيئة المحلية وتدعمه ثقافتها الشعبية، بل إنه كراوٍ مشارك في الأحداث يصوغ رأيه بنفس التعبيرات الدارجة علي ألسنة بقية شخصيات ذلك العالم الروائي/البيئة المحلية:

"أصبح تحت رجلها، مرمطته وحطت رأسه في الطين، وبدلاً من أن يطلقها أو يقتلها كما يفعل الرجال، أخذها ورحل فهو لا يستطيع الابتعاد عن المرة النجسة» (ص48)

إن طبيعة علاقة الراوي الذي تتلبسه أرواح شخصياته ثقافيا حتي أُصيب باللايقين فيما إذا كان المنطق العقلاني هو الذي يحكم العالم أم الخرافة، سمحت لهذا الراوي يروي من معين الثقافة السمعية ما لا يروي إلا علي لسان الشخصية، كما في روايته لأحلامهم.

" رأي حفني نفسه فيما يري النائم وكأن حجرا ثقيلا وضع علي صدره فلا يستطيع التنفس». (ص123)

أو هلاوسهم ومونولوجاتهم الداخلية، كما في تلك الغمغمة بين بديعة وزوجها المتوفي(نور):

"طب وهاتشوفه فين، انت في الجنة ونعيمها، وهوّا في النار وبئس القرار بعد عاملته السودا مع صفاء .» (ص101 )

ويصل الراوي / الكاتب إلي أن يتبني نفس الاستعارات التي تحيا بها تلك الشخصيات في بيئتها المحلية، والتي تشد انجذاب القارئ غير المحلي لها، لكنها في نفس الوقت تجسد رؤية كامنة في تلك الاستعارة تجاه مفردة من مفردات الحياة، فعلي سبيل المثال نجد استعارة تتعلق بالتخيل الشعبي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة باعتبارها مسألة قدرية "فكل فرج مكتوب عليه اسم ناكحه. (ص164) .

لكن ذلك الفرج هو إما قلعة يأتي الرجل ليهدمها..

" ودخل(نور) عليها (بديعة) فوجدها درة ما ثقبت، ومطية لغيره ما ركبت فأطلق مدفعه علي قلعتها. (ص7)

وكذلك:

" وهي(صفاء) ترهز من تحته حتي هدم(حفني) قلعتها وخربها». (ص39)

أو مغارة يأتي الرجل ليسبرغورها..

"وتتحسس ( فتحية) جسدها بأناملها فتجد اسمه (رمضان) محفورًا هناك بحروف بارزة وحادة تكاد تنطق فتشعر بالنشوة وتصبح علي يقين من أنه هو وحده سوف يمتلك جسدها ووحده فقط من سيصل إلي مكامنها، أليس اسمه مكتوبًا هناك علي باب مغارتها». (ص56)

وبالتالي إذا ما ضعفت قدرة الرجل علي هدم القلعة أو فقد ماله فعليه ألا ينتظر من وراء أية امرأة ودا.

"إلا قولي لي يا اختي كيف ترضين بالعيش مع عجوز النحس هذا، وقديمًا قال الشاعر :

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب». (ص63)

إن اللايقين الذي تملك الراوي فجعله يتساءل عن منطق العالم في حركاته وظواهره ما بين ظواهر تمتثل لقانون العقل وتستهدف التقدم، وأخري تخرق ذلك كله هو ما يجعلنا نعتبر تلك الرواية متمردة لولا أن ختامها جاء تنويريا يتبرأ من حالة اللايقين التي خلقتها علاقة التلبس مع صانعي الأساطير والخرافات، فجاء ختامًا يليق برواية حديثة بينما كنا نقرأ رواية جديدة.

" ومع مرور الزمن ينسي الناس كعادتهم كل ما هو حقيقي وأرضي ليتعلقوا بالأساطير، وفي أوقات الشدة والملمات تتراءي بديعة للناس علي هيئة قرص من النور المضيء فوق إحدي مآذن الجامع الكبير». (ص182)

«فانيليا» للطاهر الشرقاوي ..

الراوي عليم لكن ذاته منشطرة

لماذا رواية "فانيليا" في بحث عن سرد الشئون المحلية بينما أحداثها تدور في ميدان التحرير / وسط البلد الذي يعد مركزًا ثقافيا وإداريا تتبعه كل البيئات المحلية سواء كانت في شمال مصر أو جنوبها، في شرقها أو في غربها، زراعية كانت أو بدوية، عربية عرقيا كانت أو نوبية، فضلاً عن الحزام العشوائي الذي يحاصر ذلك المركز ؟

من المؤكد أن الإجابة لا تتعلق بكون الكاتب من مواليد محافظة قنا في جنوب مصر، ما دام لم يكن لذلك المولد أثر علي السرد. لكن سبق أن أشرنا إلي أنّه إذا كان القارئ هو الذي يحدد إن كانت هذه الرواية أو تلك رواية شئون محلية بالأساس، فإن نسبية المفهوم تجعل من المركز الثقافي والإداري أيضًا ذا خصائص ثقافية محلية بالنسبة لقارئ من جنوب مصر أو من شمالها أو حتي من الضواحي العشوائية التي تحاصر ذلك المركز، فضلا عن القارئ العربي، وذلك لأن الخصائص الثقافية لذلك المركز النخبوي لم تُعمم لتكون خصائص ثقافية عامة لكل القطر المصري فضلاً عن الأقطار العربية. ومن هنا فإن وسط البلد بشخوصه وعاداته وتقاليده ومشاكله النفسية والاجتماعية شأن محلي وليس شأنًا قوميا، خاصة علي مستوي الرواية.

وجرت العادة في الرواية المصرية أن يروي تلك البيئة المحلية"وسط البلد" رواة من خارجها، جاءوا إليه سعيا للعمل في الثقافة أو الصحافة، لكن لا يكون غالبًا موطن رأس لأي منهم، لأن موطن الرأس يكون إما في جنوب مصر أو في شمالها كبيئة محلية غائبة حاضرة في السرد. وهو ما يترتب عليه من صراع قيمي أحيانًا ومعاناة اجتماعية غالبًا، وشعور بالاغتراب والوحدة تصل أحيانًا لدرجة المرض النفسي المألوف في تلك البيئة المحلية "الاكتئاب". وهو ما ينطبق علي شخصيات رواية فانيليا، خاصة البنت "ذات القدم الطفلة "التي أثرت بيئتها الجديدة "وسط البلد" علي رؤيتها لموطن الرأس، فمحت الصورة الذهنية القديمة لبيت العائلة، الذي أصبح مجرد جدران متشققة وتراب تستنشقه فيه .

"في آخر زيارة لها إلي بيت العائلة، في المدينة الصغيرة، اكتشفت أنه ضيق جدًا، علي عكس ما كان مرسومًا في ذهنها». (ص51)

لكن ماذا عن الراوي الذي يمكنه أن ينقل لنا تلك البيئة المحلية المدّعية للمركزية ومشاكلها النفسية والوجودية، لاسيما إذا كان راويا غير مشارك في الأحداث؟ وكيف أمكن لتك الرواية "فانيليا" أن تتمرد علي قواعد الكتابة الروائية لنعدها رواية جديدة بامتياز؟

أعتقد أن رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي قد أقامت حوارًا مع النوع الروائي هدفه المطالبة بإعادة النظر في تقييم المؤسسة الكتابية للـ:" راوي غير الحاضر في العالم الروائي ويري العالم الروائي من داخله". علي اعتبار أن الرواية قد لجأت لهذا الخيار الفني التقليدي جدًا والذي لا يعدو كونه مجرد نقطة بدء للسرد الكتابي، لكنها استطاعت أن تقدّم تصورًا مختلفًا علي المستوي المعرفي والجمالي لتقنية الراوي العليم في ضوء الظرف الثقافي ما بعد الحداثي؛ حيث انشطار الذات وتجاور مفرداتها المتناقضة من أهم مفردات هذا المشهد الثقافي. إن هذا المشهد الثقافي لا يتم أداؤه وإخراجه باحتراف في بيئة مصرية كما يتم ذلك في تلك البيئة المحلية التي اختارها الشرقاوي لروايته وهي وسط البلد، وكأن ذلك المشهد المابعد حداثي هو الخصوصية الثقافية لتلك البيئة.

يبدو أن رواية فانيليا منذ البداية أراد لها كاتبها أن تلعب باستخفاف بالفكرة الحداثية المألوفة والمرتبطة بانقسام العالم إلي مركز وهامش، ليس بخلق مراكز متعددة أو بتفكيك المركز، وإنما بتحويل المركز إلي هامش، وتحويل الهامش إلي مركز. حيث ينقل الشخصيات العادية والمألوفة في حياتنا اليومية والتي اعتدنا أن تحتل مكان المركز بين شخصيات الرواية التقليدية ليسْكنها هامش الرواية ويطلق علي عالمها الروائي (الملاحق)، وهذه الشخصيات هي (سيدة القطط / السيدة المهووسة بالغسيل/ سيد الجنازات)، فكل شخصية تمثل نمطًا حياتيا مألوفًا ومتوفرا في الأسواق المحلية بدرجة تجعلنا نراه "الطبيعي" الذي يجب أن يقيس عليه الآخرون مدي اختلافهم عن الأنماط السائدة في المجتمع المصري، فسيدة القطط امرأة عجوز تلتف القطط حولها حين تسير بالشوارع، وهي تحاول أن تتذكّر الأماكن بها دون جدوي لأن الأماكن تبقي، بينما روادها يذهبون بلا عودة، هي امرأة بسيطة لم تحقق حلمها في شبابها بأن تصبح ممثلة، كملايين لم يحققن حلمهن، لكن حياتهن في مرحلة الشيخوخة تتحول للعيش علي الذكري سواء كانت ذكري ما تحقق أو ذكري الأحلام التي لم تتحقق. إنها نوع من أنواع الإيقاف عن ممارسة الحياة بعد فوات الحياة من بين الأصابع.

أما السيدة المهووسة بالغسيل فهي نوع آخر من أنواع تكريس الحياة لفعل عديم الصلة بالحياة، فهي تعيش لتغسل، وربما لا تتمكن من أن تلبس ما تغسله لتعيش حياتها بتلك الملابس. وهذا النوع علي ألفته الشديدة فهو توقف إرادي عن ممارسة الحياة باختزالها في فعل لا يصلح أن يكون الغاية من الحياة لدي البعض، لكنه كذلك عند هذا النمط من الناس.

وعلي مستوي الرجل، فالرجل "سيد" كما هو المألوف في ثقافتنا، لكنه هذه المرة "سيد الجنازات"، الذي يمكن اختزال حياته في كونها الخطوات التي يسيرها منذ بدء علمه بوفاة شخص ما له صلة به من قريب أو بعيد، وحتي تسليمه إلي القبر. ولم يندم "سيد الجنازات"علي شيء إلا ندمه علي أنه كان طفلاً أيام جنازة عبد الناصر فلم يحتفظ بصورة لنفسه في الجنازة، أما في جنازة السادات فقد كان مشغولاً بالمرة الأولي التي يمارس فيها عادته السرية، لكن الذنب لم يكن ذنبه فقد تسببت بنت الجيران في هذا التأخير غير المقصود عن جنازة السادات، ففاته حدثٌ مهمٌ كان يريد أن يزين به حياته!

إن هذه العملية الروائية المقصود منها تهميش المركزي، المألوفة مركزيته في المجتمع، وذلك لحساب الوجه الآخر، وهو مركزة الهامشي غير المألوف في المجتمع وذلك بجعله "متن الرواية"، وقد أسكن الروائي شخصيتين فحسب في هذا المتن وهما "الولد الصامت"، و"البنت حافية القدمين". وهاتان الشخصيتان تشتركان في كونهما طرفي الفعل المدهش علي مستوي الإنتاج والتلقي. فالبنت تثير الدهشة بقدمها الصغيرة أو كما يسميها الولد متعجبًا ومعجبًا "القدم الطفلة"، وهذا خلافًا لموقف الثقافة السائدة التي لا تري للقدم أية علاقة بعلامات الأنوثة، فالشيء الهام عندها هو نمو الأعضاء التناسلية علي النحو المألوف. وترتسم شخصية البنت ذات القدم الطفلة بوصفها كائنًا غير مألوف، فهي التي تجرؤ علي السير حافية في الشارع، وهنا نلحظ علاقة نشوة بين باطن القدم والرصيف الساخن، لكن مسار النشوة مخالف لمسار النشوة التقليدي في العلاقة الجنسية المألوفة بين رجل وامرأة، حيث تسير النشوة من أسفل إلي أعلي" وفي حركة تلقائية تخلع الصندل، وتمسكه في يدها، وتواصل سيرها بشكل عادي تمامًا، منتشية بإحساس ملمس الرصيف لباطن قدميها. لم تكن تسمع شيئًا من تعليقات المارة، الذين لاحظوا أنها تمشي حافية، أو تلقي بالاً للعيون التي تتابعها في صمت، فقط منتبهة لصوت دبيب خفيف، يسري في عروقها، ويدغدغ برقة، صاعدًا ببطء من أسفل القدم إلي الساق، ثم ما بين الفخذين، مواصلاً رحلة الصعود مارًا بالبطن، والصدر، والرقبة، والخدين، والأذنين، حتي فروة الدماغ، التي تنكمش بسرعة محدثة دغدغة يقف لها شعر الرأس.( ص14 )

وفي هذا العالم اللامألوف للسعادة أسباب بسيطة لدي هذا الكائن كصوت محمد منير، وحمام دافئ، والرقص عارية أمام المرآة، والمشط الخشبي المسكون بالعشق الذي كان لجدتها ذات يوم.

وفي عالمها اللامألوف ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببٌ، فيكفي أنك ترغب في شيء أو تشعر بشيء لتعبر عنه دون حاجة لتبرير ذلك بالبحث عن العلل والأسباب، التي يمنطق بها عالم المألوف الأفكار والمشاعر ليسيطر علي مصدرها وهو "الإنسان". ولذلك فالبنت حافية القدمين أو ذات القدم الطفلة دون أن نقيدها باسم، هي بنت تريد أن تموت في سن 48 دون سبب لهذا التحديد، وهي تريد لشقتها أن تكون كلها مطبخ .

إن الكائن اللامألوف كائن يعيش الحياة وحيدًا سعيدًا بوحدته حينًا حين تكون إرادية كما في اختيارها يوم الأحد ليكون ملكًا لها وحدها، حتي أنّ أصدقاءها يسمونها "ميس صنداي Ms.Sunday" لكن تصبح الوحدة معاناة قاسية حين تكون مفروضة عليها بسبب عزوف الآخر عنها من خلال الفشل المتكرر لعلاقات عاطفية مع الآخر / الولد، فتكون الكنبة ، التي هي مكان لممارسة الحياة لفرد واحد منعزلاً، هي المكان المفضّل لديها لممارسة الحياة متأملة سقف غرفتها وكاتبة لمذكراتها ..إلخ.

إن هذا الكائن اللامألوف هو كائن مختلف منذ كانت طفلة تتمني أن تكون زهرة أو سمكة عندما تكبر لا أن تكون طبيبة أو مهندسة، ويبدو أن هواية الاحتفاظ بمخلفات الماضي هواية تربِّي الشخصية علي القدرة علي الاختلاف مع المحيط الاجتماعي بوعيه المألوف للعالم، فمخلفات الماضي تحيل إلي فكرة جدوي الحياة ومعناها، حيث الأشياء تبقي، بينما لا يستطيع أصحابها البقاء معها!

هذا الكائن اللامألوف هو صانع الدهشة في الرواية وهو المؤهل لقدراته الإنسانية أن يخترق عالم المألوف، لأن هذه القدرات الإنسانية تأسست علي تنوع مصادر المعرفة، بل واختلاف هذه الوسائل عن وسائل المعرفة المتاحة في العالم المألوف، فالحدس وسيلة أساسية من وسائل المعرفة التي تتحصل عليها، والخيال- وليس المنطق- مهارتها وخاصتها الإنسانية الأساسية، وبالتالي من الطبيعي جدًا أن تختلط خيالات هذا الكائن غير المألوف بواقع وحدته فتتحول أفكاره إلي واقع معاش بالنسبة للشخصية (فالحيوانات بديل البشر) دون شعور بأدني حاجة لإضاعة الوقت في إقناع الآخرين المألوفين بما صنعت.

تلعب البنت حافية القدمين دور مثير الدهشة والولد هو المتلقي الأول لها غالبًا، لكنه ليس الوحيد، فجميع الشخصيات في الرواية متلقون لأفعالها غير المألوفة مع تباين المواقف منها .

"صاحب كشك السجائر، قال لولد بدت علي ملامحه الدهشة لما مرت بجواره، وهو يناوله الحساب : إنها مجنونة. لكن ماسح الأحذية العجوز، الذي يقعد دائما قدام بار "بارادايس"، ذي الباب الموارب، تمتم: قدمها صغيرة جدا ،ونظيفة....إلخ». ( ص13)

تبدأ علاقة الولد الصامت المؤهل بصمته هذا للدخول لعالم اللامألوف بموقفه المختلف من القدم الطفلة، فالقدم "خلقة ربنا" تراها شخصيات الرواية جميعها إما تثير الأسي والشفقة أو أنها غضب من الله، بينما يراها الولد وحده مثار إعجاب، وأنها قد وقع عليها ظلم تاريخي بشع مقارنة ببقية الأعضاء التناسلية. إن القدم الطفلة تلعب دور المرشد للبنت حافية القدمين للتعرف علي بقية جسدها وخاصة أعضاءها التناسلية المألوفة المعترف بها في الثقافة السائدة، وكأن العضو الذي لم يكتسب الاعتراف به تاريخيا يسهم في التعرف علي بقية الأعضاء، وكأن أيضًا كل الأعضاء لم تُختبر حتي لحظة اكتشاف القدم الطفلة لها!

ومع ذلك تبقي رغبة الولد الصامت الذي يعجب بالقدم الطفلة كرغبة علماء الآثار في الاحتفاظ بالتحف الفنية ؛ حيث يضعها ملفوفة في غلاف زجاجي. (ص12)

إن الخبرة باللامألوف تعلو عند الولد فيتحول لنوع جديد من العلاقة به وهي علاقة (موسي بالخضر) الذي يطلب أن يصحبه ليتعلم من علمه الحدسي، فالولد الصامت الذي عاش في المدينة لسنوات لم يعرفها إلا علي يد البنت حافية القدمين وكأنه كان أعمي استرد بصيرته فرأي الأشياء البسيطة التي كان يمر عليها كل يوم، ولم يكن يراها، علي الرغم من أنها كانت مما يبحث عنه (محل الحلويات ورائحة الفانيليا المحببة لديه).

إن الرؤية بالعقل في عالم المألوف لا تتيح ما أتاحته الرؤية بالحدس في عالم اللا مألوف لهذا الولد الصامت علي يد "خِضره الجديد" في المدينة البائسة، ففي هذا العالم يتعرف علي رائحة الفانيليا التي تقترن بجسد البنت حافية القدمين، وبمجرد أن يشتم الجسد/ رائحة الفانيليا تنفك عقدة لسانه لينطلق حاكيا ذاته دون توقف، بينما تكون البنت حافية القدمين قد انشغلت عنه بذاتها طارحةً علي نفسها أسئلتها الوجودية. وهنا تأتي لحظة الافتراق بين "موسي والخضر" (هذا فراق بيني وبينك).

إن الكائن اللامألوف بعد أن علّم الولد الصامت كيف يمارس الحياة، يكون قد أدي بعض رسالته، لكن البعض الآخر من رسالته لا يكتمل إلا بتحوله إلي مسيح ينقذ البشرية من الألفة / قرينة الموت. فتصعد الفتاة حافية القدمين إلي السماء لتمطر السماء علي الأرض رائحة الفانيليا، عسي أن تنفك بها عقدة ألسنة البشر فيستطيعوا أن يحكوا ذواتهم قبل أن يتحولوا لـ"سيد الجنازات" أو "سيدة مهووسة بالغسيل" أو "سيدة القطط".

إن عالم اللامألوف بشقيه ( الولد الصامت/موسي، والبنت حافية القدمين/الخضر) كان يعاني من عسر الكتابة، فالولد الصامت يود أن يكتب عن عالم لا مألوف لأنه يعيش المألوف، فيختار البنت ذات القدم الطفلة موضوعًا لكتابته، بينما البنت ذات القدم الطفلة تود أن تكتب عن عالم المألوف الذي لا تنتمي إليه، فتبدأ في كتابة قصة "السيدة المهووسة بالغسيل". إن عسر الكتابة هو همُّ الولد وهمُّ البنت كقاسم مشترك بينهما، وكلاهما لم يكتب ما يود كتابته، وإنما الذي كتبهما هو"الراوي العليم غير الحاضر في القص" الذي أعطي لنفسه الحق في أن يري ويروي أحلام البنت ذات القدم الطفلة، ويروي كذلك هواجس الولد الصامت بحرية تامة كأنه يروي ذاته أو بعض ذاته. نعم هذا ما أود الوصول إليه، ففي سياق ثقافي يعد انشطار الذات وتجاور متناقضاتها من مفرداته الأساسية، أستطيع أن أري في توظيف تقنية "الراوي العليم غير الحاضر في القص" التقليدية توظيفًا ما بعد حداثيا في رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي، حيث إن هذا "الراوي العليم غير الحاضر في القص" قد انشطرت ذاته ليكون بعضُها ذات الولد الصامت/ موسي، وبعضها الآخر "ذات" البنت حافية القدمين / الكائن اللامألوف/ الخضر/ المسيح. وعلي هذا، تكون رواية فانيليا قد أقامت حوارها الخاص مع النوع الروائي الذي تنتمي إليه باقتدار.

وفي الختام، إن وصف رواية بأنها جديدة من وجهة نظري ليس "كارنيه عضوية" في مدرسة أدبية، وإنما أنصبة تتوزع حسب قدرة هذه الرواية أو تلك علي التمرد علي مؤسسة الرواية التقليدية والحديثة. وإذا كان التمرد يقترن ثقافيا بالشباب مثلما تقترن الحكمة بالشيوخ، فإن الحكيم المتمرد أعلي قيمة من الشاب الشيخ في مجال الإبداع الروائي.

وهذا ما لا يتفق وسعي مؤسسة النقد للعمل علي "الثابت المألوف"، فإذا ما واجهه "المخر (المألوف المتغير" فإنه يسعي لتثبيته حتي يتمكن من قياسه علي أسسه النقدية الثابتة المألوفة.

ومن ناحية ثانية، فإن الشئون المحلية أو الخصوصية الثقافية لبيئة محلية ما إحدي وسائل تحقيق الخصوصية الروائية لعدد من الروائيين علي مختلف أنواع الرواية العربية من تقليدية وحديثة وجديدة، وذلك حين يحسن الروائي انتقاء المواد النادرة والمتفردة في بيئته المحلية، ثم ينجح بتمكنه من أدوات السرد في حفز قارئه علي أن يبصر إنسانية الشخوص المحلية، فإذا ما عجز الروائي عن تحقيق ذلك روائيا، فإن رواية السرد المحلي تسقط في فخ المتحف الأنثربولوجي، فلا تعدو أن تكون الرواية عملاً أنثربولوجيا فاقدًا لشروط البحث الأنثربولوجي بعدما افتقدت شروط الإبداع الروائي.


الهوامش

Align Right

1- مجدي توفيق: الذاكرة الجديدة، دارميريت للنشر، القاهرة، ص 8-9.

2- شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ع/553، الكويت سبتمبر 8002، راجع التصوير ص8-61.

3- أحمد أبو خنيجر: العمة أخت الرجال، مركز الحضارة العربية، القاهرة 8002.

4- http: www.arabic stary. het/ forum/index.php showtqpic= 8767&pid67243&mode threa& ded &st

5- الطاهر شرقاوي: فانيليا، دار شرقيات للنشر، القاهرة 8002.

6- صلاح صالح سرديات الرواية العربية، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة، ص13.

7- م، ن ص 92- 94.

8- ميخائيل باختيه: الماركسية وفلسفة اللغة، ت محمد البكري، ويمني العيد، دار توبقال، المغرب، 6891، ص202.

3 تعليق:

الموضوع رائع لقد اعجبني جججججججججججججددددددددددددددداااااااااانا اشكرك جدا على جهدك يعطيك الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف الف عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية عافية من الاخت صبرينة

5 أبريل 2011 في 8:09 م  

i thank you vary mach about this
form sistr sabrina

5 أبريل 2011 في 8:10 م  

wwwwwwwwwwwwooooooooooooooooowwwwwww ccccccccccccccccooooooooooooooolllllllllll i thank you i thank you

5 أبريل 2011 في 8:11 م  

Blogger Template by Blogcrowds