أرى ان مقولة زمن الرواية وانها "ديوان العرب الجديد " سببت ضررا بالغا فى حياتنا الثقافية وان كانت ارادت الكشف والتنبؤ عن مستقبل ابداع هذه الامة ، وأولا أن صراعات النوع الادبى حسمت فى الثمانيات من القرن الماضى لصالح التماهى والتمازج بين الاجناس الادبية وهو ما دعى المبدعين كتابة "نصوص" على ابدعاتهم دون نسب هذه النصوص الى جنس أدبى معين ، وكانت هذه النتيجة مريحة لجميع الاطراف وبدأ الباحثين فى تقديم جيل جديد من الابحاث والدراسات عن تلاقح الاجناس الادبية ومدى استفادتها من الفنون الاخرى كالفن التشكيلى والسينما وتأثير ذلك على النصوص الادبية ، وحتى هذا الوقت الامور تسير فى نصابها الطبيعى وتوقعت ان تكون المرحلة اللاحقة لذلك ظهور فيض من الاعمال تمتزج فيها الفنون فى نسق بديع وتتلاقح مع الاعمال الادبية و يمهد الارض لذلك تقدم الميديا وظهور وسائط جديدة بأستخدام الكمبيوتر ، و طبيعى جدا ان يأخذ ذلك وقتا حتى يتدرب المتلقى وتتحول ذائقته لهذا النوع وهذا لا يحدث بين ليلة وضحاها فقد يأخذ من السنوات أكثر مما نتوقع ، ويجد هذا التطور مستهلكا يروق له ذلك دون الحنين الى أشكال معينة بفعل كسل ذائقى أو كسل فى وظائف الحس الفنى والتذوق ان كان لهذا المصطلح معنى . ويمكن ان تظهر اجناس اخرى تستعصى على التصنيف على اساس الجنس الكامل فتجد لنفسها مكان وجنس أدبى حتى تعود دورة التلاقح والاندماج مرة أخرى وكل ذلك فى حركة دائبة هى متماشية مع حركة الكون و نمو الوعى وتطور اللغات الانسانية. ولكن بدلا من ان يحدث ذلك الموار الدائب فجأة توقفنا وعدنا الى الخلف فى ردة غريبة لنؤصل ليس فقط لعودة الاجناس الادبية ولكن لتسيد جنس ما . " هنا تكاسلنا حتى عن ايجاد اخطاء جديدة فأخترنا نفس الاخطاء التى سبق وان اقترفناها "
والخطورة فى ذلك فى رايى المتواضع وعلى حد علمى وعدم تخصصى
أولا : العودة الى الوراء وتدشين الصراع بين الاجناس الادبية مرة أخرى
ثانيا : حرق كل التجارب والابحاث التى وصلت بنا الى هذا الحراك والعودة الى نقطة الصفر
فقد ظهرت بالفعل اجناس جديدة هى نتاج تلاقح بين الاجناس القديمة فظهرت الرواية القصير ة و النوفيلا والمتواليات القصصية والحلقة القصصية و قد كنت اطلقت على مجموعة لسمير الفيل انها متقاطعة قصصية لانى لاحظت تيمة التقاطع على غير التوال او الحلقة وكتب محسن يونس على مجموعته موجات قصصية وهى بالاحرى موجات حقيقية وليست متوالية بغض النظر عن اتخاذها للبحر موضوعا ، كما ظهرت الاقصوصة والقصة القصيرة جدا أو الومضة ، وكان يمكن ان يستمر هذا الحراك حتى يتوالد نوع ادبى قادر على البقاء وأن يرسخ قواعده الى ان يجئ نوع اخر بعد فترة ما ليزيحه ويقدم اطروحته الخاصة . وهكذا ولكن بدلا من ان يحدث ذلك ويترك لهذا الحراك مجالا و وقتا لكى تكتمل تجربته يتم اجهاض ذلك كله والعودة لصراعات ستؤدى الى حراكا أخر ولكن بعد عشرين عاما أخرى .
هذا و بالاضافة الى توجيه الطعنات ومحاولة اغتيال الاجناس الاخرى ، واختيار الرواية تحديدا يوجه الطعنة الى الاجناس الاخرى التى ماذالت موجودة لان حراكا لم يكتمل ولان جنينا قتل قبل الولادة .
ولكى أوضح فكرتى هنا تعال نتفق على انه فى فنون القص "كل رواية قصة وليس كل قصة رواية" فاذا قلت ان هذا زمن القصة مثلا فلا انا سأضر بالقصة ولا بالرواية لانها قصة فى الاساس ولكن اذا قلت زمان الرواية فقد نفيت القصة القصيرة مثلا . وهذا ما حدث على مستوى حجب الجوائز والنشر وجاءت الطامة الكبرى فى مؤتمر عقد من عدة شهور فى الاردن ليقول " متى تطلقون رصاصة الرحمة على القصة القصيرة " ، نعم هذا حقيقى وعلينا مراجعة المصادر لنتأكد من ذلك. ضف الى ذلك اننا نضع الشعر فى ازمة هوية طاحنة حيث أنه بعد ان اعطى لهذه الامة سره لاكثر من ألف سنة تتركه لقيطا وتمتطى جوادا حديث السن لم يخرج من هذه الارض ولا حدثت نجوم الصحراء عنه . وامعانا فى التشنيع بهذا الكهل الذى سقانا حليب غنماته نقول الرواية ديوان العرب الجديد ، وبدلا من ان نقول مثلا "العرب يسردون " أو ان الرواية فن عربى جديد أو أى شئ يرصد التحول دون التنصل من ماضينا .
الامر الثانى انه فى بحث سيسيولجى * عن تسيد الاجناس الادبية تبين ان فن الرواية يذدهر دائما فى حالات وضوح الرؤية لدى الامة ونمو وعى جمعى ما فى تحديد كنه اللحظة الراهنة ، فى هذا المناخ يبنى الروائى عالمه الموازى ويعلو جنس الرواية من حيث الكم والكيف ، أما فى زمان التشظى وغياب الوعى الجمعى و تشتت الرؤية وتضببها فيكون المجال مهيئا لفن القصة الذى يعتمد على تكثيفه وقصره فى قول ما يريد . وهذا ما حاولت الاشارة اليه بشكل فانتازى فى القصة التى نشرت فى مقالى السابق وتشبيه القصة بعلى الزيبق . فأى مغالطة تحدث لو كنا فى زمان التردى هذا .
وعلى اية حال يجب ان نفرق بين كلامى عن شيئين هنا وهما التكريس للرواية من خلال المؤسسات والنقاد الكبار وهذا الانفجار الروائى الذى تعانى منه مصر تحديدا وان كان هذا احد اسباب ذاك . واريد ان اقول هنا ان الانفجار الروائى هو ليس بظاهرة ثقافية على اى حال فالثقافة على هذه الارض تعانى من نفس الموات الذى يعانيه الاقتصاد والتعليم والصحة ، فباى امارة تكون ظاهرة ثقافية ونحن لم ننتج نصف هذا العدد من الروايات وقت ان كانت الثقافة منتعشة بشكل ما . ولكنى ادعى هنا ان ذلك الانفجار الروائى هو ظاهرة اجتماعية شأنها شأن الحجاب و الختان والتحرش ، على علماء الاجتماع ان يفتونا فيه قبل النقاد ، فاذا سلمنا بهذا البحث السيسيولجى السابق ذكره فنحن فى زمن القصة القصيرة واذا لم نسلم واردنا ان نحيلها لظاهرة ثقافية ، فاعطنى دليلا واحدا على هذه النهضة الثقافية فى ظل مشاكل التعليم والترجمة والنشرالى اخر المشاكل التى بلا أخر ، فمن اين اتى هذا الجيش الجرار من كتاب الرواية . وان دليلى الاخير على ان الظاهرة اجتماعية بالاساس انها تنمو وتتوسع افقيا بأسرع بكثير من نموها الرأسى – ان كانت تنمو رأسيا فى الاساس- . وان لم توافقنى على ذلك أذا احصر لى عشر روايات فقط فى اخر خمس سنوات اجتازت منجزنا السابق عليها فى عصر محفوظ مثلا . طبعا توجد روايات جيدة جدا و لكن بما لا يشكل ظاهرة اجادة او توسع رأسى حقيقى واذا كان محفوظ نال جائزة نوبل فى 88 فماذا فعلنا فى العشرين سنة الفائتة ، غير اختلاق الصراعات التى ما ان ننتهى منها حتى نشعلها من جديد شريطة ان نبدأ من نقطة الصفر دائما
ونجد ايضا كتابا كبار استسملوا لهذا التنظير وهذا التوسع الافقى فنشروا لنا روايات ليست حتى قريبة فى المستوى من أعمال سابقة لهم ، فعلوا ذلك للتواجد فقط وكان الاحرى بهم ان يضعوها فى ذلك الدرج الذى بأسفل عمود الادراج بالمكتب لتأنس بوحدتها ونأنس نحن بالاعمال الجيدة ، وهذا دليل اخر ان مقولة كهذه عصفت بالكبار عصفها بالصغار .
وفى النهاية هذه بعض الافكار التى تدور فى رأسى وأنا الان بصدد تقديم أشكال سردية متعددة قدمت لها بذلك النص الذى ظهر فى مقالى السابق والذى أعددته خصيصا للتدليل على كلامى وعلنى استطيع ان اقدم تجاربى السردية فى أول شهور العام القادم ولكم منى تحية ياسمين.
محمد رفيع
هوامش المقال :
البحث السيسيولجى المشار اليه فى فقرة تسيد الاجناس الادبية هو للدكتور صلاح السروى *