نظريا تراجعت نظرية الأنواع الأدبية بوصفها مدخلا للتصنيف، يتم اعتماده للفصل بين جنس أدبي وجنس آخر، ولكن علي المستوي التطبيقي لم تزل بعد - في أدبنا العربي- قائمة، ولم يزل بعد البحث - نقديا - يسعي لتأصيل مفهوم النوع، والبحث عن السمات الفارقة بين جنس وآخر .

فهل استطاعت الأعمال الأدبية العربية بحق إحداث هذا التماهي بين ما هو شعري وما هو نثري ؟ بمعني اعتماد السرد بنية منظمة للنص شعريا كان أم نثريا ؟

وإذا كان الأدب بعامة أداته الأولي هي اللغة، فما الحدود الفاصلة بين لغة القص ولغة الشعر ؟ وكيف تتحول البني السردية لتنتقل من القص إلي الشعر، والعكس ؟

إن التطور الحقيقي الذي لحق النوع الأدبي بعامة سواء في أدبنا العربي أو الغربي، يمكن رصده عبر مبدأ نقاء النوع، الذي غدا هو المحور الذي تدور حوله الأعمال الأدبية، بمعني أنه لم يزل بعد التقسيم النوعي للأدب إلي رواية، وقصة، وشعر، ولكن لم تعد هذه الأشكال أو الأنواع الأدبية يتجلي كل منها في نوع ينفصل تماما عن الأنواع الأخري، وإنما هناك سمات مهيمنة عبر هذه الأنواع جميعا، ما فتئت تنتقل من نوع إلي آخر حتي غدت يصعب الفصل ما إذا كانت تنتمي إلي النثر أم إلي الشعر مثلا، وهنا لا يمكن البحث عن فرادة للنوع الأدبي، وإنما عن سمات مشتركة تنتمي إلي الأدبية، وليس إلي الشعر وحده أو النثر وحده .

فالمتعارف عليه - منذ أقدم عصور الأدب - أن الشعر والقص جنسان أدبيان لكل منهما خصائصه وتقنياته التعبيرية، وأن السرد خصوصية نثرية، ومن ثم كان السؤال: ما الأسباب التي دعت لتسرب تقنيات السرد داخل بناء القصيدة ؟ وهل استطاعت سردية الشعر أن تكسر حاجز أسلوبية الجنس الأدبي والجنس التعبيري عموما، بخلق حوار الأجناس داخل عمل واحد ؟ وإن كان فإلي أي مدي استطاع المزج أن يبلغ مداه ؟ وإلي أي جنس يمكن أن ينتمي النص مع ما يحمله من الملامح المشتركة ؟

فمفهوم الجنس أو النوع الأدبي في معناه الأصل يدل علي الجذر أو الفصيلة التي ينتمي إليها العمل الفني، وإن كان المصطلح قلقا في ذاته، دائم التغير نظرا لاتساع محتواه، ومن هنا تأتي الصعوبة، فحتي بالنسبة لمجموعة الأعمال المعينة التي يتم إدراجها تحت نوع واحد، فإنها لا تسلم من التقسيم المستمر إلي أجناس فرعية أخري متعددة .

ولعل نظرية الأنواع الأدبية لم تعد تحتل مكان الصدارة الآن في الدراسات الأدبية، فالتمييز بين الأنواع لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب العصر، والحدود بين النوع والنوع الآخر تعبر باستمرار، والأنواع تختلط أو تمتزج، والقديم منها يترك أو يحور، وتخلق أنواع جديدة، إلي حد ما صار المفهوم نفسه موضع شك، بتعبير رينيه ويلك .

لقد وظف التحليل البنائي هذه الأفكار عند دراسته للنصوص بمعزل عن السياق الذي قيلت فيه (الفكرة الأولي للبنيوية ) حيث يميل إلي التمييز علي مستوي المضمون النفسي بين الانفعالات الجمالية ذات الطابع الخلاق، والانفعالات العاطفية ذات الطابع الوجداني، ومن ثم نظرت البنائية إلي القصة بإمكانية تقسيمها إلي مراحل تبرز تشويقها العاطفي، وهذا هو التوجه الأساسي في التحليل البنائي الذي يقوم علي تفكيك النص وإرجاعه إلي وحداته الأولي المكونة له، وهي :

1- الوحدات الشكلية التي تختص بالبحث في الأحداث والشخصيات والسرد والمواضيع والأسطر والكلمات.

2- الوحدات النفسية من البحث عن القيم الوجدانية ومراحل التشويق العاطفي والانفعالات العاطفية، وهنا تعتمد البنائية مبدءا تعده من أهم مبادئ تحليل النص وهو التحليل حسب المراحل التسلسلية، التي تكون أولا بدراسة القصة، وثانيا بدراسة السرد " ومن الممكن لا بل من الواجب تطبيق هذا المبدأ في دراسة أي نص من النصوص طال أم قصر "(1)

مفهوم السرد

يرتبط السرد بالحكي، ويتحدد مفهوم السرد narration علي أنه الطريقة التي يتم بها الحكي، وبمعني آخر الكيفية التي تروي بها القصة، وهو ما يستدعي بالضرورة الأدوات والوسائل المعينة المستخدمة في ذلك وأولها اللغة ومن ثم طرق تأليف الكلام، وأساليب نظمه في سلك واحد، وعلي أشكال مختلفة، فالقصة أو الحكاية الواحدة يمكن أن تحكي بطرق عدة، وهذه العملية هي جوهر السرد وحقيقته، وهي التي يتم الاعتماد عليها في تمييز أنماط الحكي بشكل عام .

وبما أن الحكي يقوم عامة علي دعامتين أساسيتين ( أن يحتوي علي قصة تضم أحداثا معينة، وأن تتعين الطريقة التي تحكي بها القصة ) وبما أن السرد يرتبط في مفهومه بالحكي " ولهذا السبب فإن السرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل عام (2).

والحكي باعتباره قصة محكية فإنه يقتضي وجود شخص يحكي وشخص يحكي له وقصة محكية، ومن ثم يتحدد السرد علي أنه " الكيفية التي تروي بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالقصة ذاتها (3).

فالقصة في مفهوم السرد لا تتحدد فقط بمضمونها ولكن أيضا بالشكل أو الطريقة التي يقدم بها هذا المضمون، وهو ما التقطه الباحث العربي "كمال أبو ديب" في اعتماده علي مقاربة فلاديمير بروب التي أسس فيها لفكرة الوظائف(4)، وعمل أبو ديب علي نقلها إلي الشعر الجاهلي وتحليله بنيويا، للوقوف علي التشابه بين الوظائف السردية في التراث الشعبي والوظائف السردية في البناء الشعري العربي الجاهلي، مستنتجا من ذلك التشابه في الوظائف إلي أنه ليس عائدا إلي تأثير ثقافة علي أخري، وإنما هو عائد إلي طبيعة العقل الإنساني في مجموعه، والمهم في ذلك هو رؤيته لإمكانية انتقال عناصر من جنس إلي جنس، أي من بنية الحكاية إلي بنية الشعر الجاهلي : "حين نمارس تحليل بروب، وننقله من مجال الحكاية الخرافية إلي مجال الشعر الجاهلي، نستطيع أن ندرك مباشرة أن ثمة درجة كبيرة من الشبه بين بنية القصيدة وبنية الحكاية، فالقصيدة أيضا تتكون من وظائف ذات عدد محدود جدا، وقد لا يزيد العدد عن إحدي وعشرين وظيفة، ويتقلص في كثير من النصوص إلي وظيفتين . . . . لكن ثمة فرقا جوهريا بين القصيدة، وبنية الحكاية يتمثل في أن ترتيب الوظائف في القصيدة متغير هو أيضا تماما كعددها"(5).

ويربط الباحث بين ترتيب الوظائف، وبين ما أسماه شبكة من العلاقات بين الشرائح المكونة للقصيدة حيث تكمن خصوصية رؤيا القصيدة، ويربط كذلك بين إحدي نتائج "بروب" وهي تقابل الوظائف، وبين الشعر الجاهلي، وحيث يري أن هذه النتيجة متحققة في الشعر الجاهلي بما يشكل الثنائيات الضدية "أي أن لكل وظيفة تقريبا نقيضا يمثل تجاوزا أو حلا لها، فالتحريم يقابله الانتهاك، ويحس النقص إشباع النقص.... وهكذا"(6).

وفكرة الثنائيات الضدية هي الفكرة التي اعتمدها "أبو ديب"، مستمدا إياها من التفرقات الشهيرة التي أقرتها البنيوية، والتي حلل من خلالها نماذج من الشعر العربي الجاهلي أو العباسي علي أساس التضاد الثنائي، حيث يري أن حركة الاندثار والعفاء في الأطلال دائما تولد حركة مضادة لها بحيث تشكل الحركتان ثنائية ضدية وهو يري أن الربط بين الشعر الجاهلي وتحليل بروب للحكايات الخرافية والأسطورة إنما يؤدي لفتح آفاق جديدة في دراسة الشعر الجاهلي "وعلي مستوي أكثر محدودية تسمح النتائج التي وصل إليها بروب في تمييزه للمسات الأساسية للحكاية بالقول أن عددا من هذه السمات تنتمي أيضا إلي النص السردي الشعري الذي يتشكل ضمن التراث، وبآلية التأليف الشفهي والارتجال (7).

ولكن تبقي مقاربة الوظائف غير قادرة علي تقديم تحليل لآليات اشتغال عناصر السرد في البناء القصصي أو الشعري، فهي ترصد الأنماط الرئيسة والثابتة التي تخضع في محاولات الإبداع فيها إلي قانون التبديل والتغيير، أي تبديل وتغيير الأماكن، وليس إنتاج آليات جديدة، وأنماط سردية جديدة، بمعني أن الوظائف تستطيع إنتاج حكايات جديدة، وليست سرودا جديدة .

وهو ما أشار إليه رولان بارت(8) في رؤيته لأنواع السرد في العالم بأنها لا حصر لها، وأن كل مادة تصلح لكي تتضمن سردا، "فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية - كانت أم مكتوبة - والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم من هذه المواد، والسرد حاضر في الأسطورة وفي الحكاية الخرافية، وفي الحكاية علي لسان الحيوانات، وفي الخرافة وفي الأقصوصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والبانطوميم، واللوحة المرسومة، وفي النقش علي الزجاج، وفي السينما الكومكس، والخبر الصحفي التافه ،وفي المحادثة، وفضلا عن ذلك فإن السرد بأشكاله اللانهائية تقريبا حاضر في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل المجتمعات فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون سرد (9).

التجريب الشعري والتأسيس السردي

سعت القصيدة العربية المعاصرة إلي البحث عن بني وتقنيات تعبيرية تخرج بها من عالم رأته محدودا إلي عالم أكثر رحابة، فكان أن اتكأت القصيدة علي الأنماط والبني السردية، واعتمدت في ذلك أنماطا تجريبية عدة، تنوعت بين التجريب في الشكل والتجريب في المضمون، فكان منها : التجريب في تبني مبدأ نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع والتراجع عن قوانين النقاء والوحدة، والتجريب في اللغة والتركيز علي الدلالات اللغوية، والتجريب علي مستوي التشكيل البصري للقصيدة، والتجريب المعتمد علي العمل الواحد بوصفه سياقا متحدا وإن تعددت تقسيماته الموضوعية، وهو ما يمكن تسميته (ديوان الحالة)، وغيرها من اتجاهات التجريب علي مستوي الشكل .

وكان من اتجاهات التجريب علي مستوي الموضوع: التجريب علي مستوي استلهام التراثي وبعثه، بإعادة تأويله واكتشافه، ثم بعثه من جديد في إيقاع جديد، ولغة تواصل جديدة، وشكل فني جديد، والتجريب علي مستوي الحكي عن الجسد، الخبرة الجسدية، والتجريب علي مستوي حكي خبرات الحياة الشخصية المباشرة (التفاصيل اليومية)، حيث الاهتمام بالتفاصيل اليومية الدقيقة، وتحويلها إلي موضوعة شعرية، تجسد مواقف الحياة أو مشاهدها التي يمارسها البشر كافة، والتجريب علي مستوي اعتماد تيمة السحر، وإعادة خلقها في تشكُّل يجسد لصراع الذات/ الأنا مع السلطة الشعبية المهيمنة، والمرتكزات التي يري أنها ليست منتظمة ذلك الانتظام المعروف عنها (01).

إن هذه الاتجاهات علي تعددها تعد واسطة بين الشعرية والسردية القصصية، ذلك أنها سعت نحو دمج ما هو شعري بما هو نثري، وبخاصة الاتجاهات التي سعت إلي تبني نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع، والتراجع عن قوانين النقاء والوحدة، وهو اتجاه يؤمن بأن النص هو كتلة أدبية واحدة، تتجاور فيها مستويات الخطاب، وتتفاعل فيها تقنيات التعبير وأساليبه المتعددة، حيث لا يمكن التمييز بين ما هو شعري، وما هو نثري، ويلعب السرد بآلياته في هذا الاتجاه دورا كبيرا، إذ يعتمد النص تقنيات تعدد الخطاب، وتعدد الضمائر وتحولها، والاتكاء علي تحديد عناصر المكان والزمان والحدث. كذلك يتدخل المنولوج والحوار بمستوييه الداخلي والخارجي، والبناء الدرامي القصصي، وتعريف الشخصيات بصفاتها وأفعالها وربما بأسمائها، والوصف بتشخيصه للأشياء، وتصوير مدي ما تحدثه هذه الأشياء في النفس من استجابة.

وقد وسع الشعر التفعيلي وقصيدة النثر من هذه البني والاتجاهات، سواء في قصائد مفردة، أم في دواوين كاملة اتخذت آليات هذه البني والاتجاهات معيارا وأسلوبا يتم من خلاله إبداع النصوص، وكتبت في هذا السياق دواوين عدة، كان أصحابها علي وعي بآليات السرد، وبالتجريب في الشكل والمضمون، وفيما يلي إطلالة سريعة علي نماذج تطبيقية لهذه الاتجاهات التي كانت واسطة للتقريب بين الشعر والسرد :

التجريب علي مستوي تبني مبدأ العمل الواحد أو نص الحالة

وهو اتجاه يعتمد علي العمل الواحد بوصفه سياقا متحدا وإن تعددت تقسيماته الموضوعية، حيث تهيمن الحالة الواحدة علي هذه التقسيمات الموضوعية، بما يشي بسرد سيرة ذاتية عبر الديوان، ومنه - علي سبيل المثال في الشعر المعاصر للجيل السبعيني وما بعده -أعمال رفعت سلام، وعلاء عبدالهادي، وجمال القصاص، وحلمي سالم، وفريد أبو سعدة، وأمجد ريان، وأحمد الشهاوي، وسمير درويش، وغيرهم .

يأتي ديوان فريد أبو سعدة "ذاكرة الوعل" نصا واحدا - وإن تعددت تقسيماته -لقضية معقدة ، وتساؤلات تجمع بين خصوبة الشعرية، وتفاعلات النصوصية الفلسفية، يصوغها الشاعر في ثوب تراثي، يتمثل الغرائبي والسحري نسيجا له ، ويجنح إلي الشعوذة تارة، ويميل إلي الطقوسي الديني تارة أخري، يجسد للشهوانية تارة ، ويعيد تأويل القدسي تارة أخري.... وهكذا بين تحولات العقل البشري، يختلط ما هو حاضر بما هو غائب،وما هو معروف بما هو مجهول، وما هو ديني بما ليس ديني،وعبر مراوغة النصوص تلك ، يتبادل كل من السحري والخرافي الدور،فيختلط الأمر،ويصعب الفصل بين ما يقوله النص وبين ما يعيد تأويله من موروث شعبي أو ديني، مما يمثل مرتكزا في ذاكرة الوعي الديني .

ومنذ العنوان يتبدي اختلاط هذه الرؤي،إذ يطالعنا الوعل بذاكرته التي تؤسس لثبات ليس بثابت، فالوعل Capra ibex نوع من أنواع التيوس، عرفه الإنسان منذ قديم الزمان، وارتبط دائما بالموروث المقدس، حيث تشير إليه التوراة،حينما طلب إسحق من عيسو أن يبحث له عن شيء يلهو به (سفر التكوين: 23، 3)، ويعتقد أيضا أن الوعل كان رمز إله القمر علي عهد بلقيس ملكة سبأ، وأن رؤوس الوعل المنحوتة قد زينت عملة معدنية عثر عليها في معبد إله القمر في مأرب، والحضارم منذ العهد الحميري يكبرون الوعل،وتوجد أحجار في شرق حضرموت عليها كتابة بالمسند تدل علي تقديسه.

وفي ظل هذه الأجواء التي تحيط بالوعول يختار الشاعر لديوانه عنوان ذاكرة الوعل، ويفرض علي المتلقي - النموذجي بالطبع - أن يستدعي في ذاكرته ذلك التراث العريض والمقدس للوعل،وأن يربط بينها، وبين الحالة الشعرية للشاعر،إذ إن الوعل يتصف بوجوده منفردا في الغالب، وهو ما يتقابل مع صوت الشاعر الراصد الذي تكشف عنه حركات الضمائر السردية،والذي يظهر بمفرده من خلال الضمير " أنا "،أما بقية المشاهد فترد دائما بضمير الآخر " هو "، يقول الشاعر :

4 في أهوج

15 - 16 - 17 في يوه

13،14،15،16،18 في هلهلت

18 و19و20و21و22دوسم (توقف مع التشاكل مع النفري) وصوفية القرن الحالي.

وتأتي دواوين رفعت سلام في أكثر من ديوان لتؤكد هذا الاتجاه، مثل : (إنها تومئ لي، وهكذا قلت للهاوية، وإلي النهار الماضي)، ويمثله كذلك سمير درويش في ديوان "الزجاج".

يقول سلام في "عطشي مطلق وأنا نسبي" من ديوان "هكذا قلت للهاوية (11).

والبئر رصاصة في حلم أطلقتها يد الجغرافيا أنا التاريخ بلا تأريخ لا يلحقني الزمن الثرثار ولا عربات الموتي الخيرية مطلق نسبي وظلي آبق مستوفز وأعضائي الفصول الفاصلة.

ولي وردة قاتلة.

تنصب لي ـ في كل صبح ـ شركا أو مقصلة.

وتتركني ـ علي درج الغواية ـ صخرة ذاهلة.

وتمضي في الطرقات المخاتلة.

لا أقتفيها قاتلتي توزع دمي بين القبائل المتناحرة علي خرقة بالية أو جملة آسنة فيفضي بي إلي ساحة مباحة للوساوس والظنون المهدرة يحيطون بي ولا أحيط يدقون طبولا نافرة…….. (ص49 ).

وهكذا يمضي الشاعر في قصائد الديوان التي تبدو وكأنها سرد قصصي أو نص روائي يتحدث عن الذات، ويروي الأحداث. إلا أن النص علي مستوي النوع النووي هو شعر. والديوان في مجمله يتكون من سبع عشرة قصيدة، عند النظر إليها في جملتها، تبدو وكأنها سلسلة لسرد أحداث ذاتية، مترابطة فيما بينها علي المستوي الشكلي، وإن تعددت تقسيماتها الموضوعية. فعنوان القصيدة الأولي: منيا القمح 1951، والثانية: فاطمة، والثالثة: منية شبين، والرابعة: شفيقة، والخامسة: 1967، والسادسة: الضوء، والسابعة: 1972، والثامنة: زنزانة 6، والتاسعة: متلا، والعاشرة: بولاقية، والحادية عشرة: 1977، والثانية عشرة: غريبة… وهكذا، ألا يبدو هذا من وجهة نظر عتبات النص، وكأنه مشهد سينمائي واحد، يقدمه الشاعر من خلال لقطات، تتراتب دلاليا وزمنيا؟ فالفترة بين 51 إلي 67 أطول من الفترة بين 67، و72، لذا يقل عدد القصائد ويكثر بين هذه التواريخ التي لها دلالة حربية ونفسية عند المصريين، تبعا لدلالاتها.

ويأتي ديوان "مياه في الأصابع (21) لأحمد الشهاوي محاولة للكشف عن ملامح شعرية العمل الواحد،أو ديوان الحالة عبر تمفصلات العناوين الرئيسة للأعمال المتضمنة في المياه، فإنها تبدأ بـ " ركعتان للعشق "،وفي تقنية سردية، يبدأ النص الأول بفتح قوس يتضمن مساحة من سرد مسكوت عنه، تكشف عنه حركة الفعل في صيغة المصدر بسين الاستقبال :

سأظل منغرسا بقلبك

ثم في حركة سردية أخري، يبدأ قوس آخر يتضمن مسكوتا عنه أقل مساحة من سابقه، ولا ينغلق كلاهما، حتي نهاية العمل " المياه". وتتنوع الحركات السردية ما بين حركة البداية ( سأظل منغرسا بقلبك )، وحركة النهاية، نهاية نصوص ركعتان للعشق :

لكنه التعب

أسكنَ سيقانها غرفتي

ووزع أوراقها وجهتي

وغرس أثمارها في الكتب .

وإن كانت هذه هي حركة نهاية نصوص الركعتين، فإنها تتصل بنصوص العمل التالي لها ( الأحاديث - السفر الأول )، والذي يبدأ بحديث الفناء :

«كل نفس تفني »

وتبقي المنازل

محفورة بالسكوت

تزول الزوائل

يبقي الفتي

يحصد العنكبوت.

وتنتهي نصوص السفر الأول من الأحاديث بحديث الوطن :

والله ما جئناك يا وطني

إلا لنشرب نخب حسرتنا.

لتبدأ نصوص السفر الثاني من الأحاديث بحديث الأحاديث :

انس الخيانات كلها

وأمسك جمرة

هي بعض موتٍ.

وتنتهي بحديث الهزيمة الذي تأتي خاتمته :

كيف أرفع رأسي إليك

وفي البحر غيمٌ،وكأسٌ،وجسدٌ،وردٌ

وإشراك، وتوحيد، وإشراق ، ونيل نازف

وكبدٌ وَدَاعٌ .

لتبدأ نصوص كتاب الموت بخطاب إلي الموت يرتبط بالوداع الذي انتهت به نصوص الأحاديث :

أجِّل لثانية

مجيئك

كي أجيء

محملا بروائحي .

وينتهي كتاب الموت ليبدأ " قل هي " بإيحاء إلي الانتقال لعالم آخر بعد الموت :

كأنني لم أكن

كأنهن ماء

كأن الذي شفته عدم

كأن المكان الذي رحته صفر

كأن عينيك حارتا اختيار مكانهما

كأن الكون يركز في فمك.

ولا يخفي بالطبع الارتباط في الحالة الشعرية بين نهايات النصوص، وبدايات التي تليها، ونهايات الدواوين، وبدايات التي تليها، حيث يمكن في هذا السياق رصد رحلة كشف شعري يؤرخ لها الشاعر عبر حالات تبدو متعددة، ولكنها في حقيقتها حالة واحدة.

وفي تجربة سابقة علي الشهاوي يعمد أمجد ريان للتجريب في بناء العمل الواحد عبر ديوانه "أيها الطفل الجميل اضرب(31)، والديوان يتكون من قصيدة واحدة ـ وإن تعددت مظاهر تقسيماتها ومقاطعها ـ تدور حول حركة الانتفاضة الفلسطينية، ومن ثم ترصد في مشاهد تميل في شعريتها إلي السرد، ترصد مشاهد حياة أطفال الانتفاضة، ومشاهد العنف والقهر وسخرية الحياة في ظل الاحتلال، يقول :

البومة ترقد بين الشظايا

والمدي أعلام من الخِرَقِ

كانوا يصفقون بالأحذية

وكنت أسأل:

هل للأفق باب آخر؟( ص39)

ثم يأتي سمير درويش في ديوانه "الزجاج(41)، وهو ديوان من قصيدة واحدة ليؤكد علي هذه الحالة الواحدة، باستخدامه لضمير الأنا في تحولاته عبر التقسيمات الموضوعية التي يفصل بينها فقط الفراغ الطباعي أعلي الصفحة قبل كل مقطع، ما يكاد يكون سيرة ذاتية للشاعر، هذه السيرة التي يبدؤها الشاعر في بداية الديوان بمقطع من رواية فؤاد مرسي "شارع فؤاد الأول"، ومنها يدخل إلي سرد سيرته الذاتية عبر مشاهد سردية غالبا ما تبدأ بحديث عن الآخر، ثم تتحول إلي ضمير المتكلم حوالي منتصف المقطع، وذلك عبر 94 مقطعا هي مساحة الديوان الذي كتب عبر أربع سنوات، وعلي الرغم من ذلك فهو حالة واحدة، يقول :

عندما تختلط الدهشة

بموجات السحب

الحلم بموجات أسطورية للجغرافيا

الصخور بالغابات

شلالات السيول بأجساد صغيرة

تعري فصول التاريخ

والأبيض الطيني بالأسود القطني

أكون قد دخلت إحدي ممالك "رع"

متوجا

أسكن الحكايات

وتسكنني قطيفة الأجساد

وريش النعام (ص26) .

التجريب علي مستوي نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع

والتراجع عن قوانين النقاء والوحدة، وهو اتجاه يؤمن بأن النص هو كتلة أدبية واحدة، تتجاور فيها مستويات الخطاب، وتتفاعل فيها تقنيات التعبير وأساليبه المتعددة، حيث لا يمكن التمييز بين ما هو شعري، وما هو نثري، ويلعب السرد بآلياته في هذا الاتجاه دورا كبيرا، إذ يعتمد النص تقنيات تعدد الخطاب، وتعدد الضمائر وتحولها، والاتكاء علي تحديد عناصر المكان والزمان والحدث. كذلك يتدخل المنولوج والحوار بمستوييه الداخلي والخارجي، والبناء الدرامي القصصي، وتعريف الشخصيات بصفاتها وأفعالها وربما بأسمائها، والوصف بتشخيصه للأشياء، وتصوير مدي ما تحدثه هذه الأشياء في النفس من استجابة.

ويتمثل هذا الاتجاه في قصيدة النثر، في قصائد مفردة، ودواوين كاملة اتخذت هذه التقنيات معيارا وأسلوبا يتم من خلاله بناء النصوص، يقول جمال القصاص في ديوان "السحابة التي في المرآة(51):

علي الذهاب إلي المرآة.

سوف لا أنتظر

بحذرٍ.

سوف تلقين أسلحتك

ليس للعطش رصيف

لحضورك الليلة طعم الغرابة، أختار شوكة الصبار،

الورم الخفيف في إصبعك يمنحني انطباعا سيئا عن

الصحراء، سأكتفي بالعصير، ليكن، أحب عبد

الناصر، الأسطورة لا تورث، يوما ما سأبتكر معطفا

للتمرد، لن يزعجك أن أجعل الحزام علي شكل حدوة

الحصان، أو خطي العنكبوت، …. إلخ النص ( ص 106 ـ 107).

والنص علي مستواه الشكلي يمزج بين شكل الكتابة الشعرية التي أقرتها جماليات الذائقة العربية مع قصيدة التفعيلة، من حيث طول السطر الشعري وقصره تبعا للدفقة الشعورية، والدلالة المطلوبة، وبين الكتابة النثرية والقصصية من حيث امتلاء السطر الطباعي للصفحة. أما علي المستوي المضموني، فإن النص يعتمد البني القصصية، وآليات السرد بدءا بالضمير السارد "أنا" الذي يمتزج أحيانا مع حركة الفعل، فيصير هو الفعل ذاته، ويتحول أحيانا أخري إلي ضمائر تكشف عن الذات الساردة.

ويقول حلمي سالم في سراب التريكو(61)

يروقني أن ألمح بعض علائم الشر

تحت حاجبيك الغليظين

ليست الملائكة من ضيوفي

ولكنني حين طلبتك في هاتف المالية

لم أكن أريد سوي أن أسمع:

آلو

ـ أيوه

مين. ( ص14)

ويتدخل البناء السردي القصصي والمسرحي في البناء الشعري، وبخاصة في الحوار التليفوني، ولكن يظل صوت الشاعر/ السارد هو المهيمن في إحداث التشاكل بين ما هو شعري، وما هو غير شعري.

إن هذه النصوص ـ وقد حافظنا علي شكلها الطباعي كما هو ـ تنحو إلي هدم الحدود الفاصلة بين الأنواع، إذ يتشكل النص في إطار المزج بين السردية التي قد تبدو أحيانا خالصة، ولكنها سرعان ما تتواشج مع الشعرية في بناء ينذر بهدم الموروث اللغوي، وخلق دلالات لغوية جديدة، وبناء شعرية أو شعريات معاصرة.

مبدأ استلهام التراثي وبعثه

لقد وسع الشعر - في مرحلة من مراحله - من بنية استلهام التراثي في بناء شعري علي المستويين الشكلي والموضوعي، حيث اتخذت مستويات التراثي في الشعري أبعادا أكثر تشاكلا نتيجة لتنامي إحساس الشاعر بالقلق والمعاناة الإنسانية، وتنامي الفوراق بين طبقات البشر، وتضخم الصراع الإنساني، ليس هذه المرة مع قوي الطبيعة، وإنما مع قوي الآلة والسلطة وأسلحة الدمار، وسيطرة المدنية بكافة تمظهراتها المقيتة بالنسبة له، لقد تنامي إحساس الشاعر بالعالم، الذي لم يعد يراه صافيا رائقا كما كان قبلا مع الأجيال السابقة، وإنما أصبح قاتما مرعبا،ومن ثم جاءت تجربته الشعرية انعكاسا لرؤيته الحياتية وتعبيرا صادقا عنها، وبحث الشعراء عن مخرج من هذا الضيق النفسي الجاثم علي الصدر،فهرب بعضهم إلي الطبيعي والواقعي، وبعضهم إلي الفلسفي،وبعضهم إلي الأسطوري، ولكنهم اجتمعوا تقريبا علي اتخاذ الديني والتراثي مرجعية شعرية، ومن ثم كان أحد المظاهر المهمة في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة اللجوء إلي الخرافة والأسطورة، و الرموز والنصوص الدينية .

وتعمل آلية استلهام التراثي علي إعادة تأويل واكتشاف ذلك التراثي ثم العمل علي بعثه من جديد، في إيقاع جديد ولغة تواصل جديدة. وأحيانا شكل فني جديد، وهنا يلعب التناص دوره علي مستويات ثلاثة: ( تناص مع تراثي - تناص مع عناوين وأعمال أدبية - تناص مع مثل شعبي سائر).

وفي كل المستويات الثلاثة، فإن التناص هنا ليس مجرد استحضار لأصوات، ومواقف، وأحداث تراثية، ولكنه يكون في إطار منحها دلالات وإسقاطات معاصرة تعبر عن رؤية مؤلفيها، مثل استحضار الموقف الصوفي العرفاني، كما تمثلته الشعرية المعاصرة في بحث عن روحانية لا تنتمي إلي الموقف الديني انتماء خاصا بقدر ما تنتمي إلي ما وراء الموقف الديني، أي الروحانية، تلك الروحانية التي غدت تمثل مأزقا للحداثة المعاصرة. ويتمثل التناص مع التراث الديني في كتابات مثل: فريد أبو سعدة، ومحمود نسيم، وأحمد الشهاوي، وجرجس شكري، وعبد الناصر هلال.

ويأتي ديوان "ذاكرة الوعل" لفريد أبو سعدة معتمدا علي إعادة صياغة أساطير قديمة، وخلق أساطير حديثة، حيث قسم نصوصه إلي دفقات، كل دفقة تتشكل في هيئة طلسم سحري يتوازي مع الدفقة الأخري،مثال ذلك :

الدفقة السابعة ( إيزام )

يومها : السبت . كوكبها : زحل . معدنها: الرصاص . ملاكها : كسفيائيل .

والسفلي : ميمون . حرفها : الزاي .

" قالت : هكذا أتم الرب حكمته

قالت : وهكذا تخيم الظلمات علي كل شيء

قال : العالم كله سكون

قالت : لأن من خلفه يرتاح في سمائه .

حيث تجتمع عناصر متعددة تنتمي إلي أكثر من حقل أسطوري وديني، فهو يبدأ في جو أسطوري متسائلا فيه عن الصمت والموت، والليل الذي يغمر النار، و الحاجة إلي البطل أو المخلص أو المضحي. وهو ما يتناص مع: المسيح المصلوب علي اللوح، وبروميثيوس الذي سلطت عليه الآلهة - عقاباً له- طائراً ينهش كبده، ويختلط البناء الأسطوري القديم مع ما هو معاصر، ليشكل عالما تكاد لا تستطيع فيه ملاحقة الانتقال بين الماضي والحاضر، ولكنه يتغيا شكل السرود الأسطورية كما كانت عليه .

وفي اعتماد علي تيمة السحر، التي تعطي إيحاء بالسحري أو العجائبي، وإعادة خلقها في تشكُّل يجسد لصراع الذات/ الأنا مع السلطة المهيمنة والمرتكزات التي يري الشاعر أنها ليست منتظمة ذلك الانتظام المعروف عنها، يقول فريد أبو سعدة في "أهوج" من ديوان "ذاكرة الوعل":

هش لها رقيائيل وأجلسها معه علي الكرسي: مريني تجديني من القادرين

قالت: جمعت أشلاءه من الجهات وروحه في

بماذا أبدأ

قال: عناصره يصهرها الماء الحار، دموعك

ستة أيام (ص7).

ويستدعي هذا المقطع أسطورة إيزيس وتجميعها لجسد أوزيريس من ولايات مصر الاثنتي عشرة التي وزعها عليها ست إله الشر، إلا أن الشاعر يبني حول الأسطورة طقسا من السحر الشعبي، وكأنه يكتب رقية أو تعويذة، وينقلنا إلي جو من السحري العجائبي. والديوان كله تهيمن عليه هذه البنية، بنية الأسطوري في جو السحري الطقوسي، وكأنه في معبد فرعوني قديم تغلفه طقوسية السحر.

يقول في "أواه" ( ص94):

للنيل يوم في السنة ينام فيه، والسعيد السعيد

من يحظي منه برشفة وهو نائم. لأنه سيمكنه

أن يثني العملة المدن بين إصبعيه أو يفركها

فيمسح صورة الملك.

والنص برمته إعادة صياغة لغوية للسحر الشعبي، الذي يروي هذه الحكاية، ولكنه يعاد بناؤه في نسيج مع الملاكة مهائيل، وسيطرتها علي النيل. والديوان في نصوصه كافة يعتمد بنية السحري، ويستخدم أسماء الملائكة التي ارتبطت به، مثل (رقيائيل/ جبرائيل/ سمسمائيل/ ميكائيل/ شهدائيل/مهائيل/كسفيائيل). وقد رصد الشاعر أسماء الله في اللغة السوريانية، وجعلها أسماء لقصائد الديوان (أهوج/ يوه/ هلهلت/ دوسم/ حوسم/ أواه/ أيزام). ويستمر توظيف السحري والعجائبي، وإعادة تشكيله

وعند محمود نسيم في" تداخل" من ديوان "كتابة الظل(71)، يقول:

مطوفا ـ

رفعت قائما من البيت لكي أشم ماء هاجر وحجر إسماعيل

آنست ابتراد النار في مقام إبرهيم.

واقتربت من دار أبي سفيان ـ آمنا قيامة العبيد.

فتنة الدين الجديد

وانتهيت للجبال والجبال

فهل سوي البترول والطلول ما استكن في الصحراء

واستوي علي محامل الجمال

وهل سوي سقاية الحجيج والحداء ما استخلفت

تلك نجمة القطب وأول المحاق. ( ص42)

فالشاعر يستعيد عبر قصيدته تاريخا كاملا من التراث العربي الديني، تاريخ هاجر، ونشأة البيت الحرام، وحجر إسماعيل، ونار سيدنا إبرهيم، وفتح مكة "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وفي حركة خاطفة، يمتزج فيها التراثي بالآني"البترول"، ثم يمتزج الآني بالتراثي مرة أخري "سقاية الحجيج"، ويتفتت البناء الزمني، لينقل النص من إطار السردية إلي مجال الشعرية، ليجسد لحالة العربي المعاصر صاحب هذا التراث العريق الذي يجوسه تاريخه، ويطرح السؤال، سؤال المحاق، والزوال التدريجي الذي تنمحي فيه مرتكزات الروح أمام التحول الآني للحياة(ص 43):

فلفتني سحابة

ولفني ولف صحراء الجزيرة الزوال.

ويقول أحمد الشهاوي في "حاء ميم" من ديوان " قل هي":

أردت موتي

وأنا الذي تجلت لغاتي في هتك سر بواطنك.

نزعت هيكل هدهدك

وطلبتني أن أستعير سفينة مثقوبة عافها بحر في الرمال.

أنا لست نوحا

كي أسمي البحر عمرا ضائعا

ولدي وقت

أقصر قامة من قبلة .(ص134)

فالبناء النصي لا يعتمد علي تقديم أسطورة أو رمز تراثي سابق، يستلهمه الشاعر ويضع حالة موازيــة لـه، ولكن النص يعتمد بناء قصة تتمحور حول إعادة بناء التراثي "سفينة نوح"، لرصد مشاهد الحيرة والقلق وطلب المستحيل، وهي السمات التي يتميز بها الإنسان المعاصر.

ويقول جرجس شكري في "عاليا عند الفرعونة" (81)

"مرثا" في ثوب أمي

تمنح كيس نقودها للمدعوين في حفلتي التنكرية

وهي تغسل الأطباق وتعد الشاي

تغمز لي بقبلتين فتطول لحيتي إلي الأرض

"لعازر" الخارج لتوه من القبر بعد أربعة أيام

يدخن بلا أسنان

محتفظا تحت سرواله بعروستي الشمع

… أسرعي يا مرثا

حمروا الطائر

ناقَشوه حتي لحمه العاري

فطار عاليا

رأينا ريشه يسقط من الضحك. (ص50، 51)

حيث تعود مرثا ولعازر، ليس في إطار وظيفتهما القديمة، ولا تراثهما المتعارف عليه، ولكن في تشكل يرتبط بمظاهر الفقر والحرمان والقهر المعاصر، ويبدو موقف الإنسان الحائر بين إيمان بالسماء ومحاولة الفكاك التي تنتهي بالقهر أيضا.

ويأتي المستوي الثاني من مستويات التناص، وهو التناص مع عناوين، وهو ما يكثر عند حلمي سالم، وبخاصة في ديوانه "الواحد الواحدة":

ومرة: الحياة من غيرك حبلي بالمسرات

ومرة: نحن أسطورة الحب في زمن الكوليرا.(87)

ويقول في "كوكب الصفح" (ص91):

عندئذ:

أدركت أن صمت الحملان مكنوز بالدسائس

وثم ثعلبة

فسألت: هل رعيت كوكب الصفح؟

ويقول في "ودع" (ص70):

ربما صارت مقابض الفضة أشهي من :

"الوتر والعازفون".

فالحب في زمن الكوليرا، رواية لماركيز، وصمت الحملان فيلم سينمائي، والوتر والعازفون كتاب نقدي في الشعر للشاعر نفسه.

أما المستوي الثالث من مستويات التناص، فهو التناص مع مثل شعبي سائر، وإن كان بإعادة تشكيل، وهو ما نجده أيضا في ديوان "الواحد الواحدة":

تلمع فوق المرايا الفتوحات مدهونة بالصحبة

والنفس أمارة. ( ص32)

ويقول في "تاجر الملوح" :

عشرون كمنجة في الجلد وبروحي في التنفس:

علي خده يا ناس مائة وردة

انصرف القائد دون بلادي بلادي. (ص92)

فالنفس أمارة، مثل مأخوذ مما يجري الآن مجري الحكمة / المثل "النفس أمارة بالسوء"، وكذلك علي "خده يا ناس مائة وردة" أغنية ذائعة، مع إحداث تحوير لها إلي الفصحي، وهو ما يشي بهيمنة التراث الشعبي، وتداخله مع النص لتجسيد تاريخ طويل من الإنسانية وخبراتها.

أبعاد وعناصر السرد بين القص والشعر

ثمة انتقال دائم لعناصر السرد من القص إلي الشعر، وعناصر الشعرية من القصيدة إلي القص، وهو أمر لا يمكن تصوره بمفهوم الكتلة التي يجب عليها أن تنتهي في حدودها لتبدأ حدود كتلة جديدة، ولكن يمكن تصوره بمفهوم التيارات الهوائية التي تتداخل فيها ذرات الماء والتراب والهواء والضغط الجوي، والساخن والبارد لإنتاج كتلة، قابلة نوعا ما لتكشف بعض عناصرها، ولكنها غير قابلة للتحلل مرة أخري، لأن المساس بعنصر منها يغير من حالتها التي هي عليها إلي حالة أخري لها ملامح مغايرة.

في هذا السياق يمكن رصد بعض الملامح السردية في انتقالها للشعر، وبعض الملامح الشعرية في انتقالها للقص .

السرد الشعري

زاد الاهتمام بالسرد في عصرنا الحاضر، نتيجة للسعي وراء مضامين جديدة للنص الشعري، فكان أن نشأ ما يمكن تسميته بالقصيدة الديالوجية التحاورية المتعددة صوتيا، التي لا تكتفي بسرد المتكلم، وإنما تجمع صوته بأصوات أخري، وبمظاهر سردية متنوعة ما بين رؤية من الخلف أو رؤية مشاركة، أو خارجية " ومع هذه التعددية الصوتية تتعدد أبعاد الزمن وأشكاله، فليس الحاضر استكمالا لماض رتيب في خط تعاقبي يرافق التوترات والتسبيب السردي ضرورة، كما أن المستقبل لا يحمل بذرة البشارة أو الوفاق حصرا (91).

ومعني هذا أن السرود قد تحتمل التنقلات الزمانية وتناوبات القص، وقد تلجأ إلي الاسترجاع والتناص، وقد تدمج الإيقاعين الزماني بالمكاني، وتستبطن اللحظة وتعمقها في زمان آخر جديد، أو قد تلجأ إلي مجاورات مكانية وزمانية بالاتكاء علي خطابات أخري فقهية أو قصصية أو روائية، وربما مقولات فلسفية، فالسرد العربي الحديث أصبح يجاري إحساسا بتوترات العصر، وقضايا الإنسان المعاصر في مدنية تشهد تخلخلا في البنية الموضوعية للثوابت، وضربا لكثير من القيم والمرتكزات التي كان ينطلق منها الإنسان .

ويمكن رصد العناصر السردية التي اعتمدها الشعر، وبخاصة القصيدة المعاصرة بدءا من تشكلات الشعر التفعيلي علي النحو التالي(02)

1- الراوي ( الرؤية ) بمستوياته : راو خلفي، راو مشارك، وهو الشاعر / البطل / الراوي ( الشخصيات ) .

2- اللعب بالضمائر: (من الغائب للمخاطب /من المفرد إلي جمع المتكلم /… إلخ ).

3- الحدث/ الأحداث : سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، ويرتبط بها اختفاء وظهور الأفعال .

4- الزمن: بأشكاله ( الملحمي - الأسطوري - الميقاتي - الموضوعي - الفني).

5- الوصف: مع تثبيت أو تحريك عنصر الزمن .

6- تعدد الخطاب : وتحوله إلي حوار داخلي أو خارجي، وتعدد الأصوات والحوار .

7- تحديد المكان .

8- تعريف الشخصيات بصفاتها وأفعالها وربما أسمائها .

9- الخروج علي الإيقاع والمجاز والاستعارة .

10- التنظيم السردي.

11- الإيقاع العروضي لما يحتويه من زمن، وهذا ما يؤكده التنوع العروضي للبحر الواحد ما بين تام ومجزوء ومشطور ومنهوك، إن هو في النهاية إلا استجابة لعنصر الزمن.

1- السرد الشعري : الراوي / السارد - السرد الروائي : السرد الداخلي (سرد الذات) :

وهو أحد العناصر الرئيسة التي يعمد السرد إلي الكشف عنها من خلال رصد موقف الراوي من شخصياته، والذي لا يخرج عن أن يكون واحدا من مواقف ثلاثة(12)، هي:

أ- الرؤية من خلف ويستخدم الحكي الكلاسيكي غالبا هذه الطريقة "ويكون الراوي عارفا أكثر مما تعرفه الشخصية الحكائية، لأنه يستطيع أن يصل إلي كل المشاهدين عبر جدران المنازل، كما أنه يستطيع أن يدرك ما يدور بخلد الأبطال، وتتجلي سلطة الراوي هنا في أنه يستطيع مثلا أن يدرك رغبات الأبطال الخفية، تلك التي ليس لهم بها وعي هم أنفسهم "(22) وتستخدم الرؤية من خلف صيغة ضمير الغائب "هو" .

ب- الرؤية المشاركة (الرؤية مع): وتكون معرفة الراوي هنا علي قدر معرفة الشخصية الحكائية، فلا يقدم الراوي أية معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها ويستخدم الكاتب في هذه الرؤية ضمير المتكلم أو ضمير الغائب،و الراوي علي هذا الأساس إما أن يكون شاهدا علي الأحداث، أو شخصية مساهمة في الحكاية نفسها (القصة ).

ج- الرؤية من الخارج: ولا يعرف الراوي في هذا النوع إلا القليل مما تعرفه إحدي الشخصيات الحكائية، حيث يكون الراوي هنا موضوعيا لا يستطيع أن يقتحم قراءة نفس شخصياته فهو يعتمد علي الوصف الخارجي أي وصف الحركة و الأصوات و المشاهدة الحسية .

وعلي هذا الأساس يمكن رصد مظاهر حضور السارد في نصه بالبحث عنه وتتبع صوته، وللسارد عادة طريقان : إما أن يكون خارجا عن نطاق الحكي، أو أن يكون حاضرا بذاته داخل نطاق الحكي ومشاركا فيه . وقد كان السارد في الخطاب النثري القديم، والخطاب الشعري الشعبي يأخذ شكل القول : قول الراوي، ولكنه مع المداخلات الحديثة للأدب اختفي الراوي لأنه لم تعد الحاجة ماسة إلي افتراض وجود شخصية تروي النص، ومن جهة أخري فقد اختفي الراوي الذي تطغي معرفته علي معرفة شخصياته.

أما في الشعر فإن الأمر يختلف، حيث يمتزج المؤلف الحقيقي مع المؤلف الضمني الذي يصنعه الكاتب في خطابه الشعري، فالنص الشعري قد يعتمد علي شخصية واحدة ساردة تروي الأحداث، وتسرد الأحاديث والصفات والأفعال والأفكار .

وبهذا فإن الشاعر / السارد يروي تجربته هو علي مستوي النص، وهذا ما تؤكده النصوص التي تعتمد السرد بنية لها .

يقول أمل دنقل في قصيدة " العار الذي نتقيه (32)

هذا الذي يجادلون فيه

قولي لهم من أمه، ومن أبوه

أنا وأنت ..

حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت !

لكنه ما مات

عاد إلينا عنفوان ذكريات .

فالشاعر يسرد تجربته هو، معتمدا علي شخصيته الساردة للأفعال والأحداث، وإن كان منطق الحكي ذاته يعتمد في هذا المقطع علي ثلاث شخصيات تجسدها الضمائر " أنا، أنت، هو " فإن ذلك يدخل في إطار الشخصيات الحكائية نفسها، وليس في إطار مظاهر حضور السارد، فالسارد هنا شخصية واحدة، عالمة بالحدث، ولكنها ليست عالمة بنفسية شخصياتها، حيث يمثل الرؤية المساوية ( الرؤية مع ) التي يكون استكشافها للأحداث مساويا لاستكشاف الشخصية المحكية لها، وبالتالي مساوية لمعرفة المتلقي، ولتأويله، وهنا تنبغي الإشارة إلي الرمز ودوره وعملية السرد الشعري باعتباره عاملا مختزلا للأحداث ، يحمل شحنات مكثفة تكشف عن ذاتها أو بعضه بتكشف الرؤية الشعرية.

إلا أن الشاعر قد يتخذ موقع الراوي / السارد الخلفي الذي يستتر خلف شخصياته التي قدمها من خلال نصه وهو ما يكون عندمــا يتخــذ الشــاعر صــوتا مصـاحبا علي سبــيل التــنـــاص the inter text wealthy يتحدث من خلاله، وهي الظاهرة التي كثرت مع شعراء جيل السبعينيين - إن جاز التعبير(42)- حيث الاتكاء علي ظاهرة التناص، واستحضار الأصوات المصاحبة، التي تعزز صوت الراوي / الشاعر، وهو ما يمكن تحليله من جهة علي أنه اعتماد لبنية السرد من خلال الاختفاء خلف شخصية يسرد من خلالها الأحداث، يقول صلاح عبد الصبور في قصيدة : " مذكرات الصوفي بشر الحافي (52)

حين فقدنا الرضا

بما يريد القضاء

لم تنزل الأمطار

لم تورق الأشجار

لم تلمع الأثمار.

والصوفي بشر الحافي هو أبو نصر بشر بن الحارث، كما يعرفه الشاعر فمثل هذه البنية السردية تقتضي من الشاعر أن يقدم تعريفا مسبقا في بداية القصيدة وبشكل نثري عن شخصيته التي سيسرد من خلالها الأحداث، مثلما نجده عند أمل دنقل " أقوال جديدة عن حرب البسوس " وتعريفه لشخصية " كليب " التي سيسرد أحداثه من خلالها وبالطبع فإن مثل هذه الشخصيات التي يختفي الكاتب وراءها لا تعبر عن وجهة نظرها هي ولا تتحدث عن تاريخها الماضي، ولكنها تعبر عن وجهة نظر الشاعر / السارد الحقيقي، والتاريخ المعاصر للأحداث ، فالسارد بشر الحافي يرصد لتغيرات الأوضاع في زمن حل به الجدب الروحي والأزمات الاقتصاديه، وبالجملة ساءت الأحوال لأن التطلع إلي الترقي غدا غير مساو للواقع المجدب فاتسعت الهوة، وفقدنا الكل، وغير خاف أن الشاعر / السارد يتضح صوته ضمنا من خلال بنية الفعل ( فقدنا ) حيث (نا) الدالة علي المتكلم، وهو هنا يشمل تكلم السارد بشر، والسارد الشاعر، وعامة الشعب ممن يتكلمون وعيا ثقافيا لمتغيرات الأوضاع، بل إن الأمر يتعدي ذلك إلي مشاركة المتلقي في السرد بتضمينه في هذا الضمير المنفتح " نا " الدالة علي الفاعلين .

ويدخل في هذا الإطار أيضا توظيف الشخصية داخل النص الشعري ( بالاسم - بالقول - بالفعل ) كأحد مستويات الاستشكال الديني، حيث يرد التناص عبر النص الشعري من خلال استحضار شخصية دينية / تراثية، باسمها، أو باستيراد مقولة مشهورة لها، أو باستدعاء فعل اختصت به،فحين يستدعي الشاعر اهتزاز النخلة، فالمخصوص به هو العذراء مريم،وحين يستدعي الغار واليمام فالمخصوص هو محمد عليه السلام، وحين يستدعي الطوفان،فالمخصوص هو نوح عليه السلام ..... وهكذا .

وهذا النوع من التناص يكاد لا يخلو منه شاعر تفعيلي عبر مشروعه الشعري، فهو الأكثر ورودا واستعمالا، إذ ما من شاعر إلا وله علاقة ما بشخصيات تراثية ودينية رأي فيها ما يعبر عن تساؤلاته هو تجاه الكون والحياة والمصير، ورأي فيه نموذجا تبني القضية التي تشغله أو جملة القضايا، ومن هنا أيضا يكون الحديث عن مقطوعة لشاعر تناص فيها مع شخصية دينية غير كاف للتعبير عن تناوله ونصوصيته مع هذه الشخصية،وبخاصة إذا كان قد تعامل معها أو استدعاها عبر مراحل متتالية، أو أعمال متنوعة،ففي الغالب الأعم فإن الشاعر عندما يستدعي شخصية فإنه يكون علي صلة قوية بها،من خلال دراسته لها دراسة مستفيضة عبر تزامنها التراثي والديني، ومن ثم فعلي المتلقي أن يكون علي دراية بملامح هذه الشخصية، ذلك لأن الشاعر عادة ما يراوغ في تقديمها عبر نصه الشعري، فقد يضيف إليها أعمالا، ويستنطقها أقوالا لم تكن لها، ولا لغيرها، ومن ثم فإن مرجعية تعرف هذه الشخصية لا يمكن بحال أن تكون إلي الشعر، فما يقدمه الشاعر إنما هو ما يراه أو يريد للمتلقي أن يراه في هذه الشخصية .

إن الشخصية في الشعر تقوم بدور مزدوج، ولكنه ليس مكتملا في كلا الحالين، فهي تحمل بعضا من ملامح دورها القديم، وتكتسب بعضا من جديد يضاف إليها عبر تشكيل الشاعر لها، ولكنها في كلا الحالين تقدم رؤية جديدة للمتلقي ،وقد تكتسب أبعادا لم تكن لها في الأصل ولكن أضافها إليها الشعر، وتمر عليها الأزمان فتصبح لصيقة بها وكأنها نشأت في الأصل عليها، وكثير من الشعراء أعاد بناء شخصيات لم يكن لها ذكر في التاريخ الثقافي، إلا أن العجيب حقا هو ما قام به بعضهم من تكوين لشخصيات لم تكن موجودة من قبل،ومن ثم جعل لها تاريخا دينيا وثقافيا، وحملها بمواقف وأحداث،إلي الدرجة التي يصعب معها الفصل فيما إذا كانت بالفعل من وهم الشاعر واختلاقه أم أنها شخصية هامشية.

وعند النظر إلي مستويات تعالق النص الشعري مع الشخصية- وهو ما ينطبق علي الشعر المعاصر بعامة - فإننا نجد أن الشخصيات تأخذ مساحتها النصية علي مستويين :

المستوي الأول : شغل كل المساحة النصية للنص، أي أن الشخصية تكون هي المحور الذي يدور حوله النص، وإن لم يكن ذلك منصوص عليه في العنوان .

المستوي الثاني : شغل الشخصية لجزء من المساحة النصية،تطول وتقصر تبعا للبناء النصي، وهو ما يكثر عنه في النوع الأول، إذ كثير ما يحتاج النص لأن يستدعي شخصية ما تعضد المقول الشعري أو تنفيه أو تستعير حالته .

ثانيا ـ السرد الروائي : السرد الداخلي (سرد الذات)

وهو يمثل نمطا مهما من أنماط شعرية الرواية، فيما يمكن تسميته بكتابة نص الحالة، وهو نص مفتوح المواجع والمسارب، ولكنه يقوم علي نواة محورية غائرة ،هي مساءلة الذات الفارقة تاريخيا وأسطوريا.

ففي سرد الذات تبدو الحكاية فيه - إن كانت هناك حكاية تحكي علي نحو مألوف - تبدو كما لو كانت نصا شعريا غنائيا - بمفهوم الذاتية - يعبر فيه الروائي - الشاعر - عن علاقته بالكون والحياة والأشياء من حوله، ويناقش رؤاه وفلسفته ،ويطرح أسئلته، وهمومه الفكرية، يعرض لعذاباته، وأحلامه، وأمله ويأسه، لغضبه وفرحه، لتشكلات حالات الوعي لديه،لانغماسه في حياة يمارسها ربما دون أن يعرف هويتها .

تجاوزت الرواية المعاصرة هذه المرحلة كلها بعد أن استوعبت إنجازاتها، وتمثلتها حتي غدت هذه الإنجازات اليوم، مأخوذة مأخذ التسليم، وسارية في جسد النصوص الروائية مسري المقومات الأولية التي هي من فرط كونها أساسية قد أصبحت منسية وفطرية تقريبا.

ويدخل في هذا الإطار روايات معاصرة، منها تصريح بالغياب لمنتصر القفاش، وكلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد، ودائما ما أدعو الموتي لسعيد نوح، ولون هارب من قوس قزح لمني الشيمي، وفصول من سيرة النمل والتراب لحسين عبدالعليم، وغيرها من الروايات التي تسعي لخلق أوهام شعرية جذابة ومثيرة ويظهر فعل الكتابة فيها قلقا علي الدوام، فعلا مساويا للفجيعة ومعوضا لها في آن. ومن ثم فإن عالم السرد في الرواية لا يحيل علي وقائع فنية لها بعد يتصل بأفعال الشخصيات، إنما يستعين بالإنشاء الشعري الذي يقف عند حدود رصد حركة الآخر دون الالتحام،فالراوي يتحرك بين شخصياته الكثيرة والمزدحمة ازدحام المناطق التي يحكيها ,والتي تمثل الشريحة الأغلب من المجتمع، ويغوص في أعماقها متغنيا بها، معلنا عن حالاتها المتعددة بين الحياة والموت .

الوصف الشعري والوصف السردي

السرد عند جينيت متضمن في الواقع وإن كان بنسب متفاوتة، «فكل سرد إلا ويتضمن في الواقع بنسب متفاوتة جدا مع أنه متنوع وشديد التراكب، فهو من جهة أولي يتضمن عروضا لأفعال وأحداث هي التي تشكل السرد بمعناه الخالص، و يتضمن من جهة ثانية عروضا لأشياء و شخوص هي نتاج ما ندعوه اليوم وصفا(62).

وهو بهذا يميز بين الوصف والسرد ويري أن تضمين فقرات وصفية داخل جنس سردي يكشف عن مصادر ومتطلبات الأسلوب، فالوصف أكثر لزوما للنص من السرد لأنه من السهل الوصف دون الحكي من الحكي دون الوصف " ربما لأن الأشياء يمكنها أن توجد بدون حركه علي عكس الحركة التي لا تستطيع أن تكون بدون أشياء(72).

فالسرد علي هذا الأساس لا يقدر علي تأسيس كيانه بدون وصف إلا أن الوصف ليس سوي خادم ملازم للسرد، ومن جهة أخري يربط العلاقة بين السرد والوصف بالوظائف الحكائية أي للمهمة التي تنهض بها الفقرات أو المظاهر الوصفية في الشكل العام للسرد و هنا يحقق الوصف وظيفته الثانية و هي التفسير وإعطاء الرمزية للمشاهد السردية .وبهذا التصور تصل البنيوية إلي ذروتها بالنموذج الذي قدمه " جينيت " لما يتميز به هذا النموذج من يسر في تطبيقه علي النص القصصي / الروائي، و لما يحتويه من نضج في تكوينه و قد كان هذا النموذج هو المثال الذي حاول النقاد والدارسون العرب تطبيقه عند تحليلهم للقصص العربي و يري " جينيت" بناء علي فكرة الفعل المستعارة من الفكر الفرنسي و التي تحدث عنها " بارت " أن النص الروائي يحتوي علي ثلاثة مستويات :

- القصة Story - الخطاب Discourse - السرد Narration

والقصة عنده هي " المداول أو المضمون السردي (82) أي العالم الخيالي الذي يسعي القاص إلي نقلة للقارئ عن طريق اللغة .

أما الخطاب فهو "المستوي القولي الملفوظ أو المكتوب الذي يستخدم لاستحضار القصة أو تشييدها و للخطاب زمانه الخاص الذي يختلف عن زمان القصة وله مكانه و حجمه و اتجاهة الذي يختلف عن مكانها و حجمها و اتجاهها (92) وعلي هذا الأساس إذا كان ترتيب القصة يحكي ترتيب و وقوع الأحداث في الزمان فإن ترتيب وقوع الوحدات القولية يحكي الموقع التعبيري الدلالي الذي يشبه مواقع الكلمات في الجملة و مواقع الجمل في العبارة .أما السرد فهو "الهيئة التي يبني عليها قص الأحداث مثل : زاوية الرؤية و طرق التقديم أو الاستحضار و الأصوات السردية و غير ذلك(03).

يعد الوصف أحد العناصر المكونة للخطاب السردي، بما يقدمه من تشخيص للأشياء والأشخاص والأماكن، في مقابل السرد الذي يقدم تشخيصا للأعمال والأحداث ذاتها، ومن هنا نتبين الفارق بين الوصف والسرد في أن كليهما يقدم رؤية تخيلية، إلا أن السرد يتضمن الوصف، في حين يمكن اعتماد الوصف بذاته، وتتضح المفارقة أكثر بتحديد وظيفة كل منهما، فالسرد يقدم وصفاً مع تحريك عنصر الزمن يقول أمل دنقل في الإصحاح السادس من سفر الخروج ( أغنية الكعكة الحجرية (13):

دقت الساعة الخامسة

ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب

ها هم الآن يقتربون رويدا رويدا ..

يجيئون من كل صوب

والمغنون - في الكعكة الحجرية - ينقبضون

وينفرجون

كنبضة قلب !

فالشاعر يصف حشداً لطلاب متظاهرين أمام جامعة القاهرة، وهم ينفرجون وينقبضون مثل الزهرة التي تنفتح وتنغلق، وكنبضة قلب واحد، ويصف الجنود بدروعهم وخوذاتهم وهم يقتربون من المتظاهرين ومع هذا التوصيف الدقيق فإن عنصر الزمن يتحرك معهم، والوقت يمضي .

أما الوصف : فهو تشخيص للأشياء والأشخاص، توصيف ولكن بتثبيت عنصر الزمن، وهو ما يمكن تسميته بالوصف الخالص،الخالي من الحركــة، يقول يوسف نوفل في قصيدة بعنــوان "عينا مصر " (23) :

عيناك وهول الكون، وهي قلبي

عيناك، وما خلف العينين هما : قدري

عيناك نشيد مكتوب وتباريح

عيناك دعاء وتسابيح .

فالوصف هنا يكتفي فقط بالتشخيص وتصوير " العينان "، إلا أن الزمن ليس له وجود، ولكن مثل هذا النوع من التوصيف إنما هو قليل حيث يفترض عدم استخدام الصيغ الفعلية، وعدم تحديد الزمن سواء داخلي أم خارجي، وهذا ما يصعب رصده في ديوان الشاعر - شلالات الضوء - فحين لا يورد الشاعر صيغاً فعلية دالة علي الزمن، فإنه يحدد الزمن الخارجي بدلالة تواريخ القصائد التي أوردها عقب كل قصيدة، وهو ما له دلالاته المعنوية حيث اعتمد الشاعر فيها علي الزمن المعكوس أي البدء من النهاية في حركة ارتداد إلي الوراء، وهو ما يدل في مجمله علي الحركة السردية ذاتها " فلاش باك".

والفعل والوصف في النص السردي يرصدان حركات النص وسكناته وهيئاته وقد اختلفت أساليب الوصف في السرد المعاصر عنها في السرد القديم، لاختلاف هيئته ولغته ووظيفته، فقد كانت وظيفة الوصف قديماً تتحدد في مجرد الإخبار عن الهيئات الموصوفة، أي نقل المعرفة من مخيلة المتحدث إلي مخيلة المتلقي، وهذا استجابة للمنهج الوصفي السائد، والحاجة إلي تعريف الموجودات، أما الوصف المعاصر فإن هدف الوصف ووظيفته قد تجاوز مجرد الإخبار إلي استحضار الصفات والأماكن والهيئات، وذلك بخلق رؤية جديدة للمواصفات، وهي في مجملها رؤية جمالية " استاطيقية " وذلك استجابة لتغير المنهج الوصفي، وسيادة فلسفات الرؤية الجمالية، والفلسفة الظاهراتية(33)، وبذلك انتقل الوصف من الإخبار إلي وصف الأشياء ليس علي ظاهرها التي هي عليه فقط، وإنما علي أساس ما تحدثه هذه الأشياء من صدي في النفس، ولا يعني ذلك مجرد الوصف من الحيوية، فالوصف علي هذا الأساس أصبح بإمكانه أن يحمل شحنات من المعني ومعاني المعاني، والتأويلات الدلالية للنص، وإمكانية إعادة قراءته برؤي مختلفة .

يقول نزار قباني في قصيدة بعنوان " أحبك .. أحبك .. والبقية تأتي (43):

حديثك سجادة فارسية

وعيناك عصفورتان دمشقيتان ..

تطيران بين الجدار وبين الجدار ..

وقلبي يسافر مثل الحمامة فوق مياه يديك .

ويأخذ قيلولة تحت ظل السوار ..

فليست هناك علاقة مباشرة بين الحديث والسجاد الفارسي، إلا أن هذه العلاقة يمكن تواجدها عن طريق التأويل، باعتبارها كامنة في الجمال المشترك لكليهما، وبنفس الوجهة يمكن رؤية العلاقة بين العينين والعصفورتين الدمشقيتين، والي هذا الوصف يكتفي بمجرد التوصيف، واستحضار الصور التخيلية ولكن مع غياب الزمن الذي يحدد ديمومة هذه الأشياء، ولا يعني هذا الوصف للحديث والعينين أنهما يتوقفان عند هذه العلاقات المذكورة، ولكن التوصيف هنا يتحمل تحميله بشحنات دلالية، ومعاني تأويلية تتعدد باختلاف مناحي القراءة، وأوجه الرؤي .

وقد تكون وظيفة الوصف تفسيرية تقدم توضيحاً للموصوف، يقول سعدي يوسف في قصيدة بعنوان " أوراق من ملف المهدي بن بركة (53) :

جاء رجل يرتدي معطفاً مطريا .. تلفت واجتاز

باب العمارة، ماذا يخبئ هذا الذي جاء أمس

أيضا . أفي المعطف الخبز والجبن والبرتقالة !

إنه الشخص ذو المعطف المطري .. الذي كنت فاجأته

مرة .. يدخل المشرب الآن .. يجلس قدام

بن بركة المتحدث .. يحكم نظارتيه وينزل

حافة قبعة الجزخ يشرب قهوته : رشفة

رشفة .. اكن ضابط أمن .

ويعتمد هذا المقطع من القصيدة الوصف الذي يأتي ليقدم توضيحا وتفسيرا للموقف، حيث يعتمد الشاعرعلي وصف الرجل ومعطفه المطري بل يتعدي ذلك ليؤكد علي رصد أدق الجزئيات في مشهد وصفي يعتمد السرد ليقدم تجربة حياتية يتلاحق المتلقي وراء جزئياتها الموصوفة، وبهذا الشكل لا يختلف المقطع عن أي سرد روائي. ومن جهة أخري يرتبط الوصف في تشكله بالمكان حيث يعد الوصف أداة من أدوات تشكيل صورة المكان، وهنا ينشأ الفضاء من التقاء كل من الوصف والسرد .

المفارقة الشعرية والمفارقة السردية

أولا: المفارقة الشعرية

أحد ملامح الشعرية المعاصرة، أنها شعرية التجريب. وإحدي السمات الفارقة التي تميز التجريب، أنه تجريب لا علي مستوي اللغة،وليس علي مستوي بناء الصورة فحسب، كما كان يحدث قبلا مع ممارسات الشعرية العربية عبر قرونها الطويلة، وإنما هو أيضا تجريب في أسلوبية كتابة النص ( بنياته ودواله وأدواته )،وفي موضوعاته، وما يمكن أن تحدثه من وعي مفارق، بما يمكن تسميته بصدمة التلقي، تلك الصدمة التي تعتمد في الأدب علي مفهوم المفارقة .

وإن كانت المفارقة في أساسها بنية سردية (63)، تتجلي أكثر ما تتجلي في الحكي، وبخاصة المقامات التي كانت تنتهي بطرفة، كما تتجلي علي نحو أوضح في النكتة العامية التي تحكي حكاية ما تفتؤ تنتهي بكسر لخط الحكي علي نحو ينقلنا فجأة إلي وعي مغاير وحالة مغايرة .

ومن هنا فإن التجريب في المفارقة الشعرية المعاصرة يمكن رصده من خلال:

- آلية اشتغال عقل الكاتب في إبداعه للنص،وما يمكن أن يرتبط بذلك من بحث عن آليات جديدة لإنتاج النص .

- وكذلك يمكن رصده من خلال التلقي، الذي يكشف عن وعي مفارق للوعي الجمالي السائد .

إن التعبير بالمفارقة يكاد يكون أكثر الأبنية انتشارًا في شعر الحداثة، ذلك لأن الشعر القديم في مجمله كان أحادي النظرة، بمعني إدراك جانب واحد من وجهي العملة؛ وذلك ناتج من اختفاء أحد الجانبين عند النظر إلي الجانب الآخر.

" هواء جاف يجرح الملامح " للشاعر مؤمن سمير، تتجلي فيه بنية المفارقة الشعرية، بوصفها بنية أساسية اتكأت عليها نصوص الديوان في إنتاج تدلالها العام .

ومنذ النص الأول " دوام " تتجلي هذه البنية لتكشف عن وعي بالتجريب، يقول :

لا فكاك من التقزز

صدقني

فأنت ستتخيل حالا

أن العقارب الثلاثة، تركب

فوق بعضها، بسوقية لا نهائية

وأن .. وأن ..

لكن ما يحزن في الأمر حقا

أنك ستموت بعد قليل .....

حقيقة بسيطة، لا يجهلها أحد،لكنها، وفي سياق بناء النص تأتي بوصفها صدمة تصنع مفارقة شعرية تعتمد علي آليات سردية،ومفارقة ترتبط بعالم ما خارج النص، وتضع المتلقي علي حافة السؤال المصيري، سؤال النهاية والعدم والموت، إن المفارقة هنا تنتج من العالم المنبني عبر النص (العالم الممكن ) بتعبير المناطقة، ذلك العالم الذي ليس موجودا خارج النص،ولكن أوجدته الكلمات.

وفي نص بعنوان "مشيئة " تتشكل المفارقة الشعرية من عدة مفارقات تأتي مفتتة في شكل وحدات سردية عبر النص،ثم تنتهي بمفارقة أشمل يختتم بها النص، ففي المقطع الأول، يقول :

الأم تهرع إليه قبل النزول

ترقيه

إحساسها بأنه المسروق لا محالة .

وفي المقطع الثاني :

الأب من أسفل العدسات

ينظر إلي الجيب المطرز، ويتمتم

بدعاء مكتوم .

وفي المقطع الثالث :

كلهم لا يسمعون الهاجس

وهو يقض مضجعه كل ليلة، بكل قسوة .

وفي المقطع الرابع :

لكنه يخرج في آخر العام، متخفيا، فيمر قرب الناصية

ظل البنت المضيئة

فيسرق

قلبه .

ثم تأتي المفارقة الأخيرة باعتبارها خاتمة، إذ في ظل هذا الجو المشوب بالتوجس والقلق، والألم وانتظار الموت، يمر به ظل البنت المضيئة فيسرق قلبه .

إنه الانحراف الدلالي الذي يعمد الشاعر إليه لكسر الألفة المعتادة، ومن ثم الخروج من المعتاد إلي غير المعتاد، وهي المفارقة الأبدية التي تتشكل بين الموت والحياة، حيث يبني النص فلسفته ويتبناها، ففي أعمق لحظات الموت تكمن لذة الحياة، وفي أعمق لحظات الحياة يكمن ألم الموت .

ومن هنا تعد أداة الاستدراك " لكن " تقنية أساسية في بناء النصوص،إذ المفارقة هنا تنبني من خلال الموقف والموقف المضاد .

وتتشكل آليات المفارقة في نصوص الديوان من خلال :

- أدوات الاستدراك والاعتراض وبخاصة الأداة " لكن " وتحولاتها .

- وتتشكل أيضا من خلال بناء الموقف والموقف المضاد، والصورة والصورة المضادة.

يقول :

حين سرت وحيدا

في هذا المساء الشتوي

اصطدمت بأربعة أشباح

كان كل منهم يسير وحيدا

في هذا المساء الشتوي

لكننا أصبحنا رفاقا حقيقيين

بعد أن أسر كل منا

للمحلات المغلقة

بأنه حزين ووحيد

في هذا المساء الشتوي .

فالأداة " لكننا " تفصل بين حالتين، الأولي لقاء الأشباح ووحدتهم في المساء الشتوي،والثانية هي الموقف المفارق المتمثل في الرفقة الحقيقية، وتكشف المفارقة عن بعد آخر خفي،هو الغربة والوحدة في المدينة التي يسكنها الأشباح، وهو ما تكشف عنه دلالات" المحلات المغلقة "، إن المفارقة هنا تعبر عن رؤية الإنسان الشاعر بالمدينة،وما يكتنفها من أبعاد غير مرضي عنها بالطبع كتحول سكانها لأشباح . وهو ما يشكل أيضا حالة من المفارقة مع الغائب المضاد للمدينة (قرية كان أم أي عالم آخر يرتضيه الشاعر ويجد فيه الرفقة ) ..

ثانيا: المفارقة السردية

النظر إلي بناء الأسلوب في شعرية الرواية ينبئ عن تمايز في بناء لغته المفارقة، من حيث يتم التلاحم بين الطرفين، ومن حيث تتم الرؤية للجانبين من زاوية واحدة.

إن الروائي يوظف المفارقة لحبك البنية الروائية علي مستويين:

- مستوي البناء العام والفكرة الشاملة التي تستند إليها الرواية وعلي مستوي بناء الموقف الجزئي لحدث ما يحمله بنية مفارقة.

وإلي المستوي الأول تنتمي كثير من الأعمال الروائية والروائيين، وبخاصة منتصر القفاش، وسعيد نوح، وسيد الوكيل، وحمدي أبو جليل، وغيرهم .

ففي روايات منتصر الققاش تتجلي المفارقة في عالم الكتابة منذ البداية في أعماله تصريح بالغياب، ومسألة وقت، ففي مطلع رواية "تصريح بالغياب (73) تدخل الذات الساردة إلي عالم الرواية في مشهد أشبه بالحلم، الكابوس، مشهد يقع علي مشارف الوعي : فالراوي يذهب إلي مكان عسكري ليلا ويوهم المتلقي بأنه ذاهب لاستعادة شيء ما (رواية تخصه)، ولكنه يواجه بمن يصرخ فيه للوقوف في خدمته (الشنجي ) ويصرخ هو محاولا الإثبات بأنه أنهي خدمته العسكرية، وينتهي الأمر بأن ينصاع .

إن الرواية تبدأ علي هذا النحو،وتنتهي دون أن تميز إن كان هذا الموقف برمته قد حدث أم لم يحدث. وتنبني المفارقة شعريا - علي هذا الأساس - في الرواية منذ مطلعها، ولكنها مفارقة لا تنتهي حتي انتهاء الرواية، مع ما يداخلها من مفارقات فرعية كثيرة .

وفي روايته "مسألة وقت (83) تتجلي المفارقة عبر البنية الرئيسة للحكاية، حيث تزوره فتاة، وتنام معه، وتترك بلوزتها عنده، وتأخذ بدلا منها أحد قمصانه، وفي اليوم الثاني يكتشف أنها ماتت غرقا في عبارة علي النيل قبل أن تزوره بثلاث ساعات، وتنبني الحكاية علي هذه المفارقة :

«لم يتأكد من وقت موتها إلا بعدما ذهب للعزاء، عرف أنها غرقت حوالي الساعة العاشرة صباحا قبل المجيء إليه، عثروا علي جثتها عند قاع النيل بعد خمس ساعات من غرق المعدية، ولا يعرف حتي الآن سبب تأخرهم في العثور عليها، هل لكثرة من تم انتشالهم من الأحياء والجثث، أم لتأخر الغواصين في الوصول إلي موقع الحادث، أم لأنها لم تعد إلي مكانها عند القاع إلا بعد مرور هذا الوقت ؟

تمني لو سأل والدها في العزاء عما كانت ترتديه حينما عثروا عليها . اكتفي بإعادة سؤاله عن الوقت الذي غرقت فيه المعدية .

- الساعة العاشرة تقريبا .

نظر يحيي في ساعته ليمنع نفسه من تكرار السؤال» .

أما عند حمدي أبو جليل في " لصوص متقاعدون (93) فالمفارقة تتخذ شكلا شعريا مغايرا، ومقصودا في آن من قبل الراوي،الذي يضع القارئ في عمق هذه المفارقة ... فأول ما يواجه القارئ/ المتلقي في الرواية هو عنوانها الذي يجمع بين متناقضين هما اللصوص والتقاعد؛ فهذا العمل تحديدا في مرجعيته الواقعية ليس فيه تقاعد، لأن التقاعد عنه لا يعني سوي الصلاح والتوبة، وهو أمر لا تطرحه الرواية ولا تقترب منه، ولا يشغلها مطلقا فكرة الحكم والتقييم، بل هي تقدم شخوصا اجتمعوا في منطقة واقعية بالفعل هي منشية ناصر التي بناها جمال عبد الناصر لعمال المصانع، إلا أن الشخوص ذاتها والأماكن لا توجد، وإنما الذي يوجد هو نمط هذه الشخصيات في أي تجمع سكني شبيه بهذه المنطقة. ومن هنا بدأت فكرة المفارقة بين المعاناة والإحساس بها، حتي صارت اللصوصية فلسفة حياة وأسلوبًا للالتفاف علي الواقع المهيمن. يقول في مطلع الرواية:

" افرض - مثلا - أنك تعيش حياتك كشخصية في رواية ما، وتأكد أن هذه الشخصية ماهرة في مداعبة قدراتك علي التحايل والكذب، وخبيرة في مصافحة أشخاص أنت مخلص في كرههم، عندها فقط ستدخل مباشرة في أجواء تجربة نادرة يحق لك التباهي بها (ص7).

يتعامل الروائي هنا بمنطق الكاشف الذي يضعك في عمق المفارقة منذ البداية، ويكاد يضع المتلقي القارئ علي حافة سؤال شعري فلسفي مصيري : ماذا لو كانت حياتك كلها محض رواية، تمارس فيها أدوارا ماهرة من التحايل والكذب؟! وهو سؤال علي الرغم من بساطته وشعريته فإنه يضع المتلقي أيضا علي حافة هاوية من الشك المرير، والإحساس المقيت، الذي لا يملك الخلاص منه؛ إلا أن مفارقة فرعية تنتج في الآن ذاته من التباهي بلعب هذا الدور؛ وبهذا الكشف/ التشكيك تدخل إلي عالم الرواية وكأنك واحد فيها.

وعلي نحو ما تأتي المفارقة في تشكيل شعري جديد في رواية " بهجة العمي "، والتي قسمها كاتبها إلي مقاطع أعطاها أرقاما بدلا من فصول أو عناوين، إذ يعتمد الروائي علي تقنية سردية جديدة، حيث ترد فصول كاملة في شكل مقطع واحد من فقرة واحدة تحمل المفارقة في أكثر مستوياتها الشعرية تجريبا، وهو ما نجده في مقاطع مثل :

" العالم الذي تسمعه ولا تراه هو العالم نفسه الذي أشاهده ولا أراه» ( ص26)

" هل أنا أعمي بدرجة كافية؟(ص 30)

" النور لا يرينا شيئا لكن نحن الذين نري النور ( ص68)

" إنه العمي أنت (ص74)

" هل كنت لأسأل نفسي: لم تبعتك إلي رغباتك؟".

" آآآه ه ه ه كمان ... لا تكذب علي نفسك . من البداية كنت تري كل شيء وتدخن سيجارتك كأنك أعمي " .

" قال كل منهما ذلك . قبل أن يغلقا عينيهما علي ضباب رواية ربما لم تتحقق أبدا(ص143)

وعلي هذا النحو تتشكل المفارقة في تكثيف شعري، ليس له علاقة - علي مستوي الحكي بما قبله وما بعده - ولكن علاقته تتأسس في إحداث شعرية ما مفارقة، شعرية تستوقف القارئ تماما كما لو كان يقرأ قصيدة مكثفة ومختزلة. فهذه النصوص الشعرية تحدث مفارقتها من أنها لا تمثل فعلا صادرا عن أعمي (الذات الساردة في الرواية ) بقدر ما تمثل فعلا مستنفرا لوعي المتلقي في مساءلته لنفسه هو. فالعمي هنا يتحول من مفارقة العمي البصري إلي عمي البصيرة الذي يسائل المتلقي نفسه عنه، فيسأل كل منا نفسه بالفعل: هل أنا أعمي حقا بدرجة كافية ؟ وهل العالم الذي تسمعه ولا تراه هو العالم نفسه الذي أشاهده ولا أراه ؟ هل استطاع كل منا أن يري العالم برؤيته هو، أو بسمعه؟ أو بوسائل أخري ؟ إن المفارقة هنا تنتج من المساءلة الحقيقية التي تهدف إلي التشكيك في الوعي الذي نحيا به جميعا، لأنه وعي افتقد للسؤال الذي لم تطرحه علي نفسك بعد،سؤال الهوية، والمعرفة .. وحتي في المقطع الأخير -34- فإن السؤال يحدث مفارقته في هوية نسبة صدوره التي لا يمكن تبيانها أهي من الراوي، أم من الذات الساردة،أم من الأعمي، أم من رفيقه، أم هو سؤال القارئ للراوي،أم هو سؤال القارئ لنفسه،والنفس كثيرا ما تخدع .... وذلك علي الرغم من مراوغة الكاتب في مفارقة أخري لمحاولة نسب المسرود عنه إلي شخصيتي الرواية " علي ضباب رواية ربما لم تتحقق أبدا ".

خاتمـــة

علي هذا النحو يمكن رصد العديد من التشابكات والتشاكلات بين الشعري والقصصي، أو بين الشعري والسردي، سواء من خلال رصد السمات الفارقة للغة الخطاب القصصي والخطاب الشعري، أو من خلال دراسة تحولات العناصر والبني السردية وانتقالها من القص إلي الشعر، ومن ثم دراسة تحولات العناصر والبني الشعرية وانتقالها إلي الخطاب الشعري، وهو ما يمكن له الإسهام في رصد التماهي بين الأنواع الأدبية في الأدب العربي، ورصد آليات الكتابة المتعلقة بتبادل الاشتغال بين السمات والعناصر الفارقة بين الشعر والقص، ومناطق الالتقاء والاختلاف - إن كان تطور الكتابة النصية قد أبقي علي اختلافات-، وهو ما يعمل بشكل عام علي تطوير الكتابة الأدبية من جهة، وعلي فتح آفاق متعددة للدراسة التحليلية والنصية، وبخاصة عند دراسة جماليات هذه التحولات بين ما هو شعري وما هو قصصي .. فالدراسة بعامة لم تجب عن كثير من الأسئلة، وإن كانت تفتح الباب لما هو أكثر، وتلك غاية في ذاتها.

الهوامش

1- د. جوزيف ميشال شريم: دليل الدراسات الأسلوبية -المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر - بيروت - 1984-.عن رولان بارت (Introduction Al analyst Struction).

2- د. حميد لحمداني: بنية النص السردي ( من منظور النقد الأدبي ) - المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - ط3- 1993- ص 45 .

3- السابق 45 .

4- فلاديمير بروب : مورفولوجيا الحكاية الخرافية - (ترجمة : أبو بكر احمد باقادر، وأحمد عبدالرحيم نصر ) - النادي الأدبي الثقافي - جدة - 1989م .ويري بروب أنه إذا كانت الحكايات تتضمن وفرة وفيرة من التفاصيل، فإن مادة الحكايات نفسها تتشكل علي أساس من عدد ثابت من "الوظائف" وهي كما يحددها إحدي وثلاثين وظيفة، "والوظيفة هي الوحدة الأساسية للغة (نسق) القص، وتشير إلي الأحداث ذات المغزي التي تشكل القص، والتي تتبع مسارا منطقيا"، وعلي الرغم من أنه لا توجد حكايات تتضمن كل الوظائف مجتمعة فإن للوظائف مسارا ثابتا في كل حكاية ومن هذه الوظائف: الغياب : بأن يترك أحد المكان في سفر أو غيره، وتحذير البطل، ومخالفة التحذير، ومحاولة الاستطلاع من قبل الشرير، . . . . . . . إلخ، حتي يتزوج البطل ويعتلي العرش ... وليس من الصعب ملاحظة أن هذه الوظائف لا توجد في الحكايات الخرافية الروسية أو غير الروسية فحسب، بل هي موجودة بالمثل في الكوميديات والأساطير والملاهي والمغازي، وفي القصص بوجه عام .

5- كمال أبو ديب : الرؤي المقنعة ( نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي) - دراسات أدبية - الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة - 1986-ص 25 .

6- السابق - ص 25 .

7- السابق - ص 37 .

8- انظر: رولان بارت : النقد البنيوي للحكاية - ترجمة أنطون أبو زيد - منشورات عويدات- بيروت - 1988- ص95 .

9- رولان بارت : التحليل البنيوي للسرد _ ( ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد مقلد_ سلساة ملفات 1992/1- منشورات اتحاد كتاب المغرب- طرائق تحليل السرد الأدبي- 1999- ص9 .

10- يمكن العودة في ذلك إلي : اتجاهات التجريب في مشهد الشعر المصري المعاصر (للباحث نفسه ) - مجلة فصول- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة - عدد58 - 2002م.

11- رفعت سلام: هكذا قلت للهاوية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1993م.

21- أحمد الشهاوي مياه في الأصابع الهيئة المصرية العامة للكتاب-القاهرة- 2002م.

31- أمجد ريان: أيها الطفل الجميل اضرب ـ دار الغد للنشر والدعاية والإعلان ـ القاهرة ـ 1990م.

41- سمير درويش: الزجاج ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ط1 ـ 1999م

51- جمال القصاص : السحابة التي في المرآة ـ الهيئة العامة للكتاب - القاهرة ـ 1998 .

61- حلمي سالم: سراب التريكو ـ شرقيات ـ القاهرة ـ ط1 ـ 1995 .

71- محمود نسيم: كتابة الظل ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ 1994م .

81- جرجس شكري: رجل طيب يكلم نفسه ـ دار شرقيات ـ القاهرة ـ 1998م.

91- د. محسن جاسم الموسوي : ثارات شهرزاد ( فن السرد العربي الحديث ) بيروت - دار الآداب - ط1- 1993- ص20 .

02- يمكن العودة في ذلك إلي : السرد الشعري، دراسة تطبيقية علي الشعر الجديد - رسالة ماجستير غير منشورة للباحث نفسه - كلية البنات للآداب والعلوم والتربية - القاهرة - 1998م .

12- مع الوضع في الاعتبار أن الممارسات النصوصية الفعلية سعت إلي كسر هذه المفاهيم في الرواية ذاتها، فمثلا نجيب محفوظ في رواياته لا يخلص لموقف واحد من جهة موقع الراوي من شخصياته، فمثلا سعيد مهران في اللص والكلاب، يتنقل معه نجيب محفوظ في موقعه منه، تارة من الخارج، وتارة من الداخل، وتارة مع .

22- د.حميد لحمداني: بنية النص السردي ( من منظور النقد الأدبي ) - المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - ط3- 1993- ص 45 .

32- أمل دنقل : الأعمال الشعرية الكاملة - ص116 .

42- دارت مثل هذه التعريفات علي ألسنة بعض النقاد،حيث تصنيف الشعراء إلي جيل الستينيات والسبعينات، وغيرها،وإن كان البحث النقدي يقتضي التأكيد علي أنه ليس هناك حدود زمنية فاصلة يمكن الاتكاء عليها في تصنيف الشعراء، فليس الجيل بالفترة الزمنية، ولا يمكن حصر الجيل في هذه الفترة حصرا دقيقا،بما يعني امتداد الحركة الشعرية الواحدة عبر أجيال،إضافة إلي التأثير والتأثر الذي يمر به الجيل، مما يتأكد معه استحالة فصله، إلا أن استخدامنا هذا المصطلح علي سبيل المجاز

52- صلاح عبد الصبور : الأعمال الكاملة - الدواوين الشعرية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1993- ص427 .

62- جيرار جينيت : حدود السرد - ترجمة بنعيسي بوحمالة - سلسلة ملفات 1992/1- منشورات اتحاد كتاب المغرب - طرائق تحليل السرد الأدبي ط 1- 1992-ص75 .

72- المرجع السابق : 76 .

82- د. عبد الرحيم الكردي : السرد في الرواية المعاصرة (الرجل الذي فقد ظلة نموذجا) - دار الثقافة للطباعة و النشر - القاهرة - 1992-ص60 .

92- المرجع السابق : 60-16 .

03- المرجع السابق ص61 .

13- أمل دنقل : الأعمال الشعرية الكاملة : مرجع سابق ص 431 - 342 .

23- يوسف نوفل : شلالات الضوء - الهيئة العامة لقصور الثقافة - سلسة أصوات أدبية - القاهرة - ديسمبر 1996 - ص 131 .

33- الفلسفة الظاهراتية " الفينومينولوجيا " أنشأها هوسرل، وتقوم فكرتها الأساسية علي الاختزال وتأجيل الحكم .

43- نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة - منشورات نزار قباني - بيروت - جـ2 ط5 - 1983 ص 203 .

53- سعدي يوسف : ديوان تحت جدارية فائق حسن - دار الفاربي - بيروت -ط1 - 1974 .

63- علي أننا لا نعدم في الشعر العربي القديم نماذج للمفارقة، ولكنها تغيت السردية أيضا، ومنها قول المتنبي مثلا :

أَذُمُّ إِلــي هَــذا الزَمــانِ أُهَيلَــــــــهُ

فَأَعلَمُهُم فَـدمٌ وَأَحزَمُهُــم وَغــــــــدُ

وَأَكرَمُهُــم كَلــبٌ وَأَبصَـــرُهُم عَـــمٍ

وَأَسهَدُهُم فَهـــدٌ وَأَشجَعُهُــــــم قِردُ

وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلي الحُرِّ أَن يـري عَـدُوّاً لَهُ ما مِــــن صَداقَتِـــهِ بُـــــدُّ

بِقَلبـــي وَإِن لَم أَروَ مِنها مَلالَـــــةٌ وَبي عَن غَوانيها وَإِن وَصَلَت صَدُّ

ومنه قول أبي العلاء المعري :

حَوَتنا شُـــرورٌ لا صَلاحَ لِمِثلِهـــا فَإِن شَذَّ مِنّا صالِحٌ فَهــــوَ نـادِرُ

وَما فَسَـــدَت أَخلاقُنــا بِاِختِيارِنا وَلَكِن بِأَمرٍ سَبَّبَتــــهُ المَقـــــادِرُ

وَفي الأَصلِ غِشٌّ وَالفُروعُ تَوابِعٌ وَكَيفَ وَفاءُ النَجلِ وَالأَبُ غـادِرُ

إِذا اِعتَلَتِ الأَفعـــــالُ جاءَت عَليلَةً كَحالاتِها أَسمـــاؤُها وَالمَصادِرُ

فَقُل لِلغُرابِ الجَونِ إِن كانَ سامِعاً أَأَنتَ عَلي تَغييرِ لَونِــكَ قـــــادِرُ

73- منتصر القفاش : تصريح بالغياب - دار شرقيات - القاهرة - 1996م.

83- منتصر القفاش : مسألة وقت - روايات الهلال - ع 709- القاهرة يناير 208م.

93- حمدي أبو جليل : لصوص متقاعدون - دار ميريت - القاهرة.

3 تعليق:

شكرا

10 فبراير 2014 في 8:38 ص  

شكرا

10 فبراير 2014 في 8:38 ص  

لم أفهم

10 فبراير 2017 في 11:32 م  

Blogger Template by Blogcrowds