بدت لي فكرة الكتابة الجديدة أكثر قربا لما المسه في مشهدنا السردي في مصرالآن بعد فترة ثبات دامت لعقدين كاملين .. والميراث الضحل الذي تركه لنا جيل الثمانينات والتسعينات ، هكذا أختار الجيل الجديد بإتفاق غير معلن التماهي مع حدود الرواية والعبور فوق نقطة السرد التقليدي. بينما مهد الطريق ادباء مثل شحاته العريان وحمدي الجزار وحسين عبد العليم وحمدي ابو جليل ومصطفى ذكري من خلال روايات بدت اقرب للسيرة الذاتية تنتهي معها رؤية الراوي العليم ليمتزج الكاتب بابطاله صانعا مساحة من تجارب يعرفها" ان يكتب عما يعرفه جيدا"
لا ادرى إن كان ذلك عن وعي من الكاتب ولا ادري إن كان ذلك يحسب له ام عليه ، إلا ان الحقيقي تماما هو أننا نعاني من قصور وضيق في التجارب وإني لا اجد تفسير ما انجزه جيل الستينات من مئات الكتب في سنوات قليله بينما ينفق الكثير من الكتاب الآن سنوات طويله بين كتاب وأخر. هذا من حيث الكم لكن الامر بالطبع يختلف من ناحية الكيف المميز فيما يقدمه هذا الجيل .
قد يبدأ التأريخ من أحمد العايدي ذلك الذي أصدر روايته الأولى " أن تكون عباس العبد" منذ سنوات أربع واخترق بها بوابة العبور من عالم القراءة والكّتاب للعالم الموازي حيث الجمهور والقراء . تنحصر معظم الكتابات الآن ما بين الذاتية والجنس الذاتية .. كسمة صارخة لهذا العصر إننا نحاول أن نكتشف العالم من خلالنا حيث يجد الكاتب من داخله وعبره تفسيرا ومبررا لكل الاشياء . الجنس .. ووجه الآخر في الكتابة الجديدة العنف .. وأتصور أن رواية العايدي وما بها من مزيج من الفصام والعنف والجنس هي تجسيد لآلية الكتابة الجديدة .
بينما أختار محمد الفخراني الذي يؤمن أن الكتابة لا تعرف الحياد صاحب رواية " فاصل للدهشة" ان يتفوق علينا جميعا وعلى كل ما كتبه هذا الجيل قدم رواية لا تخلو صفحة منها من الجنس ومع ذلك لا يمكننا ان نجزم يقينا أن هذا ما أراده الفخراني. ونجاحه لم يرجع فقط للجنون الذي أقدم على كتابته ولكن للتناقض الشديد بين القبح والرقي في كتاباته الرومانسية الخالصة والمادية المزعجة تلك التي مضت الرواية متوازية ومتداخلة عبرها تماما كما خرجت مجموعته الأولى " بنت ليل" ناعمة ونقية ومتناقضة . جازف محمد بالتجديد بخوض عالمين مرهقين الأول عالم الجنس الذي تناوله كثيرون غيره لكن الجرأة التي قدمه بها جعلته في المقدمه بلا منازع .. والعالم الآخر هو عالم المهمشين ذلك اذي يقول انه انحاز له وانهم جزء من مشروع يأمل أن يكمله وهذه سمة اخرى للمشهد السردي الحالي حيث يتضح تماما ان لكل اديب شاب على الساحة الآن مشروع خاص به يتملكه تماما يسعى لخوضه بخصوصية ودون تكرار. وهو ما حدث عند محمد صلاح العزب أيضا حيث العوالم المتشابهه رغم الإختلاف بين روايته الأولى " سرداب طويل يجبرك سقفه على الإنحناء" وروايته " وقوف متكرر" وسرير الرجل الإيطالي يمكنك بسهولة أن تلمح روح محمد صلاح العزب وأن تمسك إشكالياته وفلسفته وربما مخاوفه . وهو ما تتضح قسماته جدا في عالم محمد علاء الدين صاحب رواية " إنجيل أدم" تلك التي قدم بها نفسه لقارئ دون قلق رغم وقوفها على محاك الدين والجنس معا . ثم عمله الثاني " اليوم الثاني والعشرين" تماما رغم الإختلاف بين العملين إلا إنك تلمح عبق محمد علاء في عالمه الذي اختار ان يجسد.
حيث تبدو الأعمال الإبداعية روحا متصلة بكتابها . اعمال قليلة بدت لي خارجة عن هذا السياق واحتفظت بالسنتمنتالية كطريقة للتعبير ومنها رواية " تماثيل الملح" لمحمد كمال حسن تلك التي أختار فيها ان يعبر بروح الشجن القوي والاحاسيس الرقيقة والحضور الواضح للإنسانية والضعف والدموع وهي ذات البوابة التي عبرت منها روايتي الأولى " الحكي فوق مكعبات الرخام" بوابة الشجن البنفسجية ، واظنه الإطار ذاته الذي يعمل داخله الطاهر شرقاوي بمجموعاته القصصية الساحرة الخصبة واخيرا روايته فانيليا التي تحمل عبقا سنتماليا . ولا يمكنني ان أتحدث عن المشهد السردي الحالي في مصر دون أن أتحدث عن موهبة حقيقية قوية ومختلفة " طارق إمام " الذي صدرت له ثلاث مجموعات قصصية ورواية عام 2003 هي شريعة القطة .وأخيرا روايته المدهشة هدوء القتلة لطارق اسلوب مدهش يكتب كمشعوذ يتلو تعاويذ سحرية ويصوغها بلغة نعرفها محاولا أن يقدم لنا فكرا عميقا ومشاعر مدمجة تماما كتحويل البركان لقرص دواء نتناوله ليبعث النشوة واثقة في جوانب كياننا .. هكذا كتب طارق إمام .
التجديد أيضا سمة من سمات هذا الجيل ليس فقط في السرد القصصي وإنما على مستوى كتابة المسرح كما قدم باسم شرف مسرحية " جزمة واحدة مليئة بالأحداث" تلك التي اختلفت تماما عن المسرح التقليدي قدمه بإبتكار وإبداع وعبقرية . ولا شك أن إختلاف صورة المشهد السردي في مصر تأثر كثيرا بظاهرة النشر الخاص ، ودور النشر غير الحكومية وما طرحته من معايير مغايرة لنشر وفتحت بوابة لسعة الافق وحرية الفكر .. ولعل من ابرز تلك الدور- دار ميريت للنشر- تلك التي حازت على جائزة جيري لابيري للنشر العام الماضي . وتبنت فكرة الثورة على الكتابة التقليدية وراهنت عليها . " حق هؤلاء الشباب في التعبير والكتابة " هو إيمان صاحب الدار الناشر محمد هاشم . والجدير بالذكر ان مشكله النشر لم تعد حقيقة عائق امام هذا الجيل لتوصيل كتاباته وأفكاره فقد توصل الجميع لأسلوب اخر للنشر وهو طباعة الشباب لأعمالهم في مطابع محدودة كما فعل محمد حسين بكر رحمه الله وأصدر مجموعه مشتركة مع القاصة سهى زكي ومحمد رفيع" بوح الارصفة" وكذلك محمد ربيع صاحب رواية " التاريخ السري لناس اسمهان عزيز " بطباعة كتابة طبعة محدودة وزعها باليد على اصدقائه وهي رواية جريئة .. غارقة في الجنس والسخرية اللاذعة وتجربة مميزة لها بصمتها إن قبلتها أو أختلفت معها. وأخيرا .. فإني أرى أن الجيل الحالي تمكن بالفعل من خلق تيمة مميزة لكتاباته وإننا صنعنا تاريخنا الخاص وعبرنا عن واقعنا كما نراه وكما نعيشه على إختلاف اتجاهاتنا وأذواقنا أرى أننا جيل قادر على صنع أسطورته الخاصة بشكل يضاهي جيل الستينات ربما لأننا جميعا نعرف كيف نتواصل ونتحاور لدينا إيمان مختلف ويقين صادق بسحر الكلمات ذلك الذي يصنع نفق في أرواحنا حيث العبور من النور وإليه
نهى محمود .

من يملك توكيل الرواية فى مصر

فى مقال الكاتبة اليمنية هند هيثم ملاحظة مهمة يجب أن نتوقف عندها وهى أن
وليست وصفة سرية لايعرفها إلا الكتاب الشبابا بل هى درجة من الوعى وحساسية فائقة للتجريب والتطور قد لاتتوفر عند كل كاتب وكما أن بين الشباب كتاب على قدهم وكتاب موهوبين، فأيضا بين الأكبر سنا نجد نفس الشيء. المشكلة فى تصورى مصرية بالدرجة الأولى، فلدينا هوجة من المبدعين الذين يفتخرون بأنهم لم يقرأوا لأحد، وأنهم لايقرأون فى الفكر والفلسفة حتى لاتفسد دماغهم، لأن دماغم متضبطة على روايتين لأصحابهم وسيجارتين حشيش ولابأس من وجود هؤلاء فقد كانوا موجودين فى كل زمن، لكن المشكلة أنهم الآن وبسبب اشتغالهم فى الصحافة وبعض منافذ النشر أصبحوا يفتون بالكلام ويقولون رأيهم بثقة غريبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا لى تعقيب على كلام إبراهيم فرغلى

يرى أن كتاب القصة دخلاء على الرواية، وهذا قول مضحك جدا

أنا كتبت القصة وكتبت الرواية وعدت للقصة من جديد والان أكتب رواية ، ولا أجد مشكلة فى الانتقال بين الأثنين لأن السرد هو إمكانية واحدة ومعايير الطول والقصر شأن مرتبط بزاوية النظر للموضوع وكثافة اللغة ، وتعدد روافد الموضوع واتساعه
كما أنى أرفض اعتبار الشعراء دخلاء على الرواية، وإذا تكلمنا بهذه الصيغة فمن الأولى أن نرفض الصحافيين الذين يكتبون الرواية أو القصة أو الشعر لمجرد انهم صحافيين ويعرفون الكلام والكتابة وعندى مشكلة فى فهم مقولة الدخلاء أصلا ، وكأن أحدا بعينه يمتلك توكيل الرواية والباقى دخلاء عليه هذا كلام يخلو من كل منطق، فأنا أعرف أن الآستاذ فرغلى له رواية حازت الإعجاب، ودخل عالم الروائيين بسببها ، ولكنه قبل ذلك لم يكن روائيا ولاحتى قاصا ، فهل طالبه أحد بشهادة خبرة روائية قبل أن يطلع علينا بروايته أو هل اعتبره أحد دخيلا ولو أخذتا الأمور بهذه الطريقة ، وطالبنا كل كاتب جديد بشهادة خبرة فى الجنس الذى يكتب، فمن الأولى أن كاتب القصة لدية خبرة سردية عن الذى لم يكتب من قبل ، ومع ذلك فالأستاذ فرغلى يعتبره دخيلا على الرواية. هذه المشكلة منشأها فى ذهنه أنه أسير المفاهيم القديمة التى تظن أن ثمة حدودا فاصلة بين القصة والرواية
وأنا اتحدى أى واحد يقول لى ما الذى يوجد فى الرواية ولا أستطيع أن افعله فى القصة غير الطول والقصر ، وكذلك العكس صحيح

أقول أن السرد هوجوهر التعبير الإنسانى الحديث ، وقد استفاد كثيرا من التقنيات ، والرغبة فى التجريب ، ومن ثم فممكنات السرد أصبحت كبيرة جدا ، ومتعددة إلى حد كبير ، حتى أن التدوين أصبح فرعا من فروع السرد شأن القصة والرواية والنوفيللا والمتتالية وحلقات السرد واليوميات والسير الذاتية والتقرير القصصى وغيرها من طرائق السرد وليست الرواية وحدها ، ولكن الجميع يكتبون على مثل هذه الأعمال روايات ، فقط ليمتلكوا جواز المرور والشهرة

وعموما فهذه المساحة الواسعة من التجريب السردى تتيح الفرصة لكتاب آخرين من حقول غير الرواية ليكتبوا ويعبروا عن نفسهم سردا ، فليست هناك وصفة للرواية وأخرى للقصة بل هناك إمكانات عديدة للتعبير السردى.
التجريب يعنى حرية ، وفتح الباب لرياح التغير والتطور.
أما إذا قتصرنا الأجناس الأدبية على مجموعة متخصصين فإنها ستتجمد ثم تموت كما مات النقد بسبب انحساره على نخبة الأكاديميين والمتخصصين

أخشى أن يأتى اليوم الذى نطلب فيه من المبدع شهادة خبرة فى النوع الذى يحب أن يكتب فيه وصحيفة سوابق تؤكد أنه لم يكتب فى نوع آخر من قبل وتصريح بالكتابة من الوكيل المعتمد للنوع الذى سيكتب فيه وياريت الأستاذ فرغلى يقول لنا من يمتلك توكيل الرواية فى مصر، لأنى أنوى كتابة رواية
ولى رواية سابقة وثلاث مجموعات قصصية، فهل ممكن؟؟

بأقتراح من محمد عبد النبي وتأيد من العبد لله وموافقة أمين عام المؤتمر الأستاذ سيد الوكيل سندعو كثير من الأدباء الشبان للمشاركة فى المدونة بالتدوين حول أسئله السرد الجديد والتفاعل حول القضايا الادبيه المطروحة.

أول المنظمين الجدد هم

د.رحاب إبراهيم صاحبه مجموعة قصصية بعنوان "بنت عمرها عشر دقائق"

ونهى محمود صاحبة رواية " الحكى فوق مكعبات الرخام"

وعثرت على تدوينه تتحدث فيها هند هيثم وهى أديبه من اليمن عن زمن الروايه فى مدونتها"تصدعت المرأه"وهى متصلها بالمبحث الذى فتحه ابراهيم فرغلى فى التدوينه الفائته


زمن الحديث عن زمن الرواية

نعم، ليس هذا زمن الرواية، بل زمن (الحديث) عن زمن الرواية.
مُنذ عشر سنواتٍ أو يزيد وأنا أقرأ في الصحف الأدبية – وغير الأدبية – تصريحاتٍ شبه رسمية عن زمن الرواية، ويُرفق التصريح المُهيب عادة بتصريحٍ كئيب عن موت الشعر، دون أدنى إشارةٍ إلى أسباب موته. ولأن هذه التصريحات قاطعة، باترة، صارمة، فقد كُنت أخافها وأنا صغيرة، وأعتبرها كتصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين عن الحروب والمجاعات، كلمات تعني أن ما وراءها أسوأ.
اللغط الدائر حول زمن الرواية وموت الشعر يترافق مع تصريحاتٍ أخرى لا تقل إرهاباً عن السابقين، كموت الأدب – قطع رأس الفتنة –، ونهاية التاريخ. ولا بُد من أن يُذكر صدام الحضارات من حينٍ لآخر، مع أشياء مثل موت المؤلف، ينبغي أن تُفهم مجازياً.
في هذا المجاز تتخذ المشكلة سكنها. موت المؤلف مثلاً – كناية – حسب رولان بارت عن انتهاء علاقته بالنص بانتهاء كتابته. الرواية كون من ورق، ولا شأن للقارئ بصانعها الذي أدى مهمته ورحل. نهاية التاريخ قد تعني انتفاء الحاجة إليه في الزمن المُعاصر، وصدام الحضارات يشير إلى الاختلافات الثقافية التي تفرق نسل آدم وحواء فرقةً لا رجعة فيها – وتعبير "لا رجعة فيها" مبالغة من أنبياء صدام الحضارات الجدد –. هنا ينتهي المجاز القابل للتفسير بشكلٍ عقلاني، ويبدأ كلام المجانين – مشكلة المجاز أن المبالغة فيه تقود المتكلم إلى الهذيان بكلامٍ لا يفهمه أحد، حتى هو نفسه، كالإفراط في استخدام البناء للمجهول – كيف يموت الأدب؟ هل يعني ذلك نهاية الحاجة إليه كما جاءت نهاية التاريخ؟ وكيف يموت الأدب مع كُل هذه الفوضى عن زمن الرواية؟
وبافتراض أن الأدب حيٌ يُرزق – وهذا مجاز مجانين آخر – لكن جزءاً منه فقط هو الذي مات، الشعر، كيف يموت الشعر؟ ولماذا؟
واحدةٌ من أقدم وأكثر مشاكل الفكر العربي استفحالاً الاستهلاك المفرط للمصطلحات والتعبيرات التي (يظهر) عليها (الذكاء) دون حكمة. وترديد الكلام لذاته دون فهمٍ حقيقي لمعناه – أو حتى اهتمامٍ به –. الزعم بأن الشعر قد مات يقتضي إثبات الكيفية، والسبب. ولا أحد – حسب علمي المتواضع – قد بين حقاً لِمَ مات الشعر – رغم محاولات مجموعة من الناشرين المتذمرين، والشعراء البائسين الذين ينسون أنهم يبيعون كُتباً لأمةٍ لا تقرأ –.
عندما ثبتت الرواية نفسها كشكلٍ أدبي مُعترفٍ به، هلل مناصروها تهليل الجوعى عند وليمةٍ، وأعلنوا في كُل محفل أن روايتهم ستمحو كل الأشكال الأدبية السابقة لها باعتبار الرواية إسفنجة قادرة على الامتصاص إلى ما لا نهاية، وقادرة على حمل الحكاية، بينما لا يستطيع الشعر حملها لذا سيتراجع أمامها. وهذا ادعاء لا سند له، ففي قصائده التي لم تُنظم لتكون جزءاً من ملحمة شعرية كقصائد الإدا التي تحمل حكايات آلهة سكندنافيا، وقصيدة "بيوولف"، وغيرها – أو جزءاً من مسرحية شعرية – كما في مسرحيات شكسبير ومارلو، ومحاولات شوقي لإنشاء مسرحٍ شعري عربي. مشكلة شوقي أن مسرحه الشعري عمودي، بينما في زمن شكسبير ومارلو، كتب المسرحيون شعر تفعيلة. – يستطيع الشعر أن يحمل الحكاية كما في قصيدة تنيسون "سيدة شالوت"، أو قصيدة ميلن "كريسماس الملك جون"، وحتى في الشعر العربي كما في قصيدة هيثم "غبار السباع".
تتفوق الرواية على الدراما في منظورها للشخصية، فالرواية تستطيع تقديم الشخصية من الداخل والخارج بكفاءةٍ تفوق تلك التي في مُستطاع الدراما، وتعدد ضمائر السرد فيها يُتيح للروائي حُريةً أكبر في كشف شخصيته للقارئ بالصورة الأمثل. ويزيد من امتيازها التزام المسرح بوحدات أرسطو الثلاث – وحدة المكان، الزمان، الحدث – بينما تمتلك الرواية كامل الحُرية في تشظية الزمان والمكان إلى ما لا نهاية – نظرياً –، وفي تقسيم الحدث أو عرضه من وجهات نظرٍ مختلفة، وبضمائر سرد مختلفة. كما أن الرواية – دون حياءتستعير الحوار من الدراما لتقتبس أقوال شخصياتها كما هي. غير أن الواقع يؤكد أن المسرح لم ينتظر الرواية لتُحلق بعيداً حاملةً كُل ما يخصه، فأعادكالشعر – اختراع نفسه، ولم يعد محكوماً بالوحدات الأرسطية، أو بحواجز الخشبة، وأضاف إلى تراث شخصياته المزيد دون توقف، وتعددت أساليبه ومدارسه وحركاته دون أن يفقد هيئته الأساسية، ودون أن يستطيع أحدٌ أن يقول – بضمير مرتاح – أن مسرحيات اليوم لا شأن لها بالمسرحيات الإغريقية التي أُديت في أثينا قبل الميلاد.

بينما تكاد الرواية تكون ابنة عاقة للتقاليد الأدبية السردية التي سبقتها،
كالقصة والخُرافة والرومانس
.

تمتص الروايةُ داخلها كُل الأشكال الفنية الأُخرى دون أن تفقد هيئتها الروائية، وفي هذا امتيازٌ هائل تكاد تنفرد به وحدها، لكنها لا تُلغي أي شكلٍ آخر، ولا تحدُ من آفاقه، فما الذي يحمل النقاد وأشباههم على إعلانه زمن الرواية بامتياز؟ ويجعل بعض عتاتهم يضيفون أنه زمن موت الشعر والأشكال الأدبية الأخرىبالتوازي –؟
وبافتراض أنه زمن الرواية فعلاً، فهل حقق المنجز النقدي العربي شيئاً استثنائياً في نقد الرواية يؤيد هذا الاعتقاد؟!.. النقد في تراجع مستمرٍ، والتجديد فيه متوقف إلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله، فكيف يُمكن أن تكونُ هُناك نهضة روائية بوجود روايات دون متونٍ نقدية؟!..
الحُجة الوحيدة شبه المُقنعة التي يستطيع أن يسوقها دُعاة زمن الرواية هي أرقام مبيعات الروايات التي تتفوق دائماً على مبيعات الشعر والمسرحيات وغيرها من الأشكال الأدبية. لكن، هل ما يبيع حقاً روايات؟
باستثناء أسماء مثل نجيب محفوظ وغارسيا ماركيز وأليندي ممن يبيعون كثيراً دون أن يؤثر ذلك على قيمة رواياتهم الفنية، فإن الرائج في سوق النشر بيع خيالاتٍ طويلة يسمونها رواياتٍ مجازاً، بينما لا تتجاوز في الحقيقة كونها قصصاً Fiction تفتقد إلى العُمق الذي يُفترض أن تحتويه الرواية، وإلى المعاني والمباني التي تُكون جوهرها وماهيتها. ما يكتبه دان براون يبيع بشكلٍ خيالي، لكن، هل ما يكتبه رواية Novel أو Fiction مُعاد مراراً وتكراراً؟ الأمرُ لا يحتاج إلى تأمل، فبراون مفضوح لأنه يجتر ما يكتبه وفق خطةٍ محفوظة تفتقد العُمق الإنساني بشكلٍ مخزٍ. (ومع ذلك، هُناك من يعتبر شيفرة دافنشي كتاباً حوى كُل حكمة العالم، وأعرف منهم جبلاً كثيراً). يوجد كتابٌ آخرون يصعب فضحهم مثل باولو كويلهو الذي يُعامل بقداسة شديدة في العالم العربي، مع أن أنغيلا شرويدر، المحررة الأدبية النمساوية صُعقت عندما قُلت لها أنني من قُراء كويلهو. كويلهو بالنسبة لنقاد الأدب الأوروبيين – الذين يتذمر منهم بشدة في روايته الزهير – Charlatan أو دجال يدعي أنه يستطيع تحويل الرصاص إلى تبر. هُناك قدرٌ من الإنجاز في روايته، الخيميائي، لكن بقية رواياته تدور في نفس الفلك، وتعزف على ذات الوتر. تجربته الروحية مع الجماعة الغريبة التي ينتمي إليها عدا استثناءات – أراها – تظهر في الشيطان والآنسة بريم وفيرونيكا تُقرر أن تموت، التين يعتبرهما مع على ضفة نهر بييدرا جلستُ وبكيت ثلاثية يُسميها: في اليوم السابع. الروايتان السابقتان متأثرتان بالفكر الديني، خصوصاً الشيطان والآنسة بريم، لكنهما لا تتحدثان عن الطوائف العجيبة التي يحشرها كويلهو كُل مرة. وفي الشيطان والآنسة بريم حضورٌ للواقعية السحرية يُذكر بلاتينية كويلهو. هُناك أيضاً إحدى عشرة دقيقة،

لكنه يملأ الرواية بأبحاثٍ واستنتاجات وينسى أن الرواية في بُنيتها الأساسية حكاية، وليست استعراضاً لمعارف الروائي وقدراته البحثية.

وعليه، فحتى استثناءاته تُعاني من خللٍ خطير، فالمرء لا يستطيع أن ينسى باولو كويلهو بعد الصفحة الأولى لأنه يقفز بين الصفحات ويقول لك كُل وقت: "أنا هُنا!" – أعرف، بالمناسبة، المقابل العربي لكويلهو لكنني سأحتفظ بالاسم حتى يأذن الله. –
بسقوط حُجة المبيعات، ينبغي العودة إلى الأصول. إلى النقاد الذين ينبغي أن يكفوا عن وظيفة مندوب مبيعات المصطلحات الجديدة في العالم العربي الذي يُروج سلعاً قد لا يفهم حتى فائدتها، وكُل ما يهمه (عمولته) التي يقبضها عن مبيعاته، ليعودوا إلى وظيفتهم الأصلية، مفكرين يصوغون – بالملاحظة والتحليل – القواعد النظرية المُجردة للبُنى والمعاني الأدبية ثُم يُنشئون عليها تطبيقاتهم العملية، ومراقبين دقيقين لتطور التجربة الأدبية، ومؤرخين لها. عندها فقط، سيكون للحديث عن زمن الرواية معنى فعلي، وقد يسقط هذا المجاز سقوطاً مدوياً بعد أن يُدرك النُقاد أنه محض فقاعة.

Blogger Template by Blogcrowds