-1-

تسهم أعمال محمد المخزنجي إسهاماً متفرداً في بلورة تجربة جديدة للسرد القصصي العربي، منذ مجموعته الأولي (الآتي) ـ 1983، ومرورا بأعماله التالية: (رشق السكين) 1984، (الموت يضحك) 1988، (سفر) 1989، (البستان) 1992، (أوتار الماء) 2002، (حيوانات أيامنا)، (كتاب قصصي) 2006 . تتنامي ملامح بعينها تصوغ ما يشبه التساؤل ـ وفي الوقت نفسه تقدم ما يمثل إجابة عملية، جمالية، عن هذا التساؤل ـ حول حدود المتعارف من التقنيات السردية، كما تستكشف هذه الملامح، من عمل إلي آخر، مساحات وآفاقا جديدة، غير مأهولة، في هذا السرد.

وعلي تنوع عوالم هذه الأعمال، وعلي امتدادها الزمني، ثمة ما يومئ إلي معالم وقسمات متصلة متواشجة؛ حيث يسري في نصوصها جميعا حس شعري شفيف، لا يتوقف عند الصياغات اللغوية الشعرية، وإنما يتسرب إلي النظر و للعالم بالمعني العميق: ثمة عين ترنو إلي ما وراء المشهد العابر وتحدق فيما وراء الواقعة المبذولة؛ وثمة طموح إلي الإمساك بلحظات فارقة، فاصلة، هاربة من الزمن الممتد الذي يولي باستمرار؛ وثمة حرص علي استضفاء حشد التفاصيل، واختزالها إلي ما يتماس والجوهر الإنساني، بما يجعل التجربة المحدودة قابلة لأن تحتوي ما لا حصر له من التجارب؛ وثمة تساؤلات، لا تخلو صياغة طرحها من نبرة غنائية، حول ما هو مكرس ومكرر، مستتب وثقيل الحضور؛ وثمة استناد ـ مراود، يتواري ليطل مرة أخري ـ إلي منطق الأمثولة التي تكتنز بداخلها طاقة قادرة علي اجتياز حدود التجارب والأزمنة والأماكن؛ وثمة نزوع متصل لاستكشاف ما الذي يمكن أن يكون هناك ـ ماثلا بقدر من الوضوح أو مستترا خفيا ـ فيما بين تخوم الثنائيات المسكوكة، المطروقة القديمة: الروح والبدن، المرئي وغير المرئي، الفيزيقي وما وراء الفيزيقي، وثمة إصغاء ـ ينطوي علي حكمة وتواضع ـ للغة مغايرة، صامتة، بسيطة وعميقة وبليغة، تتكلمها كائنات أخري"غيرنا".

بهذا المعني، يمكن لقارئ أعمال محمد المخزنجي، جميعاً تقريباً، أن يلحظ أواصر شتي تصل بين نصوصها، وتوثق خلال سردها الذي ظل مسكونا دائما بهاجس التجدد، بما يجعل هذه الأعمال ترتبط بنوع من " وحدة العالم" التي تتحقق خلال تجربة سردية خاصة، وفي هذا السياق تبدو مغامرة السرد التي أطلت بقبس منها في (الآتي) قد توهجت وظلت متوهجة في كل الأعمال التالية.

وربما يمكن القول بأن عمل المخزنجي الأول قد انطوي علي بذرة ظلت تتنامي، ثم ظلت تؤتي أُكلها، من عمل لآخر، وصولا إلي (حيوانات أيامنا)، نص محمد المخزنجي الذي صدر بعد مرور حوالي ربع القرن علي نشر عمله الأول.

ـ 2 ـ

يغامر نص محمد المخزنجي (حيوانات أيامنا ـ "كتاب قصصي") ـ باستكشاف جوانب جديدة، خفية وغامضة، في "وحدة الكائنات" القديمة التي لم يكن فيها الإنسان قد انفصل عن الكائنات الأخري ولا عن مفردات الطبيعة. يجاوز هذا النص محض "ابتعاث" تلك الوحدة الأوّلية المنقضية إلي تقصي بعض أبعادها الحية في سياق زمني آخر، موصول بعالم مرجعي هو حاضر "أيامنا" ـ كما يشير عنوان الكتاب ـ الذي قد ترسّخ وتكرس معه، وفيه، الانفصام عن ذلك العهد الغابر عندما كانت الطبيعة والكائنات جميعا مندمجة ومنسجمة في وجود كلي، شامل مشترك. نصوص الكتاب (قصصه الخمس عشرة، ومقدماتها المختارة من كتابات متنوعة حول الحيوانات، المقتطعة من كتب تراثية ومن دراسات ومقالات معاصرة) تجسد مجموعة من التناولات والتجارب تترامي في أمكنة شتي، بمناطق جغرافية متباعدة من بلدان العالم الذي غدا ساحة مفتوحة أو "بيتا كبيرا" لهذه النصوص، كما تحيل هذه التناولات والتجارب إلي تواريخ متباينة؛ إذ يتخطي بعض أحداثها الحاضر الراهن إلي أزمنة مستعادة من ماضي رواة القصص وشخصياتها، ويمتد بعض وقائعها إلي تواريخ أكثر نأيا. و"الكتاب"، بهذا المعني، ينهض علي ارتحالات عبر مساحات رحبة من أماكن وأزمنة، ومن ثقافات وعوالم، ومن تجارب فردية وجماعية، ولكن تظل الحيوانات نقطة انطلاق وبؤرة مركزية لقصصه جميعا، تنظم سردها، وتصوغ حركة هذا السرد، وتقوده، كالدليل، في مغامرته الفنية المحلّقة، القافزة علي كل تخوم.

ـ 3 ـ

الحيوانات، "مخلوقات الله" بعبارة الراوي في قصة "الأفيال ترتوي" (انظر الكتاب، ص 113)، يتكافأ حضورها في عالم/عوالم قصص الكتاب وحضور الشخصيات من البشر. يرتكز عدد كبير من القصص علي نوع من الموازاة بين الحيوان والإنسان، فتلوح للحيوانات أدوار فاعلة في الأحداث القصصية، ويتم التعامل معها بالاهتمام والاحتفاء نفسيهما بالشخصيات الإنسانية. وفضلا عن "مدخل" الكتاب المعنون "لمحتان"، المقتطع من (كتاب الحيوان) للجاحظ، الذي يتوقف عند بعض التباينات التي يراها الناس في هذه المخلوقات المتنوعة من ناحية، وعند بعض الأواصر التي تصل بينهم وبين هذه المخلوقات من ناحية أخري؛ حيث فرق الله بين الحيوانات "في عيون الناس، وميزها في طبائع العباد، فجعل بعضها بهم أقرب شبها، وجعل بعضها إنسيا، وجعل بعضها وحشيا"، والذي يؤكد من ناحية ثالثة أن الإنسان؛ "العالم الصغير سليل العالم الكبير"، "يأكل اللحم والحب، ويجمع بين ما تقتاته البهيمة والسبع"، "فيه صولة الجمل، ووثوب الأسد، وغدر الذئب، وروغان الثعلب...إلخ"، "وربما وجدوا فيه، مما للبهائم والسباع، خلقين أو ثلاثة" (الكتاب، ص 5).. فضلا عن هذا المدخل، فإن كل عناوين النصوص القصصية التالية بالكتاب تتضمن إشارات إلي حيوانات (غزلان ـ مهر ـ جراء ـ سمكات ـ بغال ـ خيول ـ جواميس ـ أرانب ـ فيل ـ أتن ـ دببة)، كما أن هذه النصوص نفسها يتم تشييدها علي التقاطات تستكشف جوانب خفية من عالم الحيوان، وتنطلق من رؤي تنتمي أحيانا إليه، وتستطلع أرضا مجهولة، مشتركة، للتجاور والتقارب بينه وبين عالم البشر.

يسوق الراوي في قصة "الأتن" عبارة واضحة تؤكد أن اهتمامه الراهن بعالم الحيوان قد حجب اهتمامه القديم بعالم البشر: "اتجاهي (...) بات معروفا للكافة في السنوات الأخيرة، وهو عدم الاهتمام ـ شبه المطلق ـ بعالم البشر، والاستغراق في الاهتمام بعالم الحيوان" (الكتاب، ص 82)، وهذا "الاستغراق" يقترن في كثير من قصص الكتاب بتعاطف صريح مع الحيوانات التي أجبرت قسرا علي القيام بمهام وأدوار سلبتها كينونتها أو سجنتها في كينونة مغايرة لطبيعتها الفطرية؛ إذ تحولت إلي محض أداة للاستغلال القاسي من البشر أو وسيلة مؤلمة لتسليتهم. في قصة "دببة بيضاء/ دببة سوداء" يرصد الراوي المتكلم كيفية ترويض الدببة بعد نزع أسنانها ومخالبها؛ حيث" يتحول الدب إلي طفل مقهور أو شيخ كسير" (الكتاب، ص 100)، وبهذا الترويض ـ فيما يقول الراوي نفسه ـ "يتحول دب الهيمالايا الفاتك الأسود إلي مسخرة، لكنها مسخرة موجعة للقلب حينما يمعن الإنسان في دقائقها" (الكتاب، ص 101). هذا الاهتمام الراهن الأخير، وهذا التعاطف الظاهر الصريح، يصوغان نظرة جديدة، حانية وحادبة، تحتوي الإنسان والحيوان معا في وجود متكافئ؛ فيتجاور حضور منظور الإنسان في بعض القصص مع حضور منظور الحيوان في قصص أخري (في القصة الأولي "غزلان"، مثلا، يوازي الراوي شخصيات المنتصرين من "المارينز": "دخل المارينز القصر بعد ليلة طويلة من برق القصف..إلخ" ـ ص 7، وفي القصة التالية مباشرة، "المهر"، يوازي نظرة ذلك الحيوان الصغير: " ورآه (المهر رأي ابن الرئيس). يضرب مرة سائسا ..إلخ" ـ ص 9 ـ و"رأي (المهر أيضا. نفسه يجري مع أمه موثوقين معا في حبل مربوط بمؤخرة سيارة" ـ ص 10 ـ (وهذا التشديد وكل التشديدات التالية من عندنا)، كما قد يتجول السرد في القصة الواحدة متنقلا بين المنظورين، الإنساني والحيواني، بحرية كاملة (في قصة "دببة بيضاء/ دببة سوداء" ينتقل الراوي من منظور الراوي المشاهد:"مدهشة طريقة اصطياد الدببة في الهند.. إلخ" ـ صفحة 98، إلي المنظور المرتبط بالدببة نفسها في الصفحة التالية: "وطويلة هي الرحلة التي تقطعها الدببة السوداء قادمة من ذري هضبة التبت (...) مودعة بريتها المطلقة ..إلخ"). كذلك، في هذا المنحي الذي يحتفي بمثول هذين العالمين معا، يبدأ بعض القصص بوقائع تتصل بالبشر، وتبدأ قصص أخري بأحداث ترتبط بالحيوان، كما يشير السرد دونما تمييز إلي "جمع" من "كائنات" تنتمي إلي العالمين معا (:"تلك الحلقة التي أحاطت بنا كسوار كثيف من الحيوانات والبشر" ـ الكتاب، ص 93)، وفي غير موضع يصل التقارب بين العالمين إلي نوع من التداخل؛ فتسمي بعض الحيوانات بأسماء الناس (انظر الكتاب صفحات 106، 113، 114)، وينتاب الجميع إحساس واحد ويقومون بأفعال أو بردود أفعال واحدة؛ يأتي ـ مثلا ـ "ابن الرئيس" إلي "مضمار القصر" فـ"يرتعش السياس وترتعش الخيول" (الكتاب، ص 9)، ويتواصل أحد الأطباء ـ وهو غير بيطري ـ وحصانا مكتئبا منهكا، ساقطا علي الأرض مشرفا علي الموت، تواصلا خفيا، حميما ورهيفا، عبر لغة الكلام والملامسة والغناء: "إيه يا حصان يا عبيط.. لك حياة واحدة وتريد أن تموت (...) مكثت أمسح علي عنقه براحتي (...) وواصلت نشيدي وتمسيدي وكأنني أنشد لنفسي وأمسد روحي (...) وإذا بالحصان يهم من رقدته الثقيلة، يعتدل ويلم قوائمه وينفض رأسه، كأنه يصحو من نوم عميق" (قصة "اكتئاب الخيول"، ص 49)، بل ويتجسد نوع من النزوع الحسي الذي يرتد خلاله الإنسان ـ امرأة هنا ـ إلي حيوانيته الخالصة: "وجدت المرأة جسدها محوطا به (بالدب).، الجسدية في عرامتها الحارقة، لا رديف الحيوانية المشتعلة بل الحيوانية نفسها، خلاصة الرغبات الوحشية وقد وجدت لنفسها مكانا حارا في غابة النفس الإنسانية الكثيفة المتشابكة" (الكتاب، ص 104). ولا يقتصر الأمر هنا علي "تعليق" الراوي الخارجي علي إحساس يتقاسمه هذان الكائنان، أو علي "تحليله" لهذا الإحساس، بل يمتد لرصد "وقائع" تعبر عن تواصل حقيقي، يخترق الحدود ويجتاز المسافات، بين الكائنين، الحيوان والإنسان معا؛ الدب يتوقف "رافعا إليها عينيه الصغيرتين المغشاتين بالرغبة..إلخ"، "يقف عند قدميها، وهو لا يبصر غير أنثي لدنة منطرحة علي الأرض عند قدميه"، كأنه "مراهق بشري يجمد إذ تنفتح أمامه فجأة أبواب فرصة لا يصدق حقيقة وجودها" (الكتاب، ص 102 و ص 103 علي التوالي) والمرأة التي أرعبها هذا الدب، ثم باغتها حنانه الدافق، سوف تستغني عن عالم البشر ـ الذين سيصمونها بالجنون ـ لتكتشف أعماقها المطمورة، ولتعثر علي ذاتها، وربما علي سعادتها، مع الدببة التي تغدو عائلتها ومجتمعها البديل.

في نفي المسافة بين العالمين، ينزع بعض القصص إلي إعادة النظر في مظاهر "التحضر" التي فارقت بين الإنسان والحيوان، أو ميزت الأول عن ـ أو علي ـ الثاني بتراتب يبدو مجحفا أحيانا؛ فيشار إلي سلوكات تتسم بالرقي يتحلي بها بعض الحيوانات. الأفيال، مثلا، في ورودها الماء، تلتزم بـ"آداب" و"قواعد" واضحة التهذيب؛ حيث توزع نفسها بهدوء حول بركة الماء، الأمهات في الصدارة، والصغار إلي جوار أمهاتهم، بينما الذكور في الأطراف؛ وبعد أن تشرب الأم الكبري ويشرب الصغار يتراجعون عن الماء، فتأتي الأمهات الشابات، "يكررن ما صنعت (الأم الكبري).، ينفخن سطح الماء لتنظيفه، ولا يبادرن بالشرب، بل يدعن الصغار يشربون أولا"، وبعد أن تشرب الأمهات والصغار يتقدم "الآباء والذكور أخيرا" ليشربوا (الكتاب، ص 122). وعند صدور الجميع عن بركة الماء يتراجعون بطريقة يضاهي الراوي بينها وبين "تراجع البشر عند انصرافهم في بلاط السلاطين والملوك"، حيث لا يولون ظهورهم للماء وإنما يتراجعون بظهورهم إلي أن يبتعدوا مسافة. وسلوك الفيلة هنا ينم عن أدب حقيقي فيما يومئ الراوي؛ "كأنهم يعبرون عن الامتنان لتلك المنحة الرقراقة" (الكتاب، ص 123)؛ وفي هذا كله ما يكشف نظاما دقيقا، راقيا، مشيدا علي احترام قيم الأمومة وكبر السن والضعف، ولعل هذا يثير التأمل في سياق آخر خلاله كان بعض "الآدميين" يتباهون بتكالبهم وتصارعهم علي ورود الماء في غير نظام، أو في نظام مبني علي منطق القوة وحدها (نستطيع أن نتذكر هنا بيت عمرو بن كلثوم:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ـ 4 ـ

التقارب والتداخل بين عالمي الإنسان والحيوان، علي هذه المستويات المتنوعة، يتجسدان في سرد "الكتاب" بطرائق عدة.

من هذه الطرائق ما يتحقق خلال المجاورة بين نوعين من النصوص؛ "توثيقي" يتمثل في الاقتطاعات التي تستهل بها القصص، و"تخييلي" يتمثل في التجارب التي تنهض عليها القصص نفسها. ينتمي بعض هذه الاقتطاعات إلي كتابات تراثية عربية ـ كما لاحظنا مع (كتاب الحيوان) للجاحظ، ومثله اقتطاعات أخري من (حياة الحيوان الكبري) للدميري و(عجائب المخلوقات) للقزويني ـ وينتمي بعضها الآخر إلي كتابات متنوعة؛ من كتب ومجلات وقواميس: (الإنسان والحيوان) ـ يوري ديمتريف، (شخصية الحيوان) ـ مونرو فوكس، (حين تبكي الأفيال) ـ جيفري ماسون، (الأمراض النفسية) ـ سيندي أنجل، (الحياة الوجدانية عند الحيوانات) ـ سوزان ماكارثي، (القاموس الوجيز)، مجلة (فوكس) العلمية..إلخ. تقيم هذه الاقتطاعات نوعا من "التحاور" مع عالم/عوالم القصص، أو تصوغ شكلا من أشكال "التصادي"، معكوس الترتيب، مع ما تنطوي عليه هذه القصص من "أصوات"، وفي الوقت نفسه تقدم هذه الاقتطاعات، التي تأتي في استهلال القصص دائما، ما يشبه "عقدا" أوّليا للقارئ، يومئ إلي الوجهة التي سوف تقوده القصص نحوها أو إلي المسار الذي سوف تمضي به هذه القصص فيه. من ناحية أخري، تتضمن هذه الاقتطاعات "حقائق" عن عالم الحيوان، تعتمد لغة الرصد والملاحظة والاستنتاج، وهي لغة إشارية، وأحيانا علمية، محايدة ومحددة وجازمة. وعلي أساس هذه الحقائق، وفي مقابل هذه اللغة، سوف يتم تجسيد "التناولات" في قصص الكتاب، المصاغة بلغة الإبداع البعيدة عن الحياد والتحديد والجزم. "الحقائق" المتضمنة في الاقتطاعات لا تتعلق، غالبا، بزمن أو بمكان، وإنما تصور بعض السمات الثابتة في الحيوانات، بينما تقترن "تناولات" القصص بسارد بذاته ـ أو بساردين بذواتهم ـ وبزمن وبسياق بعينهما، فضلا عن أن هذه التناولات، حتي وإن تطرقت إلي "تاريخ" قديم، لا تنأي عن عالمنا ـ نحن القراء ـ الذي يلمح إليه الضمير الجمعي في مفردة "أيامنا" بعنوان الكتاب، والتي تجد ترديدا لها داخل بعض قصصه (يشير الراوي، مثلا، إلي قلعة الإمبراطور المغولي "أكبر" التي صارت بمرور الزمن "مدينة أشباح"، "تسرح فيها القردة التي كان الإمبراطور يقتنيها، والتي لم تكف عن التناسل، والتكاثر في المكان حتي يومنا هذا" ـ الكتاب ص 98).

وأيضا من طرائق تجسيد التداخل والتقارب بين عالمي الإنسان والحيوان ما يتحقق خلال التقاط "عالم بيني" قائم فيما بين التخوم أو الحدود المتعارفة. في هذا المنحي تتردد كلمة "السرنمة" التي تعبر عن حالة بين النوم واليقظة (انظر الكتاب ص 80 مثلا)، كما يرصد الراوي/ الرواة، في غير موضع بالقصص، بعض "التجارب" التي تنتمي إلي هذا العالم البيني ـ المصاغ أحيانا بمنطق الحلم ـ وفي هذه "التجارب" تطل مفردات عالم الحيوان: "دخلت في البرزخ الكائن بين الصحو والنوم، وما أغرب أنني حين غلبني النوم رأيت مباراة شطرنج في حلم خاطف، وكانت البيادق علي رقعة هائلة في ساحة ميدان كبير، تتكون من دببة بيضاء ودببة سوداء، تتحرك في نقلات محكمة..إلخ" (الكتاب، ص 107). وقريبا من هذه الوجهة يحتفي بعض القصص ببعد "غرائبي"، أو "فانتازي"، يجاوز المنطق المألوف ليعبر عن "رؤيا" داخلية ما، تشمل الإنسان والحيوان معا. من زمنه ومكانه، في القرن العشرين وفي أمكنة محددة مسماة بمدينة القاهرة، يرتحل السارد ـ فجأة ـ إلي مدينة روما فترة "نيرون"، ليرصد ما يراه: "اقتربت مزيدا فاكتشفت أن هذه الحمر جميعا من الإناث، أتن ممتلئة الضروع (...)، وحليبها المحبوس يشخب وهي تركض، فيطفئ مسارات دقيقة يتصاعد منها بخار ملامسة الحليب للنار، وسرعان ما يتلاشي البخار وتلتئم مسارات الانطفاء، يؤج فيها اللهب من جديد..إلخ" (الكتاب، ص 88). وأيضا، قريبا من هذه الوجهة نفسها، يتوقف بعض القصص عند ظواهر استثنائية، وربما خارقة، تشي بتداخل عالمي الإنسان والحيوان. في نهاية قصة "الأفيال ترتوي" يختفي مرافق الراوي المتكلم في رحلته ـ وقد كان هذا المرافق مولعا بالأفيال ـ ويبحث الجميع عنه دونما جدوي، ثم بعد سنوات عدة يكتشف الراوي مع المصور الذي كان يصاحبه في الرحلة أن هناك صورتين فوتوغرافيتين التقطتا لمجموعة الأفيال، أولاهما عدد الأفيال فيها اثنان وعشرون، وفي الثانية عددها ثلاثة وعشرون، ويقدم الراوي والمصور بعض الملاحظات التقنية التي تؤكد أنه ليس هناك خطأ في الأمر كله، بما يومئ إلي أن المرافق الذي اختفي قد "تحول"، بطريقة ما، تستعصي علي الإدراك القريب، إلي واحد من الأفيال التي كان مولعا بها (انظر الكتاب ص 124و125).

ـ 5 ـ

كذلك تنهض (حيوانات أيامنا) في تجسيد عالمها علي مجموعة من التقنيات المتنوعة، التي تتردد وتتكرر في القصص كأنها "تيمات" Themes ثابتة.

من هذه التقنيات التقابل بين ما هو معتاد وما هو استثنائي علي مستوي الأحداث؛ إذ تتوقف الواقعة القصصية عند حدث استثنائي يقطع أحداثا معتادة، سابقة علي هذا الحدث وممتدة فيما بعده. في قصة "جنادب نحاسية" تبدأ الوقائع بحدث استثنائي؛ إذ يسمع الراوي المتكلم صوت جنادب في النهار: "صرير جنادب في النهار؟! ساءلت نفسي مستغربا وأنا أهرول، وأبطأت حين أدركت أن الصرير ينبعث من فوق طاولات باعة الرصيف..إلخ" (الكتاب، ص 14)، وتأسيسا علي فعل توقف الراوي وشرائه جندبين سوف تترتب وقائع القصة كلها. وفي قصة "كان يطارد فراشة في البحر" يرقب الراوي المشهد المعتاد المألوف للبحر "وقت خلو الشاطئ من البشر في الصباح الباكر، قرب الفجر، وعندما يكون البحر في نهايات الجزر". ويقطع هذا المشهد المعتاد مشهد استثنائي؛ رجل علي كرسي متحرك يخوض في الماء ثم يوغل فيه (انظر الكتاب، ص 23)، وهذا المشهد الاستثنائي يمثل فاتحة لوقائع القصة كلها. وفي قصة "بغال" يشير الراوي إلي استيقاظ "العريف فرحان" "مبكرا كعادته"، ثم يؤكد أنه صحا "هذه المرة غير فرحان". وطريقة استيقاظ "فرحان"، المختلفة "هذه المرة" عن سابقاتها، ترتبط ارتباطا وثيقا بالوقائع الاستثنائية التي سوف تتوقف القصة عندها، أو فيما قبلها مباشرة؛ حيث جاءه الأمر غير المسبوق بإعدام المهربين الذين كانت "الأوامر"، من قبل، تسمح لهم دائما بالمرور (انظر الكتاب، ص 37 و 38 وما بعدهما). وفي قصة "الأتن" تبدأ الوقائع بزيارة غير معتادة وبمشهد غير مألوف: "ثمة شيء غير عادي كنت أستشعره في الزائر الغريب، وكأن طيفا من ضوء أزرق شديد الخفوت يمس بشرته الخافتة مسا خفيفا..إلخ" (انظر الكتاب، ص 81 وما بعدها)، وهذا الزائر الغريب سوف يقود الراوي في رحلته العجيبة، التي تمثل الوقائع الأساسية في القصة.. وهكذا. وتوقف القصص، في وقائعها الرئيسية، عند ما هو استثنائي، يمثل بعدا أساسيا من أبعاد العالم الذي تستكشفه هذه القصص في العلاقة بين البشر والحيوانات، وهو عالم يحتفي دائما بما يثير الدهشة ويفاجئ التوقع.

ومن التقنيات التي تتكرر في بناء القصص اعتماد بعضها منطق "الروايات" أو "الأقوال" المتواترة حول بعض الوقائع، وهذه الروايات والأقوال، المنسوبة إلي ضمائر مجهولة أو مبهمة، جماعية غالبا، تقوم بدور ثانوي، لكنه مهم إذ يستكمل الدور الأساسي الذي يقوم به الراوي في السرد. في هذا السياق تتردد عبارات من مثل: "وقيل إن ذلك لم يحدث" (الكتاب، ص 55)، و"قيل إن ذلك بسبب ارتفاعها (المدينة). وعدم امتلاء قنواتها بالماء.." (الكتاب، ص 98)، ويقال إنها نشأت في أثناء الحرب الفيتنامية، لتلبية رغبات جنود المارينز" (الكتاب، ص 15)، و"تردد أنه يطعمها لحم من يغضب عليه" (الكتاب، ص 8)، و"تنامي إلي سمعي ما يحكونه عن الظهور الليلي لتلك الأرانب" (الكتاب، ص 57)، و"كما أخبر الشهود وجمعت شهاداتهم الحكاية" (الكتاب، ص 102). تقدم هذه الروايات والأقوال أبعادا متنوعة للواقعة القصصية، أو زوايا متباينة لها، تضاف إلي الأبعاد والزوايا التي يقدمها الراوي، وكلها تتضافر معا لتكتمل معالم "الصورة"، أو لتتبلور جوانب متعددة لهذه الصورة. واستخدام هذه التقنية، الذي يومئ إلي وجود أكثر من وجه واحد للحقيقة الواحدة، يثير في الوقت نفسه التساؤل حول ما إذا كانت هناك، ابتداء، حقيقة واحدة.

وأخيرا، من التقنيات التي تتكرر في بناء القصص اعتماد منطق "القص التفريعي"، الذي يمضي خلاله السرد الرئيسي في مسارات فرعية جانبية، ليقدم إضاءات حول حدث من الأحداث أو حول شخصية من الشخصيات، ثم يعود إلي مساره الأساسي مرة أخري (من أمثلة ذلك توقف الراوي عن حركة سرده الطولية التي تمضي قدما إلي الأمام، ليقدم بعض المعلومات عن "تشانج راي" في شمال تايلاند ـ انظر الكتاب ص 16ـ أو توقفه لعرض بعض الملابسات حول حياة إحدي الشخصيات، خارج مكان القصة وخارج زمن أحداثها، بما يضيء لحظتها الحاضرة ـ انظر ما يذكره مثلا عن شخصية "فرحان" ص 41 .

ـ 6 ـ

يتمثل بعد من أبعاد مغامرة السرد في (حيوانات أيامنا) في ذلك التنوع اللافت الذي يجوب مجالات عدة تلوح ـ للوهلة الأولي ـ جد متباعدة؛ إذ يجمع السرد، بتجانس شفيف، وبترابط وتناغم، ما لا يجتمع ولا يترابط ولا يتناغم عادة (ولعل هذا المنحي يمثل ملمحا من ملامح السرد في أعمال أخري لمحمد المخزنجي، وليس في هذا الكتاب القصصي فحسب). وإلي جانب نهوض السرد في قصص الكتاب علي بعد "تخييلي" وأحيانا "غرائبي" واضح، يمكننا بسهولة أن نلحظ مستويات أخري متنوعة.

من مستويات السرد في هذا "الكتاب القصصي" ما ينطلق من "نزوع توثيقي" ـ إن صح التعبير ـ حيث نطالع في حكي الراوي، علي سبيل المثال، اقتطاعات نصية من موضوع منشور بإحدي المجلات "مأخوذ عن كتاب للأمريكي جون كامينجز"، مستشهدا "بكتاب وثائقي لأمريكي آخر هو كريستوفر روبنز". وفي هذا الاستشهاد نقرأ عرضا لوقائع عملية سرية ضخمة "انخرطت فيها المخابرات الأمريكية تحت اسم (كودي) هو "طيور الغداف". وخلال هذا العرض ـ الذي يمتد إلي ما يقرب من صفحة كاملة ـ نتعرف بعض الوقائع التفصيلية المقرونة بتواريخ محددة تتعلق بتلك العملية السرية (انظر الكتاب، ص 20 و21). وقد يتجاور السرد الذي ينحو هذا المنحي المحتفي بتقديم المعلومات ـ حتي وإن لم يكن بعضه "موثقا" بشكل مباشر ـ مع السرد ذاتي الطابع عن العالم الداخلي للراوي المتكلم (انظر الكتاب ص 110، ولاحظ الربط بين "رصد" المعلومات بطريقة موضوعية: "إن أهل هذه البلاد هم نتاج الهجرات القديمة من ساحل شرق أفريقيا.. إلخ"، من ناحية، و"إفصاح" الراوي عن صلته الشخصية بما تتضمنه هذه المعلومات من حقائق: "ولعل ذلك كان سر ارتياحي إليهم من اللحظة الأولي لوجودي بينهم..إلخ"، من ناحية أخري).

ومن مستويات السرد في هذا الكتاب ما ينحو منحي "تاريخيا"، حيث يشار، مثلا، إلي معالم "هانوي": "دار الحكم التي كانت مقرا للحاكم الفرنسي قبل هزيمة فرنسا في معركة بيان فو.. إلخ" (انظر الكتاب، ص 30)، أو حيث يشار إلي "المغول الذين حكموا الهند لثلاثة قرون بعد قدومهم المجتاح من آسيا الوسطي.." (انظر الكتاب، ص 98). ومثل هذه الإشارات، التي تتقصي تواريخ بعيدة عن الحاضر القائم، يتم دائما توظيفها فنيا لإضاءة معالم هذا الحاضر.

ومن مستويات السرد في هذا الكتاب ما يتمثل في رصد ذي طابع "استطلاعي" ـ إن صح هذا التعبير الصحفي ـ الذي ينطلق من تجربة "الرحلة" إلي مكان من الأماكن، في بلد من البلدان، ليقدم "صورة" عن هذا المكان، تعتمد "أدبيات الرحلة" المتعارفة: "في الطوابق السفلية تحت بهو الفندق، كانت توجد صالات القمار، والنوادي الليلية، وحمام الساونا، وقاعات "المساج"، وأعجب صالة رأيتها في كل البلاد التي زرتها أو مررت بها..إلخ" (الكتاب، ص 15، وانظر أيضا ص 98، و ص 109 . ولعل هذا المستوي السردي موصول بكتابات محمد المخزنجي "الاستطلاعية" لمجلة "العربي").

ومن مستويات السرد في (حيوانات أيامنا) ما يفرضه التعبير عن بعض أبعاد العالم الداخلي للراوي، بما يجعل لغته تنأي عن الحياد، وتحتشد بتعبيرات تنتمي إلي صيغ الاستفهام والتساؤل، أو تحتفي بالعلاقات الشعرية، أو تتضمن نوعا من "الأحكام القيمية" الواضحة؛ وعلي هذا المستوي يقوم التساؤل بدور بنائي مهم في بعض القصص (لاحظ، مثلا، نهاية قصة "المهر": "فحملوا العظام إلي أقفاص الأسود، جاهلين أن الأسود تعاف اللحم المشوي، فهل تلعق الأسود رماد العظام؟! ـ ص 8)، كما تتناثر في سرد الراوي/ الرواة عبارات مشبعة بلغة شعرية موحية، متعددة الدلالات، تنأي عن الوصف الإشاري أحادي المعني: "وسمع الصوت ثانية كالصفير، فمرق طائر مدهوش يخرج من جبينه" (الكتاب، ص 29)، "سكبت الأرنب برفق عبر الباب السلكي الصغير" (الكتاب، ص 60)، "غياب مدو في صمت ثقيل، واستوحاش قاتم..إلخ" (الكتاب، ص 84)، كذلك يحتشد السرد في كثير من المواضع بـ"أحكام القيمة" التي تعبر عن انطباعات، أو تصورات، أو آراء، تنتمي إلي الراوي أو إلي الرواة. وفي هذا المنحي نقرأ تعبيرات من مثل: "ظباء الرمل البديعة" (الكتاب، ص 8)، "أصوات مؤلمة كالعويل" (الكتاب، ص 12)، "فندق جريس (...) كان سيركا بشريا عجيبا، مسليا ورخيصا" (الكتاب، ص 14)، "الصخب الجنوني" (الكتاب، ص 18)، "كاشفة عن طوق رقيق ساحر" (الكتاب، ص 46)، "لحظات العمر الجميل" (الكتاب، ص 59)، "أراقب ما يحدث بعيون تسخر من وقائع المسخرة" (الكتاب، ص 66)، "الرقص الثقيل المؤسي" (الكتاب، ص 94)..إلخ. وكل هذه التعبيرات عن عالم داخلي خاص بالراوي أو بالرواة، يتم توظيفها بنائيا داخل القصص، لتنقل الوقائع والأحداث من مستوي عرضها المحايد إلي مستوي تأملها، أو التساؤل حولها، أو تقييمها، أو رؤيتها من منظور مغاير للمنظور الشائع.

والملاحظ أيضا أن السرد في قصص هذا الكتاب يتسم بالتعدد النسبي في ضمائر الساردين وبالتباين اللافت في مجالات السرد نفسه. فمع غلبة صوت الراوي المفرد في أغلب القصص، فإننا نطالع أحيانا سردا بضمير جمعي: "بعد أن أوقفنا سيارتنا وترجلنا لنهبط وما كدنا نستقر علي أرض القرية..إلخ" ـ الكتاب، ص 93، و:"الأرانب في ميدان مدينتنا القديم" ـ الكتاب، ص 57 . كذلك، مع أن السرد يتسم ببعض القسمات الفنية الثابتة، فإنه يجوب مجالات رحبة، تجمع بين ما ينتمي إلي ثقافات وحقول دلالية ومعرفية شديدة التنوع.

ـ 7 ـ

في احتفاء قصص (حيوانات أيامنا) بعالمها الماثل فيما بين التخوم تتحرك مكانيا عبر ما يشبه "المراوحات"؛ بين ما هو مرجعي وما ليس مرجعيا، وتتحرك زمنيا بين ما هو حاضر وما هو مستعاد.

الأماكن المرجعية بالكتاب محددة مسماة: ميدان سيام، بانكوك، شمال تايلاند، البحرالأحمر، هانوي، كمبوديا، الهند، روما، كوبري عباس، القاهرة، ميدان الجيزة، ويندهوك، ناميبيا..إلخ. وفي مقابل هذه الأماكن يشار بشكل من أشكال التجريد إلي أماكن أخري غير محددة وغير مسماة: ميدان، القصر الرئاسي، البهو الرئيسي، الشوارع، "المكان"، "كل الأماكن"، الحديقة، القرية، العاصمة البعيدة..إلخ. يضفي النوع الأول من الأماكن طابع "التعين" علي بعض القصص، فيصل وقائعها بسياق له وجود "مرجعي" خارج القصص، ويضاهي بين هذه الوقائع وبين "معلومات" متعارفة، أما النوع الثاني من الأماكن فيكسو عالم/ عوالم القصص بمسحة من التجريد، ويجعل بعض تجاربها يتأبي علي الانحصار في سياق بعينه، وربما يقارب بين ملامحها وملامح "الأمثولة" Allegory التي تصلح لكل زمن ولكل مكان.

والأزمنة الحاضرة في الكتاب تتصل، فيما تتصل، براهن "أيامنا" ـ كما أشرنا ـ حيث نشهد إحالات بعض القصص إلي "تواريخ" معاصرة أو شبه معاصرة محددة: إلي فترة حكم السادات ـ وإن لم تحدده الإحالة بالاسم ـ وما بعدها (انظر ص 84، 85)، وإلي تاريخ ما بعد هوتشي منه (انظر ص 32)، وإلي زمن ما بعد ماوتسي تونج (انظر ص 33)، وإلي "مرحلة بداية الحكم اللاعنصري" في ناميبيا (انظر ص 109)، وإلي "ميراث حرب منسية" تعود إلي سنوات ما بين 1964 و 1974 (انظر الكتاب ص 20).. إلخ. ولكن، من جهة أخري، مع كل هذه الإحالات، يمكن ملاحظة أن مساحات ممتدة في بعض القصص يهيمن عليها ما يمكن تسميته "قص الاستعادة"؛ حيث تنطلق الوقائع من عالم الذاكرة، حيث يتم استدعاء الوقائع التي باتت نائية في الزمن، أو حيث يمثل فعل التذكر نفسه مدخلا للسرد كله (تبدأ قصة "الأتن"، مثلا، بالعبارة التالية: "لابد أن أذكر، وأنا أستعيد كل شيء، لعلي أفهم ما حدث، أنني استيقظت من قيلولة العصر يومها مخدرا نشوان..إلخ»، (انظر ص 79). وكثيرا ما تمثل استعادة تجارب الماضي ـ وأغلب هذه التجارب خطر وشاق (انظر ص 69 مثلا) ـ جزءا أساسيا من البناء القصصي؛ إذ يشيد هذا البناء، في غير حالة، علي وضع التجارب المستدعاة في مواجهة تجارب راهنة، كما يتمركز عالم بعض القصص علي رصد المآل الذي آلت إليه، في الزمن الحاضر، أحلام الماضي القديم. وفي هذا السياق تلوح فكرة "التغير" ـ الذي قد يقارب حد "التحول" ـ فكرة أساسية في تناولات بعض قصص الكتاب؛ فتتري عبارات تشير مثلا إلي هواية "رومانتيكية" قديمة كان يتم الاهتمام بها في تلك "المدينة التي كانت جميلة" (انظر الكتاب ص 58) أو إلي لحظة من "لحظات العمر الجميل" (انظر الكتاب ص 59)، كما تغدو فكرة "التغير" أو "التحول" هي العنصر المهيمن علي بعض قصص الكتاب (من ذلك قصة "غزلان" وقصة "المهر"، وقصة "أرانب مسحورة).

ـ 8 ـ

تأسيسا علي هذه الطرائق والتقنيات، وعلي هذه "التيمات" والملامح، وعلي تلك "المراوحات"، تنهض مغامرة السرد في (حيوانات أيامنا)، لتبلور عالما حفيا بما يدهشنا، وبما "يعلمنا"، وبما يصدم توقعاتنا، صدمات خفيفة حانية، وبما يجعلنا نتساءل ـ في البدء وفي الختام ـ حول "موضعنا" أو "موقعنا" في ذلك "التراتب" الذي شيدناه ومنحنا فيه أنفسنا مكانة أفضل المخلوقات، بل بما يجعلنا نتشكك في "تصورنا" ـ أم أقول: في "توهمنا"؟! ـ الذي يجعلنا نعتقد أننا الوحيدون الجديرون بنعمة الحياة في هذا الكون الفسيح.

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds