-1-
منذ بداية الخمسينيات والنص القصصي يشهد تحولات واضحة في بنيته وصلت إلي ذروتها مع النص المعاصر، حيث تحول من فن (الحكي) إلي فن يستوعب أدق تفاصيل حياتنا وخبراتنا الإنسانية في صورة تقترب به من الفنون الأخري التي لا ترتكز إلي دلالة جاهزة بقدر ما تثير في المتلقي (حالة سردية) . ويمكن أن نوضح أمرا هاما يخص المتلقي، لأن هذا التغير تسبب في حدوث ما يشبه الصدمة لدي المتلقي الذي اعتاد عبارة مألوفة أو تركيباً لغوياً تقليدياً، إنما في هذا السرد الذي طرأ عليه التغير لم تعد اللغة بهذا الشكل المألوف، أخذت أشكالا أخري وأصبح استخدامها علي نحو خاص يختلط فيه الحلم بالواقع وغير ذلك من المتناقضات التي تختلط في حالة شعورية تخص النص وما يبحث عنه كاتبه .
وأصبح للنص منطقه الداخلي الخاص ولم يعد التتابع المنطقي مألوفا في كتابة هذا النص إنما تتابع النص يسير وفق منطقه الداخلي، وظهرت اتجاهات عدة تحاول أن تقدم تقنيات حديثة للتعبير وفي الوقت ذاته لا تهرب من الواقع إنما تدخله من مناطق بكر غير مستهلكة لتفك شفراته المتعددة و نجد هذا في رواية أشرف نصر "حرية دوت كوم" ورواية محمد عبد الرحيم "22 درجة مئوية من سيرة الآنسة "ألف"والسيد المعتوه "ميم " و في المقابل نجد أن من يتأمل المشهد الثقافي الأدبي يجد مجموعة من النصوص المتشابهة التي اتفقت علي صيغة معينة للكتابة جعلتها بعيدة عن قدرة القارئ علي التواصل معها، و شارك النقد الأدبي في ترسيخ ذلك عن طريق الترويج لأسماء وصيغ أدبية مما أسهم في خلق حالة فريدة من القطيعة بين القراء والأدباء، وأصبح الأدباء يقرءون لأنفسهم وأحيانا النقاد الذين يجربون معهم مفاهيمهم الجاهزة في التعامل مع النصوص الأدبية، بينما كان في الأصل أن العمل الأدبي هو تجربة تضيء الحياة والوجود مما يجعل منه ضرورة للنمو الإبداعي للفرد وتثقيف حواسه .
وقد بدأت بعض الممارسات النقدية خارج مؤسسة الأدب توسع من معني النص، و يصبح النص كل ممارسة إنسانية، وليست النص المكتوب فحسب و يمكن قراءته لنفهم الإنسان من خلال أفعاله المختلفة، لأن الفعل اختبار لممكنات الوجود، وكل فعل إنساني هو كتابة من نوع خاص له أبجدية خاصة يمكن أن تكون لها دلالة علي المجتمع و تعكس اختيارات الفرد وتعكس خطابا غير واع بالحياة اليومية وموقف الإنسان منها، ولذلك يمكن قراءة الإعلانات ومباريات كرة القدم وطريقة الفرجة علي الدراما التليفزيونية وغيرها وقد برز هذا خارج مؤسسة النقد الأدبي، بمفهومه التقليدي، لأنها لا تنطلق من منهج معياري للنص وتقويمه، ولكنه يرصد خطاب الحياة اليومية. وقد أدي كل هذا إلي ولادة وعي جديد يحاول قراءة "النصوص المختلفة "التي تجسد مسيرة الفكر العربي، وأقصد بالنصوص المختلفة أن كل ما يحيط بالفكر العربي المعاصر من ظواهر إنسانية وحياتية وسياسية واجتماعية هي نصوص يمكن قراءتها أيضا، وقد تعضد هذه النصوص النص اللغوي المكتوب أو تكشف عما به من تناقض، أو تتيح قراءة الجوانب الخفية منه، ولا يمثل النص المكتوب سوي بعد واحد من أبعاد الوجود الإنساني المتعدد الأبعاد، ذلك لأن النص المكتوب يجسد الوعي الذي تسمح شروط الصياغة اللغوية بظهوره، و هذا الوعي المرتبط بالممكن السياسي والاجتماعي، وحدود الحرية في التعبير في ذلك الوقت، لأنه لم يكن من المتاح تناول أي موضوع خارج هذه المنظومة لا سيما إذا كان يتصل بحياة الناس ويناقش الطريقة أو الشريعة التي تنظم العلاقات فيما بينهم، ولهذا فهو لا يجسد كل مستويات الوجود الإنساني وطموحاته، وقد حاول الكتّاب أن يقتربوا من نص الحياة اليومية المعيشي من منظور تجربته اللغوية والسياسية والاجتماعية .إن نص الحياة اليومية يساعدنا في فهم قضايا المجتمع المصري وأبعاده علي نحو يقربنا من فهم الإنسان المصري لذاته، ويقودنا إلي تحليل النصوص وليس استخدامها للتبرير الأيديولوجي لأفكارنا المسبقة، وبالتالي لا تتحول الدراسة إلي نوع من اللعبة الذهنية التي لا تضيف جديدا.
وبهذا الفهم يمكن أن نري أن النصوص المدونة لا يمكن فهمها بمعزل عن سيرة حياتنا التي تجسد أفكارنا و صيرورة الوعي لدينا، ذلك لأننا نعبر في هذه النصوص عن أنفسنا من خلال الصيغ اللغوية المتاحة التي تعتمد علي السرد الحكائي، والحكاية ذات المدلول الأخلاقي، فهذه الأشكال في التعبير لا تنفصل عن الأفكار التي تطرحها تجربتنا الحياتية ونقدنا الممارسات اليومية للظلم الاجتماعي ويعتمد عليها في نقد المجتمع المصري، ونلاحظ أنه ترتبط بالتعبير عن نفسها في تلك القضايا بالموروث الثقافي، كما يتمثل في اللغة وتراثها المدون، وواضح أثر الخبرات الشخصية في هذه الكتابات المستمدة من الحياة اليومية، وتأثرها بما هو متداول في الإعلام والإنترنت.
ولكن النقد لم يكن مواكبا لهذا التغير وتلك النصوص ولذلك أشار الدكتور جابر عصفور في جريدة الأهرام إلي واقع النقد الأدبي بعنوان "تخلف النقد الأدبي" فقال: " لا يستطيع أي فاحص منصف لواقع النقد الأدبي العربي، حاليا، إلا أن يصفه بصفة التخلف... وأتصور أن تخلف واقع النقد الأدبي يمكن أن تزداد رؤيته وضوحا حين ننظر إليه من منظور الاتباع الذي غلب علي الابتداع أو منظور التقليد الذي غلب علي الاجتهاد، لا فارق كيفيا في ذلك بين أتباع الماضي المقلدين لطرائق التراث النقدي أو أتباع الحاضر من خريجي أقسام اللغات الأجنبية الذين يقتدون بالنقاد البارزين في ثقافة اللغات التي يدرسونها ويعلمونها، متحولين إلي نسخ كربونية شائهة للأصل الذي أشك في فهمهم العميق له وما أكثر الأسماء التي تخلقت حولها أوهام باطلة في هذا المجال الذي لا يتمايز فيه الأصيل عن الزائف، ما ظللنا علي ما نحن عليه من تخلف .. فالمحك في النهاية هو قدرة الناقد التطبيقي علي تقديم الحدوس الكاشفة عن الجوانب المعتمة في العمل الأدبي علي نحو غير مسبوق يضيف إلي معرفة القارئ بالعمل نفسه والواقع الذي أنتجه بعيدا عن الثرثرة أو الرطانة التي تخفي الجهل بعشرات المصطلحات الجديدة التي تخيف القارئ وتوهمه أن وراء الأكمة ما وراءها مع أنه لا أكمة ولا شيء وراءها ... فالصغير ليس بعدد سنوات عمره وإنما بقلة زاده المعرفي، وانعدام حيلته النقدية خصوصا حين يغدو وحيدا مع الواحد الذي هو النص. ويمكن أن نضيف إلي ارتباك القيمة واختلالها العشوائي الذي يجعل من نقد بعض النقاد استجابة مباشرة لآخر كتاب قرأوه أو تأثروا به، ولذلك يغدو هذا النوع من النقاد مرة بنيويا شكليا وثانية بنيويا توليديا وثالثة تفكيكيا، ورابعة منتسبا إلي التاريخية الجديدة .. إلخ، وقد عرفت من هؤلاء من كان يكتب نقده كما لو كان يسعي إلي تطبيق القواعد التي تعلمها واحدة واحدة، وعلي نحو حرفي ساذج، ناسيا إن النقد الأصيل هو ما يعيد إنتاج النظرية التي يعتمد عليها في كل عمل نقدي يمارسه، فالعمي هو الاتباع الحرفي للنظرية أما البصيرة الخلاقة فهي الرؤية الجديدة التي تقدم إطارها المرجعي، النظرية أو المذهب ووعيها الخاص من خلال فعل مساءلة خلاق." (1).
وقد قصدت تقديم هذا النص الطويل للدكتور جابر عصفور لكي أبين خطورة القضية، لأن الكتابة كتجربة تغيرت نتيجة لتغير الحياة وطبيعة هذه التجربة الحياتية التي لها بعد فكري وأداء جمالي، هذه التجربة التي لا يستجيب النموذج المعرفي الشارح لتفسيرها، وبالتالي كان لا بد من تولد صيغة جديدة في الكتابة تستوعب هذه التجربة التي تأخذ فيها الرواية معناها الخفي المضمر، وليس الظاهر، ويستفيد من تجربة الفنون كلها بوصفها تعبيرا عن شرخ عميق بين الفرد وما يحيط به من ظواهر اجتماعية ومؤسسات سياسية، هذه التجربة الجديدة جعلت من الكتابة ذاتها موضوعا يتغير معناه ودلالته، فلم تعد الكتابة كشفا بل قراءة للوجود، وإعادة لسرد أحداثه وتفاصيله، وإعادة بناء لمحتوي التجربة الإنسانية، ولم يعد الروائي نبياً، يحمل في ذاته خصائص القبيلة كلها، وإنما يعبر عن ثقافة متصارعة ضمن الثقافات الفرعية التي تتصارع مع الثقافة الرسمية التي تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام والاتصال.
وأصبحت التجربة الروائية تعبر عن التعدد داخل الكيان العربي، والصراع داخله، مما يكشف عن مخاض حقيقي للذات العربية في استيعابها لمتغيرات ثلاثة:
ـ متغير معرفي، فلم يعد النموذج المعرفي الشمولي قادرا علي تفسير التجربة التي يعيشها الإنسان العربي اليوم.
ـ متغير سياسي، يتمثل في تقلص دور الدولة، وهيمنة الاقتصاد والإعلام علي كيان الفرد.
ـ متغير تكنولوجي ومعلوماتي، يعمق من القارئ المخاتل، ويزداد شعور الفرد بالتوحد وعزلته التي تفرضها أرواح التكنولوجيا للاتصال، وبروز صيغة جديدة من الحياة لم تكن موجودة من قبل.
إن مدخل تجربة الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان العربي هي الأقرب لتحليل نصوصه الجديدة التي قد تختلف مع التصورات السابقة عن الرواية والنثر معا، والفكر العربي مطالب بتجاوز الحديث عن السرد التقليدي بين التراث والحداثة، لكي يعطي لنفسه الفرصة لتأمل التجربة، وفهمها والتواصل معها ومع أبجديتها المختلفة.
ولا يستطيع أحد أن ينكر ما أسهمت به الرواية الجديدة في تقديم نص متعدد الأبعاد والمستويات يعبر عن تفاصيل الحياة اليومية التي أبعدتها تجربة الحكم الشمولي والأحكام الجاهزة عن الوعي العربي والوجدان العربي، واستطاعت تقديم سردية جديدة لمناطق الصمت وجمالياته في التجربة العربية المعاصرة، وهذه المناطق لم يكن يتم الاقتراب منها أصلا إلا بشكل ضبابي أو من خلال رؤية كلية مطلقة، وأصبح المشهد الروائي يقدم خطابات متعددة من الثقافة العربية تبرز صوراً حياتية كان مسكوتا عنها، ولا يتم الإفصاح عن محتواها، مثل تجربة الجسد، وسيرة الجسد في الشارع والبيت والحقل، وعبر أجهزة الاتصال المختلفة، وعبر المعلومات المتدفقة عن الإنسان وجسده وأعصابه، وتاريخه وأحلامه، وواقعه. أصبحت الرواية فعلا من أفعال الحياة اليومية، تومئ ولا تبشر، تصف ولا تصدر أحكاما، تنقل المشاعر المركبة دون أن تستسلم للتوصيف العقلي الجاهز.
صحيح أن هناك تفاوتا في التجارب المطروحة اليوم، لكن علي الناقد أن يتخلي عن الطابع السلطوي الذي كان يمارسه، ويريد أن يمده إلي اليوم، وينبغي أن يولد نقد جديد مواكب لهذه التجربة الجديدة.
ويمكن أن نري ثلاث صور من الإبداع في الرواية:
1ـ إبداع يلتقط اللحظات الإنسانية التي كانت تهمل في السابق، ويرصد تفاصيلها من أجل إبراز فلسفة جديدة عن الحياة اليومية، فالغاية من الحياة ليست في مجموع الحياة، ولكنها مطمورة في كل لحظة بسيطة، حتي وإن بدت عابرة، ونجد هذا في النصوص التي تفرد لملامح الجسد وارتباطه بتجربة الوعي والحواس والتجارب الصوفية في علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة والمكان.
2ـ إبداع يعتمد علي التاريخ والخبرة، ويتمثل في الجيل الذي عاش تجربة الحداثة في بدايتها، وعايش التجربة الحالية، فولدت لديه تجربة إبداعية تجمع بين آفاق التجربة المعاصرة.
3ـ إبداع يقوم علي التأمل العميق، ويولد إحساسا جديدا بالحياة، ولا يستسلم لكل المقولات النقدية السائدة ويحاول الانفتاح علي التجارب في داخل الذات وخارجها بمنتهي العمق والألم والجدية.
إن مواجهة القضايا الكبري في الواقع العربي، تبدأ بصورة الحياة الجزئية التي يختار الروائي المعاصر عنها، وكل قطر عربي له خصوصيته في رؤيته للواقع، لأن تفاصيل المكان مختلفة، أصبحت تنعكس علي الذات التي أصبحت مرآوية أكثر من ذي قبل، وأري أن التعدد في التجارب والرؤي يقوي من مصداقية الإبداع العربي، والاختلاف الجوهري الذي يفرض نفسه في زمن الجوائز والإعلام، هو شروط الكتابة الحقيقية التي يفتقر إليها المبدع المصري أكثر من أي وقت مضي.
و لقد لخص عبد الله إبراهيم هذا الوضع بقوله: " ولم يجر اتفاق بين النقاد العرب علي نموذج تحليلي سردي شامل يمكن توظيفه في دراسة النصوص السردية العربية القديمة، ولا اتفق علي نموذج يصلح لتحليل النصوص الحديثة، فوقع تضارب في توظيف نماذج مستعارة من سرديات أخري، ولهذا لم ينتظم أفق مشترك لنظرية سردية عربية تمكن النقاد العرب من تحليل أدبهم، إذ اختلفوا في كل ما له صلة بذلك، فأخفقوا في الاتفاق علي اقتراح نموذج عام يستوعب عملية التحليل السردي للنصوص، أو حتي نماذج جزئية تصلح لتحليل مكونات البنية السردية، مثل أساليب السرد ووسائله، وبناء الشخصيات، والأحداث، والخلفيات الزمانية والمكانية"(2).
ويخلص للقول في نفس المصدر" لا يشجع واقع الدراسات السردية العربية كثيرا علي استخلاص مسارها المستقبلي؛ ذلك أن الدرس النقدي في الأدب العربي الحديث لم يستقر علي أسس منهجية متينة تضفي علي التطورات اللاحقة شرعية ثقافية، فقد تداخلت معا المناهج الخارجية والداخلية، ففي آن واحد نجد المناهج التاريخية، والاجتماعية، والانطباعية، والنفسية، مختلطة بالمناهج الشكلية، والبنيوية، والتفكيكية، ونظرية التلقي» (3).
-2-
وقد تغيرت طرائق السرد نتيجة الثورة التكنولوجية ولذلك لابد من الحديث عن أهمية التكنولوجيا وثورة المعلومات وأثرها علي السرد، وترتبط التكنولوجيا بمختلف مجالات النشاط الإنساني بما فيها الفن، ذلك لأن الأدوات التي تنتجها التكنولوجيا هي الأداة التي نفكر من خلالها في تأدية و إشباع الحاجات الإنسانية، ويعكس تطور الأدوات تطور التفكير الإنساني، لاسيما في عصرنا الحالي حيث تحتل الأدوات مكانة مركزية في الحياة اليومية، فلا يمكن تخيل الطب المعاصر مثلا بدون الأدوات التكنولوجية الحديثة التي تتيح قدرات أكبر في التشخيص و العلاج وكذلك فإن الحاسوب لم يعد مجرد أداة، لكن يعتبر امتداداً للوعي الإنساني وأداة للبحث في الممكنات المحتملة عند دراسة موضوع ما، ويمكن أن نطلق حكما عاما أن الإنسان في عصرنا الحالي يفكر من خلال الأدوات، ويصل الأمر إلي تحكم هذه الأدوات في صياغة صورة الحياة و تشكيل الوجود الإنساني، فقد تغيرت طبيعة التواصل الإنساني من خلال أدوات الاتصال التي قربت الأماكن البعيدة بين البشر وقلصت من التواصل الحي المباشر. وقد ربط كثير من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية بين التكنولوجيا و المجتمع، ويظهر هذا بشكل واضح في الفن أو الاستطيقا لأنها تعكس العلاقة المتبادلة بين التكنولوجيا و الثقافة (4).
وإذا تساءلنا عن العلاقة بين التكنولوجيا وما تنتجه من آلات والجمال الفني وهو موضوع علم الجمال /الاستطيقا فهذا يقتضي أن نقدم تعريفا للجمال الفني مستمدا من هذه العلاقة ، تطور نتيجة لتطور التكنولوجيا، لأن هناك تعريفات عديدة للجمال، فالجمال قد يكون صورة الأجسام الخارجية، سواء كانت هذه الصورة موجودة في حجر أو زهرة أو حيوان أو إنسان، وهي تقدم الجمال في صورته المثالية. و هناك تعريف آخر للجمال و هو صفة تطلق علي الأشياء التي تشيع البهجة والراحة في حياة الإنسان وهو ما يسمي الجمال الحيوي، فالمسكن الذي يشع البهجة فيمن يسكنه هو تجسيد للعمارة التي تعكس الجمال الحيوي، والتكنولوجيا كانت تتطور باتجاه الجمال المثالي في تصميم العالم فنيا، وأضيف إليه الجمال الحيوي الذي يشيع البهجة في حياة الإنسان الشاملة، ولذلك اتخذت التكنولوجيا من معيار الكمال المطلق في الأعمال الفنية (مثل الحرص علي قيم التناسب والتوازن والانسجام والإيقاع) و معالم البهجة والكمال عند الإنسان مثلا أعلي للإنتاج التكنولوجي، ولهذا فإن فكرة الجمال أو الصدق أصبحت تحتل مكانة هامة في التفكير التكنولوجي، ويرتبط النقد الفني والنقد الاجتماعي لما تنتجه التكنولوجيا بروابط أساسية لأن أحدهما لا يتحرر من الآخر، ولأن كليهما تطبيقين عمليين لارتباط الفن والتكنولوجيا بالمجتمع الإنساني .
والتكنولوجيا في الفنون لا تحل محل الإنسان، كما يحدث في التقنية الصناعية، حيث يتم إنتاج الأدوات والمنتجات المختلفة وفق برنامج خاص يضعه الإنسان مما يجعل الآلات تعمل بشكل ذاتي وتتخلي عن الحضور الإنساني، بينما في الفن فالآلة توسع و تعمق وظائف وقدرات الإنسان مثلما نجد أن استخدام الكاميرا متعددة الأبعاد تساعد الفنان في الكشف عن الجوانب الخفية في الطبيعة، ولكن إذا ترك الإنسان الآلة تعمل دون توجيه واختيار وإبداع فإن الآلة تقود إلي الانحطاط، لأنه لا يمكن أن تعبر وحدها عن التجربة الجمالية، أي لا تلغي وظيفة الفنان في الإبداع الفني مثلما نريد من السيارة ألا تلغي من الإنسان إحدي وظائفه الأساسية وهي القدرة علي المشي، رغم أنها قادرة علي نقله من مكان إلي آخر. و يمكن للآلات أن تنتج فنا نمطيا، ويمكن التغلب علي هذه العقبة باستيعاب الآلة جماليا بشكل واع، وذلك بتقليص قدرتها الشاملة فلا يكون إنتاج العمل الفني في جوهره آليا فحسب، وإنما يحاول الفنان أن يوحد بين التكنولوجيا والفن في وحدة إيقاعية أكثر سموا، وذلك من خلال التهذيب الواعي لفنون الآلة ومن الانتخاب المتزايد في استخدامها، لأنه لابد للفن أن يعتبر الآلة وسيلة لتقديم التجربة العميقة والآنية للحياة نفسها، فالآلة يمكن أن تكون وسيلة لتعميق الرؤية والشعور وتفتح الحواس علي العالم من خلال تكثيف الأشكال الجديدة في التجربة الإنسانية، ويمكن أن نلاحظ هذا بشكل جيد في فن السينما حين يستخدم الفنان أو المصور الضوء في التعبير عن مشاعر تبلغ من الدقة والرهافة حدا تجعل من الصورة السينمائية نوعا من الموسيقي، والآلة وحدها لا يمكن أن تقدم إضافة حقيقية بدون استخدام الإنسان لها، فهي جامدة وخرساء و تضيف إلينا بقدر ما نربطها بثراء التجربة الإنسانية و الوظيفة التي يمكن أن تقوم بها، والتكنولوجيا في جوهر نشأتها كانت مرتبطة بالوظيفة التي تؤديها وهذا ما يجسد إسهامها الثقافي حيث كان ما هو جميل يرتبط بما هو ضروري .
ترتبط الاستطيقا بالتكنولوجيا من خلال المادة الوسيطة التي يستخدمها الفنان، لأن الاستطيقا تهتم بتحليل الطبيعة النوعية للمادة الوسيطة ودورها في تشكيل العمل الفني، والتكنولوجيا تقدم لنا الأدوات التي تجعل المادة الوسيطة أكثر طواعية في يد الفنان، واهتم علم الجمال بتحليل طبيعة الوسيط الجمالي في كل فن علي حدة، فاهتم بتحليل الصوت في الموسيقي، وتحليل اللغة في الأدب، وتحليل طبيعة العلاقة بين الكتلة والفراغ في فن العمارة، ومن الذين اهتموا بدراسة المادة ودورها في الإبداع اللغوي وربط في دراسته بين الفن والتكنولوجيا " ميخائيل باختين " حيث بين أن الشاعر أو القاص يكسب المادة الصبغة الجمالية من خلال التقنية التي يستخدمها في بناء عمله الفني، وهو يري أن الطبيعة العلمية الخالصة للمادة لا تدخل في الموضوع الجمالي (5).
وما يدخل في العمل الفني هو تقنية المادة وعلاقاتها الداخلية وليس طبيعتها الخارجية التي تكتسب طبيعة خاصة بها داخل العمل الفني، ويقصد باختين بالتقنية في العمل الفني كل ما هو ضروري لإنشاء العمل في معطياته العلمية والطبيعية بحيث يثير الانطباع الفني، ويمكن أن نضرب مثالا علي ذلك فنبين أنه لا يمكن أن تترك فينا انطباعا جماليا إذا جردناها من النسق النحوي والصرفي والدلالي، واكتفينا بتأملها بوصفها مجرد خطوط بصرية، فالمادة في العمل الفني لا تكتسب حضورها من تحليلها الفيزيائي، ولكن من خلال الشكل الفني وعلاقاتها الداخلية التي تثير فينا معاني ومشاعر جمالية.
لا يمكن أن نتحدث عن التغيير الجوهري الذي أحدثته التكنولوجيا في الفنون المختلفة كلها، لأن كل فن يحتاج دراسة خاصة، وسنكتفي هنا بالحديث عن أثر التكنولوجيا علي الأدب، رغم أن الأدب قد يبدو أبعد الفنون تأثرا بالتطور التكنولوجي، إلا أنه قد تأثر بشكل كبير أدي إلي ظهور النص المتعدد المستويات أو الذي يتفرع إلي فروع عديدة و يطلق عليه النص المفرع hypertext أو النص الفائق ويقصد به النص الذي يتم تقديمه عبر أدوات الاتصال المعاصرة مثل الحاسوب والإنترنت ويتم تقديم النص من خلال الوسائط المتعددة مثل الصوت والصورة ومختلف التأثيرات السمعية والبصرية، وغيرت طبيعة النص الجديد من طبيعة المرجعية في الأدب فأصبح الأديب يتحدث عن واقع افتراضي ويتجه إلي قارئ من نوع خاص. وتعتبر دراسة الدكتور حسام الخطيب هي الدراسة الرائدة التي حاولت دراسة العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا من خلال تحليل ظاهرة النص المفرع الذي استحدث وجوده مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية ( انظر د. حسام الخطيب و رمضان بسطاويسي: آفاق الإبداع ومرجعيته في عصر المعلومات دار الفكر دمشق 2001).
كيف أثرت التكنولوجيا علي الأدب، و لا سيما علي عملية الكتابة ذاتها ؟ وكيف يمكن أن تؤدي التكنولوجيا إلي تغير الظاهرة الأدبية وبنيتها و شكلها المادي الذي تتمثل فيه، وهو الكتابة ؟
إن إدخال التكنولوجيا علي عملية الكتابة، وظهور ما يسمي بالكتاب الإلكتروني، الذي يقدم النص من خلال وسائط مصاحبة، جعلت بعض الأدباء يقدمون النص الذي يعتمد في تلقيه علي الوسائط المتعددة، أي النص الذي يتضمن الكتابة والصورة والحركة، هو النص التكويني المفرع، وهذا لا يعني مجرد تغيير في الأداة التي يستخدمها الأديب فحسب، وإنما يغير من طبيعة الأدب ذاته، فلم تعد اللغة هي أداته فحسب وإنما أضيفت إليها تجسيدا ومؤثرات جديدة لم تكن مرتبطة بالأدب مما قد يؤدي هذا إلي عملية تثوير جذرية للإنتاج الأدبي من ناحية الدراسة والنقد والإبداع أيضا.
وقد ظهرت نماذج من هذه النصوص علي الشبكة الدولية للمعلومات " الإنترنت "، وقدمت بعض المؤسسات العربية بعض الكتب الإلكترونية، ولذلك فإن الأدب سوف يستفيد من التكنولوجيا مثلما استفادت الفنون الأخري مثل التصوير و الموسيقي و السينما و المسرح .
انقسمت الدراسات المعاصرة عن التكنولوجيا إلي نوعين أولهما يري أن التكنولوجيا تمثل نقلة نوعية للحياة الإنسانية، وأسهمت إلي حد كبير في القضاء علي كثير من معوقات الحياة الإنسانية مثل تشخيص الأمراض وسرعة المواصلات، ولا ينبغي دراسة التكنولوجيا المعاصرة من خلال نموذج معرفي ينتمي إلي المراحل السابقة من تاريخ الحضارة والتكنولوجيا، لأن لكل مرحلة باراديم خاص بها علي حد تعبير توماس كون، وثانيهما تري أن التكنولوجيا المعاصرة أدخلت الإنسان في مشكلات جديدة لم تكن موجودة من قبل، ويركز هذا الاتجاه علي نقد التكنولوجيا ويتمثل هذا الاتجاه بشكل واضح في مدرسة فرانكفورت، ولابد أن نشير إلي بعض الأعمال الفنية التي اهتمت بتحليل أثر التكنولوجيا علي الإنسان في الحضارة المعاصرة، ومن أشهر هذه الأعمال مسرحية "الآلة الحاسبة" للكاتب الأمريكي المر رايس (1923) ومسرحية "الإنسان الآلي" لكارل تشايبك (1920)، ونجد في هذه الأعمال نقدا للطابع الآلي للحياة المعاصرة في بدايات القرن العشرين، وسخرية من الآلية الحدية بكل أبعادها، وتقدم رؤاها عن أثر التكنولوجيا علي صورة الحياة، وكيف أنها تعيد صياغة الإنسان من جديد، الذي يجد نفسه مرتبطا بالآلة علي نحو يقلل من علاقة الإنسان بالطبيعة والبشر من حوله، ونجد هذا بشكل واضح في مسرحية " الآلة الحاسبة " فالبطل السيد صفرzero يريد العودة إلي الآلة الحاسبة التي دمرت حياته، لأنه لا يستطيع تصور حياته بدونها (6)، وهذا يعني أن التكنولوجيا أسهمت في قولبة الإنسان وصياغة حياته في صورة لم تكن موجودة من قبل(7)، رغم أن التكنولوجيا هي المسئولة عن تعاسته، لأن وجود الآلات أدي إلي طرد آلاف العمال والموظفين من أعمالهم (8)، ومن الأعمال الأدبية التي طرحت الأسئلة الفلسفية عن أثر التكنولوجيا علي الإنسان رواية الكاتب المصري صبري موسي " السيد من حقل السبانخ " (1980) حيث يطرح فيها أزمة الإنسان المعاصر، ورغم اعتراف الكاتب بأهمية التكنولوجيا ودورها في الحياة الإنسانية وقدرتها علي الإسهام في تحقيق العدالة والحرية، يري أنها تؤدي إلي تدمير علاقة الإنسان بالطبيعة وتؤثر في علاقة الإنسان بذاته وتصوره لها (9).
إن الثورة التكنولوجية المعاصرة قد غيرت من مفاهيم الإنسان عن الواقع الذي يعيش فيه، لأنه لا يمكن للمجتمع المعاصر أن يعيش بقيم العصور الوسطي أو القيم التي أفرزتها الثورة الصناعية (10)، وإنما يتم استحداث قيم جديدة تتلاءم مع العصر الحالي، ولهذا فإن التكنولوجيا المعاصرة تبشر بقيم وثقافة مختلفة تصطدم بالثقافة المحلية، لأنها تقدم حياة نمطية تختفي فيها الفروق النوعية بين الثقافات لأنها تقدم أدوات ووسائل واحدة لإنتاج الحياة (11)، وهذه الأدوات هي الوسائل التي يفكر من خلالها الإنسان في حل المشكلات التي تواجهه في الواقع مما أسهم في طرح أفكار متشابهة في معالجة قضايا المجتمع، وقد أدت التكنولوجيا إلي بروز ثقافة عالمية جديدة تتجاوز الاختلافات النوعية لثقافات الشعوب، قد أدي هذا لطرح قضايا من قبيل: العولمة و الهوية، وأدي إلي طرح أسئلة حقيقية مثل :
- هل تهدد التكنولوجيا الحرية الإنسانية، و تصبح أداة للسيطرة علي الإنسان الذي ابتكرها ؟
- ما هي المشكلات الجمالية المترتبة علي وجود علاقة مباشرة بين الاستطيقا و التكنولوجيا ؟
- هل تقضي التكنولوجيا علي القيم الروحية أم تسهم في تنميتها في اتجاه أكثر عمقا، لأن تعقد التكنولوجيا المعاصرة جعل الإنسان يدرك أبعاد الكون الذي لم يكن مدركا من قبل ؟
- هل يمكن أن يحل الإنسان الآلي محل الإنسان في الإبداع الفني ؟(12)
- هل يمكن للحاسب الآلي أن يحل محل العقل الإنساني، لاسيما أن كثيرا من الفنانين يستخدمون الحاسب الآلي في إنتاج أعمالهم الفنية ؟
يتبين لنا مما سبق أن التكنولوجيا والاستطيقا بينهما علاقة وثيقة من حيث تأثير كل منهما علي الحياة الإنسانية، والتكنولوجيا مختلفة عن العلم رغم ارتباطها به في عصرنا الحالي، لأن العلم يهدف إلي المعرفة فحسب دون النظر إلي مدي إمكانية التطبيق في الواقع الفعلي، بينما التكنولوجيا تسعي إلي تحقيق أهداف واقعية، قد كانت التكنولوجيا تتضمن الهندسة المعمارية والطب والخطابة، كان اللفظ يشير إلي ما يمكن استنباطه من قواعد إجرائية تسمح بإنتاج أشياء متماثلة، فالتقنية هي المعرفة المنتجة التي تبتكر حلولا لاكتشاف أدوات أو آلات في مقابل المعرفة النظرية التي لا تغير من الموضوع الذي تدرسه، ومع تطور العلوم الطبيعية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لم تعد التكنولوجيا مقابلة للعلم مع فرنسيس بيكون وديكارت وجاليليو، وإنما أصبحت التجربة هامة لاختبار كثير من المفاهيم المجردة، وذلك للتفرقة بين المعرفة التي ترتكز إلي التجريد من المعرفة التي ترتبط بالواقع، وقد ساد بعد ذلك التعريف الكلاسيكي للتكنولوجيا بوصفها تطبيقا للعلم، فالتكنولوجيا هي مجموع الطرق والوسائل القائمة علي معارف علمية وتجريبية والتي يتم استخدامها من أجل الحصول علي نتيجة معينة، ولئن كانت التكنولوجيا تطبيقا للعلم فهي تختلف عنه بوصفها تسعي إلي الإنتاج بينما يسعي العلم إلي المعرفة فحسب .
والتكنولوجيا تحسن من الأدوات التي تسمح للإنسان بتشكيل المحيط الذي يعيش فيه، والفن يقدم لنا أجوبة أصيلة عن الأسئلة التي يطرحها المحيط الذي يعيش فيه، ولذلك هناك توحيد بين التكنولوجيا والفن في العصر الراهن، لأن التكنولوجيا تستعين بالفن في تعديل وتحويل البيئة التي تتدخل فيها، والفن يهتم بشكل أساسي بدراسة العلاقة التي تنشأ بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه، وذلك من خلال صورتين:
أولاهما: تصوير الكيان الداخلي للإنسان بكل تفاصيله الدقيقة ونجد هذا في الأعمال الفنية التي تتخذ من التركيبة الداخلية الكبري للمشاعر الإنسانية موضوعا لها، حيث تركز بعض الأعمال الفنية علي الأنا الداخلي للإنسان، وكشف الوعي الفردي إزاء قضايا الوجود الذي تطرحه التكنولوجيا بوصفها جزءا من الوجود ويحمل خصائصه، وتتأتي قوة هذه الأعمال من المهارة التي تكشف بها حياة الإنسان المعاصر الداخلية وبالتالي تكشف عن علاقة الإنسان بالعالم ومكوناته.
وثانيتهما: الأعمال الفنية التي تهتم بداسة أثر المحيط الاجتماعي علي سلوك الإنسان ورؤيته للعالم، من المكونات الهامة للمحيط الاجتماعي المعاصر الأدوات التكنولوجية، ونجد صورة لهذا العالم في رواية العالم الطريف لألدوس هكسلي حيث يقدم وصفا للحياة الخارجية للإنسان والوسط التكنولوجي الذي يعيش فيه وأثره الذي لا يظهر علي مستوي الفرد فحسب وإنما يظهر علي صعيد المجتمع أيضا.
-3-
لاشك أن هناك ثقافة جديدة قد ولدت مع وجود الحاسب والإنترنت وما أتاحه من وسائط جديدة تتيح للأديب والفنان إمكانات جديدة، لم تكن موجودة من قبل، مثل استخدام لغات متعددة في نفس الوقت. والمقصود باللغة هنا استخدام لغة الصورة ولغة الصوت ولغة التجسيد الحي للموضوعات والقضايا التي يتناولها الأديب والفنان، بالإضافة إلي التواصل المباشر مع القارئ بشكل غير مسبوق، فمثلا نلاحظ أن كتّاب الأعمدة الصحفية الذين يذيلون مقالاتهم ببريدهم الإلكتروني تصلهم عشرات الاستجابات التي تخلق نبض التواصل الحي بين الكاتب وجمهوره مما يخلق حالة من الاستجابة التفاعلية من الكاتب تجاه ردود الفعل التي تصله بشكل شبه يومي، ويمكن أن نتخيل الأديب والفنان الذي ينتج عمله الفني وسط هذه الاستجابات التي تخلق حالة تقطع المسافة التي كانت تفصل المبدع عن جمهوره وتغير من طبيعة القارئ الضمني الذي كان الفنان يتوجه نحوه بالحوار والحديث ويصبح القارئ متعينا خلال كل فترة من خلال استجابات متباينة .هذه بعض الآثار العامة المؤثرة علي الأدب و هناك آثار كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
ويمكن أن نتساءل ما المقصود بالنص الفائق ؟
والنص الفائق هو النص المتعدد المستويات بتعدد لغاته، والمقصود بالتعدد هنا تعدد مرجعياته وهو يخلق حالة من التقاطع الحاد لجماليات التلقي مع سكونية الجماليات التقليدية، ويعطي دورا كبيرا للمعلومات والاتصال في خلق مناخ الذات الاجتماعية محليا وعالميا ويؤدي هذا إلي زعزعة المرجعيات القائمة، والنص الفائق هو ثمرة المغامرة التكنولوجية التي تهز مرجعية الخيال الأدبي وتحمل تحريضا لانبثاق مرجعيات مغامرة، وهذا كله يؤدي إلي الوعي المتزايد بدور المتلقي المفترض والنموذجي ومرجعية أفق الانتظار.
ويمكن أن نتساءل أيضا هل يمكن أن يظهر الناقد الإلكتروني الذي يحمل برامج جاهزة في النقد؟
ويمكن الإجابة علي هذا السؤال أنه يمكن أن تظهر برامج لتحليل النصوص من النواحي المختلفة، وهذه التحليلات قد تؤثر علي النقد بوصفه عملية تتضمن في داخلها عمليات متعددة مثل قراءة النصوص و تحليلها ونقدها من خلال التفاعل الخلاق معها وهذا التفاعل يكون مرتبطا بالوسائط المستخدمة في عملية إنتاج النص، وأما مصطلح الناقد الإلكتروني فأري أنها تتضمن حكما معياريا علي النص وهذا الحكم قد انتهي دوره من النقد منذ زمن طويل وأصبح دور الناقد هو توصيف النص والتفاعل معه، وإذا أردنا أن نقارن بين النص التقليدي والنص الفائق ونلاحظ أن النص التقليدي مقيد بسلطة السطر وتكنولوجيا الكتاب بينما النص الفائق متحرر من سلطة السطر ويمتاز بالمرونة التي لا حد لها، فهو نص دينامي ومتعدد الوسائط والحوا، ويفجر الفكر والإبداع ويحقق الحلم في النص المفتوح وهو يقترب من البيئة الطبيعية للتفكير والإبداع وهو متطور وفي حالة تشكل دائم، وهو نص افتراضي وليس له وجود مادي محدد بينما نجد النص التقليدي ذا بعد واحد هو البعد السمعي والبصري، وهو جامد غير قابل للحركة، ويصعب التحكم فيه.
يرتبط موضوع المعلوماتية وعلاقته بالنص الأدبي بموضوعين هما:( فلسفة الاتصال و فلسفة المعلومات)، ذلك لأن المعلوماتية هي نتيجة لتطور أدوات الاتصال حيث أصبح متاحا هذا الكم الضخم من المعلومات، كذلك غيرت تكنولوجيا الاتصال من طبيعة النص الأدبي الذي كان يعتمد علي السطر البصري الذي كان القارئ يقوم بقراءته إلي النص المتعدد الوسائط hypertext الذي تصاحبه الموسيقــي واللوحات الفنية في حزمة واحدة، ويخاطب العين والأذن، وتشترك اليد في تحريك النص علي الشاشة، وقد أدي هذا إلي تولد ظواهر جديدة لم تكن موجودة من قبل غيرت من طبيعة الإنتاج الأدبي وغيرت أيضا من طبيعة التلقي .
ولابد أن نوضح منذ البداية أن هناك فرقاً بين تناول المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال بوصفه موضوعاً للإبداع الفني في الشعر أو الأدب أو الفن التشكيلي، وبين تناول طبيعة النص الذي يستعين بهذه الوسائط الجديدة في النشر والكتابة، أي هناك فرق بين المعلوماتية بوصفها موضوعاً للإبداع، حيث يتخذ الأديب أو الشاعر من هذه الأدوات موضوعا لتجربته مثل ديوان تغريد الطائر الآلي للشاعر أحمد فضل شبلول، ونصوص حسن طلب ومحمد يوسف وفوزي خضر وغيرهم من الكتاب الذين تناولوا الحاسوب وتقنياته وأثرها علي التجربة الإنسانية، وهناك فرق في أن يتخذ الأديـب من هذه التقنية أداة لتقديم تجربته الجديدة، وبين أن يتخذها موضوعا لتجربته الروائية علي النحو الذي نجده في النصوص التي نقدمها هنا .
-4-
تعددت أشكال كتابة الرواية خلال العقدين السابقين، وتراجعت الرواية التقليدية التي يبدو فيها المؤلف مهيمنا علي العالم الذي يقدمه، وأصبحت الرواية المعاصرة تقدم تجربة شخصية تتميز بالجدة والطرافة أو تحاول اختبار تجربة ما من خلال عملية الكتابة، وأصبحت الكتابة ذاتها محاولة لقراءة العالم واختبار ممكنات الذات الإنسانية وما تطرحه من وعي بذاتها وبالعالم الذي تعيش فيه، وأصبحت عملية الكتابة تجربة متعددة المستويات، وتحترم وعي المتلقي المفترض الذي تخاطبه، ونجد هذا واضحا في الروايات التي نالت شهرة كبيرة خلال الفترة الماضية مثل رواية العطر التي تقتحم موضوعا جديدا لعالم الرواية وهو العطر أو العبق الذي يفوح من كل منا ومدي تأثره بالحالة النفسية والأفعال التي نؤديها وقد تطلب هذا من الروائي الألماني زوسكيند أن يقدم في روايته، بالإضافة للجانب الفني معلومات عن علم العطور وطرق استخلاصها، فأصبحت الرواية في جانب من جوانبها موسوعة في علم العطور أيضا، وكذلك الرواية التي نقدمها، وهي رواية: أفروديت للكاتبة إيزابيل الليندي التي تعتبر تجربة جديدة في الكتابة الروائية، لأن الكاتبة تحاول من خلال الكتابة دراسة العلاقة بين الجنس والطعام في مختلف الثقافات، فتستعرض كل ما استطاعت الحصول عليه من كتب ومعلومات حول هذا الموضوع في الحضارات المختلفة، وحاولت علي ضوء المعلومات الطبية اختبار ما جاء في هذه الكتب القديمة من نصائح وتكشف ما به من خرافة وأسطورة علي ضوء وعي الإنسان وفهمه للطعام والجنس ودورهما وصورتهما في الفكر الشرقي القديم والفكر الغربي أيضا، واستعانت الكاتبة في سبيل كتابة الكتاب بفنان يختار اللوحات المصاحبة للكتاب وهو الفنان روبرت شكتر، واستعانت بطاهية تستطيع تنفيذ وصفات الطعام هي بانتشيا ليونا، وهذا يعني أن الرواية يشارك في إنتاجها هؤلاء الثلاثة، لكن تقوم الكاتبة وحدها بكتابة الرواية.
اهتم علماء الجمال المعاصر بالناقد بوصفه متذوقا للعمل الفني، لكنه متذوق متميز عن المتذوق العادي، لأنه لا يكتفي بالتلقي فحسب، وإنما يجاوز ذلك إلي الفهم والتفسير والتوصيف أيضا، ولذلك فاللغة والتذوق عمليتان متصلتان ومتداخلتان تمام وخبرة الإبداع، في النقد مرتبطة بخبرة التذوق علي المستوي الوجودي والمعرفي والإنساني، والتذوق ليس مجرد عملية استقبال سلبي للعمل الفني، وإنما هو القدرة علي الاختيار، والانتباه لعناصر الجمال ولخصائص العمل الفني، وإذا اكتفي الناقد بهذا فإنه يكون مجرد متذوق للعمل الفني، فإن ما يميز الناقد عن المتذوق هو القدرة التي يكتسبها الأول من خلال خبراته المتعددة بالأعمال الفنية، القدرة التي تساعده علي تحديد موقع العمل الفني من التطور الثقافي والجمالي للأمة التي ينتمي إليها، أي أن عملية إدراك التطور الحضاري والسياسي والاجتماعي من خلال الأشكال الفنية التي يقوم بدراستها، ثم يحاول استخلاص الفكر الإبداعي الكامن فيها، وهذا يتطلب قدرات إبداعية خاصة لا يمتلكها المتذوق الذي يعيد بناء العمل الفني فحسب .
ولكن هناك من يزعم أن النقد يدرس العناصر المختلفة التي ترتبط من بعيد بالعمل الفني علي نحو أو آخر، وأزعم أن هذا بعيد عن النقد من منظور علم الجمال المعاصر، الذي يركز علي العمل الفني بوصفه بؤرة الاهتمام، أما أن ينصرف النقد عن ذلك، ويهتم بالفنان الذي أبدع العمل الفني، أو دراسة العصر، أو المجتمع أو طبيعة الواقع الذي يعيش فيه الفنان، فهذا معناه استنطاق الفن بما ليس فيه، ويري كثيرون من علماء الجمال أن مثل هذه المعرفة "عن " العمل الفني، معرفة قاصرة لا تؤدي إلي النفاذ إلي طبيعته .
إن الناقد الذي يمارس هذا الضرب من النقد يعيش في سجن المعلومات المدونة في الذاكرة، ومن الحق أن هذا النوع من الدراسات يبطل فاعلية النص في العصر لأنه يسجنه في تاريخه الخاص الضيق، فلا يفجر ما فيه من دلالات كامنة لا تتضح إلا بقراءتها لصالح العصر، ويجعل نقد النص محدودا بحدود المعرفة المدونة، ويصبح النقد مجرد شارح، ويشيع في ثقافتنا مثل هذا النقد حيث ينصرف الناقد/ المتلقي عن العمل الفني وبنائه ومعانيه إلي شرح النص، والفنان الذي أنتجه، وحياته وطبيعة العصر والمجتمع الذي ينتمي إليه، وإشكاليات الواقع والمجتمع ويجعل هذا كله مدخلا للحديث عن موضوع العمل الفني وهي ممارسة نقدية لا تسهم في كشف الإمكانات القائمة فيه بل تخلق حجبا كثيفة تعوقنا عن التواصل معه.
والنقد في منظور علم الجمال المعاصر ليس ضد التفسير، لكن التفسير - أيا كان منظوره - يأتي في مرحلة لاحقة بعد الفهم، ففي منهج جولدمان نبدأ بتحديد البنية المركزية للعمل الفني من خلال هذا العمل، ثم نبحث في مرحلة التفسير عن العلاقة بين بنية العمل الفني، وبنية المجتمع أو الثقافة التي ينتمي إليها النص، بهدف الوصول إلي تحديد " رؤية العالم " وهذا لا يتأتي إلا بفهم العلاقة بين لغتين، واللغة هي صياغة شكلية للوعي والتفكير، و رؤية العالم، ولذلك فالمرحلة الأولي في تحليل الشكل ضرورية لفهم أي عمل فني، ولكن أن نبدأ بالتفسير دون الفهم، فهذا معناه عزل النص، وعدم اكتشاف جوانب التماثل أو التضاد مع البنية الاجتماعية، وهذا ما يجعل النقد يعود إلي القراءة الانطباعية، التي تستدعي من الذاكرة ما يسهم في إثقال العمل الفني برؤي لم ينطق بها، وإنما هي رؤي الناقد التي يسقطها عليها.
وقد قرنت مدرسة فرانكفورت إشكالية الإبداع بإشكالية الحداثة، علي نحو ما نري في جهود هابرماس، وأصبح مصطلح الحداثة يماثل مصطلح الإبداع، وهو نمط في التفكير وأسلوب في الحياة، يسعي لخلق صورة أفضل ونفي للصورة القائمة في الوجود، أصبحت كلمة " الشعري" لا تطلق علي العمل الإبداعي فقط في الإنتاج الفني، وإنما علي شكل من أشكال الحياة يحقق الحداثة، وينفي صوراً في الحياة القائمة، لأنه خروج علي النظام القائم في الحياة اليومية، القائمة علي المنفعة، والكم، والتبعية لما هو سائد، بينما جوهر الفن هو التحرر والتجاوز لما هو سائد .
والإبداع بهذا المعني هو منطق جدلي Negative dialectic، وهو يعني الحداثة الفلسفية التي تعادل التحول الثوري الشامل في نقد الثقافة السائدة، تلك الثقافة التي جعلت الإنسان يرتكز إلي مفاهيم وحيدة الجانب عن العقل والإنسان والوجود، أي جعله إنسانا ذا بعد واحد، غير قادر علي نقد الحياة اليومية المنغمس فيها، فالإبداع في المجتمع يعني نفي الواقع ونقده أما الأعمال الفنية التي تكرس الواقع، وتدعو إلي العودة إلي الماضي التاريخي فهي لا تتصف بالإبداع، لأن الإبداع مرتبط بالحداثة، التي هي تغيير شمولي للبني الثقافية وأساليب التفكير والسلوك، ولذلك فإن معيار الإبداع في الفن هو قدرته علي الانفلات من أسر لعبة السلطة وقوانينها السائدة، والعمل الفني وحده هو الذي يطرح معني الإبداع وخصوصيته، فمن المعروف أن هناك اتجاهات جمالية اهتمت بسيرة الفنان بوصفه منتجا للعمل الفني ودليلا علي الإبداع، بينما تركزت أبحاث علم النفس عند جان بياجيه علي أن الوعي لا يتطابق مع السلوك دائما، وبالتالي فإن وعي الفنان ليس دليلا علي الإبداع، لأن العمل الفني هو التحدي الحقيقي للإبداع، إن وعي بلزاك الأرستقراطي أنتج أعمالا أدبية تقف ضد الطبقة التي ينتمي إليها، وعلي المستوي الفلسفي كانت الاتجاهات التي تهتم بالمبدع تعتمد علي نظرية العبقرية بوصفها مصدرا ميتافيزيقيا للإبداع، وهي صورة من صور "الهوس"، ولكن تم تجاوز هذه النظرية عند هيجل حين أشار إلي الموهبة وضرورة تعلم الدرس المستمر لكي يستفيد الفنان من موهبته في إنتاج الأعمال الفنية، أما الاتجاهات الماركسية وغيرها من الاتجاهات ذات الطابع الاجتماعي، فقد اهتمت بالبيئة أو المجال العام للمبدع أو العوالم التي يشير إليها النص، وقد تطورت هذه الدراسات - لدي جولدمان - إلي سوسيولوجيا الإبداع وخرجت من فكرة المجتمع بوصفه مفهوما عاما إلي المجتمع الذي يتشكل في بنية فنية تفصح عن أبنية المجتمع المختلفة، وكان هذا التحول دليلا علي أن النص هو الوحيد القادر علي أن يكون سيرة مبدعه الخاصة وهو الوحيد الذي يحدد الخطاب الثقافي للقوي الاجتماعية داخل الأمة. وتعكس أشكال الأدب والفن تطور الوعي بصياغة همومه وقضاياه فالشكل هو العنصر الاجتماعي في الفن علي حد تعبير لوكاتش، لأنه يصوغ هموم الوعي صياغة دقيقة مرتبطة بثقافة المجتمع البصرية والسمعية، والعمل الفني بهذا لا يدل علي الفنان فحسب وإنما يدل علي ثقافة المجتمع، ويكشف عما إذا كانت الثقافة تسعي للثبات أو الحركة، ومن ثم فإن قراءة المتلقي هي إعادة إنتاج علي نحو مبدع يتيح للنص حركية وفاعلية في الحياة اليومية، ولذلك يكثر علم الجمال المعاصر من استخدام تعبير العمل الفني المغلق علي ذاته، والعمل الفني المفتوح الذي يسمح بإعادة القراءة والإنتاج والإبداع من جديد؛ والنص المغلق هو النص الذي يعتمد علي مفاهيم لا تزال سائدة في الواقع أو الماضي التاريخي، ولا يمكن إنتاج دلالة جديدة من خلاله، بينما النص المفتوح يتيح للقارئ إنتاج الدلالة، ويفتح الأفق أمام التفسيرات الجديدة .
وإذا كانت الحداثة قد ارتبطت بالتكنولوجيا التي غيرت من تقنيات التشكيل، بل أدخلت تقنيات لم تكن موجودة من قبل مثل: استخدام الكمبيوتر في بناء الرواية، والبحث عن المترادفات ،وهذا نجده واضحا لدي بعض الكتاب العرب المعاصرين، حين يلجأ إلي غريب اللفظ أو المهجور منه لكي يبرز قدراته ويوسع من دائرة التأويل في فهم مستويات الرواية مثل أعمال إدوار الخراط، وامتد هذا بشكل لافت في الفنون الأخري حيث يتم استخدام الكمبيوتر في تصميم العمل الفني وتحليل عناصره، وهذا نجده في النقد الذي يدخل النصوص في برنامج خاص للكمبيوتر، فيدرس العناصر الإحصائية، والأفعال والصفات والأحوال مما أسهم في تقدم الدرس الأسلوبي للنصوص.
إن الثورة التكنولوجية المعاصرة قد غيرت من مفاهيم الإنسان عن الواقع الذي يعيش فيه، لأنه لا يمكن للمجتمع المعاصر أن يعيش بقيم العصور الوسطي أو القيم التي أفرزتها الثورة الصناعية (13)، وإنما يتم استحداث قيم جديدة تتلاءم مع العصر الحالي، ولهذا فإن التكنولوجيا المعاصرة تبشر بقيم وثقافة مختلفة تصطـدم بالثقافة المحلية، لأنها تقدم حياة نمطية تختفي فيها الفروق النوعية بين الثقافات لأنها تقدم أدوات و وسائل واحدة لإنتاج الحياة (14)، وهذه الأدوات هي الوسائل التي يفكر من خلالها الإنســان في حل المشكلات التي تواجهه في الواقع مما أسهم في طرح أفكار متشابهـة في معالجة قضايا المجتمع، وقد أدت التكنولوجيا إلي بروز ثقافة عالمية جديـدة تتجاوز الاختلافات النوعية لثقافات الشعوب .
وترتب علي هذا وصف الحداثة بأنها تعبير عن ثقافة الابتكار والتغيير فلم يعد الموضوع الجمالي للعمل الفني سواء من صورة الطبيعة أو الإنسان أو الجماد، وإنما أصبح موضوع العمل الفني كائنا في العلاقات الداخلية للوسيط الجمالي المستخدم، فهو يتمثل في العلاقة بين الألفاظ والصور والأخيلة المستخدمة في القصيدة ويتمثل في العلاقة بين الألوان ودرجاتها وأبعادها، ومستويات التشكيل البصري أو السمعي في بناء يشبه الموسيقي، التي لا يتم إسقاط موضوع ما عليها من خارج العمل الفني ولعل هذا ما جعل كثيراً من الشعراء لا يميلون إلي وضع عنوان ما لنصهم الشعري الذي يقدمونه بما ليس فيه (15) وحتي لا يطالب الشاعر في ترجمة رؤاه وأحاسيسه من خلال وسيط جمالي آخر، وهو وسيط مختلف عن اللغة البصرية والسمعية للغة التي يستخدمها، صحيح أن الحواس تتكامل في إدراكها للعمل الفني مثل: العين والإحساس باللمس في البروز والنتوء في الفنون التشكيلية، ذلك أن بنية لغة التواصل في الفن تقوم علي التواصل الوجداني من خلال الحواس، بينما بنية التواصل في الحياة اليومية تقوم علي اللغة والدلالة القاطعة التي لا تتعدد تأويلاتها فمعني العمل الفني يتحدد في إمكانات تأويله وليس في دلالته القاطعة .
ولهذا فالعمل الفني ينقطع عن هذا الواقع الدلالي لأنه يعيد بناء وتشكيل عناصره من خلال المتخيل وبالتالي فالكتابة في كثير من النصوص السائدة الآن هي محاولة للتحرر من أسر سلطة الواقع كما هو، وذلك باكتشاف ممكناته واحتمالاته المختلفة ( مفهوم الواقع الذي نستخدمه هنا نقصد به الواقع بالمفهوم الطبيعي والذي يقتصر علي اللغة العلمية " واحدية الدلالة " في التعبير عنه وتحليل علاقاته).
وإذا تأملنا لغة النقد السائدة في المشهد الثقافي العربي نجد أنها تحيل الأعمال الروائية إلي الواقع ،أو التعبير عنه، وهي بذلك تقدم فهما مضادا لطبيعة هذه الأعمال الروائية، لأن الروائي في نصه قد يسعي إلي تقديم موضوع أو صيغة مضادة تخلق صدمة جمالية لدي المتلقي لأنه يريد ـ عن قصد ـ أن يضاد شعوره الجمالي بالتوقع، فيقدم في نصه عكس المألوف لأنه يريد أن يوقظه من السبات الوجداني لأن الروائي قد يسعي إلي التعبير عن المكبوت والمسكوت عنه، والمقموع عنه، وانعكس هذا التناول الروائي علي طريقة التلقي لأن الأعمال الروائية أصبحت تسعي إلي كسر الاعتياد، وتقديم ما يخالف الملاحظة العابرة الذي كان يسود تجربة التلقي فكان المتلقي يرد ملاحظاته العابرة في الخبرة الموحدة تقوم بالتأويل بينما نوع الاستقبال السائد الآن في الشعر يقوم علي استيعاب التشتت والتشظي في التجربة الروائية، وليس ردها إلي تجربة واحدة، ولعل هذا الملمح الهام في تجربة تلقي النصوص الروائية الجديدة يجعل كثيرا من المتلقين والنقاد ينصرفون علي دخول خبرة جمالية وذلك لأنها تحتاج إلي تدريب وتثقيف الحواس علي دخول خبرة جمالية مغايرة في استقبال النصوص عن تلك الخبرة التقليدية وذلك لأن الروائي المعاصر لا ينقل لنا صورة مبسطة عن العالم وإنما ينقل في روايته خبرة مشتتة، هذا يدل علي ظهور تغيرات هامة في طريق تلقي الأعمال الروائية التي كانت تعتمد علي التأمل، فالمتلقي كان يستخدم خبراته في ترجمة الشعر والأعمال الفنية (16) أو خلق معادل موضوعي لها في تجربة النص بينما نلاحظ أن كثيرا من الشعراء يهدفون إلي إحداث صدمة جمالية لدي القارئ، تجعل الطابع الطقسي للفن وللشعر يتراجع وهذا ما نجده في تحليل النص الروائي، فلا توجد بؤرة تقليدية أو مركز ما للرواية تدور حولها ولكن تجد البؤرة مستترة أو مشتتة عبر أبعاد النص مما يجعل المتلقي لا يستخدم وعيه فقط في استقبال النص الروائي، وإنما يستخدم أيضا خياله وقدرته علي إعادة بناء النص وتركيب عناصره .
ونجد في ثقافة الحداثة وما بعدها أن الاستطيقي Aesthetic لم يعد مرادفا لكل ما هو جميل فحسب ،وإنما اتسع مفهوم الاستطيقي ليشمل جوانب مختلفة تؤرق الإنسان وتهمه ،حتي لو تعدت الجمال، فقد يعمد الروائي أو الفنان للتعبير عن التشويه الذي يعترض حياتنا ونلاحظ هذا بشكل واضح في الفنون التشكيلية، حين يحاول الفنان نقل إحساسه بالحرب فإنه قد يستخدم صورا وأشكالا للأعضاء البشرية، بدلا من المواد الخام في صورتها التقليدية (17) لأن الفنان قد أصبح يري أنه بدلا من نثر البذور علي الحقول بالطائرات، تقوم الطائرات في الحياة المعاصرة بقذف القنابل علي المدن ولهذا قد يستخدم الفنان أشكال الدروع والدبابات والطائرات وأجزائها وطلقات الرصاص في خلق تكوين يجسد تمزق وتشظي لحظة الإنسان المعاصر وقد يلجأ الفنان إلي توظيف المجال أو الوسط الذي يعرض فيه عمله الفني ليصبح مكملا له، مثلما نجد بعض الفنانين يضيفون أشياء من البيئة وخاماتها بجانب اللوحة لخلق تكوين أكبر يتصل بالمجال الذي يتم من خلاله استقبال العمل الفني والتواصل معه .
وكل هذا يبين لنا أن النصوص الشعرية التي تقوم علي الحداثة وما بعدها قد غيرت من أنماط التلقي للنص الروائي والعمل الفني، ولا يمكن لأي دراسة تقدم لنا فن الحداثة أن تشرح مفاهيمها دون أن تشير إلي تغير جماليات التلقي، ذلك لأن الفن المعاصر يعتمد علي المتلقي إلي حد كبير، بينما كان المتلقي له دور سلبي في استقبال النص الروائي، لأن المتلقي يعيد بناء مفردات النص الروائي في داخل تجربته وثقافته وخبراته، لكي ينتج طقسا أو حالة أو شعورا خاصا شبيها بما تثيره فينا الأعمال الموسيقية وذلك لأن الفنون المعاصرة تتخذ من الموسيقي مثلا أعلي لها، لأنها مجردة عن المعاني والدلالات الجاهزة ولا تقدم إحالة مباشرة لموضوعات الواقع، وتتجاوز الطابع التأثري لتقوم بمخاطبة الروح الداخلية للإنسان، وتخاطب حواسه في علاقتها المباشرة بالجسد (18).
وبقدر تعدد المتلقين يمكن أن تتعدد قراءات العمل الروائي أيضا ذلك لأن النص الروائي يفسح المجال للاختلاف الإبداعي ولا يرد العمل الفني إلي وحدة ما لأن العلاقة بين الدال والمدلول في الفن قد تحولت إلي تفكيك هذه العلاقة، لكي تصبح تكوينات، ولا يمكن ترجمة تجربة أي نص أو أي عمل فني إلي دلالة واحدة، وهذا الاختلاف في القراءة جعل من عملية التلقي إبداعا ومسئولية ،وهذا لا يقلل من النص الروائي أو العمل الفني، وإنما يبين لنا تراجع القيم الجمالية ذات الطابع التقليدي التي كانت تبحث عن الإيقاع والتناسب والانسجام والتوازن ليحل محلها قيم ذات طابع اختلاف وليس توحيدي مثل التناثر، والتنافر، والتعارض، وغيرها من القيم الجمالية التي نراها في الأعمال الفنية ،ويسعي الروائي أو الفنان عبر هذه القيم الجديدة إلي تأسيس مفهوم خاص للجمالية كعالم مستقل يعارض سيادة مفهوم واحد للتلقي، وبالتالي يعارض التسلط، ويقوم الروائي أثناء صياغته للرواية بتفكيك المنطق التقليدي للعقل الجمالي في العصور السابقة ليؤسس مفهوما جديدا للرواية يقوم علي مفهوم جديد للزمن، فالزمن في الحياة المعاصرة يعتمد علي التبادل، بمعني المردود المادي الذي يحكم الناس في ثقافة الاستهلاك المعاصر، وهذا يعني أن سياق الزمن في الحياة اليومية وسط أدوات الاتصال يعكس التراتب لأشكال الاغتراب المختلفة التي يعيشها الإنسان والزمن هو أداة الروائي للمحافظة علي استقلاله الذاتي وهويته المشتتة في الحياة اليومية، ذلك أن بنية الشعور بالزمن في الحياة المعاصرة مختلفة حسب طبيعة علاقتنا بالسلطة المباشرة أو غير المباشرة، ولذلك يحطم الروائي أو الفنان المعاصر صورة الزمن الذي يخضع للتراتب ويعبر عن اغترابه، ويلجأ للزمن الحر أي الزمان الجمالي، وهذا الزمن لا نجده إلا في النص الروائي أو العمل الفني، حيث يمكن إعادة ترتيب علاقات الزمن وتشكيله وفق منطق داخلي آخر غير ذلك المنطق الصارم الذي نعيشه في الحياة اليومية، وهذا الزمن المتخيل أو الجمالي هو زمن يحرر المتلقي والفنان من أسر زمن سلطة الواقع أو ثقافة المؤسسات ولعل الإحساس بالزمن في الفنون التشكيلية يتضح في تحطيم الإيقاع التقليدي لجزئيات العمل الفني، ونتج عن هذا التشكيل للزمان الحر تصور آخر للمكان لا يقوم علي علاقة: " ما بعد وما قبل "ولكن يقوم علي التفاعل الحر بين مكونات المكان ومفرداته، ولهذا فإن المفاهيم الرئيسية التي كانت ترتكز عليها القيم الجمالية مثل وحدة الزمان، ووحدة المكان في التصور الأرسطي قد تغيرت طبيعتها في الفن الحديث، وبالتالي تغيرت العناصر التشكيلية التي تحاول صياغة هذه القيم وفق الإحساس الجديد بالزمان والمكان .
ويمكن القول إن الحداثة هي مرحلة جمالية من تاريخ الفن المعاصر دون أن نطبق عليها أيا من أحكام القيمة، ويود المرء لو يتحرر النقد من أحكام القيمة التي تعني مركزية ذات الناقد والتمحور حولها في رؤية أية نص والاستناد إلي نظرة للعالم وممارسة لسلطة من نوع خاص علي الكتاب ،لكن يمكن أن نتساءل هل الحداثة لدينا هي ذاتها الحداثة في الغرب رغم تباين الثقافتين، ورغم اشتراكهما في ملامح عديدة؟ وهذا الموضوع كان موضوع بحثي في أدورنو: علم الجمال لدي مدرسة فرانكفورت ذلك لأنها مدرسة ذات طابع نقدي وفجرت السؤال كنتيجة لعرض أفكارها .
ـ 5 ـ
التسميات: الابحاث
0 تعليق:
إرسال تعليق