جلسة الشهادات




أدارت أ/ فريده النقاش جلسة الشهادات فى بداية اليوم الثانى من أيام المؤتمر، ولأسباب فنية تم جمع جلستين فى جلسة واحده مجمعه السبع شهادات المشاركون فى المؤتمر، بينما غابت أ/هالة البدرى و قدمت شهادتها فريده النقاش، الكل قرأ شهادته فيما هو منشور بكتاب الشهادات، عادا د.زين عبد الهادى الذى قدم كلام آخر غير الشهادة المنشورة ولكنها ذات صلة بموضوع شهادتة وسيكلمنا عن كلامه فى الجلسة على هذة المدونه. وننشر هنا مقدمة أ/ سيد الوكيل للشهادات المقدمة فى الكتاب




شهادة إبداعيةد. أحمد والي،
البقاء للسرد، د. زين عبد الهادي
الكتابة بحثاً عن الظلال
يوسف فاخوري
رؤيـــة السـارد لعمــله
محسن يونس
محطات للوصول.. سيراً علي الأقدام عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل
التحـولات (شهادة في الكتابة) هالة البدري

النقد والإبداع وتداخل الأنواع د. سيد البحراوي








يبدو أن مفهوم الشهادة الأدبية ما زال ملتبساً بين السيرة الشخصية والأدبية، بين الحقيقة والخيال، بين التجربة الإبداعية والتنظير لها، وملتبسًا بقوة بين العام والخاص، وعمومًا فالشهادة الأدبية ليست وثيقة علي الكتابة ولا علي الكاتب نفسه، وإن ظلت تعيننا علي فهم التجربة الإبداعية بالنظر إلي المحيط الثقافي والاجتماعي لبيئة المبدع، كما أن نقاد التحليل النفسي قد يجدون فيها مادة تعينهم، ليس علي فهم الإنتاج الإبداعي فحسب، بل وعلي فهم كيمياء التجربة الإبداعية لمبدع ما، بالنظر إلي عمليات التفاعل بين المبدع ومجاله الحيوي الدافع للإبداع.

وفي جميع الأحوال، فإن الشهادة الأدبية ليست شيئاً كاملاً ونهائياً، وكأن لها انفلات الأدب ومراوغته، وكأنها شكل أدبي مختلف يدفعنا للتفكير بطريقة مختلفة في أنفسنا، من نحن؟ ما الذي تبقي منا في التجربة الإبداعية؟ لماذا نحن هكذا بالتحديد؟ هل نحب ما نحن عليه؟ ما الذي نريده من كوننا أدباء؟ ما نصيبنا في أن نكون أنفسنا؟.

هذه أسئلة قد تكون أقرب إلي نوع من التأمل الوجودي والتحليل الذاتي. صحيح أن الذات المبدعة ـ في العمل الأدبي ـ تتشكل علي نحو مستقل، متفرد وخلاق، ومتحرر من تأثيرات الواقع المعاش للمبدع نفسه، لكن شيئاً في الخلفية يبقي منحازاً، ومتجذراً في الظرف الاجتماعي والتاريخي بكل فعلياته الثقافية، ذلك ما نسميه الواقع، لكن الواقع ـ أيضاً ـ في أحد تصوراته يكون ملتبساً وعاما. فليس في الواقع مما يخصنا سوي القليل جدًّا، لهذا تبدو شهادة الأديب علي تجربته رحلة شاقة وطويلة، قد تمتد إلي مئات السنين، بالنظر إلي أن المكون الثقافي لمجتمع ما ذي طبيعة تراكمية ورسوبية، فتبدو تجربة البحث عن الذات المبدعة، بمثابة بحث جيولوجي مضن.

وعلي نحو ظاهري، فالشهادة الأدبية بمثابة الوسيط الثالث الذي يجمع بين السيرة الذاتية والسرد الأدبي في فضاء واحد، فإذا كانت السيرة الذاتية خطابًا تاريخيا بالأساس، منطلقًا من واقع التجربة المعاشة للمبدع، وإذا كان السرد خطابا تخييليا بالأساس منطلقا من واقع التجربة الجمالية للمبدع، فإنه ثمة منطقة مشتركة بين السيرة الذاتية والسرد الأدبي يمكن أن تتجلي في الشهادة الأدبية. إنها بالتحديد المنطقة الثرية والمراوغة بين حدين وهميين هما الواقع والمتخيل.

وهكذا تبدو محاولة المبدع لكتابة شهادته الأدبية مهمة شاقة وشائكة، أشبه بمهمة استخلاص الذهب من كثير من التراب، من حيث كونها تركز الضوء علي هذه المنطقة المراوغة بين الواقعي والمتخيل، ومن حيث كون هذه المنطقة الثرية منجم الذات المبدعة. وبهذا المعني، يمكن أن تشير الشهادة الأدبية ـ أكثر من أي شيء آخر ـ إلي معني الذات المبدعة.

وكثيرا ما نقرأ بين مصطلحات النقد ما يوصف بأنه الذات الساردة أو الذات الشاعرة، من غير إدراك دقيق لماهية هذه الذات.

وظنّي أن الشهادة الإبداعية توفر للناقد فرصة دراسة هذا الكائن المراوغ ـ دائما ـ بين الحقيقة والخيال، بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والحلم به. إنها المنطقة التي تتداخل عندها كل حدود التجربة الإبداعية، أو إنها باختصار جوهر هذه التجربة.

وفي هذا الكتاب، نقدم شهاداتٍ أدبيةً كتبها عدد من المبدعين، ونعتذر عن أنه لم يتح لنا الاحتفاء بعدد أكبر مما ورد هنا من شهادات لمبدعين بالنظر إلي أهمية الشهادة الأدبية في استقراء وعي المبدعين لذواتهم المبدعة من ناحية، وللواقع الثقافي المحيط بهم من ناحية أخري، بما يضمن إفادة مميزة لدارسي الأدب من النقاد والباحثين.

وقد حرصنا قدر الإمكان علي أن تكون الشهادات ممثلة لجيل أسهم في تشكيل المشهد السردي الجديد، وهو ما يمكن أن نسميه بالجيل الثالث، إذا ما وضعنا في الاعتبار جيلين سابقين هما: جيل الرواد، والجيل التالي له أو ما اصطلح علي تسميته بجيل الستينيات، الذي ما زال يسهم بقوة وتميز في تشكيل المشهد السردي المعاصر، بل ويظل في كثير من الأحيان مسئولا عن رسم الكثير من تفاصيله.

ونحن في هذا متّسقون مع قناعتنا بأن الأدب ذو طبيعة تراكمية، بحيث ينبني فيه الجديد علي القديم، فليس في كلامنا عن السرد الجديد تكريسًا لقطيعة ما من أي نوع، لا بين الأجيال ولا بين التجارب الإبداعية ذاتها. لهذا فإن ما نعنيه بالجيل الثالث هنا، إنما هو جيل وسط بين جيلين (الثاني والرابع)، وإن الأجيال الثلاثة تتفاعل في فضاء ثقافي وإبداعي واحد، هو ما نعنيه بالمشهد الأدبي الآني.

ولعل هذا التوسط يمكّّن كتّاب هذا الجيل من رؤيةٍ أكثر اتساعا تمنحهم حق الإدلاء بشهاداتهم. فهم في الوقت الذي يعبّرون فيه عن استفادتهم وخبراتهم المتحصلة من خبرات السابقين يدمغون تجاربهم بخبراتهم الخاصة المتفردة، فضلا عن تلك النظرة المستقبلية التي يتشوفون بها لما يجب أن تكون عليه تجاربهم في المستقبل، في وقت تحتدم فيه التجربة السردية بمغامرات جيل جديد مستفيدٍ من تراكم الخبرات السردية السابقة، ومن متغير واسع يعيشه في لحظته الآنية، ينعكس عبر إفادات مؤثرة ـ لا شك ـ من مصادر جمالية لم تكن متاحة لنا في الماضي القريب، تتمثل فيما يعرف باتساع مجالات المعرفة والانهمار المعلوماتي وتعدد وسائط التعبير الجمالي علي نحو ما تمثله ميديا الاتصال الحديث.

وقد اختصت المائدة المستديرة، التي حرصنا علي أن تكون أساسا بين فعاليات مؤتمرنا هذا، بمناقشة حرة ومفتوحة بين كتاب السرد من الجيل الجديد، وهو أمر نراه محمودًا، نظراً لأن تقاليد البحث النقدي اعتادت علي ألا تنظر للتجارب غير المستقرة، وأن تنتظر إلي حين نضوجها واستبيان ملامحها.

ولهذا رأينا أن تكون المائدة المستديرة مناسَبةً لأن يطرح المبدعون الجدد أسئلتهم علي الواقع، بدلا من أن يطرح الواقع أسئلته عليهم، بما يعني تمكينهم من التعبير عن أنفسهم، ورسم ملامح رؤاهم، لمشهد سردي آني.

وقد حرصت أمانة المؤتمر أن تُخضع اختياراتِها لشهادات المبدعين، لمعايير بحثية أقرّتها لجنة الأبحاث، لتكون متواشجة ومتكاملة مع مباحث المؤتمر المختلفة.

وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلي أن شهادة الدكتور سيد البحراوي، وعلي الرغم من وجازتها، إلا أنها تكشف بوعي حاد عن منطقة قلقة وملتبسة في ذات المثقف والمبدع المعاصر، وهي أن الذات لم تعد معني واحداً ومنظّما علي نحو قسري، بل هي فضاء متسع من الإمكانات المتعددة والرؤي المتداخلة، حيث تتماهي الحدود الفاصلة بين الممارسات الأدبية، علي نحو ما يمثل لها الدكتور سيد البحراوي باحتشاد ذاته المبدعة، وتراوحها بين تجربتي النقد والإبداع، وكأنما يدلي بشهادته، علي طبيعة التداخل بين الأنواع الأدبية، وكأنما النص النقدي هو تجل آخر من تجليات الإبداع الأدبي، وهو متسق في ذلك مــع رؤية المـؤتمر لما هو سرد، بعيــدا عن تخصيصات النوع الضيقة.

فيما يقدم د. زين عبد الهادي شهادته عن السرد بعنوان: «البقاء للسرد» وهي رؤية متفائلة تحتفي بظاهرة الانفجار السردي الذي تعيشه مصر الآن، وتشير إلي أن السرد لم يعد بديلاً للفلسفة التقليدية علي نحو ما تشير الدراسات الغربية الحديثة فحسب، بل هو بديل للتاريخ أيضاً بوصفه شهادة الواقع راصدة لتفاصيل الحراك الاجتماعي، ففيما يسكت التاريخ عن كثير من هذه التفاصيل فإن السرد معني - بالدرجة الأولي - بالمسكوت عنه، ومن ثم فهو يقدم تاريخا بديلاً للتاريخ الرسمي .

كما تشير شهادة الأديب يوسف فاخوري إلي معني خصوصية التجربة في مقابل خصوصية الإبداع، مع وعي بأن الخصوصية ليست انغلاقاً، بقدر ما هي تعبير عن نوع مميز من التفاعل مع العالم، فمن المثير في شهادته، أن تقف علي معني للخصوصية شديد الثراء والتعدد، في إشارته إلي مكوناته الكنسية الأولي، بوصفه مصريا مسيحياً (قبطي) يعيش في أقصي جنوب مصر (أسوان) حيث يتعانق الوجد الصوفي الإسلامي المتسامح الذي اشتهرت به هذه المنطقة، مع التراث الفرعوني الذي ما زالت آثاره شاهدة وفاعلة في تشكيل الوعي الجمالي لإنسان هذه البيئة، فضلا عن التجارب الإنسانية التي اكتسبتها عبر الاحتكاك والتفاعل مع ثقافات حديثة لأجانب وفدوا إلي هذه المنطقة أو عاشوا فيها، سواء إبان سنوات العمل في بناء السد العالي الذي جسد نضال الشعب المصري في مواجهة الإمبريالية، أو من خلال المستشرقين وعشاق المصريات الذين وقعوا في غرام الجنوب المصري.

وإذا كان لا يمكننا الإشارة هنا إلي كثير من التفاصيل الواردة في هذه الشهادات، فإنه يمكن القول إنها عكست تنوع الخبرات الحياتية والمعرفية المكتسبة لتصبح كلاً في فضاء الذات المبدعة، ومن ثم بدت كل شهادة مُميزةً بخبرة كاتبها، ومميزةً لذاته مبدعا ومثقفًا. فشهادة المبدعة والروائية هالة البدري تعكس تجربة المرأة المبدعة في مجتمع ما زال يرعي تقاليده الأدبية والاجتماعية وفق معايير ذكورية، ومن ثم فقد جاءت شهادتها مميزة بمذاق خاص، وتعكس درجة قصوي من الوعي بالذات.

أما شهادة المبدع محسن يونس فقد تجاوز فيها وعيه بتجربته، إلي تأمُّل تجاربَ لآخرين، متوازيا مع بعضهم أو متقاطعا مع البعض الآخر، بما يعني رؤية أوسع لمفهوم الشهادة الأدبية، من مجرد انحصارها علي زاوية النظر الذاتية، ومن ثم يبدو هذا التجاوز كمعادل ثقافي لتجربة محسن يونس ـ نفسه ـ الذي نجح في كسر هامش العزلة الإقليمية، حيث آثر الحياة في مدينته الساحرة (دمياط) يقرأ علي شواطئها حكايات الصيادين ويسترق السمع إلي أسرار البحر، ورغم ذلك فقد نجح في تحقيق مكانة مميزة بين كتاب جيله، فيما اكتسبت تجربته الأدبية سحر البحر واتساعه، وقد انعكس هذا في أعماله السردية، بدءاً من عناوين هذه الأعمال، وتنوعها بين القصة والرواية والموجات السردية.

وغير ذلك لدينا شهادتان لمبدعين هما: عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل وأحمد والي.

أما شهادة الأول فتعكف علي قراءة الخبرة الحياتية عبر الاحتكاك العملي والجسدي بالواقع، وتُنصت لحضور الحواس الإنسانية في تشكيل الوعي الجمالي. وتلتفت إلي تجارب الماضي في نازع "نوستالجي"، وكأنما يعمد إلي كشف مواطن الوعي بالذات مشتبكاً مع التاريخ.

في حين تأتي شهادة الثاني ملتبسة بالتعبير الشعري تارة والسردي تارة أخري، لتقف علي حدود الوعي الجمالي عبر المعرفة الثقافية المكتسبة، مع التركيز علي لحظات متوترة ومؤثرة في التركيب النفسي له، بوصفها نقاطاً تشير إلي مدخولات الواقع المعاش في المتخيل السردي.

ويقينًا أن هذا العرض السريع والمختزل للشهادات الواردة هنا، لا يغني عن قراءتنا لها، والتعرف عليها عن قرب، تمامًا كما لا تُغني معرفتنا بموضوع ما عن قراءته سرداً، وحيث الشهادة الأدبية في إحدي صورها، سرد ترتكز بؤرته علي الذات المبدعة، وتعكس وعي المبدع بتجربته ومدي اشتباكها بالحراك السردي المعاصر له.


سيد الوكيل

أكتب منذ اثنين وأربعين عاماً، نصوصاً غير مقيدة بأي نوع كتابي، لأني ببساطة، كنت أكتب تلقائياً، دون أن أعرف أن ما أكتبه هو كتابة، وربما لم يكن كذلك بالفعل، خواطر ، انفعالات، تأملات، حوادث صغيرة تركت أثراً في، ونصان طويلان أحدهما يحاول أن يسجل جريمة قام بها أحد زملائي في الدراسة، اختطاف طفل لا أذكر لماذا تم كشف الجريمة، والقبض علي زميلي وإلقاؤه بالسجن، والثاني عرض لتاريخ القضية الفلسطينية من خلال رؤية طفل هاجر سنة 1948 .

حينما التحقت بالجامعة وضاع مني مكاني الآمن الذي كنت أكتب فيه، انشغلت بالدراسة في القاهرة، ثم الحركة الطلابية، قلت كتاباتي وإن لم تتوقف، واستمر الأمر كذلك بل زاد مع انشغالي بالدراسة الأكاديمية والعمل والنقد و النشاط السياسي، غير أن الكتابة الإبداعية ، كانت -فيما يبدوـ تطفح ـ دون أن أدري ـ علي ما أكتبه أياً كان مجاله، فكان بعض الأصدقاء ينبهني إلي ذلك، إلي درجة أن أحدهم قال عندما قرأ "ليل مدريد" أن كتاباتي النقدية كانت مقدمة لها، وحين عرضت نصاً قصيراً علي صديق آخر، هو المرحوم إسماعيل العادلي كاتب القصة القصيرة والرواية والمسرح، قال : إنها قصة قصيرة تحتاج إلي"شغل بمليم". يقصد قليلا من المراجعة أو الإحكام ، وذات مرة، كنت في أواخر الأربعينيات قالت صديقة : كتبت كثيراً عن كتابات الآخرين، وآن الأوان أن تكتب كتاباتك .

في صيف ذاك العام من أواخر القرن الماضي، وجدت نفسي مدفوعاً دون إرادة لكتابة تجربة فتاة ممزقة من جيل عايشته ما يشبه خلال تدريسي ومراقبتي للحياة، كنت مدفوعاً إلي الكتابة بطريقة جنونية حطمت كل مقاييس حياتي، بما فيها ساعات النوم والطعام، وأحياناً العمل ، وحين انتهيت منها أعجبت بعض الأصدقاء الذين قرأوها مع ملاحظات، ظللت أعمل عليها بعد ذلك عدة سنوات حتي رضيت عنها، لكن ناشرين متعددين لم يرضوا بنشرها، حتي نشرت في النهاية ـ خارج مصر ـ سنة 2002 .خلال الانتهاء من "ليل مدريد" بدأت أعود إلي دفاتري القديمة التي وجدتها ، كان بعضها قد ضاع كاملاً وأجزاء أخري من بعضها الآخر، ولم أندم كثيراً لأنها بدت لي بلا قيمة، ومع ذلك وجدت عدة نصوص قصيرة، احتاجت "شغل بمليم" كانت نواة مجموعة النصوص القصيرة "صباح وشتاء" التي صدرت بعد ذلك بعام، حين انفتحت شهيتي علي الكتابة مواصلاً نفس النهج القديم لتلك النصوص مع تنويعات منهجية، وموضوعية حديثة، وهو الأمر الذي استمر أيضاً مع مجموعة "طرق متقاطعة" التي كانت أكثر تمرداً علي النصوص الأولي، بدرجة أعلي من التمرد لأجد نفسي في مجموعة النصوص الجديدة التي أعدها للنشر .

لا يستطيع أحد ـ ولا أنا ـ الجزم بانتماء هذه النصوص القصيرة إلي نوع أدبي محدد، وهو ما بدا فيما كتب عنها، وهو أيضاً ما بدا من التردد في تسميتها، عند النشر سميت "صباح وشتاء" نصوصاً وصدرت "طرق متقاطعة" دون تسمية، وستكون التسمية أصعب في المجموعة الثالثة، في المقابل، فإن "ليل مدريد" و "هضاب ووديان" لم تجدا تردداً بشأن التسمية، فهي روايات طالت أم قصرت، وإن كانت هي الأخري لا تخلو من تعدد الأنواع، أما "شجرة أمي" فتداخل الأنواع فيها أوضح، ومع ذلك يري معظم من كتبوا عنها أنها رواية، ومازلت غير مقتنع بذلك.

هذا عرض سريع لتاريخي الكتابي، قبل النقد وبعده، بدأته بالقول أنني بدأت الكتابة قبل أن أعرف ما هي الكتابة وما هي أنواعها، ومع ذلك فإن بعض نصوصها نشرت ـ بعد ذلك ـ ككتابة، وحين كتبت ـ وأنا أعرف ما هي الكتابة وما أنواعها ـ جاءت الكتابات أيضاً متمردة علي حدود النوع/ الأنواع التي أدرسها لطلابي في الجامعة، وأراعيها ـ دون شك ـ في نقدي لكتابات الآخرين.

هنا ـ علي إذن ـ أن أعترف أنني في مأزق.

الناقد أو المعلم ـ باعتباره عالماً أو يحاول ـ يلتزم أو يحاول ـ أن يحدد فاصلة تميز الأنواع الأدبية عن بعضها البعض لأن التصنيف هو أحد مهام العالم، والمبدع ـ دون أن يقصد بكل تأكيد ـ يتمرد علي هذه الحدود الفاصلة، ويتراوح بين الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر أو حتي قصيدة الشعر الحر، التأمل، بل إنه في داخل من هذه الأنواع، يدخل أنواعاً أخري، في الرواية يدخل الشعر والوثيقة وفي القصة يدخل التأمل، وفي قصيدة النثر تدخل المقولات الفلسفية.

وحين أقول دون أن يقصد بكل تأكيد" أقولها صادقاً لأن حالة الإبداع لدي تضعني في حالة خاصة، هي أقصي درجات أناي أو صدقي مع نفسي متخلصاً من أي مؤثرات سوي تحقيق خصوصية التجربة التي أكتبها أياً كان نوعها، أي أن التجربة والرغبة في الإخلاص لها يكونان هما المهيمنين علي أثناء الكتابة علي الأقل الكتابة الأولي، بعد ذلك يأتي دور المراجعة والتنقيح، وهنا لا شك تتدخل الخبرة الواعية للناقد الإنسان الذي يعرف أن عمله سيوجه إلي قارئ لابد من مرعاة احتياجاته قدر الإمكان، غير أن هذا الدور يأبي أن يعتدي علي خصوصية التجربة وصدقها، فقط يحرص علي تحقيق ما لم يتحقق منهما من الكتابة الأولي حتي تتحقق شروط التلقي، أي أنه لا يعتدي علي خصوصية نوع التجربة (أنواعها) ونفس هذا المبدأ (الصدق والحرص علي الخصوصية) هو ما يقودني في عملي كمعلم وناقد، لأنني أعتمد في ذلك علي مجموعة من القواعد الأساسية: أولاً : الإبداع ـ كما الحياة ـ سابق علي النقد كعلم أو يسعي أن يكون علماً، وعلي العلم ـ حتي في العلوم الطبيعية والبحتة ـ أن يكون مرنا قابلا للمراجعة، والعودة إلي الإبداع ومتابعة الجديد في تعديل مقولاته أو حتي نظرية كاملة، إذا ثبت خطؤها أو الإتيان بالقواعد الجديدة التي تناسبها .

ثانياً : المبدع هو من يأتي بجديد وخاص، وهو لن يفعل ذلك إلا بالخروج علي القائم و من ثم فإن معرفة القائم أمر ضروري حتي، إن كان بهدف تغييره . ثالثاً : أن هدف الدارس المتعلم للقواعد النقدية، ليس تطبيقها حرفياً علي الإبداع لأن قواعد العلاقة الإنسانية ومنها النقد لا بد فيها من قدر عال من الانحياز لا بد من مراعاته وضبطه لصالح النص الإبداعي حي لا يشوهه أو يقتله. ففي النقد قدر ضروري من الإبداع.. إبداع العالم؛ لأن العلم إبداع، وحساسية المبدع) ونبض القارئ واحتياجات الجماعة البشرية أو المجتمع.

رابعا: ولكي يحقق الدارس أو الناقد هذه المهام عليه بالصدق مع النص ومع المناهج النقدية ومع احتياجات المتلقي أيضا.

من هنا فإنني حين أدرّس لطلابي الأنواع الأدبية؛ أنبّه دائما إلي أنها ليست مقدسة، وأن دورنا كمصريين وعرب ومضطهدين في هذا العالم ربما لم يتحقق بعد، وأن هذه المناهج ربما لا تلبي احتياجات نصنا العربي أو نصنا العربي الذي لم يتحقق بعد والذي يجسد محتوي شكلنا الخاص.

من هذا السياق فإنني أنظر إلي تعدد الأنواع الأدبية أو الأشكال في النوع الواحد أو حتي السعي إلي إنشاء أنواع جديدة هما حاجة ضرورية للمبدع في كل عصر وأوان دون أن يتعارض ذلك مع دور النقد في التأصيل والتقنين والضبط حتي يتمايز الإبداع الحقيقي عن ادعاء الإبداع.

وإذا عدنا إلي المبادئ الأساسية لنظرية الأنواع الأدبية نجد أن ظروفا اجتماعية وسيكولوجية ما؛ ترشح تطورا أو تجديدا في الأنواع، أو أنواعا أو أشكالا جديدة في النوع نفسه، وقد ينجح هذا الترشيح وقد يجهض طبقا لموازين قوي ومكونات تلك الظروف، ولا شك أن العالم المعاصر بأسره بما فيه مجتماعتنا تمر بحالة اضطراب وفوضي تستدعي هذا السعي الدؤوب من قبل المبدعين للبحث عن أشكال وأنواع جديدة ليس فقط في الأدب، بل في كل مجالات الفنون والفلسفات وربما العلوم.

العالم في مرحلة مخاض عظيم قد يأتي بما لا نتخيله وقد ...

وهنا يأتي دور المبدعين في أن يكون تجديدهم واعيا وليس مجرد ألاعيب ومهارب من ضرورات الإبداع الحقيقية والإسهام في أن يكون الإنسان إنسانا أفضل.

حين أتأمل ما كتبت، وما مر بحياتي حتي الآن أجد أن أعمالي تشبه أسلوب حياتي إلي حد كبير، وأن وراء كل عمل قصة تحول قصري بالحديد والنار، تحول بقرار اتخذته بوعي شديد، ربما بقلب بارد أيضاً وبدون تردد .

وإذا ما أخذت خطوة إلي الوراء لكي أتأمل معكم بحياد ما فعلته بحياتي وبالكتابة فلابد أن أعترف لكم بأني لا أعرف مصدر تلك القوة الداخلية التي ترفض بعد تأمل طويل وصامت إلي اتخاذ تلك القرارات التي أراها الآن مرعبة، وإن كانت ضرورية، والتي صدرت عني في لحظات فارقة لتعيد تشكيل حياتي، والكتابة معاً

وسأبدأ معكم بتأمل التحول الأول

كنت قد نشأت في أسرة مثقفة واعية تقدم لأبنائها الفرصة لممارسة رياضة يومية، وتتيح لهم التعامل مع عناصر الثقافة المتنوعة، وقد التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة، وحصلت علي بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية، وأتاح لي البرنامج التثقيفي الأسري التعرف علي الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ، وحين لاحظوا ولعي بالقراءة حفزوني علي الاشتراك في مكتبة المدرسة والنادي، وهكذا سار الخطاف الرياضي والثقافي في حياتي في نمو مطرد معاً، وكنت قد بدأت أحلم بالكتابة؛ فكتبت الشعر والخواطر في الثانية عشرة من عمري، ورحت أهيئ نفسي بوعي شديد لأن أكون كاتبة حتي جاءت لحظة التحول مع دخولي الجامعة إذ اشتركت في عامي الأول في إصدار مجلة الكلية، وجاء بعض الصحفيين لينقلوا أحداث الحركة الطلابية عام 1972 فأخذوني معهم إلي مجلة روزاليوسف.

وتعارضت الكتابة للمرة الأولي مع بطولات السباحة التي كانت تقتضي تدريباً يوميا لست ساعات وتصل إلي تسع أثناء الاستعداد للسباقات، وكان علي أن أتخذ القرار، ولم أكن أكملت الثامنة عشرة من عمري بعد، وقررت الاعتزال دون لحظة تفكير واحدة حتي أعمل في روزاليوسف، ناقشتني أسرتي، وطالبوني بمراجعة القرار لأن مستقبلي الرياضي مفتوح لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة؛ فأعطيت ظهري للأمر كله، ولم أشاهد سباقأ واحدا إلا بعد سنوات طويلة فبكيت .

عملت بالصحافة، وأنا أرعي امتلاك أدوات الكتابة كل يوم، وصدقت أن كل ما أكتبه قادر علي تحقيق حلمي بأن أكون كاتبة للأدب و للمسرح علي وجه الخصوص، لأنني تعلمت من درس البطولة الرياضية أن الأحلام تتحقق بجهد صاحبها، فقد أخضعت نفسي لنظام قراءة صارم يجعلني أقف علي قاعدة معرفة صلبة للتراث و الأدب العربي والعالمي .

فلما تخرجت في كلية التجارة جاءني أبي بفرصة عمل في فرع شركة أجنبية تعطي مرتباً يصل إلي تسعين جنيها عام 1975، وكان مرتب خريج الجامعة يبلغ سبعة عشر جنيها لا غير، وتعطيني مجلة روزاليوسف عشرة جنيهات، قررت الاستمرار في روزاليوسف، وفضلت الجنيهات السبع (بعد الخصم) .

وحين جاء رجل يطلبني للزواج وسط حماس الأسرة الشديد له، وحاولت الإفلات فلم أفلح، وشرحت له أن الكتابة هي كل حياتي، وأنني لن أعمل إلا في الصحافة، وسأكتب في الأدب ما أشاء بحرية شديدة دون تدخل منه سألني : إذا تعارضت الكتابة مع مصلحة الأسرة هل تختارين الكتابة ؟.

قلت أنا فرد في هذه الأسرة ومصلحتي هي في الكتابة الحرة؛ فكيف تتعارض مصلحة الأسرة مع مصلحة أحد أفرادها ؟ مصلحة الأسرة تتطوع حسب ظروف أفرادها، سأختار الكتابة لأنها مصلحة الأسرة.

وافق علي الزواج مني وأشهد أنه رعي حريتي وساندني، وكنت أنا من يتردد أحياناً، وأغلب القرارات التي تفيد راحة باقي أفراد الأسرة حتي لو جاءت علي حساب الكتابة، وأقول بلا تردد أن حريتي قد نقصت كثيرا حين غاب عن الحياة، وحين أسأل نفسي الآن هل كنت سأقبل الزواج منه إذا لم يقبل بحريتي المطلقة في العمل والكتابة ؟ أقول لم أكن لأقبل.

كنت في الثامنة عشرة، عملت بالصحافة، وانتقلت للعمل كمراسلة صحفية لروزاليوسف في بغداد فور تخرجي لكي ألحق به، ورحت أنشر القصص القصيرة، وأخطط لثلاثة مشروعات روائية، الأول كان بعنوان "سفينة النساء"، وموضوعه الحب، وقد استبعدته لأنني لا أريد أن أكتب عن الرجل باعتباره هدفا مثل أجيال من الكاتبات سبقتني، الثاني بعنوان "ألوان الطيف السبعة"، وكان موضوعه جماعة المغتربين المصريين في العراق، وبدأت بالفعل في كتابة الرواية، ووضعت علي الطريقة المحفوظية ملفات لشخصياتها، وبعد أن قطعت شوطا لا بأس به قررت التوقف، كنت قد لاحظت بمناقشتي لزميلي وأستاذي في الصحافة فتحي خليل أن نظرتي لهؤلاء المغتربين والسياسيين منهم بصفة خاصة هي نظرة شديدة الإدانة، وسألت نفسي إن كان الابتعاد عن بغداد واكتساب خبرات في الحياة يجعلني أغير رأيي فيما أري وما أكتب، واخترت أن أؤجل كتابة العمل وعدت إلي مشروعي الثالث لأبدأ به، وكان فريق للسباحة؛ أولاً: لأنني أعرف هذا العالم، ولا أحتاج للكثير من البحث حتي أقدم أبطاله، وثانياً: لأنه لم يسبق أن قدم مجتمع الرياضة في الرواية العربية رغم أن إحسان عبد القدوس كتب عن مجتمع الأندية لكنه اكتفي بعالمهم الاجتماعي ولم يقترب من الملاعب..

وكان هذا هو التحول الثاني

وجاءت الرواية رواية عن النمو بصبية يتحسسون الحياة بوجل للتعرف علي العالم، وسواء تم هذا بوعي أو بدون وعي فقد تسربت قضية الحرية لتحتل الرواية، وتكشف النقاب عن جماعة تعيش في مصر في الفترة من منتصف الستينات حتي عام 1973، ونتساءل عن معني البطولة والولاء لقائد نجح أن يسير بها إلي هدفها لكنه سرق روحها حين كبلها.

حيت أتأمل الآن هذا القرار الصارم بالتوقف عن كتابة رواية الاغتراب، وعدم الرجوع إليها مطلقاً طوال ربع قرن أحتار في نتائجه لأنني حين عدت إليها وكتبتها حزنت بشدة علي تركي لها وعدم تدوين ما كنت أدونه من ملاحظات بدت ساخنة وطازجة في فترة من أخصب فترات العراق، لكني في ذات الوقت اكتشفت أنني قد غيرت نظرتي بالفعل لتلك الجماعات السياسية التي كانت تتحرك أمامي، ورحمت الكثير من الشخصيات التي تعاليت عليها في حينها لأنني لم أر إلا الصغائر الإنسانية، ونسيت في غمار ضيقي منها أنها جماعات تناضل من أجل الحرية، وتدفع ثمن تمردها علي الأنظمة بالتشرد، والنفي، والفقر، والرفت من الأعمال، وغيرها من أثمان كنت أعرفها نظرياً فحسب مع قلة خبرتي وصغر سني، نعم أعطتني الحياة و السنوات الماضية نظرة أعمق أري بها الضعف الإنساني بعين رحيمة، ومنحتني الفرصة لتقدير هؤلاء البشر، وتقديم حركتهم بشكل أعمق، وإذا قدر لهذه الرواية أن تصدر (تحت الطبع) سأكون مدينة لقراري الصارم بالتوقف عن كتابتها في ذلك الزمن بخروجها علي ما هي عليه الآن.

بعد ست سنوان من العمل مراسلة صحفية في بغداد قررنا العودة إلي القاهرة عام 1980 ليدخل ابني المدرسة ووقفت حائرة، أريد أن أذهب إلي بيروت لرصد تجربة المقاومة، والدخول في معترك الصراعات العربية، مؤمنة تماماً بأنني سأخسر كثيراً إذا لم أعش هذه التجربة مع المقاومة الفلسطينية، والعمل في صحفها ليس من أجل الصحافة، ولكن من أجل تكويني ككاتبة عربية، ووقفت حائرة بين زوجي الذي وافق علي سفري وحيدة إلي بيروت، وعودته وابني إلي مصر، لكنني اتخذت قراري بالعودة معهما، وظل هذا التحول يؤرقني مدي الحياة لأنه طبع حياتي ببصمة التوازن ولم أستطع الإفلات من الحياة تحت وطأة غزل حبل التوازن إلا بصعوبة، وبقرارات صارمة أيضاً.

كان هذا هو التحول الثالث

حين عدت إلي القاهرة لاحظت في قريتي تحول المجتمع والإنتاج من النظام الزراعي التعاوني إلي الصناعي التجاري؛ فرصدتها وعشت سنة كاملة في القرية، وكتبت مسودة عمل بعنوان "بيضة من خشب"، ثم جاء قراري الحاسم بعدم النشر، وعمل بحث طويل عن الفلاح المصري وتاريخه القديم والمعاصر..

ليكون التحول الرابع

إذا كانت الرواية التي قرأتها طموحة وكاتبها ضعيف، واستمر عملي علي هذه الرواية عشر سنوات كاملة دونت خلالها عدة أفكار لمشاريع روائية، وضعتها في ملف وأغلقته، وكتبت قصصا قصيرة، وأصدرت مجموعتي الأولي "رقصة الشمس والغيم"، ثم "أجنحة الحصان"، والتي كتبتها وأنا غاضبة أحاول أن أفهم بالكتابة لماذا يقبل الإنسان بالهزيمة؟، وهل ينهزم دون أن يقطع نصف الطريق إلي السقوط؟، وقد تركتني هذه المجموعة وأنا أسأل نفسي عن الوسيلة التي تمكنني من قلب الإنسان الذي خاطبته بعنف؛ فقررت أن أجعله يستمتع وأن أتسلل إليه بأفكاري بهدوء، ساعتها حلت كل المشاكل الفنية التي صادفتني، وأنا أخطط لمشروع رواية، وبدأت في الكتابة التي استغرقت ثلاث سنوات أخري وكونت قاموساً خاصاً بالأرض استخدمته في الصياغة النهائية في محاولة للاقتراب من الفلاح الذي أحببته، وفتنت بعشقه للحياة، ومحاولاته لغزل الفرح بأبسط الخيوط، وقدمت بانوراما عن الحياة في قرية مصرية في الفترة من الحرب العالمية الأولي وحتي أزمة مارس 1954 .

الآن وأنا أتأمل قراري بعدم نشر روايتي "بيضة من خشب"، والتي أفرخت ـ معذرة ـ روايتين هما "منتهي"، و"ليس الآن"، ورواية ثالثة لم أنته منها بعد، أجد أنني لم أكن مخطئة في قراري رغم أنني دفعت ثمنه أربع عشرة سنة من العمل المضني، بل علي العكس فلم تكن "منتهي" هي رحلة بحث عن الفلاح المصري، بل كانت رحلة نمو لأدواتي كان لابد منه حتي أستطيع أن أكتب رواية تقدم نقلة نوعية مختلفة عما قدمته في روايتي الأولي "السباحة في قمقم".

توقفت كثيراً وأنا أسأل نفسي عن المرحلة التالية لهذا المجتمع، ما هو المسار الذي اختاره لكي يعبَّر عنه، لم أجد مفراً من أن أختار الصراع العربي الإسرائيلي موضعاً للجزء الثاني من"منتهي"، والذي كتبته كرواية متصلة منفصلة يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول، واخترت بطلي ضابطاً في القوات المسلحة، وهو ما استدعي العودة إلي البحث لكي أتعرف علي عالمه العسكري، فلم تعطني الحياة فرصة الاشتراك في الجندية، أو حتي الاحتكاك بها، وظهرت الرواية بعد أربع سنوات بعنوان "ليس الآن".

كانت قد تراكمت مادة واسعة للجزء الثالث لكنني بعد ثماني عشرة سنة من العمل كانت قد تاقت نفسي لأكتب رواية تدور أحداثها في المدينة في الزمن الراهن؛ فتركت مشروعي، وانتقلت إليها، وكتبت رواية عن التحقق في الحياة، عن الصراع الذي يعيشه المثقف بين رغبات وإمكانيات تحقيقها..

وكان هذا التحول الخامس

وكنت إذا كتبت قصة قصيرة أكتب مسوداتها الأولي، وأتركها خوفا من أن تخرجني من العالم الذي يستغرقني، وبعد انتهاء الكتابة في "امرأة ما" قررت أن أتفرغ لهذه القصص، أعدت كتابتها وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان "قصر النملة"، ثم دخلت بجهد ثقيل في معركة مع نفسي لكتابة سيرة ذاتية موضوعها الموت، ولم أستطع أن أنشرها..

وكان هذا التحول السادس

وحتي أستطيع التحدث عن هذا القرار الصارم بعدم النشر والانتقال إلي كتابة روايتي"أيام منسية من دفتر بغداد" اعتماداً علي مخطوطي الأول الذي كتبته في العراق عام 1977، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، لابد أن أحكي لكم قصة الصراع المستمر بيني وبين الرقيب الداخلي لعله يلقي الضوء علي هذه التحولات.

أعترف أن المسكوت عنه في الحياة، ما نتواطأ علي إغفاله، ونتعامل معه باعتباره غير موجود، هو أحد المناطق التي أهوي اللعب في مضمارها سواء أكان المسكوت عنه خارجيا في حركة المجتمع أو داخليا في الذات نفسها، فهو منطقة غنية جديرة بمتابعة الخيوط والغوص في الأعماق حتي لو عجزت اللغة لطول ما عانت من قلة الاستخدام للعبير عن هذا المختفي.

منطقة تحتاج في الغالب إلي نحت لغوي خاص ليعبر عما تفاجئه بالضوء، والمسكوت عنه الحافز الأول لظهور الرقيب الداخلي، ولقد عانيت من هذا الرقيب أثناء كتابتي لروايتي ليس الآن بسبب موضعها الشائك : ضابط لا يقبل بتوقف الحرب مع إسرائيل، لقد سألت نفسي وأنا أبدأها ماذا سأفعل مع آلاف المحاذير التي يلقيها هذا الرقيب أمامي وأنا أفكر؟، أعترف أنني أحببت بطفولة شديدة أن أزيحه من طريقي، لأن الكتابة هي فعل الحرية الوحيد الذي أمارسه، كيف أحدد حريتي بيدي ؟، لكن مواجهه المؤسسة العسكرية المصرية بالنقد أمر لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، القلق يفاجئني وأنا أقود السيارة، والحرارة والضجر يذهبان بأعصابي فأكاد أجن لأن لا شيء يقهره، ولا حتي ضغطي علي البنزين، وارتطامي بخط السير، أختار إذن أسوأ الأوقات للانفراد، وأكثرها ضعفاً، وحين أكون بعيدة عن الورقة والقلم لأنهما كانا السلاح الوحيد الذي حاربته به، واستطعت بعد جهد إقناع نفسي بأنني قهرته، ورضيت عما كتبت لكني أحياناً أسأل نفسي هل حقاً أزحته ؟ أم أنني أسكنته الأعماق، فراح يعيد ترتيب الأشياء قبل أن تصل إلي الوعي ؟ سؤال لا أهرب من الإجابة عليه خاصة وأنني لا أؤمن بالحلول الوسط ولا أنصاف الأشياء.

لم أسمع أي اعتراض من أي جهه رقابية علي الرواية بعد صدورها، وطبعت في مطابع الدولة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأعيدت طباعتها مرة ثانية في مشروع مكتبة الأسرة أيضا كاملة، لكن ناقدا واحدا من الذين كتبوا عنها لم يأت إلي ذكر أزمة هذا الضابط مع المؤسسة العسكرية، وتناولها من جوانب أخري تماماً، لقد عمل الرقيب الداخلي مع الناقد أكثر بكثير مما فعل معي.

هكذا وصلت إلي رواية "امرأة .. ما"، وأنا أشعر براحة وثقة تدفعني لكتابة ما شئت واخترت موضوعاً شائكا عن إمكانية التحقق، واخترت الحب بين المرأة والرجل روحا وجسدا متسلحة بإيمان حقيقي في إمكانية الدخول إليه، والتعبير عنه حتي أصل لما أريد، وراح الغزل يتحول إلي نسيج متماسك بعدما يزيد علي ثلاث سنوات، وكدت أكتب كلماته، ولكن أحداث "الوليمة" فاجأتني ذات صباح فاضطرب الغزل في يدي، ورحت أتأمل مزيدا من الأسئلة الصعبة عن المناخ الذي يعيش فيه الكاتب وتأثيره علي كتاباته، وبعد حوار طويل مع نفسي انتهي بهدوء إلي دخول هذه الأسئلة جسم الرواية التي كنت أصوغها في ذات اللحظة، وأن تكون إجابتي كما قال بطلها عمر مأمون الكاتب الروائي: أراهن علي حضارة السبعة آلاف عام، وأقرر أن أنشر روايتي كما هي تخزني الشكوك : هل تقبل دار نشر الآن ما أكتب ؟.

أجيب بروح مرحة تتفاءل بالمستقبل حتي لو لم أجد في مصر سأجد في بيروت أو في المغرب، ستقبع في الأدراج إلي أن يحين نشرها، ولن أغير منهجي لأخضع للظلام .

نشرت رواية "امرأة .. ما" أول دار نشر عرضتها عليها وهي دار الهلال، وقرأتها مطبوعة بتأن فوجدت أن كل محاولاتي للفكاك من الرقيب انتهت بانتصار ما .. له، لأنني راوغت كثيراً في الكتابة، ولم أسم الأشياء بأسمائها أبداً، تأملت هذا باسمة، وقبلت أن يستمر اللعب بيننا، لكن ما فاجأني حقيقة هو الفارق الشاسع بين موقف القارئ العادي من الرواية، وموقف القارئ المثقف إذ أخبرني عدد كبير من المثقفين، والكتاب بصفة خاصة بخشيتهم من خلط الأوراق بيني وبين بطلة الرواية التي تعيش حياة مزدوجة بين الزوج والحبيب، وقال لي كل منهم علي حدة إنه يفهم دوافعي لكتابتها، لكنه يخشي من مواقف الآخرين، في حين لم يسأل القارئ العادي أي أسئلة من هذا النوع، ولم ينشغل إلا بما أردت قوله بالفعل، وما مسّ حياته، فاحتفي بها احتفاء خاصا ومازال يدهشني حتي الآن، ذلك أنني فتحت جرحا كان يبدو لي متقيحا؛ فإذا به يكشف عن خلل يكاد يودي بالحياة نفسها.. (غرغرينا).

وتصورت أنني قطعت شوطا بعيدا في الكتابة بحرية، تلك الحرية التي لا أتصور كتابة حقيقية بدونها، ولا كاتباً عظيماً يتردد في ولوج دربها، حتي قررت أن أكتب رواية سيرة ذاتية تعتمد علي لحظة إنسانية بالغة الصعوبة، الإنسان في مواجهة موت أقرب الناس إليه، تصورت أنني بما أمتلكه من أدوات في رحلتي قادرة علي الدخول إلي الموضوع بثقة، ورحت أعيش مقاومة الانهيار بالكتابة؛ فلما انتهيت منها اكتشفت أنني لم أستطع بلا أقنعة أن أكتب مشهداً حميماً واحداً، علي عكس ما حدث في كتابة "امرأة .. ما"، ورغم أنني أعلم صعوبة أدب الاعتراف لأننا لم نَّدرب عليه، وقامت الحضارة الغربية علي فكرة التطهر المسيحية بالاعتراف إلا أنني لم أجد هذا عذرا مناسباً لأن تكون الرواية ناقصة من وجهة نظري كناقد أول لعملي، واتخذت قرارا بعدم نشرها حتي أصل لحل لهذه المعضلة إما بالشجاعة، وكتابة هذا الشأن، وإعطاء التجربة نفسها لأشخاص متخيلين، وفتح باب الحرية أمام الخيال لكي يقوم بفعله علي راحته.

لهذا حين قررت أن أكتب روايتي"أيام منسية من دفتر بغداد"، وكان الإغراء كبيراً لأن أكتب شهادة أو سيرة ذاتية استبعدت الفكرة علي الفور، وأعطيت إحدي بطلات العمل تجربتي وخبرتي عن بغداد لكنني لم أعطها ذاتي، وبنيت شخصيات وهمية تحمل عبء الرواية عن كاهلي، حتي أتمتع بالحرية التي لا أري عملا أدبياً أو فنياً بدونها.

أما كيف أختار شخصياتي فهو موضوع تنفتح أمامه كل الطرق؛ أحيانا من الخيال الكامل، أبدأ من فكرة وأظل أركبها حتي تتحول إلي لحم ودم، وأحياناً من صنعة أراها في أحد الأشخاص فآخذها، وأنسج حولها شخصيتي، وأحيانا من حدث أو من فعل يقوم به شخص لا أعرفه أمامي أو يحكي لي عنه. أما الأشخاص الذين أحببتهم ورغبت في الكتابة عنهم؛ فقد عجزت إلي حد كبير عن تقديمهم في كل عمل فني وأجلت هذا حتي تزداد خبرتي بهذا الفن، وأظن أنني في المرحلة القادمة من حياتي سأقدم بعضهم.

أما كيف ألتقط الفكرة، ففي كل مرة كان المصدر مختلفاً، بدءا من شخصية تستهويني؛ فأقرر الكتابة عنها دون أن أعرف إلي أين، أو موضوع غامض أحوم حوله حتي أمسك طرف الخيط، أو حادث معين يستفزني، لكنني لا أبدأ بالكتابة إلا بعد استفزاز طويل، وحالة عاطفية تتملكني نحو عالم أريد أن أعرفه فأبدأ المناوشات معه.

وفي بعض الأحيان تتولد فكرة من داخل عمل أكتبه بالفعل ؛ فأصدقها وأمشي وراءها، حتي أنهيها، كما حدث مع عملي الأخير الذي هيمن علي عقلي وانتزعني من وسط الإعداد لرواية أخري.

أتصور أن الرواية أو القصة هي التي تختار شكلها ولم يحدث غير مرة واحدة في كتابة "امرأة .. ما" أن وصلت إلي الشكل علي الفور؛ ففي كل مرة كنت أقوم بالعديد من التجارب حتي أقرر شكل البناء الفني.

أما الأسلوب فأعتقد أن كل عمل له أسلوبه أيضا؛ فالحديث عن قرية وسط دلتا النيل في بداية القرن يحتاج إلي لغة تختلف كثيراً بخشونتها عن شاعرية اللغة في رواية عن الحب، واللغة المحددة في رواية عن الحبيبين، واللغة التقريرية في رواية عن الغليان السياسي.

التحولات إذن رسمت خريطة الطريق، لكن ما ذكرته منها لم تكن كل التحولات، فقد لعب الرقيب الداخلي معي لعبته في تحديد الاختيار.

لكم تساءلت: لماذا جاء ميلادي بالقرب من ساحة الحرب؟

بسذاجة لم تكن هي التهور بعينه ، زعمت أنني جئت لأستل قلمي من بين الضلوع، لكي أطفئ لهيب المعارك فداست كلماتي علي مواقع في حياتي أحدثت انفجارا أشبه ما يكون بدوي معارك الحرب العالمية الثانية!!

لنعد إلي النشأة

ولدت في مدينة المنصورة يوم 21/3/1938 علي إيقاع دبيب الراكضين في هلع عبر الحواري، كانوا يحذرون الأهالي من إشعال أي عود ثقاب، صيحات قلقة، ملحة في طلب نشر عباءة الظلام كدعوة صريحة للحفاظ علي الأرواح من خطر الموت، بعد أن تقدمت جيوش المحور من "العلمين" وقاست بأس الآلاف من جنود بريطانيا العظمي التي كانت تضع مصر تحت ما تسميه بالحماية.

أدركت مبكراً أنني لم أعتد علي أحد حتي يرغمني علي ملء عيني بأشباح الظلام منذ طفولتي من يدخلني في أثواب، هل يستطيع الادعاء بأن ليل هذه الطفولة كان باسم القسمات؟ من يمكنه الزعم بأن السماء كانت علي إيقاع ذلك الواقع تضحك لي؟

من رابع المستحيل أن أضع توصيفاً خارج جغرافيا المكان، خاصة وأن من هم علي شاكلتي لا يستطيع أحد منهم أن يصبح ذاتا مستقلة عن واقعها، وما أعرفه أنه إذا كانت هناك خصوصية في الثقافة فإن ذلك لا ينفي وجود الملامح المؤثرة في عدد من الثقافات الأخري، وهي التي تحفر في الذات أوتاداً من نسغ الإنسانية، وعبير الروح.

ولكي لا نبتعد عن المواد الخارجية التي ساهمت في تكويني.

أقول: ولدت لأب كان يعمل حدادا بورش السكك الحديدية، امتلأ سمعي بقعقعة عجلات القطارات في ذهابها وإيابها بالقرب من البيت الذي ولدت فيه.

مشكلتي المبكرة مع هذه القطارات أنها لم تنقطع عن أدوار الوصول ـ في مختلف الأوقات ـ إلي بلاد لا أعرف إلي متي سأظل جاهلاً لمدن يعينها الله عند إقبال الصبح فترنم لملكوت السموات والأرض.

القطارات التي كانت تسير بقوة اشتعال الفحم وضغط البخار أغوتني بالذهاب معها إلي مواقيت الشمس، أي قطار ـ بعد ذلك ـ يخرج من المحطة كان مطاردا مني، ومن أصحابي، مرات ومرات، كنا نتراهن علي الدخول معه في سباق، نراقبه عندما يلوح قادما من بعيد بصدره المنتفخ بالسواد.. من يفوز.. نحن أم القطار؟

كم من المرات سبقناه .. كم مرة ضحكنا فيها علي فشله ؟ في زهو الفائزين وقفنا ـ علي مسافة قصيرة منه ـ في تحد .. كان يقبل ناحيتنا في تهافت مثل دودة عجوز، وعندما يقترب نروح نعيد السباق من جديد، إذ لم يكن في حياتنا شيء يبعث علي السرور سوي اللعب مع القطارات والدخول معها في سباق كانت نتائجه تأتي دائماً لصالحنا .

تحت عمود النور ـ (نقطة تجمعنا) ـ استعدنا مرارا خيبته حتي أفعمنا الانتصار بنوع من الاعتداد بالنفس، ومن حيث لا أعلم أجدني ـ فجأة ـ غير مبسوط، غير مبتهج، شارد الذهن، إنه يصل إلي بلاد لا نعرف شيئاً عنها، أما أنا فلا عمل لي سوي إراقة الوقت في استعادة ضحكة صارت لا معني لها .

لمحناه قادماً من بعيد كأنه إنسان يمشي في عرج .. صعد ثلاثة من أصدقائي إلي سلم العربة الثالثة .. كانت عربة السبنسة قريبة مني .. صعدت إليها .. نزل أصدقائي الواحد منهم تلو الآخر في تهليل وفرح .. عندما حاولت أن أنزل مثلهم وجدتني منطرحاً علي ظهري بعد أن داست آخر عجلة من عربة السبنسة علي ذراعي اليمني .

أول رصيف علي شمال المحطة

كأن القطار (وهو يمثل الزمن المتحرك) أراد أن يثأر مني، أن يعيد إلي نفسه شيئاً من الاعتبار، أراني كيف تكون نهاية الضحك عليه، لم يعد من المعقول أن يفكر مبتور الذراع في التحليق أو التفكير في الذهاب إلي المدن التي يصل إليها القطار، الأب والأم والأقارب رجحوا كفة عدم صلاحيتي للقيام بأي عمل، قال أبي: لن ينجيه من الغرق إلا القرآن، انتظمت في صفوف مدرسة المحافظة علي القرآن الكريم .

دونما إدراك مني ـ آنذاك ـ لكينونة المكان ومدي تأثيره في الشخصية، أذكر أن المدرسة كانت تقع بين مبني "جماعة الإخوان المسلمين" و"حزب مصر الفتاة" لكي أذهب إليها لابد أن أمشي من أمام الحزب الذي كان يشغل الطابق الأرضي من عمارة لا تزال حتي اليوم تتمتع بشكلها الهندسي الجميل .

أثناء المرور من أمامها كان يسترعي انتباهي لفيف من الشباب كأنهم جماعة في خلية نحل لا يحكمها سوي الحركة المستمرة داخل الصالة المطلة علي الشارع، كنت أحسدهم لأنهم لم يتذوقوا ـ مثلي ـ آلام عصا الشيخ إبراهيم عبادة بسبب عدم حفظ اللوح المقرر والذي ينتهي عند الآية التي قال فيها فرعون للنبي موسي عليه السلام "ألم نربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عُمرك سنينَ ؟!

حتي ولو ظل جرس المدرسة يرن في غلاثة ـ كأنه ينادي علي أنا بالذات ـ كنت أوهم نفسي ونفسي تقبل التصديق أن هذا ليس جرس المدرسة، لكنه جرس كنيسة الملاك الواقعة وراء المدرسة في السكة الجديدة.

فعلت مثل الذين كانوا هناك، سددت نظراتي إلي صفحات جريدة الحزب المفرودة علي الجدران دون أن أعرف تناقضات الحركتين ـ الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة ـ في المنطلق والعقيدة، كنت لا أعرف أن جماعة الإخوان المسلمين نمت جذورها من الدين الإسلامي، وحزب مصر الفتاة بأصوله من الحضارة الفرعونية، الشيء المؤكد، وما شفته بعيني أن الرابطة التي تجمع بين الإخوان المسلمين كانت قوية، وتظل تتصاعد وهي تستمد حقها في الوجود بقوة الدين.

أيام الهروب من عصا الشيخ إبراهيم عبادة لم يخطف بصري ويلهب مشاعري إلا حركة شباب حزب مصر الفتاة، حين كان يرتفع بينهم صوت يستنفر الجميع لكي يحتشدوا ويخرجوا في مظاهرة، وبمجرد أن ترتفع عقيرتهم بالثورة والتنديد بأعمال الحكومة كانت الدكاكين والورش الأهلية تغلق أبوابها، ويسير صبية الورش والأسطوات مع الجموع حتي تنقلب شوارع المنصورة ـ من شدة الزئير ـ إلي وحش ضار.

يعتلي شاب الأعناق، يلوح بقميص أبيض مضرج بدماء طالب خرج في مظاهرة أمس، أردته إحدي الرصاصات قتيلا، كانت البندقية صناعة إنجليزية، الرصاصة إنجليزبة، اليد التي ضغطت علي الزناد مصرية!؟

تساءلت في سن النضوج : أمن الحكمة أن يموت الشجاع ويعيش الجبان ؟، ثم هل كان من الحكمة أن يعيش كيفما كانت الحياة، أم يظل يخوض أهوال الصراع ؟ من كان محمولا علي الأعناق راح يهتف والمتظاهرون يرددون وراءه (جبل الطور اليوم بينادي .. القوا في عبد الهادي).

عرفت لأول مرة أن في مصر حكومة موالية للإنجليز، وأن رئيس وزرائها كان يدعي إبراهيم عبد الهادي باشا، وأنه أمر باعتقال من يخرجون للتظاهر وإلقائهم في معتقل "جبل الطور".

تحول هروبي من المدرسة إلي متعة سياسية وثقافية، أصبح الشارع صديقي ومعلمي قبل الكتاب، وحتي بعد أن عرفت حياة الكتب كان هو المورد الأول للمعرفة، كما أذكر له بالامتنان والشكر سعة صدره لي حين استضافني علي إحدي التلتوارات ومنحني شرف الكتابة بين أسطوات دهان السيارات وميكانيكية علي الطريق وأصحاب ورش متنقلة للسمكرة وضبط وإصلاح أبواب العربات .

هناك كتبت رواية "أولاد المنصورة"، وكنت كلما فرغت من فصل رحت أقرأه عليهم، وكنت أشجعهم، بل وأرجوهم أن يقولوا لي رأيهم بلا حرج أو تحفظ، ولكم استمعت إلي تعليقاتهم ـ في حب ـ كتلميذ يتلقي درجات النجاح من معلمه (1).

العودة إلي خط فرعي في محطة مؤقتة

ذكرتني أجواء مظاهرات الطلبة والعمال بتلك الأجواء التي كانت تسود البلاد في عباءة من الظلام إبان الحرب العالمية الثانية، في ذلك الوقت كنت في سن المراهقة العمرية والفكرية، تمنيت أن أعود من تحليقاتي فأجد في طريقي مخرجا سينمائيا له عشق بالشوارع مثلي، وأن يعهد إلي بدور قريب الشبه من دور ممثل فيلم"سارق الدراجات" الإيطالي، طقت في دماغي حكاية التمثيل بعد أن شاهدت "سفير جهنم" ليوسف بك وهبي، و"عودة الغائب" لأحمد جلال، و"ابن الفلاح" لمحمد الكحلاوي، و"أحمر شفايف" لنجيب الريحاني .

في ذلك الوقت، اعتاد أبي أن يشتري يوم الخميس مجلة "المصور" بأربعة قروش، وكان يطلب إلي أن أقرأها علي سمعه، كان أول عدد اشتراه يحمل غلافه صورة البطل "عبد القادر طه" الضبع الأسود الذي قاتل اليهود في بسالة وشجاعة حتي حاصروه في معركة "الفالوجا".

تابعت القراءة بعقل يسرح مع ميعاد صديقي رئيس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، كان دعاني في نهاية العام الدراسي لمشاهدة العروض المسرحية التي كانت تجري في مسابقة فنية بين فرق المدارس المسرحية علي مسرح الجامعة الشعبية "هيئة قصور الثقافة الآن"، كدت أقبل يده حتي يجد لي دوراً، أي دور، وقفت أمامه أرتجل بعض المشاهد من أفلام شاهدتها، كان ينظر إلي في رثاء، حاول جاهدا ألا يخدش مشاعري، وهو جالس وراء مكتبه في الغرفة التي خصصها أبوه له ليمارس فيها هوايته.

لمحت علي مكتبه مسرحيات لموليير، وأحمد شوقي، وبرنارد شو، وتوفيق الحكيم، أعارني هذه الأعمال قرأت بدون فهم أو استساغة، اكتشفت أن القراءة تحتاج إلي تربية وجهد ومعاناه، ولكن بالتدريب عليها يمكن للمرء أن يحصل علي نوع من الابتكار، ولكني كنت أتعجل الدور الذي سيرفعني إلي قمة نجيب الريحاني.

باغتني صديقي المسرحي بقوله والحرج يتملكه : ليس الفن تمثيلاً فقط، أبواب الفنون كثيرة، ممكن ترسم، ممكن تكتب مسرحيات، ممكن روايات ... قصص ....، أذكر أنه قال: ونظراً لأن التمثيل بالذات يحتاج لمواصفات جسدية محددة، تحرج أن يقول بأنني بذراع واحدة، ثم استطرد : إنما يمكنك أن تقرأ، فالقراءة إبداع آخر، عندما تتذوق جمالياتها ستكون قد غرزت في نفسك مجموعة من الفضائل، وقد يمكنك أن تعيد صياغتها وتقديمها في أنماط تكون ملائمة في التعبير عن هموم الإنسان المعاصر، وبذلك تتيح السيادة للأسلوب القادر علي معالجة أدق خلجات الإنسان وخلجات اللحظة المعاشة بتناقضاتها.

ثم أعطاني مجموعة من الروايات الرومانسية :"بول وفرجيني"، "غادة الكاميليا"،"تحت ظلال الزيزفون"، وجميعها لفظته خشونة حياتي وتربيتي التي كان فيها الكثير من الصرامة، لكنني انطويت علي الكتب التي اخترتها بنفسي.

أثناء البحث عن ما يشبع جوعي الثقافي، عثرت علي سلسلة "قصص للجميع"، و"كتب للجميع"، علي صفحاتها طالعت "ذئاب جائعة" لمحمود البدوي، توقفت طويلاً عند "دماء لا تجف" لعبد الرحمن الخميسي، دفعني حبي له للبحث عن مؤلفاته، انسكبت في روحي قطرات من دماء مجموعته القصصية "قمصان الدم"، ثم تعرفت علي عبد الرحمن الشرقاوي قبل أن تتسع أمامي شرفة المطالعة؛ فتعرفت علي بلزاك وموباسان وديكنز وشالوخوف وجوركي وتولستوي وتشيكوف.

في "دعاء الكروان" استوقفني وصف طه حسين لحياة "آمنة" بطلة روايته بأنها "كلها شظف وخشونة"، وفي رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل وصف تقريري لحياة الفلاحين الذين ـ في خنوعهم ـ تكيفوا مع حياة الشقاء، وباتوا قانعين بما يقع عليهم، ويرضون عنه. عرفت المجتمع بأفراحه، بأتراحه، بطبقاته المستبدة، بفلسفاته الاجتماعية من الروايات و القصص، مع أنني كنت أحد الأضلاع الرئيسية في طابور التلاميذ الخائبين الذي كان أول من ترتفع علي قدميه وتهبط عصا الشيخ إبراهيم عبادة، في عز "طوبة وأمشير".

بيد أن ذلك كله لا ينسيني وجه الطالب محمد حسن عبد الله الذي أصبح أستاذاً للأدب الحديث في جامعة الكويت، ثم في جامعة القاهرة. كان قد سبقني إلي المعهد الديني بالمنصورة عام 1950 ـ 1951، وفي أحد الأيام جاء لزيارة المدرسة في زيه الأزهري، سألته عن طريق القبول بالأزهر، عرفت منه تاريخ تقديم الأوراق، في يوم الامتحان جلست أمام ثلاثة من الشيوخ، طلب إلي أحدهم أن أكمل ما بعد :"محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم"، وطلب الثاني أن أكمل ما بعد: "إنا نحن نحيي الموتي ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في كتاب مبين"، وطلب الثالث أن أكمل ما بعد: "يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان".

تعثرت في التلاوة لأول مرة، تفصد العرق من جبهتي، أغرق عيني في بحور الخوف والتلعثم: يا معشر .. يا معشر، والشيوخ الثلاثة يشجعونني قائلين في نفس واحد : هه .. فأقول: يا معشر الجن، وهم لا يزالون يشجعونني بكلمة: هه، لعلي أنطق وأقول: يا معشر الجن والإنس، ثم انفجرت في البكاء خوفا من الرسوب والعودة إلي محطات الهروب من المدرسة.

لكنني فوجئت بأحدهم يقول لي: قم يا شيخ عبد الفتاح أنت ناجح، وأوصاني ثلاثتهم بالانكباب علي تلاوة القرآن كل يوم حتي أحفظة عن ظهر قلب، ثم سألني أحدهم قبل أن أغادر المكان، وهو يسجل اسمي في كشف الناجحين عن المذهب الفقهي الذي أريد أن أتلقي علومه، أجبت دون أن أعرف أوجه الاختلاف الفقهية في الإسلام :المذهب المالكي، بص الشيوخ إلي بعضهم في دهشة، ثم ابتسموا في غموض حين سألني أحدهم: أنت أصل جدودك مصريين؟

لم أكن أعرف أن المذهب المالكي كان منتشرا في مصر إبان عهد أحمد بن طولون حين كان الشيعة يحكمون مصر، وبسقوط حكمهم أصبح المذهب الشافعي هو السائد.

بعد أن حصلت علي شهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1955 التقيت بصديقي الميكانيكي(ü) تحدث إلي عن فكرة الألوهية والأجرام السماوية وهندسة بناء الكون، أعطاني كتاب"أسس الدولة" لجون ستيوارت مل، وأعمالا لهارولد لاسكي، كان يمشي وفي جيب جاكتته الإنجيل، وفي الآخر القرآن، وفي الجيب الداخلي"أصل العائلة" لأنجلز، هو من أساتذتي الأوائل الذين كنت أجلس معهم علي التلتوارات، وعدني بأن سيأتيني بمجموعة مكسيم جوركي القصصية"الحضيض"و"مخلوقات كانت رجالا".

اكتشفت أن الكتابة هي المؤامرة الوحيدة الشريفة في العالم ضد من يكيدون للإنسان، فعلمتني الخبرة المكتسبة من الحياة ، والثقافة أن أحرر لغتي من الأساليب المطروحة، أزعم أنني طبقت هذه التقنية أثناء كتابة "أولاد المنصورة"، اهتممت بالتركيز علي الجانب الحركي داخل حي شعبي مهمش، أعلن لفيف من أبنائه عن عزمهم الخروج من نطاق الفردية بالمشاركة في تكوين فريق لكرة القدم.

انتصروا علي مختلف الصعوبات حتي تكوَّن الفريق، خاضوا به العديد من المباريات ضد فرق البلدان والقري المجاورة، حين يعودون إلي الحي مفعمين بنشوة الفوز، كانوا بعيدين عن روح الأثرة والأنانية فيهدون فوزهم للمدينة التي لم تعرف الانتصارات وهي علي ما يبدو ـ في ذات الوقت ـ لا تعرف شيئاً عنهم.

الصعوبة التي قابلتني أثناء كتابة هذه الرواية ظهرت حين كنت أفكر: كيف أجعل الآخرين ـ بعد وقوع النكسة ـ يستمرون في حركة تصاعدية، بينما كان علي الطرف الآخر من يفشون ثقافة الهزيمة، والانكماش في مواقع الفشل، وتكتمل فصول المأساة عندما نري أن شباب الحي مستبعدون من كل تشكيل اجتماعي، لقد كونوا فريقاً لا يعرف غير الحصول علي نتائج الانتصارات، ولكن أحدا لم يستطع أن يشكل منهم قواما اجتماعيا، تتحقق علي يديه ـ أو قدميه! ـ طفرة تنتشل من هم علي حافة الانهيار من الانهيار .

لم يكن من نصيبهم سوي العيش في حالة من ردود الأفعال المحبطة، وهي أعمال تعجزهم تماماً عن رد القهر؛ فاستعانوا علي الوقوف أمامه بالحبوب المخدرة، ونسيج الأحلم التي يختلط فيها الكابوسي بالواقع، بينما كانت الشوارع تغرق في أقوال ساسة لا يخلو أحدهم من ديماجوجية، تقول ما لا تفعل، وتفعل في النور والظلام ما لا تعلن عنه(!!).

ثم أتذكر ـ أثناء الكتابة ـ الزقاق الذي انطلقت منه أعمال نجيب محفوظ لتناقش الكثير من قضايا الوطن وهموم المثقفين دون أن يبتعد الكاتب عن هذا السياج ليشارك في حركة النضال السياسي؛ فقضيته الكبري كانت الكتابة فقط والاهتمام بحياته الوظيفية، علي حين كانت الحرية ـ معذ 1939 حتي 1944 ـ هي قضية البلاد الأساسية، وبحيث لم يهد لمجتمع المثقفين دور مؤثر، أو ضمير يحفز القوي المقهورة للوقوف علي الأقدام في صلابة .

حول عناصر البناء في قصصي القصيرة، إنها في جملة قصيرة ترهص بانهيار الفواصل بين الشكل والمضمون :"وأحياناً باحتفاظ كل عنصر تقني بخصائصه الموضوعية والجمالية في إطار اندماج الفواصل بينها» (2) .

لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لتجربتي الروائية أثناء كتابة روايتي" العنف السري" لقد انتقلت بين الروافد الاجتماعية المستمدة من جذور تاريخنا القومي، الفرعوني، القبطي، الإسلامي، لكي أنفخ في روح عاطفة الانتماء، وجدت حرية الفرد لا تتحقق في مجتمع مكبل برذائل الاستئثار والأنانية .

تابعت خطوات بطل الرواية، كان هو الذي يسوقني مع كل تجربة يخوضها حتي تنتهي بالفشل، ومع ذلك ظل يحاول، بوجه آخر، واسم آخر، في أمكنة مختلفة، ولقد تعدد فيه الأدوار، فهو "المعصوب العينين" الذي يري ببصيرته كل ما يدور في "الخلاء" ،والخلاء في الرواية هو البديل، أو المعادل الموضوعي للمدينة الفارغة من معاني الفضيلة.

بعد أن استكملت ملامح هذا البطل تساءلت:هل يمكن أن يكون شاهدا علي عصر رديء؟

إنه البطل العربي الذي نجده في السجين بملامح "فهيم المصراتي"، وهو "الجندي" العائد من معارك الهزائم، وهو سلمان "الفران"، وهو "الشيخ" ثم "الإمام" الذي كان يقف علي رأس حلقة الذاكرين مساء كل خميس "مستهلاً الإنشاد بالصلاة علي النبي وآل بيته، والترحم علي الشهيد الإمام علي ولديه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء (3).

لقد شجعني هذا البطل ـ كمنتقم لا يفتقر إلي بناء عقائدي- علي أن أتحمل معه تبعات كل شخصية تولي القيام بها، ومضيت معه وهو يحاول في أجواء بلا فواصل، حيث تداعت جدران الأزمنة والأمكنة، حيث باتت تنتظمهما حلقة في سلسلة من الشقاء، بين هو مستمر مع تقدم خطواته "فتسلمه الجدران إلي جدران أخري لا نهاية لها» (4).

هوامش

(1) فازت الرواية بالجائزة الأولي في المسابقة التي ينظمها نادي القصة .

) بطل قصتي "بصقات فرعون الملونة" المنشورة بجريدة القبس الكويتية عام 1980 .

(2) د.محمد زيدان "نصوص تسبح في ملكوت الحلم" تأويلات لنماذج مختارة للقاص عبد الفتاح الجمل ، مجلة اوراق ثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم شرق الدلتا) 2002.

(3) العنف السري، المجلس الأعلي للثقافة 2007، ص 68 .

(4) العنف السري، ص621

Blogger Template by Blogcrowds