لكم تساءلت: لماذا جاء ميلادي بالقرب من ساحة الحرب؟

بسذاجة لم تكن هي التهور بعينه ، زعمت أنني جئت لأستل قلمي من بين الضلوع، لكي أطفئ لهيب المعارك فداست كلماتي علي مواقع في حياتي أحدثت انفجارا أشبه ما يكون بدوي معارك الحرب العالمية الثانية!!

لنعد إلي النشأة

ولدت في مدينة المنصورة يوم 21/3/1938 علي إيقاع دبيب الراكضين في هلع عبر الحواري، كانوا يحذرون الأهالي من إشعال أي عود ثقاب، صيحات قلقة، ملحة في طلب نشر عباءة الظلام كدعوة صريحة للحفاظ علي الأرواح من خطر الموت، بعد أن تقدمت جيوش المحور من "العلمين" وقاست بأس الآلاف من جنود بريطانيا العظمي التي كانت تضع مصر تحت ما تسميه بالحماية.

أدركت مبكراً أنني لم أعتد علي أحد حتي يرغمني علي ملء عيني بأشباح الظلام منذ طفولتي من يدخلني في أثواب، هل يستطيع الادعاء بأن ليل هذه الطفولة كان باسم القسمات؟ من يمكنه الزعم بأن السماء كانت علي إيقاع ذلك الواقع تضحك لي؟

من رابع المستحيل أن أضع توصيفاً خارج جغرافيا المكان، خاصة وأن من هم علي شاكلتي لا يستطيع أحد منهم أن يصبح ذاتا مستقلة عن واقعها، وما أعرفه أنه إذا كانت هناك خصوصية في الثقافة فإن ذلك لا ينفي وجود الملامح المؤثرة في عدد من الثقافات الأخري، وهي التي تحفر في الذات أوتاداً من نسغ الإنسانية، وعبير الروح.

ولكي لا نبتعد عن المواد الخارجية التي ساهمت في تكويني.

أقول: ولدت لأب كان يعمل حدادا بورش السكك الحديدية، امتلأ سمعي بقعقعة عجلات القطارات في ذهابها وإيابها بالقرب من البيت الذي ولدت فيه.

مشكلتي المبكرة مع هذه القطارات أنها لم تنقطع عن أدوار الوصول ـ في مختلف الأوقات ـ إلي بلاد لا أعرف إلي متي سأظل جاهلاً لمدن يعينها الله عند إقبال الصبح فترنم لملكوت السموات والأرض.

القطارات التي كانت تسير بقوة اشتعال الفحم وضغط البخار أغوتني بالذهاب معها إلي مواقيت الشمس، أي قطار ـ بعد ذلك ـ يخرج من المحطة كان مطاردا مني، ومن أصحابي، مرات ومرات، كنا نتراهن علي الدخول معه في سباق، نراقبه عندما يلوح قادما من بعيد بصدره المنتفخ بالسواد.. من يفوز.. نحن أم القطار؟

كم من المرات سبقناه .. كم مرة ضحكنا فيها علي فشله ؟ في زهو الفائزين وقفنا ـ علي مسافة قصيرة منه ـ في تحد .. كان يقبل ناحيتنا في تهافت مثل دودة عجوز، وعندما يقترب نروح نعيد السباق من جديد، إذ لم يكن في حياتنا شيء يبعث علي السرور سوي اللعب مع القطارات والدخول معها في سباق كانت نتائجه تأتي دائماً لصالحنا .

تحت عمود النور ـ (نقطة تجمعنا) ـ استعدنا مرارا خيبته حتي أفعمنا الانتصار بنوع من الاعتداد بالنفس، ومن حيث لا أعلم أجدني ـ فجأة ـ غير مبسوط، غير مبتهج، شارد الذهن، إنه يصل إلي بلاد لا نعرف شيئاً عنها، أما أنا فلا عمل لي سوي إراقة الوقت في استعادة ضحكة صارت لا معني لها .

لمحناه قادماً من بعيد كأنه إنسان يمشي في عرج .. صعد ثلاثة من أصدقائي إلي سلم العربة الثالثة .. كانت عربة السبنسة قريبة مني .. صعدت إليها .. نزل أصدقائي الواحد منهم تلو الآخر في تهليل وفرح .. عندما حاولت أن أنزل مثلهم وجدتني منطرحاً علي ظهري بعد أن داست آخر عجلة من عربة السبنسة علي ذراعي اليمني .

أول رصيف علي شمال المحطة

كأن القطار (وهو يمثل الزمن المتحرك) أراد أن يثأر مني، أن يعيد إلي نفسه شيئاً من الاعتبار، أراني كيف تكون نهاية الضحك عليه، لم يعد من المعقول أن يفكر مبتور الذراع في التحليق أو التفكير في الذهاب إلي المدن التي يصل إليها القطار، الأب والأم والأقارب رجحوا كفة عدم صلاحيتي للقيام بأي عمل، قال أبي: لن ينجيه من الغرق إلا القرآن، انتظمت في صفوف مدرسة المحافظة علي القرآن الكريم .

دونما إدراك مني ـ آنذاك ـ لكينونة المكان ومدي تأثيره في الشخصية، أذكر أن المدرسة كانت تقع بين مبني "جماعة الإخوان المسلمين" و"حزب مصر الفتاة" لكي أذهب إليها لابد أن أمشي من أمام الحزب الذي كان يشغل الطابق الأرضي من عمارة لا تزال حتي اليوم تتمتع بشكلها الهندسي الجميل .

أثناء المرور من أمامها كان يسترعي انتباهي لفيف من الشباب كأنهم جماعة في خلية نحل لا يحكمها سوي الحركة المستمرة داخل الصالة المطلة علي الشارع، كنت أحسدهم لأنهم لم يتذوقوا ـ مثلي ـ آلام عصا الشيخ إبراهيم عبادة بسبب عدم حفظ اللوح المقرر والذي ينتهي عند الآية التي قال فيها فرعون للنبي موسي عليه السلام "ألم نربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عُمرك سنينَ ؟!

حتي ولو ظل جرس المدرسة يرن في غلاثة ـ كأنه ينادي علي أنا بالذات ـ كنت أوهم نفسي ونفسي تقبل التصديق أن هذا ليس جرس المدرسة، لكنه جرس كنيسة الملاك الواقعة وراء المدرسة في السكة الجديدة.

فعلت مثل الذين كانوا هناك، سددت نظراتي إلي صفحات جريدة الحزب المفرودة علي الجدران دون أن أعرف تناقضات الحركتين ـ الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة ـ في المنطلق والعقيدة، كنت لا أعرف أن جماعة الإخوان المسلمين نمت جذورها من الدين الإسلامي، وحزب مصر الفتاة بأصوله من الحضارة الفرعونية، الشيء المؤكد، وما شفته بعيني أن الرابطة التي تجمع بين الإخوان المسلمين كانت قوية، وتظل تتصاعد وهي تستمد حقها في الوجود بقوة الدين.

أيام الهروب من عصا الشيخ إبراهيم عبادة لم يخطف بصري ويلهب مشاعري إلا حركة شباب حزب مصر الفتاة، حين كان يرتفع بينهم صوت يستنفر الجميع لكي يحتشدوا ويخرجوا في مظاهرة، وبمجرد أن ترتفع عقيرتهم بالثورة والتنديد بأعمال الحكومة كانت الدكاكين والورش الأهلية تغلق أبوابها، ويسير صبية الورش والأسطوات مع الجموع حتي تنقلب شوارع المنصورة ـ من شدة الزئير ـ إلي وحش ضار.

يعتلي شاب الأعناق، يلوح بقميص أبيض مضرج بدماء طالب خرج في مظاهرة أمس، أردته إحدي الرصاصات قتيلا، كانت البندقية صناعة إنجليزية، الرصاصة إنجليزبة، اليد التي ضغطت علي الزناد مصرية!؟

تساءلت في سن النضوج : أمن الحكمة أن يموت الشجاع ويعيش الجبان ؟، ثم هل كان من الحكمة أن يعيش كيفما كانت الحياة، أم يظل يخوض أهوال الصراع ؟ من كان محمولا علي الأعناق راح يهتف والمتظاهرون يرددون وراءه (جبل الطور اليوم بينادي .. القوا في عبد الهادي).

عرفت لأول مرة أن في مصر حكومة موالية للإنجليز، وأن رئيس وزرائها كان يدعي إبراهيم عبد الهادي باشا، وأنه أمر باعتقال من يخرجون للتظاهر وإلقائهم في معتقل "جبل الطور".

تحول هروبي من المدرسة إلي متعة سياسية وثقافية، أصبح الشارع صديقي ومعلمي قبل الكتاب، وحتي بعد أن عرفت حياة الكتب كان هو المورد الأول للمعرفة، كما أذكر له بالامتنان والشكر سعة صدره لي حين استضافني علي إحدي التلتوارات ومنحني شرف الكتابة بين أسطوات دهان السيارات وميكانيكية علي الطريق وأصحاب ورش متنقلة للسمكرة وضبط وإصلاح أبواب العربات .

هناك كتبت رواية "أولاد المنصورة"، وكنت كلما فرغت من فصل رحت أقرأه عليهم، وكنت أشجعهم، بل وأرجوهم أن يقولوا لي رأيهم بلا حرج أو تحفظ، ولكم استمعت إلي تعليقاتهم ـ في حب ـ كتلميذ يتلقي درجات النجاح من معلمه (1).

العودة إلي خط فرعي في محطة مؤقتة

ذكرتني أجواء مظاهرات الطلبة والعمال بتلك الأجواء التي كانت تسود البلاد في عباءة من الظلام إبان الحرب العالمية الثانية، في ذلك الوقت كنت في سن المراهقة العمرية والفكرية، تمنيت أن أعود من تحليقاتي فأجد في طريقي مخرجا سينمائيا له عشق بالشوارع مثلي، وأن يعهد إلي بدور قريب الشبه من دور ممثل فيلم"سارق الدراجات" الإيطالي، طقت في دماغي حكاية التمثيل بعد أن شاهدت "سفير جهنم" ليوسف بك وهبي، و"عودة الغائب" لأحمد جلال، و"ابن الفلاح" لمحمد الكحلاوي، و"أحمر شفايف" لنجيب الريحاني .

في ذلك الوقت، اعتاد أبي أن يشتري يوم الخميس مجلة "المصور" بأربعة قروش، وكان يطلب إلي أن أقرأها علي سمعه، كان أول عدد اشتراه يحمل غلافه صورة البطل "عبد القادر طه" الضبع الأسود الذي قاتل اليهود في بسالة وشجاعة حتي حاصروه في معركة "الفالوجا".

تابعت القراءة بعقل يسرح مع ميعاد صديقي رئيس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، كان دعاني في نهاية العام الدراسي لمشاهدة العروض المسرحية التي كانت تجري في مسابقة فنية بين فرق المدارس المسرحية علي مسرح الجامعة الشعبية "هيئة قصور الثقافة الآن"، كدت أقبل يده حتي يجد لي دوراً، أي دور، وقفت أمامه أرتجل بعض المشاهد من أفلام شاهدتها، كان ينظر إلي في رثاء، حاول جاهدا ألا يخدش مشاعري، وهو جالس وراء مكتبه في الغرفة التي خصصها أبوه له ليمارس فيها هوايته.

لمحت علي مكتبه مسرحيات لموليير، وأحمد شوقي، وبرنارد شو، وتوفيق الحكيم، أعارني هذه الأعمال قرأت بدون فهم أو استساغة، اكتشفت أن القراءة تحتاج إلي تربية وجهد ومعاناه، ولكن بالتدريب عليها يمكن للمرء أن يحصل علي نوع من الابتكار، ولكني كنت أتعجل الدور الذي سيرفعني إلي قمة نجيب الريحاني.

باغتني صديقي المسرحي بقوله والحرج يتملكه : ليس الفن تمثيلاً فقط، أبواب الفنون كثيرة، ممكن ترسم، ممكن تكتب مسرحيات، ممكن روايات ... قصص ....، أذكر أنه قال: ونظراً لأن التمثيل بالذات يحتاج لمواصفات جسدية محددة، تحرج أن يقول بأنني بذراع واحدة، ثم استطرد : إنما يمكنك أن تقرأ، فالقراءة إبداع آخر، عندما تتذوق جمالياتها ستكون قد غرزت في نفسك مجموعة من الفضائل، وقد يمكنك أن تعيد صياغتها وتقديمها في أنماط تكون ملائمة في التعبير عن هموم الإنسان المعاصر، وبذلك تتيح السيادة للأسلوب القادر علي معالجة أدق خلجات الإنسان وخلجات اللحظة المعاشة بتناقضاتها.

ثم أعطاني مجموعة من الروايات الرومانسية :"بول وفرجيني"، "غادة الكاميليا"،"تحت ظلال الزيزفون"، وجميعها لفظته خشونة حياتي وتربيتي التي كان فيها الكثير من الصرامة، لكنني انطويت علي الكتب التي اخترتها بنفسي.

أثناء البحث عن ما يشبع جوعي الثقافي، عثرت علي سلسلة "قصص للجميع"، و"كتب للجميع"، علي صفحاتها طالعت "ذئاب جائعة" لمحمود البدوي، توقفت طويلاً عند "دماء لا تجف" لعبد الرحمن الخميسي، دفعني حبي له للبحث عن مؤلفاته، انسكبت في روحي قطرات من دماء مجموعته القصصية "قمصان الدم"، ثم تعرفت علي عبد الرحمن الشرقاوي قبل أن تتسع أمامي شرفة المطالعة؛ فتعرفت علي بلزاك وموباسان وديكنز وشالوخوف وجوركي وتولستوي وتشيكوف.

في "دعاء الكروان" استوقفني وصف طه حسين لحياة "آمنة" بطلة روايته بأنها "كلها شظف وخشونة"، وفي رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل وصف تقريري لحياة الفلاحين الذين ـ في خنوعهم ـ تكيفوا مع حياة الشقاء، وباتوا قانعين بما يقع عليهم، ويرضون عنه. عرفت المجتمع بأفراحه، بأتراحه، بطبقاته المستبدة، بفلسفاته الاجتماعية من الروايات و القصص، مع أنني كنت أحد الأضلاع الرئيسية في طابور التلاميذ الخائبين الذي كان أول من ترتفع علي قدميه وتهبط عصا الشيخ إبراهيم عبادة، في عز "طوبة وأمشير".

بيد أن ذلك كله لا ينسيني وجه الطالب محمد حسن عبد الله الذي أصبح أستاذاً للأدب الحديث في جامعة الكويت، ثم في جامعة القاهرة. كان قد سبقني إلي المعهد الديني بالمنصورة عام 1950 ـ 1951، وفي أحد الأيام جاء لزيارة المدرسة في زيه الأزهري، سألته عن طريق القبول بالأزهر، عرفت منه تاريخ تقديم الأوراق، في يوم الامتحان جلست أمام ثلاثة من الشيوخ، طلب إلي أحدهم أن أكمل ما بعد :"محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم"، وطلب الثاني أن أكمل ما بعد: "إنا نحن نحيي الموتي ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في كتاب مبين"، وطلب الثالث أن أكمل ما بعد: "يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان".

تعثرت في التلاوة لأول مرة، تفصد العرق من جبهتي، أغرق عيني في بحور الخوف والتلعثم: يا معشر .. يا معشر، والشيوخ الثلاثة يشجعونني قائلين في نفس واحد : هه .. فأقول: يا معشر الجن، وهم لا يزالون يشجعونني بكلمة: هه، لعلي أنطق وأقول: يا معشر الجن والإنس، ثم انفجرت في البكاء خوفا من الرسوب والعودة إلي محطات الهروب من المدرسة.

لكنني فوجئت بأحدهم يقول لي: قم يا شيخ عبد الفتاح أنت ناجح، وأوصاني ثلاثتهم بالانكباب علي تلاوة القرآن كل يوم حتي أحفظة عن ظهر قلب، ثم سألني أحدهم قبل أن أغادر المكان، وهو يسجل اسمي في كشف الناجحين عن المذهب الفقهي الذي أريد أن أتلقي علومه، أجبت دون أن أعرف أوجه الاختلاف الفقهية في الإسلام :المذهب المالكي، بص الشيوخ إلي بعضهم في دهشة، ثم ابتسموا في غموض حين سألني أحدهم: أنت أصل جدودك مصريين؟

لم أكن أعرف أن المذهب المالكي كان منتشرا في مصر إبان عهد أحمد بن طولون حين كان الشيعة يحكمون مصر، وبسقوط حكمهم أصبح المذهب الشافعي هو السائد.

بعد أن حصلت علي شهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1955 التقيت بصديقي الميكانيكي(ü) تحدث إلي عن فكرة الألوهية والأجرام السماوية وهندسة بناء الكون، أعطاني كتاب"أسس الدولة" لجون ستيوارت مل، وأعمالا لهارولد لاسكي، كان يمشي وفي جيب جاكتته الإنجيل، وفي الآخر القرآن، وفي الجيب الداخلي"أصل العائلة" لأنجلز، هو من أساتذتي الأوائل الذين كنت أجلس معهم علي التلتوارات، وعدني بأن سيأتيني بمجموعة مكسيم جوركي القصصية"الحضيض"و"مخلوقات كانت رجالا".

اكتشفت أن الكتابة هي المؤامرة الوحيدة الشريفة في العالم ضد من يكيدون للإنسان، فعلمتني الخبرة المكتسبة من الحياة ، والثقافة أن أحرر لغتي من الأساليب المطروحة، أزعم أنني طبقت هذه التقنية أثناء كتابة "أولاد المنصورة"، اهتممت بالتركيز علي الجانب الحركي داخل حي شعبي مهمش، أعلن لفيف من أبنائه عن عزمهم الخروج من نطاق الفردية بالمشاركة في تكوين فريق لكرة القدم.

انتصروا علي مختلف الصعوبات حتي تكوَّن الفريق، خاضوا به العديد من المباريات ضد فرق البلدان والقري المجاورة، حين يعودون إلي الحي مفعمين بنشوة الفوز، كانوا بعيدين عن روح الأثرة والأنانية فيهدون فوزهم للمدينة التي لم تعرف الانتصارات وهي علي ما يبدو ـ في ذات الوقت ـ لا تعرف شيئاً عنهم.

الصعوبة التي قابلتني أثناء كتابة هذه الرواية ظهرت حين كنت أفكر: كيف أجعل الآخرين ـ بعد وقوع النكسة ـ يستمرون في حركة تصاعدية، بينما كان علي الطرف الآخر من يفشون ثقافة الهزيمة، والانكماش في مواقع الفشل، وتكتمل فصول المأساة عندما نري أن شباب الحي مستبعدون من كل تشكيل اجتماعي، لقد كونوا فريقاً لا يعرف غير الحصول علي نتائج الانتصارات، ولكن أحدا لم يستطع أن يشكل منهم قواما اجتماعيا، تتحقق علي يديه ـ أو قدميه! ـ طفرة تنتشل من هم علي حافة الانهيار من الانهيار .

لم يكن من نصيبهم سوي العيش في حالة من ردود الأفعال المحبطة، وهي أعمال تعجزهم تماماً عن رد القهر؛ فاستعانوا علي الوقوف أمامه بالحبوب المخدرة، ونسيج الأحلم التي يختلط فيها الكابوسي بالواقع، بينما كانت الشوارع تغرق في أقوال ساسة لا يخلو أحدهم من ديماجوجية، تقول ما لا تفعل، وتفعل في النور والظلام ما لا تعلن عنه(!!).

ثم أتذكر ـ أثناء الكتابة ـ الزقاق الذي انطلقت منه أعمال نجيب محفوظ لتناقش الكثير من قضايا الوطن وهموم المثقفين دون أن يبتعد الكاتب عن هذا السياج ليشارك في حركة النضال السياسي؛ فقضيته الكبري كانت الكتابة فقط والاهتمام بحياته الوظيفية، علي حين كانت الحرية ـ معذ 1939 حتي 1944 ـ هي قضية البلاد الأساسية، وبحيث لم يهد لمجتمع المثقفين دور مؤثر، أو ضمير يحفز القوي المقهورة للوقوف علي الأقدام في صلابة .

حول عناصر البناء في قصصي القصيرة، إنها في جملة قصيرة ترهص بانهيار الفواصل بين الشكل والمضمون :"وأحياناً باحتفاظ كل عنصر تقني بخصائصه الموضوعية والجمالية في إطار اندماج الفواصل بينها» (2) .

لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لتجربتي الروائية أثناء كتابة روايتي" العنف السري" لقد انتقلت بين الروافد الاجتماعية المستمدة من جذور تاريخنا القومي، الفرعوني، القبطي، الإسلامي، لكي أنفخ في روح عاطفة الانتماء، وجدت حرية الفرد لا تتحقق في مجتمع مكبل برذائل الاستئثار والأنانية .

تابعت خطوات بطل الرواية، كان هو الذي يسوقني مع كل تجربة يخوضها حتي تنتهي بالفشل، ومع ذلك ظل يحاول، بوجه آخر، واسم آخر، في أمكنة مختلفة، ولقد تعدد فيه الأدوار، فهو "المعصوب العينين" الذي يري ببصيرته كل ما يدور في "الخلاء" ،والخلاء في الرواية هو البديل، أو المعادل الموضوعي للمدينة الفارغة من معاني الفضيلة.

بعد أن استكملت ملامح هذا البطل تساءلت:هل يمكن أن يكون شاهدا علي عصر رديء؟

إنه البطل العربي الذي نجده في السجين بملامح "فهيم المصراتي"، وهو "الجندي" العائد من معارك الهزائم، وهو سلمان "الفران"، وهو "الشيخ" ثم "الإمام" الذي كان يقف علي رأس حلقة الذاكرين مساء كل خميس "مستهلاً الإنشاد بالصلاة علي النبي وآل بيته، والترحم علي الشهيد الإمام علي ولديه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء (3).

لقد شجعني هذا البطل ـ كمنتقم لا يفتقر إلي بناء عقائدي- علي أن أتحمل معه تبعات كل شخصية تولي القيام بها، ومضيت معه وهو يحاول في أجواء بلا فواصل، حيث تداعت جدران الأزمنة والأمكنة، حيث باتت تنتظمهما حلقة في سلسلة من الشقاء، بين هو مستمر مع تقدم خطواته "فتسلمه الجدران إلي جدران أخري لا نهاية لها» (4).

هوامش

(1) فازت الرواية بالجائزة الأولي في المسابقة التي ينظمها نادي القصة .

) بطل قصتي "بصقات فرعون الملونة" المنشورة بجريدة القبس الكويتية عام 1980 .

(2) د.محمد زيدان "نصوص تسبح في ملكوت الحلم" تأويلات لنماذج مختارة للقاص عبد الفتاح الجمل ، مجلة اوراق ثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم شرق الدلتا) 2002.

(3) العنف السري، المجلس الأعلي للثقافة 2007، ص 68 .

(4) العنف السري، ص621

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds