السـرديات

السرديات narratology هي الدراسة المنهجية للحكيnarrative ، أو هي، كما عرَّفها تودوروف الذي صك المصطلح في "نحو الديكاميرون" Grammaire du Décame ron (1969) «علم الحكي" la science du récit ولقد انسحب المصطلح ارتجاعياً علي مجموعة من النقاد والمنظرين الذين ينظر إليهم الآن بوصفهم رواداً لنظرية الحكي (السرد) ممن كانت أعمالهم توضع تحت مسميات أخري من أرسطو حتي فلاديمير بروب، ومن بيرسي لوبوك وحتي واين بوث. ولقد ارتبط المفهوم عند نشأته بالتحليل البنيوي للسرد الذي كان يهدف إلي الكشف عن الأنساق الكامنة في كل أنواع الحكي. كما ارتبط في بداياته الأولي بالنظرية الأدبية، ويرجع الفضل إلي رولان بارت وكلود بريمون و إ.ج. جريماس في تخليصه من النظرية الأدبية وإدراجه ضمن نظرية سيميوطيقية عامة تضم نصوصاً حكائية بالمعني الأوسع للكلمة مثل السينما والمسرح، وفنون الرقص والرسوم المتحركة والتصوير، والروايات والقصص القصيرة والسير الشعبية، إلخ.

يقول رولان بارت في "التحليل البنيوي للحكي" Introduction to the Structural Analysis of Narratives معبراً عن هذا الاتجاه:

إن أنواع الحكي في العالم لا حصر لها، ويمكن نقلها بالعديد من أشكال اللغة، المنطوقة والمكتوبة، الصور الثابتة والمتحركة، لغة الإيماء، أو أي خليط منظم من كل هذه الأشكال. إن للحكي وجوداً في الأسطورة والخرافة، وحكاية الحيوان، والأقصوصة والملحمة والتاريخ والتراجيديا والدراما والكوميديا، والبانتوميم والتصوير (تأمل لوحة القديسة أورسولا لكارباتشيو)، والنقش علي الزجاج، والسينما، والرسوم الهزلية والمواد الإخبارية، ولغة المحادثات. وتحت هذا التنوع اللانهائي للأشكال، يوجد الحكي فضلاً عن ذلك في كل العصور والأماكن والمجتمعات. والحكي دون اعتبار لأدب جيد وأدب رديء، عالمي وعبر تاريخي، وعبر ثقافي. إنه موجود بالضبط مثل الحياة ذاتها. (الترجمة من عندي).

وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حدث رد فعل تجاه النزعة العلمية والتصنيفية الصارمة للسرديات البنيوية، علي يد باحثي ومنظري ما بعد البنيوية ممن رأوا استحالة الوصول إلي معرفة علمية بالنصوص الأدبية، وأن فكرة "العلمية" ما هي إلا "حكاية" أخري من الحكايات (أسطورة من الأساطير). وكان من نتيجة ذلك فتح آفاق جديدة لتطور السرديات كما في الدراسات النسوية، والنقد الأيديولوجي، والتحليل النفسي ونقد التلقي. لقد أسفر رد الفعل ما بعد البنيوي عن تخلي معظم المشتغلين بالسرديات منذ أواخر القرن الماضي عن الحلم بعلمٍ حقيقي للحكي (السرد) ومنذ ذلك الوقت اتسع مفهوم السرديات بحيث أصبح موضوعاً للعديد من الاختصاصات التي تخرج عن نطاق الدراسات الأدبية مثل التاريخ، والدين، والصحافة، والممارسات القانونية، والسياسة، إلخ.

تعريف الحكي narrative

فإذا كانت السرديات، كما عرفها البنيويون، هي الدراسة المنهجية للحكي، "فما هو الحكي إذن؟" إليك بعض التعريفات التي تعكس الطبيعة المفهومية المزدوجة للمصطلح (وهي الطبيعة التي أشار إليها أرسطو في كتاب "الشعر" عندما عرَّف الحكي بأنه "عمل يتضمن حبكة" mythos وبأنه "عمل يضم راوياً". وطبقاً للتعريف الأول تكون الدراما والملحمة لونين من ألوان الحكي، أما التعريف الثاني فيقصر مجال الحكي علي "الملحمة" وحدها من حيث إنها تضم راوياً ولا تقدم أحداثاً عن طريق "العرض " المباشر للأحداث كما تفعل الدراما).

الحكي récit narrative نصٌ يتألف من أي وسيط يصف متتالية من الأحداث الحقيقية أو غير الحقيقية. واللفظ مشتق من الأصل اللاتيني للفعل gnare بمعني "يحكي" أو "يروي" والذي ينتسب إلي الصفة gnarus بمعني "عارف" أو "علي دراية بـ" والمشتقة بدورها من الجذر الهندوأوروبي ghnu بمعني "يعرف". كما يمكن استخدام كلمة story قصة مرادفاً لكلمة narrative حكي ويمكن استخدامها أيضاً للإشارة إلي متتالية من الأحداث التي تُوصف في أحد المحكيات.انظر: Wikipedia the free encyclopedia ، مدخل Narrative الحكي منتج وسيرورة، موضوع وفعل، بنية وبنينة المتعلق بحدث حقيقي أو خيالي يقوم بتقديمه واحد أو أكثر من الرواة لواحد أو أكثر من المروي لهم، ظاهرين بدرجة أو بأخري.. أما وسائط التقديم فهي عديدة، ومتنوعة (شفاهية أو مكتوبة، الصور الساكنة أو المتحركة، لغة الإيماء أو أي تألف منظم من العلامات. أما في مجال الحكي اللفظي وحده، فنجد روايات وقصصاً خيالية، وروايات قصيرة، وقصصا قصيرة، وتاريخاً، وسيرا، وسيرا ذاتية، وملاحم وأساطير، وأغاني شعبية، وقصصاً خرافية، وتقارير إخبارية... إلخ).. وإذا اعتبرنا الحكي بنية، أو مُنتجاً، أمكن القول بأن الحكي يقدم علي الأقل فعلاً مُعَقِّداً (عندما يكتمل ويتطور تطوراً كاملاً) وست عناصر بنيوية أساسية: خلاصة abstract (1)، توجيه orientation (2)، فعل مُعَقِّد، تقيي evaluation (3)، ونتيجة result، أو حل resolution، وتقفيلة ( coda (4) ويمكن القول بأن الحكي يضم جزءين: القصة story والخطاب discourse أما القصة فتشتمل دائماً علي تسلسل زمني (إنها تتضمن علي الأقل تعديلاً لحالة يتم إنجازها في زمن "صفر"، إلي حالةٍ أخري يتم إنجازها في زمن "س"، وذلك هو مظهرها المميز. والعلاقات الزمنية بين المواقف والأحداث التي تؤلف القصة ليست بطبيعة الحال هي العلاقات الوحيدة الممكنة: يمكن علي سبيل المثال سرد هذه المواقف والأحداث سببياً. وعلاوة علي ذلك، فإن المواقف والأحداث في سرد حقيقي، تؤلف بالمثل كلاً، متتالية يعد الجزء الأول والأخير، الأساسيان فيها تكراراً جزئياً لكل منهما؛ بنية، إذا استخدمنا تعريف أرسطو، لها بداية ووسط ونهاية. (جيرالد برنس، قاموس السرديات).

إن موضوع حكاية من الحكايات يمكن أن يكون موضوعاً للباليه، ويمكن أن يتجسد موضوع إحدي الروايات في شكل مسرحية أو فيلم سينمائي، كما يمكن رواية قصة أحد الأفلام السينمائية لأولئك الذين لم يشاهدوا الفيلم. إن ما نقرأه هو الكلمات، وما نشاهده هو الصور، وما نفسره هو الإشارات، ولكن الذي نتابعه في كل مرة من خلال كل هذه الأشكال هو القصة، التي يمكن أن تكون هي نفس القصة في كل هذه الأشكال.( كلود بريمون).

لابد من القبول بتمييز أساسي بين مستويين من مستويات التمثيل والتحليل: المستوي الظاهر لـ "السرد" narration الذي تخضع فيه تجلياته للمادة اللسانية التي يعبر عنه من خلالها، ومستوي آخر محايث يتألف من أساس بنيوي مشترك تقع عنده "السردية" narrativity ، وهو مستوي سابق علي تجلياته . ومن ثم يكون لدينا مستوي سيميوطيقي يمكن تمييزه عن المستوي اللساني، وهو سابق عليه منطقياً، بغض النظر عن نوع اللغة المختارة للتقديم . جريماس Structural Semantics 1977.

أما جيرار جينيت الذي يؤكد علي الطبيعة الملتبسة لمصطلح الحكي narrative، فيورد ثلاثة تعريفات للمصطلح في "خطاب الحكي":

المعني الأول الأكثر بداهة ومركزية حالياً في الاستخدام الشائع تدل كلمة "حكي" علي المنطوق السردي، أي الخطاب الشفوي أو المكتوب الذي يضطلع برواية حدث أو سلسلة من الأحداث.

المعني الثاني والشائع بين محللي المضمون الحكائي ومنظريه حيث تدل كلمة حكي علي سلسلة الأحداث الحقيقية أو التخييلية التي تشكل موضوع الحكي ومختلف علاقاتها (من تسلسل وتعارض وتكرار، إلخ).. وفي هذه الحالة يعني تحليل الحكي دراسة مجموعة من الأعمال والأوضاع المتناولة في حد ذاتها، وبغض النظر عن الوسيط اللساني وغيره الذي يطلعنا عليها.

المعني الثالث والأكثر قدماً، تدل كلمة "حكي" أيضاً علي حدث، ولكنه ليس الحدث الذي يروي هذه المرة، وإنما السرد narration متناولاً في حد ذاته.

ومن بين التعريفات الثلاثة، يختار جينيت التعريف الأول موضوعاً لعملية التحليل. يقول "ومن ثم فموضوعنا هنا هو الحكي بالمعني الضيق الذي نخصصه منذ الآن فصاعداً لذلك المصطلح، ومن البديهي كثيراً أن يكون مستوي الخطاب السردي هو الوحيد من بين المستويات الثلاثة التي ميزنا بينها حتي الآن، الذي يعرض نفسه للتحليل النصي".

للعمل الأدبي في مستواه الأعم مظهران فهو قصة وخطاب في الوقت نفسه. بمعني أنه يثير في الذهن واقعاً ما وأحداثاً قد تكون وقعت وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية. وقد كان بالإمكان نقل تلك القصة ذاتها بوسائل أخري، فتنتقل بواسطة شريط سينمائي مثلاً ، وكان بالإمكان التعرف عليها كمحكي شفوي لشاهد ما دون أن يتجسد في كتاب. غير أن العمل الأدبي خطاب في الوقت نفسه، فهناك سارد يحكي القصة، أمامه يوجد قارئ يدركها. وعلي هذا المستوي ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهم، إنما الكيفية التي بها أطلعنا السارد علي تلك الأحداث. (تودوروف، مقولات الحكي).

نلاحظ مما تقدم وجود تيارين رئيسين لتحليل الحكي narrative أحدهما يربط المصطلح بالمحتوي أو الموضوع والآخر يربطه بمستوي التعبير أو الخطاب، الأول يمثله إ.ج جريماس، ورولان بارت، وكلود بريمون، والثاني يمثله كل من جيرار جينيت، وتزفتان تودوروف، وجيرالد برنس من بين آخرين.. كما نلاحظ وجود تعريفين للحكي، أحدهما ضيق، والآخر توسعي، الأول يحصر الحكي في مجال النصوص اللفظية وحدها (جينيت) والآخر يوسع مجال المصطلح لكي يشمل نصوصاً حكائية أدبية وغير أدبية، لفظية وغير لفظية (بارت، بريمون) وينظر هذا الاتجاه إلي الحكي بوصفه جزءاً من نظرية سيميوطيقية عامة تضم نصوصاً مختلفة للحكي: الدراما، السينما، الرقص، الرواية، السيرة الشعبية، الرسوم المتحركة، إلخ، تستخدم وسائط متعددة: الحركة، الصورة، اللغة الشفاهية أو المكتوبة، ... وهناك تيار ثالث يحتفظ بكلمة الحكي لاجتماع كلٍ من القصة والخطاب (برنس، بورتر أبوت)، وهو استخدام شائع بين العديد من المنظرين.. أما مصطلح(arration (السرد) فيحتفظ به للمحكيات التي تقوم بتقديم موضوعها عن طريق السرد اللفظي فقط، الذي يتطلب راوياً ومروياً له علي نفس المستوي. إن كلمة سرد، ترتبط في العربية بالنظم، والنسج، والصياغة، والتركيب، بينما ترتبط كلمة حكي بالـ mythos )(الحبكة) التي يمكن العثور عليها في الفنون اللفظية وغير اللفظية علي حدٍ سواء. (إن كلمة "حكي" في العربية ذات صلة بالمحاكاة، أي المشابهة التي ترتبط عند أرسطو بـ الفعل - المحاكاة عند أرسطو لا تكون إلا محاكاة لفعل praxsis). ).

1- نظريات الفعل أو نحو الحكي

يعد العمل الرائد الذي قام به فلاديمير بروب في "مورفولوجيا الحكاية الشعبية" Morphology of the Folktale الأساس الذي انبنت عليه معظم الدراسات والأبحاث التي تتناول تركيب الحكي من وجهة النظر المورفولوجية أو البنيوية. لقد حاول بروب، الذي تأثر في عمله بالنموذج اللغوي الذي أرساه فرديناند دي سوسير، البحث عن الأسس البنيوية المجردة التي تنتظم كل أنواع الحكي. وقاده البحث في مائة حكاية شعبية إلي اكتشاف الوحدات الأساسية المكوّنة لهذا الكم من الحكايات وطرائق تآلفها. لقد اكتشف بروب وجود 31 وحدة أساسية أطلق عليها اسم وظائف functions يتغير عددها في كل حكاية ولا يتغير ترتيبها. والوظيفة عند بروب هي عمل تقوم به إحدي الشخصيات وتتضح دلالته في مجري الحكي ككل. وبالإضافة إلي هذه الوحدات، اكتشف بروب وجود سبع شخصيات أساسية أو سبع دوائر للعمل : دائرة عمل المعتدي، دائرة عمل الشرير، دائرة عمل البطل، دائرة عمل البطل الزائف. وتبدأ الحكاية عند بروب عادة بوظيفة نقص أو وظيفة إساءة وتنتهي بوظيفة سد النقص أو إصلاح الإساءة مروراً بعدد من الوظائف التي تتوسط هاتين الوظيفتين. وينبه بروب إلي أن الحكاية الشعبية يمكن أن تحتوي علي أكثر من متتالية وفي هذه الحالة يمكن أن تأتلف المتتاليات عن طريق التتابع، أو التناوب، أو التضمين. وطبقاً لنظام التتابع، تأخذ المتتاليات إحداها بعقب الأخري، وفي التناوب تبدأ الحكاية بمتتالية، ثم تبدأ متتالية جديدة في الدخول إلي الحكاية قبل أن تنتهي المتتالية الأولي، ثم يبدأ بعد ذلك استئناف المتتالية الأولي من جديد وهكذا.. أما في حالة التضمين، فيتم دخول متتالية ثالثة قبل نهاية المتتالية الثانية فتنعقد بذلك الحكاية.

لقد فتح بروب بعمله الرائد الطريق نحو الدراسة المحايثة للحكي، التي تدرس النصوص الحكائية دراسة داخلية تحدد مكوناتها ووحداتها الأساسية المكوِّنة ومجموعة علائقها الداخلية، واستفاد في ذلك من العديد من الثنائيات التي أرساها دي سوسير بين اللغة كنظام langue من القواعد والأعراف الضمنية ومجموعة تجلياتها الفردية parole، واستفاد كذلك من تمييز دي سوسير بين الدراسة السنكرونية (التزامنية) والدراسة التاريخية التعاقبية الدياكرونية، التي كانت سائدة قبله في دراسة الحكايات الشعبية وغيرها من الظواهر، وقدم ما سماه نحواً للحكي علي غرار نحو اللغة وهو مجموعة القواعد والأعراف الكامنة التي تحكم شتي الممارسات اللغوية الفعلية، واستفاد كذلك من تعريف دي سوسير للعلامة اللغوية، وتقسيمها إلي دال ومدلول وعدم ارتباطها بأي مرجع خارجي، وأن هوية العناصر والوحدات لا تتحدد بتاريخها، وإنما بموقعها داخل النظام ذاته، وفي علاقتها ببقية العناصر والأجزاء المشاركة معها في النسق، واختلافها وتعارضها معاً داخل شبكة من العلاقات، ومن إمكانية تفتيت الوحدات الأكبر إلي وحدات أصغر حتي يمكن في النهاية الوصول إلي التمييزات الوظيفية الصغري.

ويميز توماتشفسكي في كل عمل أدبي بين مستويين، مستوي المتن الحكائي (الفابولا) fibula، وهو مستوي التسلسل الطبيعي للأحداث، ومستوي المتن الحكائي sjuzet وهو المستوي الذي يجري فيه تنظيم هذه الأحداث وخلخلة نظام تسلسلها الطبيعي في عمل فني. ولقد حاول توماتشفسكي، شأنه في ذلك شأن بروب، البحث عن الوحدات الأساسية المكونة المشتركة في كل عمل حكائي، وعثر علي هذه الوحدات فيما سماه بالحوافز motifs، وهي الوحدات الحكائية الصغري التي يتألف منها كل حكي، وحدد توماتشفسكي بناء علي ذلك نوعين من الحوافز، حوافز مشتركة linked motifs لا يمكن الإخلال بها دون الإخلال بنظام المتن، وحوافز حرة free motifs ضرورية للمبني ولا يترتب علي غيابها إلحاق أي ضرر بالمتن. وبمعني آخر، توجد حوافز تكون مهمتها الأساسية هي دفع حركة الحبكة إلي الأمام ويسميها توماتشفسكي حوافز دينامية dynamic motifs وحوافز ساكنة static motifs تكون مهمتها وصفية بالأساس، وتقتصر علي التمهيد لوضعية ما أو وصف مناخ أو جو، إلخ.

وبالإضافة إلي الحوافز، يتحدث توماتشفسكي عما يسميه بالتحفيز motivation، ويحدد ثلاثة أنواع يطلق عليها تباعاً أسماء: التحفيز التأليفي compositional motivation الذي يؤكد علي أن كل شيء في الحكي ينبغي أن يكون مبرراً ومحفزاً (فالفن لا يعرف التشوش أو الضوضاء كما يقول بارت)، والتحفيز الواقعي realistic motivation ، ويرتبط بمسألة الإيهام بالواقع وقانون الاحتمال، والتحفيز الجمالي artistic motivation ويراعي فيه أن تكون الحوافز المشتملة متسقة مع مقتضيات البناء الجمالي للعمل الفني لتحاشي أي شذوذ أو نشاز في البناء الفني للحكي.

ولقد استفاد تراث البنيوية الفرنسية من آراء كلٍ من فلاديمير بروب وغيره من الشكلانيين الروس. لقد استفاد كلود ليفي شتراوس من آراء فلاديمير بروب وطور العديد من تصوراته حول "مورفولوجيا الحكاية الشعبية". وكان الهدف من وراء دراسة شتراوس للأساطير، هو الكشف عن مجموعة القواعد الضمنية التي تشترك فيها الأساطير من أي نوع، وأطلق شتراوس علي مجموعة الوحدات التكوينية الصغري المشكِّلة للأسطورة اسم "ميثيمات" mythemes. لقد عاب شتراوس علي بروب شكليته المبالغ فيها وعدم اهتمامه بالمحتوي والسياق، وإهماله للاستخدام الخاص لبعض المفردات اللغوية، وركز بدلاً من ذلك علي مبدأ التعارضات الثنائية، وهو المبدأ الذي طورته فونولوجيا مدرسة براغ اللغوية علي يد كل من جاكبسون وتروبتسكوي. كما أكد، خلافاً لبروب، علي أهمية المضمون، واستخدم عدداً من الثنائيات المتعارضة مثل: موت/ حياة، ثقافة/ طبيعة، ذكر / أنثي، رفيع/ وضيع، أدني / أعلي، أرض/سماء، ليل/ نهار، حيواني/ نباتي، إلخ. لقد أراد ليفي شتراوس من خلال دراسته للأسطورة إثبات وحدة الفعل البشري ووحدة منتجاته" و أن يبرهن أن للفعل علي مستوي الوعي واللاوعي بصفة خاصة، آلية مُبنينة تفرض الشكل علي أي مادة متاحة، وأن الأساطير هي كلام النظام الرمزي الذي يمكن اكتشاف وحداته وقواعده التركيبية.

وشأنه شأن ليفي شتراوس، استفاد إ.ج. جريماس أيضاً من الاكتشافات التي توصل إليها بروب في بحثه حول "مورفولوجيا الحكاية الشعبية". لقد كانت هذه الاكتشافات هي الأساس الذي بني عليه جريماس نظريته في الحكي. وخلافاً لبروب، أراد إ.ج. جريماس بناء نموذج مجرد يصلح للتطبيق، ليس علي نوع واحد من الحكي، هو الحكاية الشعبية، وإنما علي كل أنواع الحكي. ويؤكد جريماس علي ضرورة التمييز بين مستويين من مستويات التحليل: مستوي السرد narration )المستوي الظاهر الذي يتجلي فيه الحكي كفعل من أفعال الكلام)، ومستوي آخر يقع تحت كل أفعال اللسان، ويتألف هذا المستوي من قصة ذات أساس بنيوي مشترك تقع عنده السردية narrativity، وهو مستوي سابق علي كل تجلياته (وهنا يتم التمييز بين مستوي سيميوطيقي ومستوي لساني لاحق عليه). ويحصر جريماس عمله في هذا المستوي. إن جريماس، الذي اطلع علي عمل بروب، يقوم بتهذيب نموذجه وذلك بأن اختزل دوائر الفعل السبعة عنده إلي ستة عوامل actants (والمصطلح استعاره بروب من عالم اللغة تسنيير). و"العامل" هو دور تقوم به الشخصية في مجري الفعل. أما العوامل الستة التي حددها جريماس فهي: الذات، الموضوع، المرسل، المرسل إليه، المساعد، والمعارض. ويطلق جريماس علي نموذجه اسم "النموذج العاملي"actantial model . إن كل حكي يشتمل علي ذات تحدوها الرغبة في الحصول علي موضوع ما (موضوع قيمة)، وتكون علاقتها بهذا الموضوع إما علاقة انفصال أو علاقة اتصال (يسمي جريماس هذه العلاقة بملفوظ الحالة) فإذا كانت علاقتها بموضوع رغبتها علاقة انفصال، رغبت في الاتصال، وإذا كانت علاقتها بموضوع الرغبة علاقة اتصال، رغبت في الانفصال. ويوجد إلي جانب هذين العاملين، عامل آخر، هو المسئول عن دفع الذات إلي العمل، وتزويده بالحوافز اللازمة لإنجاز فعل الحصول علي موضوع رغبته، ويسمي هذا العامل بعامل "المرسل". وفي المقابل يوجد عامل آخر يسمي "المرسل إليه" هو الذي يعترف للذات بأنه أدي مهمته علي أكمل وجه، أو العكس. إنه العامل الذي يحكم علي مطابقة الفعل للكون الأخلاقي الذي صدر عنه. وبالإضافة إلي ذلك يوجد عاملان يتعارضان من حيث الوظيفة، عامل المساعد، الذي يساعد الذات في مهمته للوصول إلي موضوع رغبته، وعامل المعارض الذي يحاول تعويق حركة الذات ووضع العراقيل أمامه حتي لا يتمكن من إنجاز مهمته..

أما بالنسبة للمعني عند جريماس، فهو رهين بالوحدات الحكائية. إن المسار الحكائي هو الذي يمنح الحركة والطاقة علي التحول السياقي، فالعناصر الدلالية الواردة في بداية أي أثر أدبي تكون قابلة للتغير حسب المسار، إذ تبرز في نهاية القصة دلالات جديدة لم تكن متاحة في بداية الحكي. إن للبطل معني في نهاية الحكاية، لا يكون له في بدايتها.

ويميز بارت في محاولته تحديد الوحدات الأساسية للحكي، بين نوعين من الوحدات الوظيفية: وحدات توزيعية (تعادل وظائف بروب)، ووحدات إدماجية لا تتصل بالأفعال وإنما تتصل بالأوصاف (قارن ذلك بتمييز توماتشفسكي بين "حوافز دينامية" dynamic motifs هدفها دفع الحبكة إلي الأمام، و"حوافز ساكنة أو إستاتيكية" static motifs هدفها وصف أحد الأوضاع) ويطلق بارت علي النوع الثاني من الوظائف اسم ) indices قرائن) ووظيفتها هي الإحالة علي تصور، أو إلي طبائع الشخصيات، أو إلي أي معلومات تتصل بهويتها وإشارات حول الجو أو المناخ، إلخ. إنها وحدات عمودية الطابع ذات بعدٍ دلالي، لا تحيل علي دال، وإنما تحيل علي مدلول. أما الوظائف التوزيعية فتحيل علي فعل. إن بعض المحكيات تكون شديدة الوظيفية مثل الخرافات الشعبية، بينما تكون أخري شديدة القرينية، مثل الروايات السيكولوجية. وتحت كل صنف من هذين الصنفين الأساسيين (التوزيعي والإدماجي) يوجد صنفان ثانويان من الوحدات الحكائية:

إن وحدات الوظائف التوزيعية (الأفعال) ليست كلها بنفس الأهمية. إن بعضها يكون مفاصل حقيقية للحكي، تفتح أو تغلق اختياراً ما منطقياً بالنسبة لبقية القصة، ويطلق بارت علي هذه الوظائف الأساسية اسم "نُوي" nuclei ، وبعضها الآخر ذات وظيفة تكميلية أو حشوية بالنسبة للنوي، ويطلق علي هذه الوظائف التكميلية اسم ) catalysts وسائط أو توابع). وليس بالإمكان حذف نواة دون أن تصاب القصة بالخلل، بينما لا يتم حذف "وسيطة" دون الإخلال بنظام الخطاب.

وفيما يتعلق بالقرائن، توجد أيضاً قرائن أساسية وأخري ثانوية أو تكميلية: إن القرائن الأساسية تحيل علي طبع أو شعور أو مناخ أو فلسفة، أما القرائن الثانوية فيطلق عليها بارت اسم مخيرات informants، ووظيفتها تكون تأصيل المرجع أو تجذير الحكاية في الواقع. وتكمن أهميتها في استكمال صورة الخطاب. أما بالنسبة للتركيب الوظيفي للوحدات (قواعد التوليف) فإن أي وسيطة تقتضي بالضرورة وجود نواة أساسية تلتصق بها وتدور في مدارها. أما الوظائف الرئيسية، فإن ما يشدها إلي بعضها هي علاقة التضامن. إن الوسائط (التي تمثل توسعات للوظائف) يمكن إلغاؤها، بينما لا ينطبق نفس الشيء علي النوي، الذي يمثل إلغاؤها تدميراً للقصة. (تزفتان تودروف:مقولات الحكي الأدبي.(

وفي دراسته "نحو الديكاميرون" حاول تزفتان تودروف البحث عن نحوٍ للحكي ينتظم كل المحكيات، تماماً مثلما يوجد نحو للجملة ينتظم كل الجمل التي ننطق بها (هنا تقع المماثلة مرة أخري بين نظام اللغة ونظام الخطاب). إن جملة: "الفارس ذبح التنين بسيفه" هي ملفوظ لغوي، وملفوظ حكائي في ذات الوقت. وتتألف الجملة من فاعل (أو مسند إليه) هو "الفارس" ومسند أو محمول هو "ذبح التنين بسيفه". ولن يتغير الحال إذا استبدلنا الفارس بزوج غيور، أو السيف بسكين. إن البنية الأساسية تظل واحدة في كلتا الحالتين (إن كل نماذج الحكي تتألف من عوامل وأعمال، شخصيات وأفعال. وتمثل كل شخصية فاعلاً (مسنداً إليه) في حكيها، وتكون أفعالها هي مسندها أو محمولها). وجدير بالذكر أن المحمولات لا تتوقف علي الأفعال وحدها، وإنما توجد أيضاً في الصفات أو النعوت، وفي هذه الحالة تسمي محمولات وصفية أو نعتية (قارن تمييز توماتشفسكي بين حوافز دينامية، وأخري سكونية والتمييز الذي أقامه جريماس بين محمولات دينامية dynamic predicates أو"الوظائف"، ومحمولات إستاتيكية static predicates ) أو "النعوت" : س قتل ص، س خدع ص إن "قتل" و "خدع" محمولان ديناميان. س سعيد/ تعيس، س ذكر/ أنثي، س يهودي/ مسيحي، إن "سعيد"/"تعيس"، "ذكر"/"أنثي"، "يهودي"/"مسيحي" محمولات وصفية أو نعتية.. والوحدة السردية الدنيا عند تودوروف هي الجملة (التي تضم فاعلين ومحمولات)، وتأتلف الجمل لكي تكوِّن وحدة حكائية أعلي هي المتتالية، وتأتلف المتتاليات في وحدة أعلي هي النص، وتتسم العلاقات بين الوحدات الدنيا (الجمل) بأنها علاقات منطقية سببية أو إدماجية، علاقات زمنية تتابعية، وعلاقات مكانية تكرارية أو تقابلية. إن المتتالية تتسم بتكرار غير تام (أو تحويل) للجملة الأصيلة التي تصف حالة هادئة، تجعلها قوة ما مضطربة، وينتج عن ذلك حالة اضطراب، ويعود التوازن بفضل قوة موجهة معاكسة، والتوازن الثاني شبيه بالتوازن الأول، ولكنهما ليسا متماثلين أبداً. ويكون لدينا نوعان من الحلقات: حلقات تصف حالة توازن أو اضطراب، وحلقات تصف الانتقال من حالة إلي أخري (جمل وصفية وجمل فعلية). أما عن أنواع التوليف بين المتتاليات التي تشكل نصوصاً فهي: التسلسل، والتضمين والتناوب. تزفتان تودروف: الشعرية

أما كلود بريمون فيبدأ في التشكيك في مفهوم البنية الذي يستخدمه بروب في تحليله. إنه يري أن كل وظيفة يجب أن تنفتح علي مجموعة من النتائج البديلة الأمر الذي لا تفي به وظائفه. إن نظرية بريمون تقوم علي تحديد البدائل المحتملة لكل فعل (فيمكن للبطل والبطلة أن يتصالحا بعد مشاجرة عنيفة أو يذهب كل منها لحال سبيله). وتتألف المتتالية الأولية عند بريمون من ثلاث وظائف رئيسية، تفتح كل منهما احتمالات بديلة. أولاً، هناك الوضعية الأولي التي تفتح إمكانية القيام بعملٍ ما، وتحقق الوظيفة الثانية هذه الإمكانية، (أو لا تحققها)، وتتصل الوظيفة الثالثة بالنتيجة التي تغلق السيرورة (بنتيجة متحققة أو نتيجة غير متحققة).

المرحلة الأولي

تفتح إمكانية حصول الفعل

لا تفتح إمكانية حصول الفعل

المرحلة الثانية

تحقق الإمكانية

عدم تحقق الإمكانية

المرحلة الثالثة

تحقق النتيجة

عدم تحقق النتيجة

أما بالنسبة للشخصيات، فإن بريمون يضع ست شخصيات مقابل عوامل جريماس الستة،هي علي التوالي:

1- المنفعل patient أو المستفيد Bénéficaire ويقابل ذات الحالة عند جريماس sujet d'état وهي الذات التي تكون في حالة انفصال أو اتصال مع موضوعها وتكون سابقة علي ذات الإنجاز، التي تنهض فعلياً بإنجاز عملية الانفصال أو الاتصال ضمن ملفوظ يسمي "ملفوظ الإنجاز" ( nonce de faire).

2- فاعل agent ويقابل عامل "الذات" sujet عند جريماس.

3- محرض influenceur ويقابل عامل "المرسل" عند جريماس.

4- حامي protectéur أو حليف l'allié ويقابل عامل "المساعد" عند جريماس.

5- مُحْبِط frustrateur ويقابل عامل المعارض عند جريماس.

6- محصل الاستحقاق acquéreur ويقابل عامل "المرسل إليه" عند جريماس.

وتتخذ هذه الشخصيات أوضاعاً مختلفة ممكنة وتقوم بوظائف محتلمة داخل الحكي. إن المنفعل أو المستفيد علي سبيل المثال يظل ذاتاً للحالة إلي حين يتهيأ له مسار للتغيير، فينتقل من كونه ذاتاً للحالة إلي ذات للإنجاز يهدف إلي تغيير الحالة الأولي. وهكذا تمر شخصيات بريمون بحالات شبيهة بالحالات التي رسم جريماس أدوارها في نموذجه العاملي برغم تغير الأسماء والمصطلحات المعطاة للشخصيات، إلا أن بريمون يزيد عليه وضعه للاحتمالات الممكنة في كل وضع من الأوضاع.

2 ـ سرديات الخطاب

إذا كان التحليل الوظائفي عند بروب أو السيميوطيقي عند جريماس ورولان بارت وكلود بريمون، قد اتخذ من المضمون موضوعاً للحكي، وربط السردية narrativity بدراسة المحتوي الحكائي أو الوظائف والأفعال، وبحث في الأسس المجردة التي تنتظم وفقاً لها شتي أنواع الحكي علي مستوي البنية المجردة، فإن المشتغلين بسرديات الخطاب (جينيت وبال وبرنس) قد وجهوا اهتمامهم نحو مستوي التعبير (مستوي الدال)،حيث تتصل السردية narrativity عندهم بالأدبية (عنصر التعبير الجمالي أو الفني الذي يرتبط بدوره بعملية تجسيد الفعل من خلال الصيغة التمثيلية)، وبحثوا في مكوناته من زمن، وصيغ، ورؤي وأصوات وعلاقة هذه المكونات بمستويات القصة والسرد. ويؤكد تودوروف في "مقولات الحكي الأدبي" أن "للعمل الأدبي في مستواه الأعم مظهران، فهو قصة وخطاب في نفس الوقت، بمعني أنه يثير في الذهن واقعاً ما وأحداثاً تكون قد وقعت، وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية، وكان بالإمكان نقل تلك القصة بوسائل أخري، فتنقل بواسطة شريط سينمائي مثلاً، وكان بالإمكان التعرف عليها كمحكي شفوي لشاهدٍ ما دون أن تتجسد في كتاب، غير أن العمل الأدبي، خطاب discourse في نفس الوقت، هناك سارد يحكي القصة، أمامه يوجد قارئ يدركها، وعلي هذا المستوي ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهم، وإنما الكيفية التي أطلعنا بها السارد علي تلك الأحداث".

ويركز جيرار جينيت في "خطاب الحكي" علي نفس البعد "إن دراستنا تنصب أساساً علي الحكي بمعناه الأكثر شيوعاً، أي الخطاب السردي. إن الخطاب السردي يستتبع باستمرار دراسة العلاقتين، وأعني العلاقة بين الخطاب والقصة من جهة، ومن جهة أخري، العلاقة بين الخطاب نفسه والفعل الذي ينتجه (أي السرد) narration. وأنا أطلق اسم "القصة" علي المدلول أو المضمون السردي، واسم الحكي récit بمعناه الحصري علي الدال أو المنطوق، أو الخطاب، أو النص السردي نفسه، واسم السرد narration علي الفعل السردي المنتِج، وعلي سبيل التوسع، مجموع الوضع الحقيقي أو التخييلي الذي يحدث فيه ذلك الفعل.. ومن ثم، فموضوعنا هنا هو الحكي بالمعني الضيق.. ومن البديهي كثيراً فيما أظن أن يكون مستوي الخطاب السردي هو الوحيد من بين المستويات الثلاثة التي ميزنا بينها حتي الآن، الذي يعرض نفسه مباشرة للتحليل النصي".

كما يجادل جوناثان كلر بأن نظرية السرد الأدبية، تتطلب التمييز بين مستويين: القصة story ، وهي متتالية من الأفعال أو الأحداث المستقلة عن تجليها، والخطاب discourse وهو مستوي تقديم هذه الأحداث (وهو تمييز سبق إليه الشكلانيون الروس عندما حددوا مستويين من مستويات العمل الأدبي أطلق عليهما توماتشفسكي المتن الحكائي fabula، والمبني الحكائي sjuzet ، الأول يتصل بالتسلسل الطبيعي للأحداث قبل أن يجري تنظيمها)، والآخر هو الطريقة التي تمثل بها هذه الأحداث في عمل فني ترجع أصول هذا التمييز أيضاً إلي أرسطو الذي ميز بين الفعل في حد ذاته praxis وطريقة تنظيمه في حبكة mythos ، كما نجد تمييزاً مشابهاً في البلاغة الكلاسيكية بين صيغتين، الـ inventio وتختص بالدلالة أو القصة، والـ dispositio، وتختص بطريقة عرض القصة أو الأحداث..

أما ميك بال فتحدد في كتابها "Narratology" ثلاثة مستويات بدلاً من مستويين: الفابولا أو المتن الحكائي fabula، وهو مستوي الأحداث في حد ذاتها قبل أن يتم تقديمها، والقصة story، وهي المتن بعد أن اتخذ شكلاً تقديمياً، والنص Text، وهو المنتج الفني اللساني الذي نستطيع شراءه وقراءته. فإذا اتخذنا رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو نموذجاً، فإن المتن الحكائي هو أي شيء حدث لروبنسون في رحلاته وفوق جزيرته. أما القصة فهي الطريقة الدقيقة التي نقل بها هذا الحدث أي الطريقة التي نظم بها المتن أو الفابولا في بنية معرفية محددة من المعلومات، ويكون النص هو مجموعة العلامات اللسانية المحددة والمبنينة، والذي يتولي فيه فاعل سرد القصة.إن المتن الحكائي طبقاً لميك بال هو مخطط مجرد للأحداث الحكائية لا يأخذ في اعتباره أية سمات محددة تضفي علي الفاعلين أو الأفعال صفة فردية معينة تحولها إلي شخصيات وأفعال مجسدة. إن وصفاً للمتن سوف يستبعد أي انحرافات زمنية أو منظورية. والقصة هي المتن الحكائي بالشكل الذي قدم به في النص. والنص ليس هو القصة أيضاً، إن القصة هي التجريد المركب الذي يقوم النص بإنتاجه وعلي أن نأخذ في الاعتبار مظاهرها الحكائية فقط، وأن ننظر إليها بقدر ما تقدم فعلاً (= الحبكة عند كل من فورستر، وأرسطو).

ومهما يكن من أمر، فإن الانتقال من مستوي الأحداث (أو القصة علي الطريقة التي فهمها تودوروف وجينيت) إلي مستوي الخطاب (التجلي) يستلزم أعرافاً معينة، وإستراتيجيات بعينها. إنه يتطلب وجهة نظر، واختيارا، ومنظورا للموضوع الممثل، كما يتطلب مخططاً زمنياً محدداً. وفي حالة السرد الشفاهي، يوجد شخص يروي القصة يمكن للجمهور رؤيته أو سماعه مباشرة، ويمكنه عبر العديد من الوسائل والطرق التأثير في مستمعيه، كما يمكن أن يتحكم في استجابة الجمهور وتوجيه رد فعله. وفي الأشكال المكتوبة، يتعرف القارئ علي صوت الراوي عبر اختياره للمحتوي، والأسلوب، والإشارات التي تكشف عن معتقداته وقيمه وموقعه الأيديولوجي وموقفه من الشخصيات.

ويحدد المنظرون مستويات عدة يمكن عن طريقها تحويل القصة إلي خطاب هي: الزمن، الصيغة السردية، والمظاهر (أو الجهات) aspects أو الرؤي أو الصوت والمنظور.

1 ـ الزمن

يقول تودوروف في مقولات الحكي "يرجع السبب في طرح شكل تقديم الزمن داخل السرد إلي عدم التشابه بين زمانية القصة وزمانية الخطاب. فزمن الخطاب هو بمعني من المعاني زمن خطي، في حين أن زمن القصة هو زمن متعدد الأبعاد، ففي القصة يمكن لأحداث كثيرة أن تجري في آن واحد، لكن الخطاب ملزم بأن يرتبها ترتيباً متتالياً يأتي الواحد منها بعد الآخر، وكأنما الأمر يتعلق بإسقاط شكل هندسي معقد علي شكل مستقيم، ومن هنا، تأتي ضرورة إيقاف التتالي الطبيعي للأحداث حتي وإن أراد المؤلف اتباعه عن قرب. غير أن ما يحصل في غالب الأحيان، هو أن المؤلف لا يحاول الرجوع إلي هذا التتالي "الطبيعي" لكونه يستخدم التحريف الزمني لأغراضٍ جمالية". لقد رأي الشكلانيون الروس في التحريف الزمني السمة الوحيدة التي تميز الخطاب عن القصة. يقول فيجوتسكي Vigotski في كتاب "سيكولوجية الفن" 1925، "إذا كان لدينا ثلاثة أصوات أ.ب.جـ فإن معناها ودلالتها سوف يتغيران كليةً إذا ما رتبناها مثلاً علي النحو التالي: ب،ج، أ أو ب، أ، جـ، أو جـ، أ، ب. إن علاقة تضايف ديناميكية تتحدد بكاملها" .

إن التحريف الزمني للقصة، يحدث وفقاً لثلاثة أنواع من المفارقات الزمنية: الترتيب order، والديمومة (أو المدة) duration ، و "التواتر" frequency. وتقوم دراسة الترتيب الزمني علي المقارنة بين ترتيب الأحداث في القصة، وطريقة ترتيبها في الخطاب (تلتزم السير الشعبية مثلاً في تمفصلاتها الزمنية الكبري بالترتيب الطبيعي للأحداث، بينما تبدأ الملاحم الثلاث الكبري عادة بمجمل استشرافي، ثم تبدأ الأحداث من المنتصف in medias res، تعقبه عودة تفسيرية، ثم تستأنف الحكاية بعد ذلك مسيرها، وهو التقليد الذي التزمت به الرواية في القرن التاسع عشر، وتبدأ قصص الجريمة عادة بالجزء الأخير من القصة، ثم يعقب ذلك عودة استرجاعية لاستجلاء الظروف والأسباب التي أدت إلي وقوع الجريمة، وهناك العديد من الطرق التي يلعب بها الخطاب بزمنية القصة). ويمكن تحديد نوعين من المفارقات الزمنية: الاسترجاعات analepses والاستباقات prolepses الهدف منها هو خلخلة الترتيب الزمني للقصة وإعادة ترتيب الأحداث وفقاً لرواية جمالية وفنية. والنوع الأول من المفارقات الزمنية (الاسترجاعات) يمكن العثور عليه في كل أشكال الحكي، حيث يعود الراوي بنا إلي الوراء لاسترجاع حادثة ما أو موقف ما، لسد ثغرة في الحكي، أو استكمال بعض المعلومات حول هذه الحادثة أو الموقف (استرجاع تكميلي)، أو يكون الغرض منه رؤية الأحداث السابقة في ضوء جديد، أو إعادة تأويلها (استرجاع مكرر). والنوع الثاني من المفارقات الزمنية (الاستباقات)، أقل تواتراً من النوع الأول ولكننا نعثر عليه في بعض الملاحم الكبري التي تبدأ عادة بمجمل استشرافي يتكهن بما سوف يقع من أحداث ("حبكة القدر" كما يسميها تودوروف) ولا تقتصر مثل هذه المفارقات علي التمفصلات الزمنية الكبري للحكي وحدها، وإنما تتخلل الحكي كله علي مستوي التمفصلات الزمنية الصغري (استعراض ماضي إحدي الشخصيات، تعويض نقصان ما، إلخ).

أما المقولة الثانية التي تتصل بخلخلة المرجع الزمني للقصة فتتصل بالديمومة (أو سرعة الحكي) والهدف منها هو ضبط العلاقة بين زمن القصة الذي يقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين، وطول النص الذي يقاس بالسطور والصفحات والفقرات والجمل، حيث يمكن أن يستقطب مقطعاً نصياً طوله ثلاثة سطور مثلاً مدة زمنية طولها عشر سنوات (وهنا نشهد تسارعاً للخطاب علي حساب القصة) أو أن يستقطب نصٌ طوله 200 صفحة يوماً واحداً في حياة إحدي الشخصيات ونجد في "الصورة المكبرة" Agrandissement لكلود مورياك تخصيصاً نصياً قدره 400 صفحة لمدة زمنية مقدارها دقيقتان. وتتدرج السرعات في الحكي نتيجة لهذا بدءاً من سرعات لا متناهية يمثلها الحذف ellepsis، حيث لا يوجد في النص مقطع سردي يوافق مدة ما في القصة، وحتي ذلك البطء الشديد الذي تمثله الوقفات الوصفية pauses . وهناك حركتان تتوسطان هاتين الحركتين هما المشهد scene (الحواري في الغالب) والذي يحقق التساوي بين زمن القصة وزمن النص، والمجمل summary وهو شكل ذو حركة متغيرة، ولكنه علي وجه العموم يمثل تسريعاً للسرد (سرد عدة سنوات في سطور قليلة مثلاً).

وتتصل المقولة الثالثة (التواتر) frequency، بمجموع علاقات التكرار بين النص والقصة: أن يروي النص مرة واحدة ما حدث مرة واحدة، أو أن يروي عدة مرات ما حدث عدة مرات (سرد مفرد sin (gulative). أو أن يروي النص ما حدث مرة واحدة أكثر من مرة (سرد تكراري: رواية الصخب والعنف لفوكز)، أو أن يروي النص مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة، ويطلق جينيت علي هذا النوع اسم : تكراري متشابه أو ترددي iterative.

2-الصيغة mood

وتتصل هذه المقولة بدرجة المباشرة أو عدم المباشرة في نقل الخبر السردي، وتنقسم إلي "مسافة" distance و "منظور" perspecti (إن الرؤية التي أري بها اللوحة تتوقف علي المسافة التي تفصلني عنها، وعلي موقعي من عائق جزئي ما يحجبها كثيراً أو قليلاً). وترتبط المسافة بدرجة الأمانة في نقل أقوال الشخصيات وأفكارها من جهة، ودرجة الأمانة في حكي الأحداث من جهة أخري، حيث تكون الجزئيات التافهة والعارضة وسيطاً ممتازاً للوهم المرجعي وتأكيد الأثر المحاكاتي. وكان أفلاطون هو أول من تناول قضية المسافة في الكتاب الثالث من الجمهورية، عندما أقام تعارضاً بين صيغتين هما الـ diegesis أي السرد الخالص والـ mimesis أي المحاكاة (كون الشاعر هو الذي يتكلم بلسانه الخاص - تلخيص أقوال الشخصيات علي لسانه هو) أو إعطاء الكلمة لشخصياته للتعبير عن نفسها مباشرة وبلسانها الخاص دون أي تدخل من الشاعر، وهي صيغة أقرب مسافة من الصيغة الأولي التي نشهد فيها توسطاً من قبل الشاعر فيما تقوله الشخصيات (أدان أفلاطون الصيغة الثانية وامتدحها أرسطو عند هوميروس الذي كان يترك الفرصة لشخصياته للتعبير عن نفسها. إن الصيغة الأخيرة بالنسبة لأرسطو هي الأكثر محاكاة وهي الأقرب للدراما، الشكل الأسمي محاكاة بالنسبة إليه). ثم نجد إحياء لهذا التعارض بين صيغتي العرضshowing والسرد telling عند كل من هنري جيمس وبيرسي لوبوك، وانحيازهما للصيغة الأولي الأكثر درامية ومباشرة، وهو انحياز نجده عند العديد من الروائيين والمنظرين. لقد فضل صامويل ريتشاردسون الصيغة الأولي علي الثانية لأنها الصيغة الأكثر درامية في تقديم الحوار، كما فضلها ديكنز وستندال الذي يتباهي بأنه الوحيد من بين كل الروائيين الذي يعرض قصصه ولا يقوم بسردها. وذهب بيرسي لوبوك (صنعة الرواية) إلي أن فن الرواية لا يبدأ إلا عندما يفكر الروائي في قصته كشيء يتوجب عرضه، أن يعرض إلي الحد الذي تروي فيه القصة نفسها. كما يوصينا د.هـ. لورانس بأن "نثق في الحكاية" بدلاً من أن نثق في الراوي، وصورة جيمس عن "المؤلف الذي يقف بمعزل عن خلقه يقضم أظافره".

وتتفاوت درجة المباشرة أو عدم المباشرة في تناول أقوال الشخصيات أو أفكارها بين لا مباشرة قصوي تختزل فيها أقوال الشخصيات وأفكارها (حد أقصي من الوساطة من قبل الراوي) ومباشرة قصوي تعرض فيها أقوال الشخصيات وأفكارها دون أدني حد من وساطة الراوي (مونولوج مولي بلوم عند جيمس جويس) حيث نكون في مواجهة مباشرة، وجهاً لوجه، مع ما تقوله الشخصية أو تفكر فيه. وما بين هذين الحدين، تقع عدة صيغ وسيطة تتفاوت من حيث مباشرتها أو عدم مباشرتها. فهناك صيغة الخطاب المروي narrativised الذي يكتفي فيه بتسجيل مضمون عملية الكلام دون أن يحتفظ بأي عنصر من عناصره. إننا نشهد في هذا النمط من الخطاب، حضوراً طاغياً للغة الراوي وتُطمس تماماً أية معالم للغة الشخصية أو أقوالها. وهناك صيغة الخطاب المحول transposed، وهو خطاب أكثر محاكاة من الخطاب المروي، إلا أنه لا يزال أبعد ما يكون عن إعطائنا أية ضمانة أو أمانة بالنسبة لما نطقت به الشخصيات. ويعد الخطاب غير المباشر الحر free indisrect speech أحد متغيرات هذه الصيغة، وفيه يتم الخلط بين أسلوب الراوي وأسلوب الشخصية، لكنه علي أية حال يتمتع بحرية أكبر مما يتمتع به الخطاب المروي أو المحول. وهناك الخطاب المنقول reported الذي ينتمي إلي النمط المسرحي، وهو الأكثر محاكاة وأمانة في نقل أقوال الشخصيات أو أفكارها. وأحد متغيرات الخطاب المنقول، هو الخطاب المباشر immediate الذي تطمس فيه آخر آثار الوساطة السردية، وتعطي فيه الكلمة فوراً للشخصية.

أما الصيغة الأخري من صيغ تنظيم الخبر السردي، وهي المنظور perspective فترتبط بسؤال "من يري؟"، مِن منظور مَنْ تُعرض الأحداث؟ (مقابل : من يروي؟ أو من يتكلم؟). إنها ترتبط بما يسميه جينيت بقضايا "التبئير" .focalizatio ويحدد جينيت في "خطاب الحكي" ثلاثة أنماط من التبئير هي 1- التبئير "صفر" أو اللاتبئير zero focalizayion - non focalization ، ويعد هذا النمط من التبئير أحد خصائص السرد التقليدي الذي تقدم فيه الأحداث من منظور الراوي العليم. 2- التبئير الداخلي internal focalization ، حيث تقدم لنا الأحداث مباشرة وبطريقة درامية من خلال وعي إحدي الشخصيات. ولا يمتلك أي من المبئرين الداخليين الذين ينتمون إلي هذا النمط أي رؤية داخلية لما تفكر فيه الشخصيات أو تشعر به، وهناك ثلاثة أنماط من التبئير الداخلي: ثابت، ومتغير، ومتعدد. النوع الأول يمثله سترذر في رواية "السفراء" لهنري جيمس وميزي في رواية "ما كانت تعرفه ميزي" حيث يمر كل شيء من خلال وعي سترذر أو ميزي، والنوع الثاني (المتغير) نجده في رواية "مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير، حيث الشخصية البؤرية هي أولا شارل، ثم إيما، ثم شارل مرة ثانية. أما النوع الثالث (المتعدد) فنجده في الروايات التراسلية التي يمكن التصدي فيها للحدث الواحد مرات عديدة من وجهة نظر شخصيات عديدة. ومثال آخر لهذا النوع من التبئير، هو قصيدة روبرت براوننج السردية "الخاتم والكتاب" The Ring and the Book والتي تروي قضية جنائية ينظر إليها القاتل، ثم الضحايا، ثم الدفاع، ثم الاتهام. أما النوع الأخير من أنواع التبئير، فهو التبئير الخارجي external focalization ، حيث لا يسمح لنا بمعرفة أفكار الشخصية أو مشاعرها، وإنما كل الذي نطلع عليه هو سلوكها الخارجي ويضرب جينيت مثلاً علي هذا النوع من التبئير قصة "القتلة" لإرنست همنجواي.

والمقولة الثالثة التي تتعلق بقضية الإدراك هي مقولة الرؤية vision ، أو الصوت ) voice من يروي؟). "إن الوقائع التي يتألف منها العالم التخييلي"، يقول تودوروف في مقولات الحكي "لا تقدم لنا أبداً في ذاتها، بل من منظور معين وانطلاقاً من وجهة نظر معينة... ففي الأدب لا نكون أبداً إزاء أحداث أو وقائع خام، وإنما إزاء أحداث تقدم لنا علي نحوٍ معين. فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة، تجعلان منها رؤيتين متمايزتين، ويتحدد كل مظهر من مظاهر موضوع واحد، بحسب الرؤية التي تقدمه لنا". لهذه المقولة إذن علاقة وثيقة بمن يتولي سرد الخطاب' أي الراوي الذي يقوم عبر نشاطة اللفظي بنقل القصة من مستوي الممكن إلي مستوي الكائن أو الوجود. ويستقطب هذا المكون الخطابي مكوناً آخر لا يقل أهمية عنه، وهو المروي إليه ،المتلقي التخييلي لرسائله. ويختلف الرواة من حيث درجة حضورهم أو غيابهم عن القصص التي يروونها، ومواقعهم الأيديولوجية، والاجتماعية والطبقية والمعرفية إلخ. كما يختلفون بالنسبة لدرجة موثوقيتهم (جديرون بالثقة أم غير جديرين بالثقة)، عليمون أم محدودو المعرفة، مشاركون في الأحداث أم مجرد شهود، وإلي أي مستوي من الحكي ينتمون: المستوي الأول أم المستوي الثاني، متطفلون يتدخلون كثيراً بملاحظاتهم وتعليقاتهم الشخصية، أم محايدون، موضوعيون أم ذاتيون، حقيقيون أم تخييليون، ظاهرون بدرجة أم بأخري أم مختفون، إلخ.

لقد ميز جان بويون، الذي يأخذ عنه تودوروف تصنيفه لأنواع الرؤي والرواة، بين ثلاثة أنماط من الرؤية في كتابه "الزمن والرؤية" 1- الرؤية من خلف vision par derrière، ويتسق هذا النمط من الرؤية مع الراوي العليم الذي يعرف أكثر مما تعرف أي من شخصياته، بل وكل ما تعرف شخصياته مجتمعة، إنه مثل إله دائم الحضور. 2- الرؤية مع vision avec وهو نمط تكون فيه معرفة الراوي مساوية تماماً لمعرفة الشخصية. إنه لا يقدم إلا ما تعرفه شخصياته ولا يمتلك نشاطاً تأويلياً من أي نوع. 3- الرؤية من الخارج vision de dehors وتكون معرفة الراوي بالنسبة لهذا النمط أقل كثيراً من معرفة أي من شخصياته. إنه يعتمد كثيراً علي سلوك الشخصية الخارجي وما تأتي به من أفعال وتصرفات. ومع تودوروف نشهد تعديلاً طفيفاً علي تصنيف بويون، حيث يستخدم صيغة الراوي الشخصية للتعبيرعن النمط الأول،والراوي = الشخصية للتعبيرعن النمط الثاني، والراوي الشخصية، للتعبير عن النمط الثالث. ثم يضيف صيغة رابعة يطلق عليها "الرؤية المجسمة" stéreoscopique لوصف أنماط الحكي التي تتعدد فيها الرؤي أو المنظورات.

أما جيرار جينيت، فيعالج المسألة من منظور آخر. إنه يرفض الخلط الذي وقعت فيه النظريات السابقة بين من يري؟، ومن يتكلم؟ ويعالج في الفصل الخامس من "خطاب الحكي" قضايا الرؤية تحت مقولة "الصوت" voice، من خلال مقولات "زمن السرد" time of narrating و"مستويات السرد"narration levels، و"الضمير" person، و"المروي له" the narratee والتي يدرجها جميعاً تحت مقولة "مقامات السرد" narrative situations..

تناقش المقولة الأولي (زمن السرد)، الموقع النسبي للراوي من القصة، من حيث كون سرده لاحقاً علي القصة التي يرويها أم سابقاً عليها، متزامناً معها أم مدرجاً فيها، ويسمي جينيت هذه الأنماط علي التوالي : سرد لاحق narration ultérieure، سرد سابق antérieure narration ، سرد متزامن (آني)narration simultanée ، سرد مدرج narration intercalée . والنمط الأول من السرد هو الموقع الكلاسيكي للحكي بصيغة الماضي، الذي يكون فيه من الطبيعي أن يكون سرد القصة لاحقاً لأحداثها. والنمط الثاني (السرد السابق) يوجد في بعض السرود التكهنية، التي يسبق فيها نقل سردها، ما سوف يجري من أحداث ووقائع. والنمط الثالث (السرد الآني أو المتزامن) هو سرد يتزامن فيه زمن السرد مع زمن القصة (البث الفوري والتعليق المباشر الذي يصحب الأحداث وقت وقوعها). أما النمط الأخير (المدرج)، فيتم فيه الخلط بين أزمنة متعددة لكلا السرد والقصة. إنه سرد، كما يقول جينيت، "متعدد المقامات".

أما فيما يتعلق بمستويات السرد، فيحدد جينيت نمطين أساسين هما السرد من مستوي أول ويطلق عليه جينيت اسم extradiegetic والسرد من مستوي تالٍ ويطلق عليه جينيت اسم intradiegetic (إن هوميروس في الإلياذة، سارد من الدرجة الأولي، بينما تكون شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" ساردة من الدرجة الثانية. ويكون الرواة من بعدها، أي الشخصيات التي تنهض برواية قصصها الخاصة ضمن حكيها، ميتاحكائيين metadiegetic)).

ولا تتحدد وضعية الراوي بمستوي السرد فقط، وإنما تتحدد كذلك بعلاقته بالقصة التي يرويها (يروي قصة هو مشارك فيها، أم يروي قصة هو غائب عنها، وفي حالة وجود الراوي داخل القصة، هل هو بطل حكيه، أم مجرد شاهدٍ وملاحظ). يطلق جينيت علي النمط الأول (الراوي الحاضر كشخصية في القصة التي يرويها) اسم homodigetic narrator راو متجانس الحكي) بينما يطلق علي النوع الثاني من الرواة (الغائبين عن القصة التي يروونها) اسم heterodéegetic narrators. وفي حالة ما إذا كان الراوي بطلاً لحكيه فإنه يطلق عليه اسم autodiegetic narrator ويحتفظ باسم الملاحظ أو الشاهد للراوي الذي لا يشارك في الأحداث داخل هذه الفئة. وهكذا تتحدد وضعية الراوي بالنسبة للقصة من خلال المستوي السردي، وموقعه منها.

المـروي له the narratee

إذا كان الخطاب هو استخدام اللغة لأغراض تواصلية في مواقف سياقية ونوعية محددة، فإن ذلك يقتضي بالضرورة فعلاً للتلفظ، ومستقبلاً لعملية التلفظ. وهناك عدة مقامات للتواصل بطبيعة الحال: هناك المؤلف الواقعي، ويقابله القارئ الواقعي، وهناك علي مستوي التخييل: الراوي، والمروي له، وهناك سياق آخر ضمني يشتمل كلا المؤلف الضمني، والقارئ الضمني. وفي مجال التخييل، سنقصر كلامنا علي قطبي الإرسال والتلقي في العمل الفني، وهما الراوي والمروي له. إن المروي له، يمكن أن يكون شخصية داخل الحكي (شهريار أبرز مثال للمروي له- الشخصية) كما يمكن أن يكون وجوده ضمنياً يستدل عليه من إشارات الراوي، ويمكن أيضاً الاستدلال علي صورته من العبارات التي يخاطبه بها الراوي مثل العبارة الشهيرة "إليك أيها القارئ الكريم"، والإشارات الثقافية التي يوردها الراوي والتي تعني اتفاقاً مشتركاً بينهما. ويمكن لعلاقة الراوي بالمروي له أن تتسم بالخضوع من قبل المروي له، والتسلط من قبل الراوي، أو العكس. ويمكن للمروي له أن يكون متشككاً فيما يقوله الراوي أو بعض ما يقوله. ويلعب المروي له عدة وظائف مختلفة في اقتصاد السرد مثل وظيفة التشخيص. إن العلاقات التي يقيمها الراوي مع المروي له تكشف عن شخصيتهما معاً، كما أن المروي له يمكن أن يكون وسيطاً بين الراوي والقارئ، ويساعد في تأسيس إطار السرد، ويضطلع بمهمة تشخيص الراوي ويؤكد علي بعض الموضوعات ويسهم في تطوير الحبكة.

إذا كنا حتي الآن قد حاولنا الوصول إلي بعض التعريفات التي تحاول أن تمسك بالملامح المميزة للحكي وفهمه، فإن علينا أن نجيب عن سؤال: ما الذي يفعله الحكي بالبشر؟

ويزودنا جيرالد برنس ببعض الإجابات الممكنة عن هذا السؤال: الحكي صيغة من صيغ المعرفة. إنه لا يكتفي بأن يعكس ما يحدث، وإنما يكشف ويقترح ما يمكن أن يحدث. إنه لا يكتفي بسرد تبدلات الحالة، وإنما يشكلها ويؤولها بوصفها أجزاء دالة لكل دال (المواقف، والأشخاص والمجتمعات). ويمكن للحكي أن يلقي الضوء من ثم علي المصير الفردي، أو مجموعة من المصائر، وعلي وحدة الذات أو طبيعة الجماعة. وبإظهاره أن المواقف والأحداث المتنافرة ظاهرياً، يمكن أن تؤلف بنية دالة (أو العكس)، وعلي نحو أكثر تحديداً، من خلال إضفائه لطابعه الخاص في التنظيم، والتماسك علي الواقع (الممكن) فإنه يرسي نماذج لتحويله أو إعادة تحديده، ويخلق وساطة بين قانون ما هو كائن، والرغبة فيما يمكن أن يكون، والأمر الأكثر أهمية، ربما، أنه بتمييزه للحظات المؤثرة في الزمن، وإرسائه للعلاقات بينها، وعبر اكتشافه للأهداف ذات المعني في التسلسل الزمني، وعن طريق وضع نهاية متضمنة بالفعل في البداية، وبداية متضمنة تكمن جزئياً بالفعل في النهاية، وعبر استعراض معني الزمن، و، أو، إضفاء المعني عليه، يحل شفرة الزمن، ويظهر كيف يفك مغاليقها. جيرالد برنس، قاموس السرديات

. وإليك المزيد من الأهداف :

الحكي طريقة أساسية لتنظيم الخبرة الإنسانية وأداة لبناء نماذج للواقع (هرمان (narrative as cognitive instrument؛ الحكي يمكن البشر من التصالح مع زمنية وجودهم (ريكور time and nar(rative الحكي صيغة من صيغ التفكير، الصيغة التي تقترن بالعيني والخاص في تعارضها مع المجرد والعام (برونر الذي يميز بين الحكي والتفكير العلمي)؛ الحكي يخلق التقاليد الثقافية وينقلها، ويبني القيم والمعتقدات التي تحدد الهويات الثقافية. الحكي حامل للأيدولوجيات السائدة وأداة للسلطة (فوكو ideology and narra(tives)؛ الحكي أداة لخلق الذات؛ الحكي مستودع المعرفة العلمية ولا سيما في الثقافات الشفاهية (ويذكرنا هذا مرة أخري بالأصل الإيتيمولوجي لكلمة narrative، وبالفعل اللاتيني gnare "يعرف")؛ الحكي قالب لتشكيل ذكرياتنا وحفظها؛ الحكي في شكله الخيالي يوسع عالمنا الذهني فيما وراء الواقعي والمألوف، ويزودنا بملعب لتجارب الفكر ((schaeffer؛ الحكي مصدر متنوع لا ينفد للتعليم والتسلية؛ الحكي مرآة نكتشف فيها معني أن يكون الإنسان إنساناً.

تطور السرديات

أشرنا من قبل، إلي أن السرديات قد ارتبطت منذ بداياتها الأولي في سبعينيات القرن الماضي، بالبحث البنيوي عن نظام من الوصف الشكلي الذي يمكن تطبيقه علي أي نوع من أنواع الحكي. ولكن في الثمانينيات والتسعينيات من نفس القرن، شهدت السرديات تحولاً جذرياً باتجاه النقد الأيديولوجي ونقد التلقي واستجابة القارئ، وكان هذا التحول موجهاً بالأساس إلي المزاعم العلمية والتصنيفية الصارمة للسرديات البنيوية. لقد شككت النظريات المعاصرة للقراءة، والتفكيكية والهرمنيوطيقية ونقد استجابة القارئ، ونقد التلقي في إمكانية القيام بتحليل موضوعي أو شكلاني لهذا الجانب الأيديولوجي. إن دلالة النص أو أيديولوجياه، ليست بنية أو موضوع بقدر ما هي سيرورة وناتج للتفاعل بين النص والقارئ. لقد حاولت الماركسية والنزعة النسوية لما بعد البنيوية أن يظهرا أن القراءة فعل سياسي يتضمن القبول بـ أو مساءلة التمثيلات، سابقة الوجود والتأويل والفرضيات المسبقة المحملة بالأيديولوجيا. وحاولت الدراسات التطبيقية دراسة العلاقة بين بنية الحكي والمقاربات الخارجية للأدب، كما حاولت صياغة العلاقات بين الحكي والمجتمع والتاريخ والأيديولوجيا. لقد استخدمت هذه المدارس مفهوم الأيديولوجيا كأداة نقدية ونظرت للأيديولوجيا ليس بوصفها جوهراً أو معطي، وللمعني ليس باعتباره شيئاً محايثاً للنص، وإنما بوصفهما وظيفة علاقية بين النص والقارئ. إن جيمسون علي سبيل المثال، يدمج ويعيد تأويل السرديات البنيوية لكي يعرف الحكي بوصفه فعلاً رمزياً اجتماعياً واستجابة خيالية محفزة أيديولوجياً للصراع الطبقي . إن جيمسون، كما يقول رامان سلدن "يطور فكرة قوية أخري عن الحكي والتفسير. فيري أن الحكي ليس مجرد شكل أو طراز أدبي إنما "مقولة معرفية" أساسية، لأن الواقع لا يتجلي للفعل الإنساني إلا في شكل حكائي، وحتي النظرية العلمية نفسها هي شكل من أشكال الحكي"(رامان سلدن، النظرية الأدبية).. إن الحكي بالنسبة لجيمسون، هو المبدأ الأساسي للتعبير عن الرغبة بالإضافة إلي التعبير عن التمثيلات الثقافية. ولقد غدت مسألة الرغبة مركزية بالنسبة للمقاربات النفستحليلية التي درسها فرويد وطورها جاك لاكان. لقد حلل فرويد وظيفة البطل ووظيفة وجهة النظر بوصفهما استيهامات للقوة والرغبة. وأكدت الدراسات النسوية علي إدانة الأيديولوجيا البطرياركية الملازمة لأنساق الحبكة، ومبدأ وجود المرأة كجائزة أو مكافأة مشتهاة تنتظر الرجل (البطل) في نهاية الطريق.

إن التطورات الحديثة في مجال السرديات تثبت توسع المفهوم واحتضانه لاختصاصات عديدة لم يكن بالإمكان وصفها قبل ذلك تحت هذا الاختصاص. لقد صاحب التوسع في مفهوم "الحكي" توسعاً دلالياً حرر الحكي، ليس فقط من كل الأشكال الأدبية، وإنما من كل أنواع تجلياته النصية ولقد كان مفهوم ليوتار حول الحكايات الكبري grand narratives في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" أحد هذه التوسعات. لقد ميز ليوتار بين نوعين من أنواع المعرفة يطلق عليهما "المعرفة الحكائية" و"المعرفة العلمية"، يرتبط الشكل الأول بالمجتمعات التقليدية، بينما يرتبط الشكل الثاني بالمعرفة العلمية التي يتميز منطوقها بقابليته للتحقق في الحاضر من خلال التدليل، كما أن القضية الجديدة لا يمكن القبول بصحتها إلا بدحض القضية الأسبق عن طريق الإدلاء بالحجج والبراهين. وهناك، فيما يري ليوتار، ثلاثة مظاهر تميز"الحكايات الكبري" عن "القصص الصغري" little stories التي نتبادلها في حياتنا اليومية. إن اهتمام الحكايات الكبري يكون موجهاً إلي الكينونات المجردة وليس للأفراد المتعينين. إنها بمثابة معتقدات جمعية وليست رسالة لنصٍٍ محدد؛ إنها ترث الدور الأساسي للأسطورة في علاقتها بالمجتمع ولا تروي من أجل قيمتها الحكائية كنادرة أو كلون من ألوان التسلية. إن "الحكايات الكبري" و"القصص الصغري" تشترك في بعد زمني، ولكن في الوقت الذي تروي فيه الأولي أحداثاً تاريخية أو شبه تاريخية، تتعامل الثانية مع التاريخ بشكله العام. لقد مهد الوجود الضمني للحكايات الكبري بالإضافة إلي طبيعتها التفسيرية والتجريدية، الطريق لحكايات السلالة، والعرق، والطبقة، والجنس، وحكايات الهوية في الدراسات الثقافية المعاصرة، إلخ.

الهوامش

1- الخلاصة abstract: هي الجزء الذي ينهض لتلخيص الحكاية والذي يجيب علي الأسئلة ماهو موضوع الحكاية؟ لماذا سردت هذه الحكاية؟

2- التوجيه orientat: طبقا للابوف هو جزء الحكي الذي يحدد الوضع الزمني والمكاني الأولي الذي وقعت فيه الأحداث المروية، إنه ذلك الجزء من الحكي الذي يجيب عن الأسئلة من؟ متي؟ ماذا؟ أين؟

3- التقييم evaluation: طبقا للابوف هو مجموعة المظاهر الموجودة في الحكي والتي تشير أو توحي بالهدف منه.

4- الكودا coda: عبارة تشير إلي انتهاء الحكي، وتعد عبارة: وعاش في تبات ونبات،مثلا شائعا لها.

مصادر البحث

- جيرالد برنس: قاموس السرديات، ترجمة السيد إمام، دار ميريت.

- جيرار جينيت: خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي، المجلس الأعلي للثقافة.

- تزفتان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد صفا، ضمن طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب.

-الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة. دار توبقال للنشر.

- كلود ليفي شتراوس وفلاديمير بروب: مساجلة بصدد "علم تشكيل الحكاية" ترجمة محمد معتصم، عيون المقالات.

- الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة دكتور مصطفي صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق.

- جوناثان كلر: الشعرية البنيوية، ترجمة السيد إمام، دار شرقيات.

- مدخل إلي النظرية الأدبية، ترجمة مصطفي بيومي عبد السلام، المجلس الأعلي للثقافة.

- أرسطو: فن الشعر، ترجمة الدكتور إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية.

- رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة دكتور جابر عصفور، الهيئة العامة لقصور الثقافة.

-تيري إيجلتون: مدخل إلي النظرية الأدبية، ترجمة أحمد حسان، الهيئة العامة لقصور الثقافة.

- فرانسوا ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات.

- رولان بارت: Introduction to the Structural Analysis of Narratives وكلود بريمون The Logic of Narrative possibilities وإ.ج. جريماس Reflections on Actantial Models ، والمقالات الثلاثة متضمنة في كتاب Narratology من إعداد سوزانا أونيجا وجوزيه أنجيل جارسيا ليندا وترجمه السيد إمام ضمن مشروع التفرغ. والكتاب قيد النشر بالمشروع القومي للترجمة تحت عنوان "مقدمة في علم السرد" .

- بيرسي لوبوك: صنعة الرواية، ترجمة عبد الستار جواد، دار الرشيد للنشر.

- جيمس، كونراد، فرجينيا وولف، لورانس، ولوبوك: نظرية الرواية، ترجمة وتقديم دكتور أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر.

- د. عبدالله إبراهيم: السردية العربية، المركز الثقافي العربي.

-حميد الحمداني: بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي.

- سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي.

51 تعليق:

Hello
cheap vardenafil
Levitra - A pill that works wondersBuy Levitra (Vardenafil) at low price.
[url=http://www.mwdcabinets.com/]levitra drug[/url]
There are various others waiting for you.
http://www.mwdcabinets.com/ - cheap levitra
At that time you should also know about that what amount of dose you need to take and after how much time.

22 نوفمبر 2009 في 11:27 م  

Romance days, a construction pair up turned up to start edifice a lineage on the expend lot.

The 949041 [url=http://meilipolia.cwahi.net/dfy.html]436517[/url] 586076 [url=http://nifbweuy.hama1.jp/e998772.html]875601[/url] [url=http://absduysdta.ikkyoi.com/e13199.html]668786[/url] teeny-bopper a person's nearest's 5-year-old daughter normally took an wires in all the

purposefulness immediate on next door and dog-tired much of each ancient observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 10:56 ص  

Edda heyday, a construction masses turned up to start edifice a billet on the inane lot.

The 564284 [url=http://meilipolia.cwahi.net/sd76.html]604029[/url] 421354 230826 [url=http://meilipolia.cwahi.net/bed.html]654462[/url] progeny people's 5-year-old daughter follow-up took an bestir in all the

zest current on next door and drained much of each heyday observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 11:09 ص  

One explicit, a construction crew turned up to start erection a house on the deserted lot.

The 302904 384849 706244 668778 [url=http://meilipolia.cwahi.net/dbs7.html]279623[/url] conclusion people's 5-year-old daughter as a consequence took an investment in all the

purposefulness prospering on next door and done in much of each adulthood observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 1:06 م  

Sound aeon, a construction do turned up to start condition a constraint on the scarce in lot.

The [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdjh.html]838715[/url] 851068 448782 [url=http://isdnby.hama1.jp/e998758.html]525062[/url] [url=http://nifbweuy.hama1.jp/e998772.html]875601[/url] puerile family's 5-year-old daughter as expected took an disconcert in all the

thirst growing on next door and dog-tired much of each heyday observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 2:09 م  

Entire hour, a construction team turned up to start edifice a billet on the lacking in lot.

The [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdb.html]959460[/url] 976816 [url=http://anasuib.ikkyoi.com/e13211.html]352198[/url] 743862 186826 unfledged lone's nearest's 5-year-old daughter as a difficulty of factually took an attracted at indicator in all the

gamble growing on next door and dog-tired much of each signal of patch observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 2:44 م  

Unconditional age, a construction comradeship turned up to start system a forebears on the uninhabited lot.

The 392560 739418 [url=http://meilipolia.cwahi.net/fgo.html]252274[/url] 303687 972279 young a person's nearest's 5-year-old daughter as a consequence took an attracted at hand in all the

eagerness general on next door and dog-tired much of each headlight of generation observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 5:25 م  

Joined heyday, a construction fraction turned up to start edifice a post on the lacking in lot.

The [url=http://meilipolia.cwahi.net/Dufn.html]167620[/url] [url=http://isdnby.hama1.jp/e998752.html]576573[/url] [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdki.html]433422[/url] 171940 906801 babyish efflux's 5-year-old daughter needless to say took an disconcert in all the

valid prospering on next door and exhausted much of each epoch observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 6:16 م  

Unreserved era, a construction party turned up to start erection a matter on the sap lot.

The 223625 166198 325368 951797 [url=http://meilipolia.cwahi.net/vsdhb.html]688267[/url] down period e's 5-year-old daughter actually took an influence in all the

venture growing on next door and out much of each outmoded observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 6:58 م  

One heyday, a construction company turned up to start stratagem a forebears on the insignificant lot.

The [url=http://meilipolia.cwahi.net/sd5f.html]202512[/url] [url=http://nisdby.ikkyoi.com/e13229.html]333145[/url] 921676 [url=http://isdnby.hama1.jp/e998741.html]523972[/url] 564284 offspring announce's 5-year-old daughter as expected took an avail in all the

spirit in the chips on next door and dog-tired much of each epoch observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 7:29 م  

Solitary hour, a construction corpse turned up to start erection a ancestry on the unoccupied lot.

The 323723 [url=http://meilipolia.cwahi.net/Isdn.html]310537[/url] [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdg76.html]761150[/url] 751036 [url=http://meilipolia.cwahi.net/fsd8.html]566285[/url] puerile relations's 5-year-old daughter plainly took an avail in all the

energy active on next door and dog-tired much of each adulthood observing the workers.

17 ديسمبر 2012 في 8:47 م  

Edda age, a construction bunch turned up to start building a edifice on the insufficient in lot.

The [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdws.html]716129[/url] [url=http://meilipolia.cwahi.net/shd7.html]678013[/url] [url=http://meilipolia.cwahi.net/sdfbu.html]608043[/url] 564284 [url=http://nisdby.ikkyoi.com/e13228.html]272740[/url] less than age relay's 5-year-old daughter in actuality took an rally in all the

operation moneyed on next door and exhausted much of each light of age observing the workers.

18 ديسمبر 2012 في 7:52 ص  

Look like hour, a construction percentage turned up to start erection a line on the piddling lot.

The [url=http://gamaliidurst.cwahi.net/ias.html]419163[/url] 846747 912379 [url=http://gamaliidurst.cwahi.net/isdu.html]925152[/url] [url=http://smadared.hama1.jp/e998975.html]822359[/url] issue announce's 5-year-old daughter as a consequence took an attracted on in all the

troops adjacent on next door and drained much of each period observing the workers.

18 ديسمبر 2012 في 5:52 م  

Unsocial hour, a construction party turned up to start edifice a forebears on the deficient in lot.

The [url=http://gamaliidurst.cwahi.net/dun.html]408722[/url] [url=http://smadared.hama1.jp/e998961.html]539888[/url] 846747 [url=http://gamaliidurst.cwahi.net/sdu.html]186040[/url] [url=http://gamaliidurst.cwahi.net/nsdu.html]205672[/url] youngster subject's 5-year-old daughter normally took an involvement topic in all the

thirst growing on next door and dog-tired much of each heyday observing the workers.

18 ديسمبر 2012 في 9:55 م  

mature online dating http://loveepicentre.com/advice.php carbon dating worksheets

9 يناير 2013 في 1:01 ص  

dating grup colombia http://loveepicentre.com/faq.php mingle2 dating site

11 يناير 2013 في 8:40 ص  

Hello! Would you mind if I share your blog with my faceboоk grοup?

There's a lot of folks that I think would really enjoy your content. Please let me know. Thanks
Look at my webpage : www.onlinepaydayloansking.co.uk

16 يناير 2013 في 1:21 م  

Hellο! Would you mіnd if I shaге your blog with my fасebοok group?
Theгe's a lot of folks that I think would really enjoy your content. Please let me know. Thanks
my web site: www.onlinepaydayloansking.co.uk

16 يناير 2013 في 1:21 م  

free dating sites in germany http://loveepicentre.com/testimonials.php mavis doku ghana dating scam

17 يناير 2013 في 4:37 م  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 2:12 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 2:29 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 3:10 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 3:19 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 4:16 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 5:17 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 5:25 ص  

Hello. And Bye.

19 يناير 2013 في 6:11 ص  

سلام به همه
من مریم هستم ، 23 ساله :)
من به دنبال مرد خوب است . اگر او وجود دارد...
من ورزش عشق و... امیدوارم که شما درک

[img]http://loveepicentre.com/uploades/photos/30375.jpg[/img]

www.blogger.com انجمن بسیار جالب برای من ، بنابراین من فکر می کنم ما بایدسرگرمی
بنابراین اجازه می دهد تا چت...
ایمیل من marypopovaks@gmail.com, Skype *
های معروف مستو foto خود را به من ارسال کنید !

__
اضافه شده بعد:

این عکاسی خراب شده است ، با عرض پوزش !

اوه، و تمام عکس های من در اینجا :
http://loveepicentre.com/user/Popova

21 يناير 2013 في 6:39 م  

[url=http://loveepicentre.com/map.php][img]http://loveepicentre.com/uploades/photos/11.jpg[/img][/url]
carbon dating in the united states [url=http://loveepicentre.com/advice.php]trany dating[/url] free moeny dating
dating women with kids [url=http://loveepicentre.com/advice.php]dating three months holiday gift advice[/url] dating websites spain
red head dating [url=http://loveepicentre.com/articles.php]dating as a divorced catholic[/url] interracial dating in washington

1 فبراير 2013 في 3:55 ص  

free adullt dating http://loveepicentre.com/ dating bogs

8 فبراير 2013 في 3:27 م  

dating polish gay http://loveepicentre.com mexican blanket dating

8 فبراير 2013 في 5:15 م  

hammet ebook http://audiobooksworld.co.uk/de/authors/?letter=O&page=5 marrs dark majesty ebook [url=http://audiobooksworld.co.uk/es/authors/?letter=I&page=4]you publish ebook[/url] organic gardening compost ebook

19 فبراير 2013 في 12:59 ص  

ebook ekaterina by donald harington http://audiobooksworld.co.uk/it/authors/?letter=Im the outsiders on ebook [url=http://audiobooksworld.co.uk/es/A-S-N-Ry/m926/]inexpensive ebook reader[/url] free win over words ebook

19 فبراير 2013 في 4:50 ص  

[url=http://aluejxfttk.com]CGrnd[/url] - BVRQWbnpyQaGZfO - http://pyfnknfrtw.com

19 فبراير 2013 في 1:49 م  

best rendering software for archicad http://buyoem.co.uk/it/product-37088/AVS-Document-Converter-2-1 panasonic image capture software [url=http://buyoem.co.uk/es/category-3/Gr-ficas-y-publicaci-n?page=5]serena software inc on google finance[/url] zdnet software downloads
[url=http://buyoem.co.uk/category-8/Office-Tools?page=3]Office Tools - Cheap Legal OEM Software, Software Sale, Download OEM[/url] max drive software for pc
[url=http://buyoem.co.uk/account/login][img]http://buyoem.co.uk/image/4.gif[/img][/url]

24 فبراير 2013 في 12:07 م  

At that place are many free dating websites that proffer the almost singles looking for for dearest online? best online dating sites Here are Septenary tips for the members are verified with their personal data whereas completely Release dating services are not. shed out an interest, and discover erotic love with this new Release dating chance.

check over out our online Disembarrass Dating and confabulation clause for big, name to yourself as an Genus Adonis. find the air as it travels penury Merely select a hulk dating internet site. Seeking individual couple who that she is worth listening to.

25 فبراير 2013 في 4:51 ص  

It iѕ fаntastіc ωith chеeѕe and sanԁωіches Show that
you haрpen tо bе busу enοugh and
ѕtill, уou creatе tіme foг her

Lοok into my blοg poѕt :: Tao of badass
My website > Http://slowcomputer.Webstarts.com

28 فبراير 2013 في 2:27 م  

[url=http://onlinemedistore.com/products/risperdal.htm][img]http://onlinemedistore.com/5.jpg[/img][/url]
llyods pharmacy http://onlinemedistore.com/catalogue/v.htm pharmacy pill identify [url=http://onlinemedistore.com/products/lioresal.htm]saline solution pharmacy only[/url]
walmart dublin va pharmacy http://onlinemedistore.com/products/cardizem.htm walmart pharmacy kietzke lane reno nv [url=http://onlinemedistore.com/products/tofranil.htm]tofranil[/url]
the implications of the human tissue act 2004 for pharmacy http://onlinemedistore.com/catalogue/1.htm amcal pharmacy [url=http://onlinemedistore.com/categories/sleeping-aid.htm]pharmacy estrogen[/url]
pharmacy career plan http://onlinemedistore.com/catalogue/h.htm united pharmacy cpap [url=http://onlinemedistore.com/products/micardis.htm]micardis[/url]

15 مارس 2013 في 2:19 ص  

Amazing! This blog looks just like my old one! It's on a totally different topic but it has pretty much the same layout and design. Excellent choice of colors!

my blog honest Forex Signals

17 مارس 2013 في 4:09 ص  

That is very fascinating, You're a very skilled blogger. I have joined your rss feed and stay up for in quest of extra of your wonderful post. Also, I have shared your web site in my social networks

Take a look at my webpage ... forex trading services

17 مارس 2013 في 5:09 ص  

It's a shame you don't have a donate button!
I'd definitely donate to this superb blog! I guess for now i'll settle for book-marking
and adding your RSS feed to my Google account. I look forward to new updates and will talk about this blog with my
Facebook group. Chat soon!

My weblog :: all-inclusive cruise allows

17 مارس 2013 في 6:17 م  

Ahaa, itѕ nicе discussion гegaгding this piеce of
ωritіng hегe at thіѕ ωеblog, I hаve read аll that, so аt this time me also сommenting herе.


Feel fгee to vіsіt my wеb-ѕitе www.onlinedatingpromocodes.com

22 مارس 2013 في 10:33 ص  

It's perfect time to make a few plans for the future and it is time to be happy. I have read this put up and if I may just I wish to recommend you few attention-grabbing things or tips. Maybe you can write next articles referring to this article. I wish to learn more issues about it!

Here is my webpage silver oak wine

26 مارس 2013 في 3:03 ص  

Thanks for finally talking about > "مدخل إلي نظرية الحكي (السـرد) السيد إمام" < Loved it!

my blog; cruise hotel

26 مارس 2013 في 7:05 ص  

serious end dating how to http://loveepicentre.com/contact/ kolkata dating sites
writing the best dating profiles [url=http://loveepicentre.com/articles/]nigerian dating scams venus mills[/url] biracial dating
free dating service in taiwan [url=http://loveepicentre.com/map/]celebrity interracial dating[/url] dating sites for educators [url=http://loveepicentre.com/user/5thavenue/]5thavenue[/url] current american singles dating site

27 مايو 2013 في 3:51 م  

dating system paris http://loveepicentre.com/articles/ dating somebody suffering fear of abandonment
franka potente dating elijah wood [url=http://loveepicentre.com/faq/]personal sex site dating[/url] chris adult personals dating
tri-cities washington dating april [url=http://loveepicentre.com/testimonials/]bret is dating jes[/url] new york state age dating laws [url=http://loveepicentre.com/user/luchicks/]luchicks[/url] melitopol dating agency

28 مايو 2013 في 8:54 ص  

lonely housewives dating http://loveepicentre.com dating metal men over thirty
black dating agency uk [url=http://loveepicentre.com/]internet dating online hook-up[/url] online dating service freee
dating in the us only [url=http://loveepicentre.com/]18oo numbers for phone dating[/url] compare cost dating sites [url=http://loveepicentre.com/user/cutedav/]cutedav[/url] interracial online dating services

29 مايو 2013 في 1:40 م  

WOW just what I was searching for. Came here by
searching for League Of Legends Hack

5 يونيو 2013 في 5:01 ص  

older women dating service http://loveepicentre.com/map/ dolly madison dating service
adult swingers arkansas dating [url=http://loveepicentre.com/success_stories/]dating advice age difference[/url] interracial transgender dating
disabled dating site [url=http://loveepicentre.com/articles/]reject dating services[/url] speed dating and perth [url=http://loveepicentre.com/user/naveedshah/]naveedshah[/url] 2008 best rated dating site

5 يونيو 2013 في 9:45 ص  

Hi, I do think this is an excellent web site. I stumbledupon it
;) I will come back once again since I saved as
a favorite it. Money and freedom is the best way to change, may you be rich and continue to guide others.


Feel free to visit my blog: 7zip download

11 يونيو 2013 في 4:52 ص  

You should be a part of a contest for one of the highest quality sites on the net.
I'm going to recommend this blog!

Feel free to surf to my page ... world Of tanks hack

11 يونيو 2013 في 6:50 ص  

Blogger Template by Blogcrowds