للوجود أسئلته عن اليقين، وللإنسان أسئلته عن الفن، وللفن أسئلته عن الجمال، وللجمال أسئلته عن الحياة، وللحياة أسئلتها التي لا تنتهي، وتظل تتحرك قدمًا دون توقف للبحث عن إجابات.

وسيظل الإنسان قادرًا علي العطاء ما دام قادرًا علي الإحساس بالجمال والسعي لمعرفته، وسيظل قادرًا علي المعرفة ما دام قادرًا علي طرح الأسئلة، وسيظل طارحًا أسئلتَه ما دام قادرًا علي الإبداع.

تنفض فعاليات المؤتمر ـ أي مؤتمر ـ ويبقي كتاب الأبحاث شاهدًا علي محاولة جادة للبث المشترك علي موجة ثلاثية: ما تتغياه أمانة المؤتمر، وما يتطلبه الواقع، وما يطرحه الباحثون المكلفون بتشكيل نغمة البث المشترك، ومحاولة الإجابة عن أسئلة لا يفتأ الواقع يطرحها في كل لحظة.

وإيمانًا من أمانة مؤتمر أدباء مصر في دورته الثالثة والعشرين بمساحة الإبداع السردي المتجدد، وبقدرة النص السردي علي طرح أسئلته المتعلقة بالفن والإنسان والمجتمع والوجود؛ فقد أفردت هذه الدورةَ لأسئلة السرد الجديد؛ بغية مواكبة ما يطرحه فن السرد من أسئلة من شأنها أن تشتبك مع الفن في عموميته ومع السرد في خصوصيته.

وقد راهنت أمانة المؤتمر علي باحثيها في تناولهم الجاد للقضايا المطروحة محل النقاش، وهي بالطبع ليست كل القضايا المثارة فنيا، وإنما اعتمدت أهم القضايا التي تثيرها الكتابة السردية، تلك الكتابة التي قطعت شوطًا طويلاً في مجال التطوير والتحديث، وهي لا تفتأ تبحث عن طريق جديدة، وتعتمد طرائق متجددة لتشكيل آفاق أوسع للسردية الراهنة، وهو ما يتطلب جهودًا كبري نقديا لمواكبة هذا الكمّ من الأعمال، وهذا القدر من التقنيات، وتطمح أمانة المؤتمر أن تثير الأبحاث أسئلةً تحفز الباحثين والنقاد علي الاشتغال علي النص السردي الذي لم يعد يرضخ للمواضعات التقليدية في التناول ولا الآليات التقليدية في طرح جمالياته، فقد غدا النصُّ الجديد بمثابة نموذج فني ينتمي لعصر القرية الكونية الصغيرة حيث ينفتح الواقع المحلي للمبدع لا ليكون فقط محددًّا بالحدود الضيقة لبيئته المحلية، وهو ما يعني انفتاح وعي السارد علي ما هو أبعد من مجرد وعيه بحدود جغرافية باتت وهمية أو حدود تقف عند مجرد امتداد بصره، فالكتابة الآن تتطلب وعيا يتجاوز كل ذلك إلي عالم أكثر انفتاحًا وأكثر عمقًا، في وقت لم تعد فيه الكتابة إزجاءً لوقت الفراغ، ولا بحثًا عن مجرد التسلية، ولا تخلُّصًا من هموم الحياة اليومية. فالكتابة في الوقت الذي تجعلنا فيه نتعالي علي كل ذلك؛ تضعنا من حيث لا ندري في عمق العالم بحثًا عن لحظة من الهدوء المركزي الواقعة في عمق العاصفة.

وقد حرصت أمانة المؤتمر علي أن تفعّل قيمة غابت عن ساحاتنا الأكاديمية، أعني بها العمل بروح الفريق، فحاولت أن تشكّل فريقًا بحثيا صغيرًا عددًا، كبيرًا مكانةً بمنجزه البحثي، من شأن الفريق البحث في الموضوعات الكبري المطروحة عبر محاور المؤتمر، وحاولت لجنة الأبحاث ضبط الإيقاع لتكون الأبحاث مشتغلة علي القضية الواحدة من زوايا متعددة؛ لذا جاء المحاور تعبيرًا عن طموح الأمانة في تشكيل هذه القضايا والبحث فيها:

- المحور الأول: السرد الجديد وإشكاليات المفهوم، محاولاً الوقوف عند مفهوم السرد الجديد ونظرية الحكي، ومستهدفا ضبط مصطلح السرد ومفاهيمه في ضوء مقولات النظرية السردية الجديدة، سواء اعتمد الضبط علي المنتج الغربي، أم استمد بعض مقولاته من الثقافة العربية في عصورها المختلفة. ويتضمن هذا المحور بحثين:

1-السرد الجديد وتحولات اشتغال المفهوم للناقدة المغربية د. زهور كرام .

2-مدخل إلي نظرية الحكي (السرد) للناقد والمترجم سيد إمام.

- المحور الثاني: السرد الجديد تواصل أم قطيعة: فعالية اللغة وآفاق التشكيل السردي وتطبيقات علي الرواية الجديدة والخصوصيات الثقافية وأثرها في إنتاج النص السردي، في محاولة لرصد مساحات لها أثرها في إنتاج النصوص السردية القائمة علي بيئات لها ثقافتها الخاصة، اعتمادًا علي مقولات النقد الثقافي ومنظوره للنص في سياقه الخاص، ومحاولة البحث في مركزية السارد وحضور المؤلف وتخلص السارد الحديث من غيريته منازعًا الشاعر ذاتيتَه وحضوره في سياق العملية السردية، فارضًا نفسَه بوصفه علامةً نصيةً لها حضورُها، ومن ثم دورها الجديد عبر مساحات المركزية التي اهتم بطرحها في سياق النص.

وقد تشكل المحور من خلال ثلاثة أبحاث:

1- تقنيات السرد بين التنظير والتطبيق للناقد الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب.

2- السارد والمؤلف.. الحضور والتماهي في الكتابة الروائية الجديدة في مصر للباحث د. أحمد عبد المقصود، الأستاذ بكلية الآداب جامعة الفيوم.

3-البحث عن خصوصية سردية في سرد الشؤون المحلية للباحث الشاب سيد ضيف الله.

المحور الثالث: ذاكرة جديدة لسرد مغاير، واستهدف دراسة حدود التعبير السردي بين الواقع والمتخيل تطبيقًا علي السرد الجديد، وهو ما يتجلي عبر رصد مجموعة العناصر والعلامات بوصفها حدودًا بين الواقع والمتخيل، وكيف أن النص السردي الجديد يطرح وثائقية لها طابعها الخاص، وثائقية تتّكئ أحيانًا علي الواقع البشري أكثر من اتكائها علي أحداث أو عناصر غير بشرية بالأساس. واعتمد المحور علي ثلاثة أبحاث:

1-ذائقة نقدية مختلفة لسرد جديد للناقد الأستاذ الدكتور رمضان بسطاويسي، أستاذ علم الجمال بكلية البنات جامعة عين شمس.

2-مغامرة الكتاب القصصي (قراءة في "حيوانات أيامنا" لمحمد المخزنجي) للأستاذ الدكتور حسين حمودة، أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة.

3-فينومينولوجيا السرد للدكتور سامي إسماعيل بكلية الآداب جامعة الفيوم.

المحور الرابع: السرد وتداخل الأنواع، وعني بالتداخل بين القصة والرواية عبر مجموعة من التقنيات القائمة بالأساس علي علاقة نوعية تجعل من القصة والرواية نوعين يغلب عليهما الارتباط الجيني المؤسس علي عدد من العناصر الأساسية في التشكيل، وشعرية السرد، في محاولة للوقوف بين طرفي المعادلة: الرواية من حيث هي نص له طبيعته الشعرية، والشعر من حيث هو نص له قدراته السردية، مع التركيز علي تبيان مساحات الاشتباك، وآليات الفعل، وقد عولجت قضايا المحور عبر ثلاثة أبحاث:

1- السرد الروائي وتداخل الأنواع (نماذج من الرواية المصرية المعاصرة) للأستاذ الدكتور عبد الرحيم الكردي، أستاذ النقد الحديث، وعميد كلية الآداب جامعة قناة السويس.

2- الخطاب ووجهة النظر، مفهومان أساسيان في نظرية السرد للناقد والشاعر عبد العزيز موافي.

3- السردي في الشعر/ الشعري في السرد، للباحث والناقد الشاب د. محمود الضبع بكلية التربية جامعة قناة السويس.

- المحور الخامس: الأدب في محافظة مطروح، ويبحث في المشهد الإبداعي في المحافظة المضيفة، مركّزًا علي المشهد السردي من خلال بعض نماذجه الروائية، ومستشرفًا جانبًا له أهميته في الإبداع في مرسي مطروح وهو الحكاية الشعبية، والشعر البدوي في محاولة جادة للوقوف علي طبيعة جمالياتهما، وأهم القضايا التي يطرحانها، وقد تشكل المحور في ثلاثة أبحاث:

1-إيكولوجيا الحكاية البدوية للباحث حمدي سليمان.

2-معمارية البناء السردي قراءة في أعمال أدباء مطروح للباحث الشاب ممدوح فراج النابي.

3-إشكالية الشعر البدوي للشاعر والباحث فارس خضر.

وقد حرصت الأمانة علي طرح أسماء جديدة راهنت علي وجودها للمرة الأولي في فعاليات المؤتمر؛ مثمّنةً جهودها البحثية، ومعبّرة عن قناعة الأمانة بأنها أصوات جديرة بأن تفيد من احتكاكها العلمي بأساتذة كبار معروفين بجهودهم وعطائهم العلمي والنقدي؛ لذا تجاورت الأجيال متناغمة، ومتسقة مع فكرة العمل الجماعي بروح الفرق، وتحاول الأبحاث أن تقف في منطقة تشير من خلالها إلي أهمية تنظيم الجهود البحثية في مجال الأدب عامة والسرد خاصة، فالرواية المصرية علي اتساع تاريخها لم تنل ـ مقارنة بالشعر ـ حظّها الأوفر واللائق من الدراسات الأكاديمية (الماجستير والدكتوراه) في ظل تصاعد الانشغال ببعض التقاليع التي تشبه اللهاث وراء الموضة، وهو ما يستلزم التنبه للغة الأرقام (منذ نشأة الجامعة المصرية عام 1908 حتي عام 2000 كان عدد رسائل الماجستير والدكتوراه في الشعر 2025 رسالة في مقابل 265 للسرد بنوعيه الرواية والقصة القصيرة).

ويظل السؤال مصدرَ المعرفة، وطريقَ الوصول لليقين، اليقين بأن الجمالَ سؤالٌ، وأن الحكمةَ بحثٌ عن سؤال لا يتوقف عن أسرار الجمال فيما ينتمي للإنسان من خصوصية، وفيما يعبر عن جمال الفعل البشري، ذلك الفعل الخلاّق، القادر دومًا علي الإبداع، وطرح الأسئلة.

0 تعليق:

Blogger Template by Blogcrowds