عرض أ.د.محمد حسن عبد الله مدير الجلسة الثانية التى بدأت فى الثامنة والنصف مساءا ورقه بحث الاستاذ محمد عبد المطلب عن "تقنيات السرد بين التنظير والتطبيق" (لأن أ.محمد غاب عن الجلسة)ووصفها بأنها فيها عبقرية البساطه وبدت الجلسة حيويه ومثيره بأدارته. تحدث الدكتور محمد حسن عبدالله في بداية الجلسة الثانية التي خصصت لمناقشة المحور الثاني في المؤتمر الذي جاء بعنوان " السرد الجديد ..تواصل أم قطيعة" من استكرث علينا نظرية نقدية أقول لهم أننا الفت نظرية نقدية عربية كأننا مستكثين في أنفسنا أن تكون لنا نظرية أدبية لحضارتنا المترامية في الزمن ولا نستغرب أن تهب علينا رياح العولمة تقتلعنا من أرضنا

عرض مدير الجلسة للورقه البحثية شجعنى لقرائتها بسرعه ، فقد عرضها بشكل جذاب وخفه دم

أبتدى أ.سيد ضيف الله بهدرا جرجس "سمعت تعبيرات تصلح بداية أن مجاهد أضفى مشروعية رسمية على هيدرا" ففى كلمه أ.أحمد مجاهد اثنى على الرواية " بالمقابل هناك أصوات أخرى يقول أن كل من هب ودب يكتب رواية هذا الكلام يعد من وجهة نظري لسان حال كثير من النقدا والأدباء أي أنه نوع من الأعتراض على هذا النوع من الكتاب وتصوري أن هناك عقد اجتماعي حول الرواية كان سائد وهذا يجعل المفهوم قاصر على من يمتلك سمات معينة والواقع يوقل أن هناك مجموعة من الكتاب يرفضون التوقيع على هذا المفهوم بهذا الشكل وهم حاضرون بقوة فكل لحظة ثقافية ترفض مفهومها للرواية وبالتالي ليس هناك شكل لمفهوم الرواية وفي مقابل سلطة اللحظة هناك محاولات تحاول أن تناهض الشروط الجاهوة لماهية الرواية في اللحظة الثقافية ولكن هذه اللحظات التي يتم فيها التفاعل بين الأعمال الرواية و نشرت البحث فى التدوينه السابقة

وأعقبها بحث بعنوان: "السارد والمؤلف.. الحضور والتماهي في الكتابة الروائية الجديدة في مصر"ل أحمد أحمد عبد المقصود

الطريف أنه فى خارج المسرح الكبير أربع خيم بدويه كانت مكان مناقشات فى حول الكتابه نذكر منها جلسه حول "الكتابة النسويه وعلاقتها بالواقع"( العنوان من عندى) وأشترك فى المناقشة سحر الموجى وسهى زكى ومى خالد وهويدا صالح وعلى فكره يا جماعه أنا كنت سكرتير المناقشة ومسجل كل كلمه حتى لو أهدروا دمى ودكتور زين عبد الهادى شاهد. المركز الصحفى زى قلته النت فية واقع والاجهزه كمان وأراسلكم الان سيبر أمام قصر الثقافه ... على فكره ظهر العدد الجديد من مجلة "الثقافه الجديده" فى اغلمؤتمر كما وعد أ.أحمد مجاهد قبلا




تقديم

تقوم هذه الورقة البحثية بدراسة مركزية السارد وحضوره، والفضاء النصي الذي يحتله من خلال الآلياتِ السردية التي يستخدمها، وتجعل صوته مسيطرًا علي السرد، وُتمَحوره حول ذاته واهتماماته، وترصد العلاقة بين حضور هذا الصوت وبين المؤلف الحقيقي، وذلك في ثلاثة نماذج تنتمي إلي الكتابة الروائية للروائيين الجدد الذين أخذت أعمالهم تنتشر في مصر منذ حقبة التسعينيات من القرن الماضي .

وتدرس هذه العلاقة من منطلق فرض يري أنه ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في الكتابة الروائية الجديدة، وأن هذا التماهي بوصفه علاقة بين طرفين: مجازي ( السارد ) وحقيقي ( المؤلف )، يدفع إلي رؤية السارد بوصفه صوتـًا فنيـًّا للمؤلف. وهذه العلاقة مشروطة بتصور أن النص الروائي الجديد ( الذي يصلنا من خلال صوت السارد، وهو ذات مجازية متخيلة ) لا يمثل المؤلف ـ وكذلك ما يتصل به من خبرات حياتية، و وقائع حقيقية، وأشياء موجودة في عالمه الحقيقي الخارجي ـ إلا بشروط خطابه الأدبي. و أول هذه الشروط إعادة بناء ما هو واقعي أو حقيقي، ليصبح علامة نصية مجازية لها قوة الحقيقي أو الواقعي. ومن ثم يصبح النص الروائي الجديد بخطابه الأدبي هو مصدر التعرف علي السارد/ المؤلف الذي صار علامة أو عنصرًا نصيـًّا، ومع هذه الصيرورة تنتفي الإحالة إلي السيرة الذاتية للمؤلف أو العالم الخارجي.

لنر ذلك من خلال النصوص.

التجريب واللعب ومحاكاة الذات في "الخوف يأكل الروح"

"الخوف يأكل الروح" رواية قصيرة، واضحة القصر، مقسمة إلي ثلاثة أقسام، في كل قسم يروي السارد حكاية عن شخصية أو شخصياتٍ، لا تحضر في القسمين الآخرين. الحاضر في كل أقسام الرواية، والقابض علي عملية السرد، هو مصطفي ذكري الذي يهيمن صوته، فيحكي، وينقل كلام الآخرين، ويشرح، ويعلق، ويعقب. مصطفي ذكري هو السارد وليس المؤلف الحقيقي كما سيتبادر إلي الذهن، فهذا اسم السارد الذي ورد في مفتتح الرواية علي لسان جورج المزيف ـ الزوجة التي كانت تقلد صوته ـ وهو يدعو صديقه للحضور:

"مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف». (ص12)

و ُذكر كاملا ً ـ في القسم الثاني ـ علي لسان السارد نفسه في سياق كلامه عن "الرسائل" التي كتبها لصديقة التليفون:

" تعليق علي الخطاب الثاني عشر المفقود، ويضاف في هذا الخطاب لسان آخر إلي ألسنة الباب الخارجي لبيت مصطفي ذكري». (ص42)

السارد مصطفي يضعنا أمام ظاهرتين متداخلتين: وجود سارد مسيطر علي عملية السرد، وتماهيه مع المؤلف الحقيقي. سيطرة السارد تحقق من خلال بعض الأساليب السردية والمهارات الكتابية التي تجعله مسيطرًا علي عملية السرد وحسب، وُتمَحورها حول ذاته واهتماماته. وهناك أسلوب بعينه يعتمد عليه سارد "الخوف يأكل الروح"، هو التوليد الذي ينتج تكرارًا، ويمكن القول إننا أمام سارد مولع بتوليد حكايات وأفكار، تتحول بفعل التوليد المستمر إلي مجموعة من التفاصيل، هذه التفاصيل تمثل الواقع وما هو موجود بالنسبة للسارد.

في الاستهلال أو مفتتح القسم الأول يقدم السارد أصدقاءه جورج وزوجته نانا، فيبدأ بتقديم ما تتميز به نانا من "سمات خفية فوق طبيعية». (ص7)، ثم جورج الفنان التشكيلي الكلاسيكي الذي يشبه زوجته، ويمتلك كلبًا يجمع بينه وبين صاحبه عرج خفيف في الساق اليمني لكليهما. هنا يشرع السارد في سرد أفكاره حول " تزامن العرج في الكلب وصاحبه». (ص9)، ثم يحكي قصة إصابة الكلب بالعاهة علي يد صاحبه. حيلة استغل فيها جورج طبيبين بيطريين، يكسر جورج ساق كلبه اليمني، ويحضر طبيبًا لوضع جبيرة، وبعد مضي نصف المدة يستدعي طبيبًا آخر لفكها، لتدوم عاهته أبدية "كما دامت عاهة صاحبه». (ص9)، ثم يرفع دعوي ضد الطبيب الثاني بتهمة فك الجبيرة في نصف المدة، فتحكم المحكمة "بسحب رخصة العيادة منه لكونه تسبب في عاهة مستديمة لكلب مرخص». (ص9). تنشر الحادثة تندرًا في صحيفة يسارية، ويقرأها الطبيب الأول وكان علي شيء من الثقافة، فيكتب تعليقا إلي الصحيفة ـ يلخص السارد مضمونه ـ استشهد فيه بمشهد في فيلم قديم بعنوان رجل وامرأة، يظهر فيه الرجل وكلبه وهما يغمزان في مشيتهما الغمزة نفسها، وبعد الاستشهاد يقص قصته مع جورج وكلبه توني، و" يتهم جورج بالوحشية والجنون وعدوي الواقع بالفن، ليبرئ ساحة زميله، لكن مع الأسف أخذ التعليق مأخذ الطرافة، ولم يتحرك أحد». (ص10)

التوليد يبدو واضحًا، فمن تزامن العرج يتولد سؤال السارد، ومن السؤال يتولد تفسير محتمل لإصابة جورج، ومنه تتولد قصة السبب المؤكد لإصابة الكلب، ومنها تتولد قصة القضية، وتحولها إلي خبر صحفي طريف، ومقال الطبيب الأول، ثم التعليق الختامي للسارد. وهناك ظاهرتان مهمتان: الأولي التفاصيل التي تتصل بقصة عرج توني نتيجة التوليد، والثانية وجود طرفين ينهض عليهما ما يقصه السارد : فكرة جادة ومثيرة للانتباه، وفكرة أو شيء هامشي أو تفصيلة صغيرة بعيدة عن الانتباه، يبدأ السارد في التركيز عليها، فيزداد حضورها، وتتصدر المشهد. فقد تحول السارد تدريجيا عن تقديم شخصية جورج وعرجه إلي عرج الكلب، و أزاح الشخصية الإنسانية عن مركزها الذي حظيت به في السرد الكلاسيكي، وجعل هويتها وملامحها مرتبطة بدخولها في علاقة مع العنصر الهامشي الآخر، فعرج الكلب يحدد الطبيعة النفسية المضطربة لشخصية جورج. وبعد أن يقدم لنا السارد جورج ونانا يأتيه صوت جورج لجوجًا عبر الهاتف، يطلب منه الحضور:

" مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف. أعرف جورج ونانا منذ عشر سنوات، لكنني لا أشاهدهما كثيرًا لكثرة العمل. قال أريـد أن أراك، هناك أشياء حـدثت يجب أن تعرفها، ثم قال بصوت مشروخ، توني مات، يجب أن تحضر.طلبت منه أن يهدأ حتي أعرف لماذا يريد مني الحضور بهذه الطريقة المفاجئة لاسيما والليل يتقدم ويوغل في شتاء بارد،لكنه لم يقل غـير نبـأ موت كلبه توني .. وضعت سماعة الهـاتف، وشرعت فـي ارتداء ملابسي، وانطلقـت مسرعًا إلي حي جاردن سيتي،كان البيت من طابقين علي الطراز القديم.. البيت في شارع هـادئ جدًا.تذكرت توني، لطالما قام جورج مع كلبه العزيز بتمشية الصباح في هذا الشارع الهادئ .... هل كان انزعاج جورج لموت كلبه يصل إلي هذا الحد؟ ثم ماذا عن زوجته؟هل أصابها سوء لموت توني؟.

علي الدرجات القـليلة التي تؤدي إلي الباب الخارجي الكبير المصنوع مـن حديد أسود مشغول، وخلفه زجاج إنجليزي سميك مضلع ـ وجدت فأرًا سمينًا بليدًا منتخفا بصورة مرعبة،يحاول هبوط الدرجات من منتصفها.كان حريا به أن يهبط الدرجات عند أقصي جوانبها لأنه يعترض طريقي.نعم كان كبير الحجم لكن هـذا ليس سلوك فأر. كان لونه يضرب إلي الرمادي القاتم المشوب بلون ترابي أغـبر وكالح. وكانت حركته بطيئة جدًا، بل كانت حركة بائسة كريهة. كانت درجات السلم عالية علي وزنه الثقيل، لذا كان عند كل درجة يتوقف قليلا، ويحاذر الهبوط الذي يأتي في النهاية ارتطامًا ووقوعًا علي فمه.حركته تفتقر بشكل مريع معني الرشاقة.توقف عند قدمي بغباء عنيد، وأبعد ما يكون عن معني الجرأة وكأنه يريد مني أن أفسح له الطريق هكذا بلا مبالاة وخمول يبعث الرهبة في النفس.

كان فـمه وأنفـه ملطخـين بدم متخـثر جاف من أثر اندلاقه علي بوزه أثناء هبوطه درجات السلم..... وكان الاشمئزاز يرتفع في داخلي كرغبة في القيء. لكن شروعه في متابعة هبـوط درجات السلم بحركته البطيئة البائسة ـ فـور زوال العـواقـب والحـواجـز من طريقـه ـ دغدغ شيئـًا ما في أعماقي السحيقة.

شيئًا وجوديا.كأنني أشعر بذنب لا خلاص منه لاحتقار هذا الكائن منذ لحظات.

إنه الآن يتابع طريقه و يستأنف سيره غاسلا شعوري بالاشمئزاز نحوه. إنني الآن و أنا أنظر إلي مؤخرته و ذيله السميك واندلاقه المأساوي علي درجات السلم و افتـقاده لليسر ودأبه علي العـسر ـ أحترم كـينونة مجهولة ومتباعـدة ومغرقة في بيوريتانيتها، أحترمها و أقدرها و أطمئن إليها. لكن بعـد كل هـذا أليـس هناك انقـباض في صدري مفاده أن أري هذا الفأر السمـين المتـخم بوجوديته الغامضة ـ قبل رؤية الصديقين العزيزين جورج ونانا؟». (ص 12، 13، 14).

مفاجأة المكالمة، ونبرة صوت جورج وإلحاحه، وتوقيت المكالمة، ومنولوج السارد المنفعل تقول إنه لدينا حدث جاد ومثير، لكن السارد يتحول من الحدث الجاد محطمًا توقعنا إلي حدث آخر هامشي ـ يفترض ألا يثير انتباهه وهو في هذه الحال الانفعالية ـ وهو هبوط فأر ضخم للدرج. شيئـًا فشيئـًا يدفع بالفأر إلي الصدارة، فيبدو علي القدر نفسه من أهمية الحدث الجاد. ويأخذ السارد في وصفه بدقة متناهية، ويسرد تفاصيل تحيل هبوط الفأر للدرج إلي حادث مثير، أثار مشاعر و أفكارًا داخل وعي السارد، انتهت بربطه بالحدث المثير الأول الذي جاء من أجله، وهو مقابلة نانا وجورج، ويحدس بأمر غير سار.

هذا الأسلوب السردي يكشف أمرين، الأول انشغال السارد في التفاصيل انشغالا يكشف عن لحظة عبثية نادرة، لحظة لعب. فالشيء الهامشي التافه ( مثل فأر ) يأخذ منه مجهودًا في القول مقارنة بالحدث الجاد(1). لكن السارد الذي يمتلك رؤية جمالية خاصة لا يراها كذلك، يراها ذاتا موجودة، ربما كان وجودها غامضا، لكنه وجود طاغ ٍ، له حضوره الآني في ذاته ( لاحظ قول السارد ضغط السارد علي ذاته والظرف "إنني الآن" في مواجهة هذا الوجود )، وفوق ذلك هو وجود مؤثر، أثر في السارد. والثاني أن الهامشي هذا "الموجود الآن" لم يعد عارضًا، إنه مرتبط بما يبدو أنه جوهري، هذه رؤية السارد التي دفعته إلي ربط رؤية الفأر برؤية الصديقين.

وبالطريقة عينها يقوم بالسرد في القسم الثاني الذي وظفت فيه عناصر من سيرة المؤلف الذاتية، فهو يستهله بالحديث عن باب البيت الخارجي غير المغلق بإحكام دائمًا، والشعور بفقدان الأمان الذي أصابه نتيجة لذلك، ودفعه إلي الجلوس أمام الباب ليؤمن نفسه. ويقع البيت في شارع خسرو باشا، ومن موقعه أمام الباب الخارجي يمكنه أن يري أي شخص "يحاول الدخول إلي حرمة البيت"(ص31). ويولد من ذلك حكاية "سعدية المجنونة" التي كان يراها من موقعه، وحكاية شارع خسرو باشا مع البلدية، ثم حكاية أفراد أسرته، وذكريات طفولته، والخوف المتأصل في نفسه الذي يتولد عنه حكايته مع صديقة التليفون المجهولة التي تتصل به، والمكالمات والرسائل المتبادلة ومضمونها. و دومًا يولد أفكارًا تخصه، فمن مضمون الرسائل تتولد فكرة "القبح"، فيناقشها من خلال علاقته بشعوره بالخوف، وتولد فكرة القبح مسائل تتعلق بالصلة بين الكتابة والقبح، مثل استخدام الأسلوب الساخر والجاد، أو المتفلسف والتقريري المباشر في قول الأشياء. ومع نهاية الفصل ( المضني علي قصره) يصبح السرد مجموعة من التفاصيل الصغيرة لذوات غالباً مهمشة (سعدية المجنونة، وأفراد أسرته العاديين، والسارد نفسه الذي يكتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية ).

هذه التفاصيل تدخلنا في دوامة مرهقة ـ أحيانًا ـ من التلقي، وتكشف عن وجود ذات ساردة منغمسة في وجودها الفردي وزمنها الخاص، ذات تهتم بالأشياء الهامشية والصغيرة، لا لشيء إلا لتصور وجودها وطغيان إحساس السارد بهذا الوجود. ومقابل ذلك لم تعد فيه الجماعة ولا قضايا الوطن الكبري السياسية والاجتماعية والتاريخية محط اهتمامها، ومن ثم تصبح طريقة التوليد والحرص علي التفاصيل طريقة كتابة، و تفكير، و رؤية للعالم. نعم، طريقة كتابة تكشف عن قناعات المؤلف الجمالية وكيف يري العالم من خلالها، هذه القناعات تظهر من خلال مصطفي ذكري السارد المتخيل و الصوت الفني لمصطفي ذكري الحقيقي.

وتؤكد أعمال مصطفي ذكري المؤلف أن التوليد والانشغال بالتفاصيل وبالهامشي إستراتيجية كتابة، فقد أقام نصه "تدريبات علي الجملة الاعتراضية" علي الجملة الاعتراضية، وهي محدودة الاستخدام، وينظر إليها علي أنها جملة فرعية، فقلب مصطفي ذكري التراتب الشائع عنها في البلاغة والكتابة العربيين، وحولها إلي أصل، إلي جملة أساسية، لكن هذا القلب تحقق بواسطة كتابة تبدو للنظرة الأولي مهارة أو لعبا شكليا . أما دال "المتاهة" الوارد في عنوان نصه "هراء متاهة قوطية"، فيصف طريقة التوليد للأفكار والحكايات التي ترهق القارئ، وتشعره أنه يسير في متاهة تدوخه، وهي طريقة واضحة بقوة في سرد القسم الثاني من "الخوف يأكل الروح". وفي "مرآة 202" يعتمد سرد البطل عماد علي التوليد والتكرار. ومن ثم فنحن أمام كتابة روائية مختلفة عن الكتابات التي تسبقها، خاصة كتابات نجيب محفوظ، والكتاب الذين عرفوا بجيل الستينيات، ولا يزالون يكتبون، مثل: محمد جبريل، وجمال الغيطاني، وإبراهيم عبد المجيد.

الصلات بين"الخوف يأكل الروح" ونصوص المؤلف الأخري خاصة "مرآة 202"، تكشف لنا عن تقنية أو مهارة كتابية أثيرة لدي السارد، تجعله حاضرًا ـ لحظة القراءة ـ في سياقات السرد المختلفة، وهي اختلاف الضمائر الذي يمنح صوت السارد تنوعًا، وتجعلنا نراه بضمائر مختلفة، في المقطع السردي الواحد. ويعتمد السارد في هذه التقنية علي لعبة الغموض والوضوح التي تمنح حضور السارد ثراء أكثر، فهناك مقاطع سردية في القسمين الثاني والثالث تبدو غامضة في سياق ضمير الغائب، تعقبها مقاطع بضمير المُتكلم تزيل غموضها، وتدفعنا إلي العودة لرؤية ما كان غامضًا مرة أخري. وهذه اللعبة أوضح ما تكون في المقاطع التي يتكلم فيها السارد عن الخطابات التي تبادلها مع صديقة التليفون.

"الخطاب الثالث عشر. قالت امرأة قبيحـة بعد ثرثرة مرحة ـ لرجل قبيـح وبلهجة جادة هل أنا قبيحـة ؟ أجاب الرجل بلهجة لا تقـل في وجومها عـن لهجة المرأة ـ بصيغة سؤال .كان سؤال هو نفس السؤال الذي سألته، هل أنا قبيح؟ أجابت المرأة باستغراب وقالت أنت رجل... (ص42)

كـثرت نساء الرجل القبيح بعـدد لا نهائي ومع الكثرة أتقـن الرجل تفاصيـل دقيقة عن المرأة القبيحـة التي قطـع علاقته بها إلي الأبد منـذ أن قالت له أنت رجل. تلك الشجاعة التي جعلته مثـل دون جـوان. إنه كلب وفي حمل في عقـله وقلبه فضل المرأة القبيحة التي دفعتـه إلي عالم النساء. قالت إن لك يـدًا غليظة ثقيلة حين مسكتُ يدها، لم أقصد أن أكون ثقيلا غليظا وأنا أمسك معصمها... (ص43)

فالغموض الذي يلف سياق ضمير الغائب علي امتداده السردي يزول مع التحول إلي ضمير المتكلم الذي يخص السارد وحده في النص. ولكن لماذا الإشارة إلي المقاطع السردية الخاصة بالرسائل تحديدًا ؟. لسببين: الأول أن هذه المقاطع تحولت إلي مجال لمهارات كتابة ذات طابع تقني صرف، واختلاف الضمائر لعائد واحد هو مهارة تقنية من تلك المهارات. والثاني أنها إحدي الوسائل التي تصنع منطقة يتماهي فيها السارد مع المؤلف، وذلك من خلال المزج بين أحداث القصة كما يحكيها السارد وبين هموم الكتابة المهنية البحتة التي تخص المؤلف الحقيقي، والتي يفترض ألا ُتعرض داخل الحكاية. المهارات التقنية الصرف بدورها تعبير عن هذه الهموم، عن هوس كتابة تجرب بطريقة مختلفة، ولهذا ترد إشارات ـ في هذا السياق تحديدًا، سياق فكرة القبح التي ولدها السارد من مضمون الرسالة الثالثة عشرة ـ إلي نصوص للمؤلف الحقيقي، يمكن وصفها بأنها نصوص تجريبية تعبر عن هموم الكتابة :

" علي سبيل المثال لا الحصر، فأنا قد تحدثت في وقت مضي عن القبح بشكل مجرد، وكانت مناسبة الحديث هي إحدي القصص التي تحمل عـنوان"حديث الصورة" و كانت القصة ضمن كتاب صغـير بعـنوان " تدريبات علي الجملة الاعتراضية". كان حـديثي في " حديث الصورة " موجهًا بشكل مباشر إلي القارئ........ لكن ما إن بدأت الكتابة حتي هاجمتني أسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف. (ص44)

"تدريبات علي الجملة الاعتراضية" ـ كما أشرنا سلفا ـ نص لمصطفي ذكري الحقيقي، إذن لدينا اسم المؤلف الحقيقي، ونص من نصوصه، يضاف إلي ذلك عناصر من سيرته الذاتية : الحي السكني، والبيت، وأفراد الأسرة. وهناك تأثير هذا البيت علي التصورات الجمالية التي تشكل كتابة "الخوف يأكل الروح"، وقبلها "تدريبات علي الجملة الاعتراضية" :

" كان قـدري في هذا البيـت أن أري بشكل أبدي كل الأفعال البسيطة وهي تؤدي بدقة متناهية وكأنها تؤكد روحًا أخري وراء جديتها، روحًا عبثية يقع تحت تأثيرها كل من يراقبها». (ص30)

السارد يتكلم عن أسرته من موقع المراقب لما يؤدونه ـ خاصة الأب ـ من أعمال بسيطة ( فهم أفراد عاديون تمامًا )، وها هو ذا قد وقع تحت تأثير روحهم ( لنلاحظ إشارة السارد إلي القدر)، فظهر في كتابته. هنا يحدث التباس بين المصطفيين السارد ( المتخيل) والمؤلف ( الحقيقي )، قد يفضي إلي إقامة علاقة تطابق، والنظر إلي الصوت المتكلم علي أنه صوت المؤلف الحقيقي. لكن يجب ألا تخدعنا عناصر السيرة الذاتية وبعض التجارب الشخصية، خاصة وهي ترد في سياق ضمير المتكلم الذي نبني عليه دائمًا ـ في هذا النوع من الكتابة ـ وهم التطابق.

المسألة كلها تتعلق بـ"هموم الكتابة"، وبأسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف دفعت إلي توظيف هذه العناصر، وهو ما يجعلنا أمام كتابة أشبه بمحاكاة الذات، يحاكي المؤلف ذاته من خلال السارد. وإضافة بعض عناصر من السيرة الذاتية والتجارب الشخصية ذريعة مصطنعة لكتابة تجرب، وتعتمد علي لعب ومهارات محاكاة الذات مهارة منها. وإذا ما تذكرنا أن السارد كاتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية، فسندرك أنه واقع تحت تأثير هوس المهنة، مهنة الكتابة.

تجربة المؤلفــة) وتجربة السارد(ة) في " دنيازاد

" العلاقة بين المؤلف والسارد في نص مي التلمساني " دنيازاد " أكثر تعقيدًا منها في "الخوف يأكل الروح"، وتنشأ عنها مشكلة ترتبط بنوع النص لا نصادفها في نص مصطفي ذكري. فطبقـًا لتصريح المؤلفة الحقيقية، فإن روايتها " دنيازاد " تحكي تجربة شخصية، تجربة ولادة طفلتها دنيازاد وموتها. لكن الاكتفاء بهذا الوصف غير دقيق؛ لأن النص يجعل من حدث الولادة نقطة انطلاق لسرد تجارب وخبرات أخري. فالسرد يبدأ بحادثة موت " دنيازاد" في سياق ضمير المتكلم للساردة:

"جاءت دنيازاد إلي الغرفة 401 للمرة الأولي والأخيرة تودعني في

أكفانها البيضاء». ( ص7)

لكن سرعان ما يتحول هذا الحدث إلي مثير لأحداث أخري ترويها الساردة، وتؤدي فيها الذاكرة دورًا أساسيا : الزواج، ليلة الزفاف في بيت أسرة الزوج، الحمل، المخاض وآلامه، الجراحة، موت المولود، الدفن، بشائر حمل جديد). وفي سياق القص تستدعي أحداث منتقاة بعناية ذات صلة بأزمة الفقد : جانب من طفولة الساردة وتكوينها الثقافي، وبيع البيت، واستقالة الساردة من عملها. ويمزج السرد هذه الأحداث الخارجية بأفعال الوعي الداخلي ونشاطه: تخيل الساردة لمراحل نمو دنيازاد، والمشاعر ـ خاصة المخاوف والأحزان ـ والأفكار المقترنة بها، وهناك من جانب الساردة تتبع لحالتها الانفعالية، وتطورها الداخلي بعد موت دنيازاد، وتأثيرها علي علاقاتها، وهو ما يظهر بوضوح في نهاية الرواية بعنوانها الدال " نقطة تحول"، وهو فصل يلخص ويضيف :

" بعد مضي شهور، كنت قد كتبت كتابًا جـديدًا وقدمت استقالتي و خاصمت عـددًا من صديقاتي و شربت السيجارة السادسة في حياتي و قررت أن أنجـب طفـلا ً ثالثا يتحـرك الآن في جـوفي . كما أنني تشاجرت لأسباب تافهة وكـدت أصدم رجلا بسيارتي...ثم إنني شاركت زوجي بيع بيـت العائلة وشاركـت شهاب الدين تجربة الحب الأول...لكني أعربت عن سأمي من البواب الجديد الذي لا يغسل السيارة جيدًا ومن الخادمة الجديدة التي تكسر صنبور الماء...ومن أم زوجي التي تكثر السؤال عن تفاصيل كل شيء... أتابع في حرص سريان الدماء المنتفضة علي جانبي الجبين وأتخيل أني مصابة بلوكيميا (هل يسري المرض الآن في نطفة هذا الطفل الثالث الذي أنتظره حقا دون حماس كبير؟ ماذا لو أصبت حقا بلوكيميا؟). صرت الآن أثير غضب زوجي.ترك المنزل ليلتين وعاد.أعطاني خطابا طويلا. قرأته وبكيت في رقة الهواء.لازلت إذن أشعر بمشاعر طيبة تجاه الأشياء.... أشعر بالخوف...». (ص82،81)

يظهر من سياق السرد، في المقتبس، ولغته حضورًا كثيفـًا للذات الساردة ومعاناتها: ضمير المتكلم والمنولوج، والتصريح بعمليات شعورية متميزة، والحس الرومانسي الذي يطل من الخوف من فقدان المشاعر الطيبة، ومن الحرص علي إظهار أحاسيس معينة بالرغم من الحالة الانفعالية السلبية التي تمر بها الساردة ( الإحساس بـ"رقة الهواء" ). وفي المقتبس تروي الساردة أحداثا تلخصها بلغة موجزة ومكثفة، وهي أحداثا واقعية، يعتمد بعض الباحثين علي واقعيتها، فيصفون النص بأنه "رواية سيرة ذاتية"، وهو مصطلح مركب يدل علي أن النص مركب من شكل الرواية وبعض خصائص السيرة الذاتية، ولهذا علاقة بمسألة حضور السارد وتماهيه مع المؤلف.

من الواضح أننا أمام نموذج روائي يرتبط فيه حضور السارد، وتماهيه مع المؤلف ـ بشكل أساسي ـ بالصيغة الأدبية، الصيغة الأدبية بمعني ضيق يقتصر علي الدلالة علي الموضوع وليس علي الشكل أو تقنيات السرد(2). فموضوع السرد، تجربة ذات بُعد سير- ذاتي لمؤلفة لها وجود تاريخي متعين، وهذه التجربة السير- ذاتية ترويها ساردة ـ في المقاطع الخاصة بها ـ بضمير المتكلم. إذن عبر ضمير المتكلم يمثل صوت ساردة متخيلة، وعبر موضوع سردها تمثل مؤلفة حقيقية . وهناك عناصر أخري بجانب الصيغة الأدبية (التجربة الشخصية المروية ) دفعت بعض الباحثين إلي المطابقة بين الساردة والكاتبة، وتبني معادلة ( السارد = المؤلف ): فهما امرأتان شابتان، حرفتهما الكتابة الإبداعية، ولهما التكوين الثقافي نفسه(3). ومثلما ُيستخدم مصطلح نوعي مركب ( رواية سير ذاتية ) لتحديد الشكل السردي لـ " دنيازاد "، يستخدم مصطلح مركب (الراوية الكاتبة ) لتحديد نمط الصوت السردي الأنثوي، وهو مصطلح يدل علي تطابق الشخصين المتخيل والحقيقي. ويعزز التطابق علامات أخري، يتم التعامل معها علي أنها علامات تشير إلي مرجع خارج النص، منها الإهداء، والتصريح باسم الزوج ( وليد)، والمكان الحقيقي متمثلا في الحي السكني، والإشارة إلي نصوص للمؤلفة، مثل " نحت متكرر".

وبناء علي ذلك يعتمد توصيف الشكل السردي ونمط الساردة في " دنيازاد "علي وجود مرجع خارجي، ومعرفة بالسيرة الذاتية للمؤلف(ـة)، وهذه المعالجة ربما تكون مقبولة لأغراض الدراسة العلمية، لكنها تنتج مشكلات عند النظر إلي النص من زاوية العلاقة بين المؤلف والسارد، هذه المشكلات تخص تشكيل النص، ونوعه، وتلقي القراء الذين يشكل مصطلح تحديد النوع أفق توقعاتهم. فنوع النص محدد بمصطلح " رواية"، ويغيب من الغلاف أية علامة تشير إلي " العقد السير- ذاتي"، علي غرار ما نجد في نص نعمات البحيري "يوميات امرأة مشعة"، فبالرغم من تحديد نوعه بمصطلح "رواية" فإن العنوان يتضمن مصطلح " يوميات"، ومن ثم يتحدد شكل النص وخصائصه من تفاعل المصطلحين معًا، ونصبح إزاء "رواية سيرية" دون حاجة إلي مرجع خارجي. والقراء الذين لا يعرفون شيئـًا عن سيرة المؤلفـة الحقيقيـة سيتلقـون النص بوصفه رواية، أي نصًّا يقدم حدثا متخيلا لشخص متخيل، وسوف يتعاملون مع الشخصيات والعلامات الأخري (مثل الأسماء والأماكن والوقائع) علي أنها علامات خيالية، لا مرجع لها في العالم خارج النص.

الصوت السردي وبنية الزمن لهما دور في هدم وهم التطابق، فالساردة لا تروي الأحداث بمفردها، هناك صوت آخر، صوت الزوج الذي يكاد يقتسم وظيفة السارد مع صوت الزوجة الساردة، أقول يكاد لأن حضوره أو المساحة التي يشغلها ـ إذا ما وضعنا في اهتمامنا الشكل الطباعي المختلف للمقاطع التي يرويها الزوج ـ يتضاءل تدريجيا أمام حضور صوت الساردة والمساحة التي يشغلها، كلما تقدمنا نحو نهاية الرواية. وهناك علة واضحة لإدخال صوت الزوج ـ غير التفسير الذي تربطه بتكامل منظوري النوع الإنساني للحياة ـ وهو اكتمال الحدث.

فالزوج يروي بضمير المتكلم الأحداث التي لم تعاينها الساردة بنفسها، وغابت عنها : ما حدث في غرفة العمليات ولحظة الخروج منها، وخبر موت الطفلة وإخفاءه عن الزوجة/الساردة، ونتيجة التقرير الطبي، وطريقة إخبار الزوجة، وإعداد المقبرة، كما يروي ـ بوصفه شريكا للساردة في فاجعة موت دنيازاد ـ مشاعره وأفكاره الباطنية تجاه الحدث، وكأن الكاتبة تريد للساردة أن تكون من ذلك النوع الذي يظهر موضوعيا، فلا يروي إلا ما كان شاهدًا عليه.

وينظم السرد الأحداث وفقـًا لنظام زمني أدبي معقد نوعًا ما، بالرغم من البساطة التي يبدو عليها النص. فتروي الأحداث بطريقة غير منتظمة يتداخل فيها الماضي والحاضر، وهي سمة لخطاب الساردة بوصفها صاحبة اليد الطولي في السرد، إذ يمكن وصف خطابها السردي بأنه خطاب زمني صريح، بمعني أن الحس بالزمن يطبعه بقوة، ويظهر ذلك من خلال تواتر علامات زمنية تحدد زمنًا معينا، أو تشير إليه إشارة غير متعينة. سنأخذ العنوان الأول " سلة ورد " نموذجًا، فهو يبدأ علي لسان الساردة بلحظة ما بعد الولادة (الموت)، ثم تستعاد لحظة الحمل والإعداد لاستقبال المولود، ثم الدفن، ثم الخروج من المشفي والعودة إلي البيت. عند هذه النقطة الزمنية يتحول ما كان حاضرًا إلي ماض، تصبح دنيازاد ماض يستعاد مع لحظة الحاضر التي ترصد فيها المشاعر والوضع الذي آلت إليه الحياة بعدها، ومنذ تلك اللحظة تكثر أفعال الاستعادة والتذكر، وتتداخل الإشارات الزمنية للماضي والحاضر:

"كثيرًا ما كنت أشعر أننا أربعة أفراد في الأسرة فلا أجد غير ثلاثتنا منذ تسعة أشهر، كنت أعـد العدة لاستقبال هذا الكائن الرابع الذي نما بداخلي، بتفاصيله اليومية.

اليوم أفتقده وأستعيد حياتي بصورتها الأولي.عاد جسدي إلي سيرته الأولي. وعاد كل شيء إلي نقطة البدء». ( ص24)

هذا المقتبس مجرد نموذج لخطاب ذي طبيعة زمنية في الرواية، خطاب تشيع فيه الدوال الزمنية المحددة بشكل واضح. وعندما نقول إن تجربة ولادة دنيازاد وموتها نقطة انطلاق لاستعادة شطر من الحياة: ذكريات من الطفولة، والزواج، وبيع البيت، والحمل، والولادة والموت، وأن هذه الأحداث تنسب إلي المؤلفة الموجودة في العالم خارج النص، فإن هذه الأحداث كتبت بشروط أدبية النص الروائي، وأول هذه الشروط الانحراف الزمني الذي يشتهر به السرد القصصي عمومًا. فالساردة تتعامل مع الزمن بوصفه خبرة فردية تعيش في ذاكرتها ووعيها، بوصفه وهو ما مكنها من إعادة ترتيبه، واختيار لحظاته وما يرتبط بها من أحداث خارجية وداخلية، متحررة من قيوده التي يرتبط بها وقوع الأحداث في العالم خارج النص الأدبي. باختصار، صنعت الذات الساردة زمنها الخاص الذي يضفر الحاضر مع الماضي، وجاء خطابها مجسدًا لهذا الزمن، وهذا الخطاب الروائي بأدبيته الزمنية ـ لو جاز هذا الوصف ـ يعلق علاقة التطابق بين المؤلفة والساردة التي باتت تحيا زمنًا مختلفـًا، فالأحداث التي تسردها ( وينظر إليها علي أنها تجربة شخصية أو سيرة ذاتية ) تقع في الزمن، والزمن يعاد تشكيله، ومن ثم يعاد تشكيل ما يقع فيه، فيغدو متخيلا، يجمع بين الأصل والتحول. ويجب أن نضيف أن التحول يحدث بواسطة الكتابة، وأن الكتابة أصبحت أصلا ً، فحدث موت دنيازاد انتهي، لم يعد له وجود إلا في الذاكرة، أو الوعي الذي ربطه بأحداث الحياة الشخصية الأخري، وهنا تطرح الكتابة نفسها علي الساردة ( لأنها من نوع الرواة الذين يكتبون الأدب) بوصفها وسيلة لإبقاء ما يتهدده الزوال والفناء.

وفي هذا السياق نشير ـ من خلال كلام الساردة ـ إلي نقطتين: الأولي أن إعادة تشكيل الزمن في كتابتها ليست سوي تجسيد لعملية إعادة إنتاج للأحداث داخل الوعي :

"كان عقلي يعمل بانتظام.تعود الصور الواحدة تلو الأخري، وتحتل مساحات متباينة من رأسي.أعيد إنتاج الأحداث وأسأله عمن يعرفون». (ص22)

والثانية أن هذه العملية اقترنت برغبة في إعادة تشكيل العالم، واستعادة الذات التي ظهر للساردة من استعادة الأحداث، وإعادة إنتاجها أنها لا تعرفها بعد :

" أستعيد لحظات الألم الأولي، كالمحارات.وأكتشف أني نسيت طعم وشكل ورائحة الألم. لم تبق لدي سوي تلك الرغبة في إعادة تشكيل العالم، وفقـًا لقانون الغياب.

عدت إلي زوجي وابني الوحيد وبيتي الوحيد وبعض أصدقائي، ولم أجد بعد نفسي التي تصورت أني أعرفها» . (ص 24،23)

كتابة " دنيازاد " استجابة لتلك الرغبة، فقد أعادت الساردة فيها تشكيل العالم وفقـًا لغياب دنيازاد، فتقلب الغياب إلي حضور، والموت إلي حياة، غير أنهما حضور وحياة مجازيان ليسا مثل الحياة الحقيقية التي تروي في السير الذاتية. ويهدي النص المكتوب دون أن تمهره المؤلفة باسمها، ويجمع بين كونه إهداءً حقيقيا ("إلي شهاب الدين") ومجازيا ( " ووجه دنيازاد " ) في آن واحد.الإهداء المجازي موجه إلي "وجه" دنيازاد، لماذا المجاز المرسل؟ لأن الوجه هو أول وآخر ما طالع الساردة من دنيازاد، ومن ثم مَثـُل في الذاكرة مقترنًا بها وبكل ما ارتبط بها من مشاعر وآلام وتصور للحياة قبل الولادة (كان تصور الساردة للحياة مرتبطا بوجود أربعة أفراد) وبعدها. الرغبة في تصوير الحياة قبل الولادة وبعدها ـ وليس كتابة سيرة ذاتية بأسلوب روائي ـ هو هدف الكتابة، وحدث الولادة والموت محرك لهذه الرغبة، ووقود للكتابة الروائية التي لا تعبأ إلا بنفسها وبما تريد قوله بقطع النظر عن الصيغة الأدبية أو الموضوع الذي ستعيد تشكليه ليقول ما تريده الكتابة، وما نقوله يرتبط بالحمولة التراثية لاسم دنيازاد الُمتخَذ عنوانًا للرواية.

دنيازاد شقيقة شهرزاد صاحبة فكرة قص حكايات للملك شهريار، لإعادة تأهيله نفسيا، وتغيير تصوراته عن الحياة وعن المرأة، وهو ما يحدث عندما تنتهي شهرزاد من قص حكاياتها. والساردة تدرك ـ بحكم أنها في النص كاتبة ـ دور دنيازاد في إنقاذ حيوات من الموت بالحكي، وكتابتها هي الحيلة نفسها، فهي تلعب دور دنيازاد وتنقذ الابنة من الموت من خلال الكتابة السردية. إذن ليست الساردة هي المؤلفة الحقيقية، الساردة شخصية نصية تماثل شخصية دنيازاد في نص ألف ليلة وليلة، ولا تماثل مي التلمساني في العالم خارج النص، ومن هذا المنظور، يعلق التناص علاقة التطابق، ونصبح أمام علاقة تماه أو تماس تؤسسها الصيغة الأدبية في النص.

إذن الطرح السابق لا ينفي وجود علاقة بين الساردة والمؤلفة الحقيقية، ففي الوقت الذي يقوض فيه وهم التطابق الذي نشأ بسبب الربط بين الصيغة الأدبية ووقائع خارجية غير نصية، يقيم علاقة نصية من نوع آخر. وكان الدافع وراء ذلك معالجة بعض المشكلات التي نشأت عن ذلك، مثل إدراج الرواية ضمن (الرواية -السير ذاتية)، وما ترتب عليه من تحديد نمط السارد بأنه ( الراوي الكاتب)، وتبني معادلة السارد هو المؤلف، وذلك كي نصل إلي المشكلة، بل المعضلة الأساسية التي لم نشر إليها حتي الآن، وهي إساءة القراءة ( الإساءة بمعني الخطأ ) التي تتأسس علي الخلط بين ما هو مجازي وما هو حقيقي، أو بين التجربة الواقعية والتجربة الفنية، وبالتبعية بين المؤلف الحقيقي والسارد، فتتعامل مع النص علي أنه نص حقيقي وليس أدبيا يخضع لشروط الخطاب الأدبي المجازي، وأنه يهدف إلي التعريض بفئةٍ أو كيان ٍ أو مؤسسةٍ ما، وقد تتحول تلك القراءة المسيئة إلي نوع من الإيذاء أو تتسبب فيه، وهو ما يظهر بوضوح في نص "فوق الحياة قليلا ً".

تماهي الحقيقي والمجازي في خطاب سارد " فوق الحياة قليلا ً"

" ليس فقط الشعراء والقصاص الذين يضطربون بين المجازي والحقيقي، القراء أيضـًا يؤرقهم هذا الاختراق». (ص109)

بهذه العبارة التي وردت في الفصل الخامس آخر فصول الرواية المعنون بـ " موضوع جانبي"، يصف السارد حالته، فسارد " فوق الحياة قليلا ً" قاص بصفتين: الأولي صفة الراوية، فهو قاص الرواية الذي يقص أحداثها بضمير المتكلم بوصفه مشاركًا فيها، والثانية صفة الكاتب، فمهنته كاتب قصص. وهو يسرد أحداثـًا ويخبر عن شخصيات بالصفتين معًا مما يضمن له حضورًا وهيمنة علي عملية السرد. لكن سرده يضطرب ـ كما يقول ـ أثناء ذلك بين ما هو مجازي وما هو حقيقي، مجسدًا ما يصفه بـ" العلاقة المربكة بين الحقيقي والمجازي"، وهو يدرك حالة الارتباك التي يعانيها، ويصرح بذلك الارتباك أثناء حديثه عن شخصية أبي الشمقمق قائلا ً:

" لقد تخيلت هذا الشاعر المتسول، بكرشه الضخم، وعباءة مهلهلة، وشعـر مهـوش يغـطي ملامحـه ،ورأس صلـعاء، وعـينين بيضاوين لا تخبرانك بشيء، وعصا كبيرة بشـكل مبالغ فيه جعلها لتأديب الأدباء، و قادني هذا التخيل إلي السخرية منه في صورة مناقضة فجعلته يبكي كبنت صغيرة محبة، ولست أدري أيهما الحقيقي وأيهما المجازي». (ص109)

بالطبع لم يعد السارد يدري الحقيقي من المجازي؛ لأنه قام بعملية إعادة صياغة لنموذج أبي الشمقمق، لم تستبعد الحقيقي لكنها حولته إلي نموذج أدبي. والسارد واع ٍ بما يفعل، فهو يصف عملية التحويل، ويصف "الصورة المناقضة" التي آل إليها النموذج الحقيقي بعد إعادة صياغته، وهي صورة ساخرة لا يمكن مطابقتها بالنموذج الحقيقي للشاعر الهجّاء، وفي الوقت نفسه لا يمكنها أن تستبعده.

وبتفصيل أكثر يمنحنا سارد " فوق الحياة قليلا ً" ما نكشف به سرده : مادته وكيفيته، فسرده يعتمد علي الاستعارة من الواقع الخارجي، استعارة شخصيات وأحداث وأشياء توصف بأنها حقيقية أو واقعية، لكنه يقوم بإعادة بنائها أو صياغتها صياغة جديدة تحولها ـ إذا ما استخدمنا تعبير السارد نفسه ـ إلي مجاز بواسطة الكتابة القصصية. وهذا النوع من الكتابة القصصية يضع/ يدع الشخصية في منطقة لا تخلص فيها للمجاز تمامًا، فتبدو شخصية متخيلة، ولا تحتفظ بحقيقتها تمامًا. فالسارد يعيد بناء النموذج بخطاب لا يعتمد علي الإزاحة، لا يزيح الحقيقي لصالح المجازي و لا المجازي لصالح الحقيقي، بل يحتفظ بهما معًا، خطاب لا يمزج بينهما ( والمزج تصور شائع لتلك العلاقة )، بل يخترق الحقيقي بالمجازي. وفعل الاختراق يبقي علي الحقيقي واضعًا المجازي في قلبه، وهو ما يسبب "الاضطراب" أو "الارتباك"، وهما تعبيران يصفان استجابة القراء والقصاص. والاستجابة هنا تعني التردد، التردد بين الحقيقي والمجازي، ففي اللحظة التي يبدو فيها النموذج حقيقيا، ويرشح للإحالة إلي الواقع الخارجي، يظهر المجازي فيخلل الإحالة، ويلغي علاقة التطابق. وفي اللحظة التي يبدو فيها النموذج مجازيا أو متخيلا ً يظهر الحقيقي عبر علامات مثل الاسم والمهنة والمكان، تحول دون إخلاص النموذج للمجازية تمامًا، ومن هذه العلاقة يبني السارد نماذج الشخصيات في الرواية.

إن سارد " فوق الحياة قليلا ً" يفكك العلاقة بين الأدبي والواقعي، والحقيقي والمجازي، فيلغي التعارض والتراتب بينهما، ويبني العالم الروائي وشخصياته منهما معًا من منظور يخضع الشخصيات الحقيقية لواقع التجربة الأدبية، ويفسر لنا ذلك لماذا لم يعد السارد قادرًا علي تحديد الفرق بين شخصيتي أبي الشمقمق الحقيقية والروائية، فقد ذابت الحدود الفارقة بين طرفي الثنائية في خطاب السارد. ويزداد الاضطراب ( بالطبع لدي أولئك القراء...، والأدباء!!، الذين يؤمنون بوجود حد فاصل بين الواقعي والخيالي، أو الحقيقي والمجازي إيمانًا يوجه تلقيهم ) عندما يجعل السارد أبا الشمقمق قاصًا شهيرًا يرتاد "مقهي المثقفين"، وشاهدًا علي حادث حقيقي، هو حادث موت القاص إبراهيم فهمي، ويمنحه صفات جسمية ونفسية وسلوكية ( مثل الكرش، والعصا، واللسان الساخر، والشرب) تذكرنا بالكاتب محمد مستجاب، فهل هو أبو الشمقمق الشاعر وقد تحول إلي شخصية روائية، أم أنه محمد مستجاب وقد حوله السارد إلي أبي الشمقمق ليراوغنا نحن القراء!!؟ وسوف يستتبع ذلك التساؤل تساؤل آخر عن السارد نفسه : هل هو شخصية متخيلة أم أنه المؤلف نفسه، سيد الوكيل الذي يرتاد مقهي المثقفين ويعرف مستجاب!!؟ وسوف يمنح السرد بضمير المتكلم تساؤل القارئ مشروعية أكثر، فضمير المتكلم يدعو إلي المطابقة بين السارد والمؤلف الحقيقي، ويصبح الميل إلي نسج هذه العلاقة أكبر عندما يعتمد السارد علي استعارة أشياء من الواقع الخارجي، وإخضاعها للتجربة الأدبية. وهنا نكتشف أن تركيب شخصية السارد نفسه ـ مثلها مثل الشخصيات التي يحكي عنها ـ تخضع لهذه الآلية، آلية استعارة أشياء حقيقية وخرقها بالاستخدام المجازي.

فالسارد بوصفه شخصية من شخصيات الرواية نموذج مصوغ من الحقيقي والمجاز القصصي، ويحضر الحقيقي في قلب المجازي (السارد) ويخترقه بواسطة علامات نصية، تشكل شخصية السارد وعلاقاته. فالسارد قاص، وينسب إلي نفسه المجموعة القصصية أيام هند" وهي لمؤلف الرواية، وله ابنة ـ كابنة المؤلف الحقيقي ـ اسمها أميرة، وهو يتمتع بثقافة نقدية حديثة. ولا ننسي المكان والعلاقات التي يفرضها، فالسارد ( مثل المؤلف ) يرتاد مقهي المثقفين بحكم مهنته وثقافته، وهو علي صلة بمبدعيه وبما يجري فيه، وقد منحه ذلك فرصة للكتابة عن مبدعين حقيقيين، مثل محمد جبريل ونجيب محفوظ وإبراهيم فهمي، فيروي وقائع حقيقية حدثت لهم، مثل حادثة الاعتداء علي نجيب محفوظ، وموت إبراهيم فهمي في حادث.

وجود هذه العناصر لا يعني بالضرورة تطابق السارد مع المؤلف الحقيقي، ولا يعني أن المتكلم هو المؤلف الحقيقي، فالسارد هو الذي يتكلم، وعبر صوته يخترق خطاب الرواية حياة المؤلف مثلما يخترق حيوات أولئك المبدعين. وبقليل من التأمل يمكن أن نكتشف أن المؤلف الحقيقي يمثل بالنسبة للسارد شخصية مبدع حقيقية ـ مثل محفوظ، وإبراهيم فهمي، ومحمد جبريل ـ ومن ثم فهو معرض ـ بحكم انتمائه إلي عالم الواقع مثلهم ـ لأن يخترقه خطاب السارد بالمجاز القصصي، فتدخل العناصر التي تنتمي إلي الحياة الحقيقية للمؤلف في شخصية السارد، وتصبح جزءًا من تركيبتها بوصفها شخصية أدبية لها تجربة خاصة ترويها لنا، وهو ما يضع حدًّا لحالة الاضطراب والخلط لدينا نحن قراء الأدب ومبدعيه الذين يربكهم هذا النوع من خطاب الرواة، وفي هذا السياق يكون من المفيد لنا أن نستمع إلي السارد وهـو يقول:

"كثير من الناس يخلطون بين الوقائع المكتوبة والوقائع الحقيقية، فيظنون أن ما يكتبه الأديب قد حدث فعلاً، والمدهش أن هذا الخلط يكون بين الأدباء أيضًا، فصديقي الشاعر ظل ولخمس سنوات يدعوني بأبي هند، خالطـًا بين اسم ابنتي و اسم مجموعتي القصصية " أيام هند ". ولما نبهه البعـــض إلي أن اسـم ابنتي هو "أميرة" حـرص علي أن يصحح الخـطأ في أول لقاء ودي بـيننا، حـياني بحـرارة، وسألني عن أمـيرة وأحوالها المدرسية ،وقبـل الوداع قال بلهجة جنتلمان...بلغ تحياتي للمدام هند. مثل هذا الذي يصر علي أن لهـند وجودًا حقيقيا، هم الذين يسألون عادةً... هل هذا قد حدث فعلا ؟ ربما بسبب هؤلاء، صرخ بارت معلنـًا عن موت المؤلف، ويعني هذا أن ما تقرأه الآن فقط هو الموجود، ولا وجود لشيء خارج النص». (ص83)

يتحدث السارد عن نمطين من الوقائع، ونمطين من الوجود : وقائع مكتوبة وجودها نصي، وهو وجود آني مرتبط بلحظة القراءة.

ووقائع حقيقية وجودها حقيقي في العالم الخارجي، وهي غير حاضرة. النمط الأول أحداث أعيد صياغتها بواسطة الكتابة، وحيثما تكون الكتابة الأدبية يكون المجاز. والنمط الثاني أحداث واقعية لكنها غفل لم تمسسها الكتابة الأدبية، لم تصبح بعد موضوعًا تواجهه ذات، وتعيد كتابته في نص. والمقتبس السابق مثال ممتاز للوقائع المكتوبة، فأميرة اسم ابنة المؤلف الحقيقي، و"أيام هند" مجموعة قصصية له، لكنها تحولت إلي عناصر وُظـِّفتْ ليحكي السارد من خلالها تجربة تلقي كتاباته القصصية. ويقع الخلط بين النمطين، ومن ثم بين المؤلف الحقيقي والسارد عندما لا ندرك ـ كما لم يدرك الشاعر الحداثي ـ الفارق بين النمطين، ويضاعف خطاب السارد درجة الخلط وهو يحدثنا بضمير المتكلم بوصفه شخصية حقيقية، وهو كذلك بالفعل لكن داخل نصه الذي يحكيه.

لكن كيف يخترَق الحقيقي بالمجازي في خطاب السارد ؟ وبصيغة أخري كيف تعاد صياغة الأشياء والوقائع بالكتابة الأدبية ( = المجازية )؟ يعيد السارد بناء النماذج والوقائع بثلاثة أساليب سردية: الحذف والإضافة، والسخرية، والتحفيز الزمني. وتكشف هذه الأساليب عن التماهي بينه وبين المؤلف الحقيقي بوصفها صورة من صور التماهي بين الحقيقي والمجازي في الرواية، وعن حضوره المهيمن علي عملية السرد. ويمكن أن نتخذ شخصية أبي الشمقمق نموذجًا شارحًا، فهي من أكثر شخصيات الرواية التي وقع الاضطراب بشأنها بين الحقيقي والمجازي، فالأدباء والقراء يتساءلون بدهشة من يكون أبو الشمقمق هذا؟ ولا يكفيهم أن يعرفوا أنه شاعر الكدية المعروف سليط اللسان الذي يسخر حتي من نفسه،سيعاودون السؤال بصيغة أخري، ما المبرر الذي دعا الكاتب إلي استحضاره من عالمه إلي مقهي المثقفين ليكون شاهدًا علي موت إبراهيم فهمي. (ص109)

فأبو الشمقمق يبدو في الرواية قاصًا لا شاعرًا، وقد أثار ذلك السؤال حول العلاقة بينه وبين محمد مستجاب، وبالتبعية بين السارد والمؤلف الحقيقي، لكن يبدو أن الذين تساءلوا فاتهم أن السارد جعله " يبكي كبنت صغيرة محبة "، وأن هذه الإضافة ألغت تطابق شخصيته الروائية مع النموذجين الواقعيين: نموذج الشاعر الهجاء في التراث، ونموذج القاص المعاصر، وأقامت نموذجًا أدبيا أنتجته علاقة متوترة بين النموذج الروائي المتخيل والنموذجين الواقعيين اللذين يحضران من خلال الاسم والصفات التي خلعها السارد علي النموذج المتخيل.

ويصور السارد نماذجه بأسلوب المحاكاة الساخرة(4)، فالسارد يستخدم السخرية ـ بوصفها أداة بلاغية ـ لإعادة صياغة شخصيات حقيقية فتصير شخصيات مختلفة، وهو يفعل ذلك من خلال التدخل دائمًا بتعليقات ساخرة ( يضعها أحيانًا بين علامتي تنصيص)،هذه التعليقات تكشف أنه يراوغنا، وأن شخصياته ليست هي الشخصيات الموجودة في العالم الواقعي، بل إنها تستقل عن السارد نفسه، مثل شخصية أبي الشمقمق الذي غير مصير القاص الجنوبي، وجعله يتجه إلي الشمال، إلي أوربا. «علي كل حال، هـو الذي سخـر مني بقسوة، لما عاود الظـهور في الحانة وأحدث انقلابًا هائلا في مصير الفتي الجنوبي . لقد كانت هدي علي حق حـين قالت ... إنكم تقرأون القصص كما تقرأ العرافة الفنجان، ولقد كـنت علي حـق حــين قلــت إن المعـني ينـتـقل من المؤلـف إلي المتلقي كما لو كان نوعًا من تراسل الحواس وكنت أحاول التعبيرعن الالتباس القائم بين الكاتب والقارئ إذ أصبحت العلامات خافية». (ص111،110).

السارد نفسه لا ينجو من تلك السخرية، فالشخصية تسخر، وهو نفسه يعلق علي علاقته بهدي كمال وبزوجته بالطريقة الساخرة التي يصور بها حياة الشاعر الحداثي، ويسرد بها خيبات القاص الجنوبي "الصغيرة" التي بدأت مع قدومه من الجنوب إلي الشمال ( القاهرة ) باحثـًا عن مقهي المثقفين حيث دخل عالمه."مقهي المثقفين" ـ وهو مكان له وجود حقيقي خارج النص ـ يستقل بفصل كامل يحمل اسمه، لكن علي الرغم من ذلك لا يهتم السارد بوصف مقاييسه الهندسية، إنه يهتم بدور المقهي في حياة الأدباء، و بنماذج المثقفين التي ترتاده، ويحكي عنهم، وحكيه يفيض بحس ساخر. وسخريته تكشف أنه ـ بوصفه الصوت الفني للمؤلف ـ رأي في مقهي المثقفين"حياة"، وأنه كتب هذه الحياة كتابة أدبية، ومن ثم فنحن أمام نموذج فني، هو الموجود داخل النص، أما المقهي الحقيقي فهو محفز لهذه الكتابة. وإشارتنا إلي التحفيز يجب ألا تمر هكذا، إذ يجب أن نقف عند إشارتين للسارد ( ص 58، و 72 )، أشار فيهما إلي قصيدة نجيب سرور الغاضبة الساخرة " بروتوكلات حكماء ريش" التي ضمّن منها مقطعًا يتوافق مع الحس الساخر، ومع نوعية النماذج التي يمثلها الشاعر الحداثي الذي يري نفسه " حكيمًا يتميز عن باقي خلق الله العاديين". التضمين ينبهنا إلي أن وقائع العالم الخارجي ونماذجه البشرية (غير المكتوبة ) ليست وحدها المحفزة، وليست وحدها التي شكلت منها الكتابة نص" فوق الحياة قليلا ً" بدءًا من عنوانه الساخر، فهناك النصوص الأدبية الشعرية والقصصية، وبعضها للمؤلف الحقيقي. فقد ضمّن السارد إحدي القصص القصيرة للمؤلف الحقيقي بعد أن دخلت إلي النص بوصفها قصة كتبها السارد عن هدي كمال التي تلفظ باسمها أثناء المعاشرة، ودفعها إلي زوجته لتقرأها؛ ليوهمه أن هدي شخصية مجازية لا حقيقية، وأن الأمر لا يعدو معايشة الكاتب لشخصياته.

هدي كمال شخصية حقيقية بالنسبة للسارد داخل الرواية، فقد عرفها، وقامت بينهما علاقة عاطفية قبل سبع سنوات قضتها في الخليج، عادت بعدها والتقيا مرة أخري. ومهما يكن من أمر السارد مع زوجته فقد انتهت الشخصية الحقيقية في حياته إلي أن تكون بطلة لإحدي قصصه، لكن العلاقة بين هدي الحقيقية وهدي المجاز لم تكن واضحة، فالتبس علي الزوجة / القارئة لعدم وضوح ـ وليس غياب ـ الحدود بينهما. ومرة أخري يبين صنيع السارد أنه يراوغنا، وفي الوقت الذي يبدو فيه المتكلم كأنه المؤلف الحقيقي ( صاحب القصة) تبث الذات المتكلمة إشارات هنا وهناك تقودنا إلي السارد، إنه نوع من التماهي أو التجاذب بين الطرفين تصنعه تلك الإشارت، ومنه يكتسب السارد هويته المميزة، وخطابه الساخر واحد من العلامات الكبري في تحديد تلك الهوية، فحياته وعلاقاته وعَوْده بالسخرية عليها ( لنتذكر هنا وصفه لأبي الشمقمق بأنه يسخر من كل شيء حتي من نفسه) يكشف أنه شخص متخيل يتماهي معه المؤلف في جانب من تجربته، لكنه لا يتطابق معه.

ويبدو أن المؤلف الحقيقي ـ مثله مثل السارد الذي فرق بين وقائع مكتوبة وأخري حقيقية ـ كان يخشي من الالتباس لدي القراء والأدباء، فوضع إهداءً في صدارة الرواية، هذا نصه:

إلي أصدقائي الذين مستهم الكتابة بحرها

الذين يعيشون فوق الحياة قليلا ً

أحبكم والله

سيد الوكيل

الإهداء الذي مهره المؤلف الحقيقي باسمه خطاب عاطفي (صداقة وحب)، يعمل علي تعليق الالتباس لدي فئة محددة (الأدباء)، ومن ثم نفي التعريض بهم، ويستخدم ما يستطيع من أساليب لغوية ( القسم ) وطباعية، ليتبلغ بها. ومع الصداقة والحب نعتهم بالكتابة ـ كأنه يذكرهم بها ـ التي تمس فتسلب الإرادة وتسيطر، فالكتابة هي التي تتكلم، وهي التي تسخر، وقد كتبته كما كتبتهم، فغدا ـ مثلهم ـ مجازًا.

الأسلوب السردي الثالث ،التحفيز الزمني، أداة مهيمنة في تشكيل الشخصيات وبنية الزمن، ومن ثم في تشكيل الرواية، لكن ما يهمنا دورها في سماعنا صوت السارد مادام السرد مستمرًا. فسارد" فوق الحياة قليلا ً" يعتمد في تقديم الشخصيات والأحداث علي حدث، غالبًا ما يبدو صغيرًا أو عاديا، يكون بمثابة محفز لأحداث أخري وتفاصيل، يختارها بدقة ويحكيها، ويتدخل أثناء الحكي بالشرح وبالتعليق الساخر.

الفصل الأول ـ كنموذج لفصول الرواية ـ يتشكل من سرد أخبار الشاعر الحداثي الذي يعيش فوق الحياة قليلا ً: انعزاله عن زملائه في العمل، اضطرابه بين بشريته وشعوره بالتميز( يشرح السارد هنا معني كلمة التميز بأن يكون فوق الحياة بدرجة )، زواجه، أزمته الأسرية مع زوجته ومع حميه ( الذي تجاهل تميزه بعد خلافه مع زوجته )، تصفية الشركة التي يعمل فيها بالبيع، صدور أول ديوان له ( يعلق السارد هنا بأنه بدلا من أن يرفعه فوق الحياة درجة أخري شدَّه إلي الأرض وأكد بشريته)، صدمته مع فتاة مقهي المثقفين، نتيجة المباراة التي جاءت مخيبة لتوقعه.

هذه الأحداث أطلقها حدث صغير ظل يومض من حين لآخر من خلال تعليقات السارد أثناء انطلاقة الأحداث، وهو تأخر الشاعر الحداثي عن الندوة بسبب مشاهدة مباراة كرة قدم بعد أن قرر أن يكون اليوم لمعايشة تجربة بشرية أخيرة قبل الدخول علي قصيدته الجديدة. ومن نقطة الانطلاق هذه انطلق السارد حرًّا يسرد أحداثا غير مقيد بتسلسل زمني، هذه الأحداث تمثل في مجموعها ـ مع تدخلات السارد وتعليقاته ـ "حياة" تتأرجح بين الشعور بالتميز والانغماس في الحياة والبشرية، ومن هذا التأرجح تتفجر السخرية، ففي اللحظة التي يري الشاعر الحداثي فيها نفسه يعيش فوق الحياة قليلا ً، إذا به منغمس فيها، ولا يمكنه كتابة قصيدة دون أن يمر بأزمة من أزمات الحياة .

التحفيز بهذه الطريقة مسئول عن بناء الشخصية وتحديد هويتها، وعن بناء نظام زمني خاص بالسارد، إذ يفتح فضاءه من لحظة صغيرة تمتد ليصنع منها السارد "حياة" كاملة، هذا النظام ينفي ـ حال إدراكه ـ التطابق بين السارد والمؤلف الحقيقي الذي انتهت إليه بعض الدراسات، مثل دراسة مهدي صلاح للرواية(5)، وأيضًا بين الشخصية والنموذج الحقيقي الذي يبدو للقراء أنها تمثله. والأكثر أهمية أنه يكشف عن رؤية جمالية للسارد وراء خطابه السردي المربك لزوجته، ولصديقه الشاعر الحداثي، وللأدباء، ولنا، نصوغها كما يبدو لنا علي النحو الآتي : ما يبدو أنه مراوغة تربكنا وتدفعنا إلي الاضطراب هو كتابة جديدة في علاقتها بالحياة، كتابة تضع كل شيء داخل التجربة الأدبية، وتري الحياة ذاتها خبرة جمالية، ومن المستحيل أن يحيا الأدب فوقها قليلا ً. وإذا سألت السارد عن الحقيقة والمجاز، أو الأدب والحياة، أو الواقع والخيال ـ فسوف يجيبك علي الفور(متقمصًا شخصية الشاعر الحداثي): لا فرق..لا فرق.

الخاتمة

" الخوف يأكل الروح"، و" دنيازاد "، و" فوق الحياة قليلا ً" ثلاثة نصوص أثبت تحليلها وجود سارد مشارك يسيطر صوته علي السرد، ويعد مصدر المعلومات الرئيس، وقد منحه ذلك الوضع حضورًا طاغيا داخل النص، وأنشأ علاقة مباشرة بينه وبين القارئ. لذلك يعد الخطاب المباشر من السارد إلي القراء ـ وكذلك كلام السارد عن القراء ومواقفهم ـ من سمات خطابه السردي باستثناء «دنيازاد " التي يشارك فيها صوت آخر صوت الساردة في السرد، وليس هناك قارئ حاضر حضورًا صريحًا يتوجهان بخطابهما إليه.

وهذا الحضور الطاغي للسارد نتاج لخطابه السردي بأدواته وموضوعه، وفي الوقت نفسه ممسوس بحضور للمؤلف. فموضوع السرد في تلك النصوص يتصل بالتجارب الشخصية للسارد، ويلاحظ علي هذه التجارب أنها تتصل بتجارب المؤلف الحقيقي وسيرته الشخصية، وهو ما أنشأ نوعًا من التماهي بين السارد والمؤلف الحقيقي، أدخل بعض ملامح شخصية المؤلف تدخل في تركيبة السارد، وحوَّله إلي صوت فني للمؤلف، لكن مدي العلاقة يختلف من نص إلي آخر نتيجة اختلاف درجة توظيف تجارب المؤلف. فالسرد في" الخوف يأكل الروح" يتشكل ـ في جانب منه ـ من بعض تفاصيل الحياة الشخصية للمؤلف ( مثل: الاسم والعنوان وبعض تفاصيل الحياة العائلية والخبرات العملية)، لكن السارد يعتمد في سرده علي مزج الواقعي ( والتفاصيل الشخصية لحياة المؤلف جزء من هذا الواقعي ) بالعجائبي، هذا المزج وقف حائلا دون اعتبار السارد هو المؤلف، و دون اعتبار النص نصًا سيريا.

أما في " دنيازاد " فجاءت علاقة التماهي نتاجًا للصيغة الأدبية التي تأثرت بالتناص مع الموروث السردي، فقد اعتمد السرد علي السيرة الشخصية للمؤلفة ( إذا ما وضعنا في اهتمامنا الأحداث المستدعاة ومداها الزمني )، واستخدم الأسلوب الواقعي في تشكيلها، وهو ما أفضي إلي تصور العلاقة بين الساردة والمؤلفة علي أنها علاقة تطابق، وصنف النص علي أنه رواية سيرة ذاتية. لكن بالنظر إلي علاقة السارد بالمؤلف من منظور أدبية النص الروائي (علي أساس أن المصطلح النوعي علي الغلاف " رواية ")،و التناص مع التراث السردي متمثلا في نص (ألف ليلة وليلة)، ظهر لنا أن الساردة تأخذ موقع دنيازاد في نص ألف ليلة وليلة، ومنه تشكل موضوع السرد، ومن ثم تنتفي علاقة التطابق بينها وبين المؤلفة.

نص " فوق الحياة قليلا ً" إشكاله أعقد؛ لأن علاقة السارد بالمؤلف فيه لا تتصل بالتحديد النوعي مثل "دنيازاد "، بل تتصل بمشكلة القراءة المسيئة التي قد ينتج عنها إضرار. فهذا النص ـ علي خلاف النصين السابقين ـ لا ينهض السرد فيه علي السيرة الذاتية، ولكن علي الاستعارة من العالم الخارجي، استعارة شخصيات ذات وجود تاريخي متعين خارج النص، تنتمي إلي فئة محددة، وقص تجاربها، ونشأ عن ذلك التباس بين ما هو حقيقي وما هو مجازي. وبدل أن تلفت خصائص النص الأدبية - وبخاصة السخرية، والنظام الزمني القائم علي التحفيز- النظر إلي تحويل الأصل الواقعي تحويلا ً لم يعد معه ثمة أصل وفرع، أو حقيقي ومجازي، أو واقع وأدب، ولم يعد سوي كتابة لا مرجع لها، بدل ذلك راح بعض المتلقين يطابق بين السارد والمؤلف، وبدل أن يكون الخطاب الساخر خطابًا لسارد متخيل صار خطابًا للمؤلف الحقيقي، وتحولت السخرية من أداة بلاغية تشكل عالمًا وشخصيات أدبية إلي مجرد وسيلة للتعريض. ومن ثم كان لابد من تقويض ما أسميناه " وهم التطابق" بدرجاته المختلفة ـ وأيضًا مشكلاته المختلفة ـ في النصوص الثلاثة.

وتشترك النصوص الثلاثة في استخدام أساليب محددة لسرد تلك التجارب والخبرات الشخصية : ضمير المتكلم المعروف بأنه ضمير الاعتراف، ويعد ـ مع نمط مادة السرد ـ المسئول عن الالتباس بين السارد والمؤلف. وتوليد حكايات وأفكار من لحظة زمنية أو موقف، سرد التفاصيل الدقيقة. ويتميز نصا" الخوف يأكل الروح" و"فوق الحياة قليلا ً" بتوليد السارد القصص الصغيرة، والأفكار، والتدخل بتعليقات كثيرًا ما تكون ساخرة وتتضمن أحكامًا بالقيمة، وهو ما لا تفعله ساردة " دنيازاد "، فتجربتها ذات طابع رومانسي حزين.

سرد التفاصيل إحدي الوسائل التي ضمنت للساردين حضورًا طاغيا، ليس لأننا ننشغل بصوت السارد ومنظوره الذي يسرد من خلاله هذه التفاصيل، وعمليات التشويق التي يقوم بها سارد مثل سارد " الخوف يأكل الروح"، ولكن لأنها كثيرًا ما تكون تفاصيل شخصية. ويلاحظ أن سرد التفاصيل يختلف في نوعه ووظيفته، فهو يقترن بأشياء صغيرة في " الخوف يأكل الروح"، و بتصور جمالي للكتابة لدي السارد، يراها في جانب أساسي مهارات وألعاب. في حين أن سارد " فوق الحياة قليلا ً" يبني كتابته علي مواقف أو لحظات زمنية متعددة أكثر من تفاصيل الأشياء، ويحول كل موقف لحظة إلي نقطة انطلاق لسرد مواقف و لحظات أخري، تظهر مدي ثراء اللحظة الواحدة .ولو ربطنا هذا الأسلوب بمادة السرد التي تقوم علي الاستعارة من العالم الخارجي، فسوف نكتشف تصورًا يري الزمن وسيطا للسرد عن خبرات الحياة، وأن الرواية بما هي فن زمني تبدو مرادفة للحياة. ربما بهذا المعني ـ مرادفة الرواية للحياة ـ استخدمت مي التلمساني تجربتها الشخصية في كتابة " دنيازاد "، لكنها أقامت تصور الساردة للزمن علي الاستدعاء، و ربطته بتصور مختلف هو إمكانية إعادة تشكيل العالم واستراد المفقود - سواء كان الابنة أو الذات - بواسطة الكتابة.

ثمة ملاحظة أساسية، وهي وجود علاقة بين سيطرة السارد وتمركز عملية السرد في يده وبين التهميش، فالسارد الذي يتصدر مشهد السرد بضمير المتكلم، وينشغل بتجاربه الشخصية، وبتفاصيل تخصه أو تخص أشياء ذات صلة مباشرة به، غالبًا ما يكون شخصًا مهمشًا، خاصة إذا نظرنا إليه بوصفه كاتبًا منشغلا ً بهموم المهنة. قد يظهر التهميش في شخصية السارد مباشرة، فمصطفي ذكري سارد " الخوف يأكل الروح" كاتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية، روايات شعبية لا تصنع منه قاصًا جادًا ومعروفًا. وقد يظهر من خلال شخصيات تشاطره الكتابة وهمومها، وشخصية الشاعر الحداثي الذي يعيش فوق الحياة بدرجة، كما يصورها سارد " فوق الحياة قليلا ً"، نموذج دال في هذا السياق. وبناء علي ذلك، نحن أمام نوع من السرد الذاتي أنتجه حضور الساردين وتصدرهم وتصديهم ـ منفردين أو شبه منفردين ـ لعملية السرد، سرد منشغل بالذات، وهذا الانشغال هو المنتج أيضًا لعلاقة التماهي بين السارد والمؤلف.

هذه النتائج والملاحظات فيما يخص حضور سارد مشارك (أو بطل ) يحمل صوته بعدًا من شخصية المؤلف، والملاحظة الأخيرة تحديدًا، تنطبق علي كتابات روائية أخري، مثلا ً السارد في «لصوص متقاعدون" لحمدي أبو جليل، وشخصية الأستاذ رمضان في الرواية عينها الذي يجمع - مثل السارد ـ بين التهميش الأدبي والطبقي، و" مي " ساردة وبطلة "الباذنجانة الزرقاء" لميرال الطحاوي التــي تكتب تجاربها، وتجسد التهميش والقهر بسبب النوع الإنساني.

عامة، تشير النصوص الثلاثة ( المحددة نوعيا بأنها " رواية" ) إلي كتابة جديدة تستند إلي تصورات جمالية مختلفة عن تصورات جيل نجيب محفوظ وجيل الستينيات، في طريقة إدارة السارد لعملية السرد، ونمط العلاقة بينه وبين المؤلف الحقيقي، وأن هذه تحديد نمطها وحدودها بات يتعلق بأسئلة تخص نوع النص، وتخص العلاقة بين السارد والقارئ، سواء كان القارئ الضمني في النص أو القارئ الحقيقي، وتخص تصور العلاقة بين الأدب والحياة أو بين الرواية والواقع، وهو التصور الذي تعيد هذه الكتابات الروائية طرحه من منظور جمالي جديد، كما أنها تعيد طرح سؤال " موت المؤلف " علي النقاد والباحثين.

تذييل (من أقوالهم)

حينما أكتب أنا بذاتي التي أعرفها أجدني بداخل وعي الشخصية التي أكتبها أو يصبح وعيها بداخلي بحيث يتوجب علي أن أكتب سيرة شخصية روائية بقدر ما أعرف عنها...".

أمينة زيدان

" والرواية الآن في حالة بحث ورصد للتغيرات، وبما أن المبدع إنسان يعيش هذه الحالات فالدهشة من حوله تحيطه بكثير من الإحباطات، لذا ظهر علي السطح السرد الذاتي، بمعني أن المؤلف أو الكاتب أصبح شخصية روائية لها تاريخ، ومن ثم فهي تحاور وترصد هذه التحولات لقراءة الواقع الاجتماعي ...".

صفاء عبد المنعم

"أنا مواطن مطحون وغضبان ومحبط، وأظن أن هذا سيظهر بشكل مباشر وغير مباشر فيما أكتبه، لكنني لا أنسي أن الكتابة هي محارتي التي ألجأ إليها مختبئـًا أو متوجًا، أبكي أو أرقص وألعب وأنتقد وأفضفض...".

ياسر شعبان

" فمثلا في رواية "كلما رأيت بنتـًا حلوة أقول يا سعاد" التي قيل عنها إنها سيرة ذاتية كان لا بد من وجود لغة شاعرية ومجازية في نفس الوقت...".

سعيد نوح

" بعض الأدباء غضبوا من "فوق الحياة قليلا " واعتبروها تعريضا بهم!!".

سيد الوكيل

مصادر الدراسة

ـ مصطفي ذكري: الخوف يأكل الروح، ( رواية)، سلسلة كتاب شرقيات للجميع (56)،دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط الأولي، 1998 .

ـ مي التلمساني: دنيازاد، (رواية)،دار الآداب بيروت، ط 2002 .

- سيد الوكيل : فوق الحياة قليلا ً، ( رواية )، إبداعات معاصرة، مكتبة الأسرة، 2004 .

مراجع الدراسة

ـ جاكوب كورك: اللغة في الأدب، الحداثة والتجريب، ترجمة، ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1989 .

ـ خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960 ـ 1990، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998 .

ـ خيري دومة: رواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءة في بعض "روايات البنات" في مصر التسعينيات، مجلة نزوي.

ـ مهدي صلاح علي : أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، جائزة الشارقة للإبداع العربي ( 164)، الإصدار الأول، الدورة (9)، 2005 .

الهوامش

1- يمكن الرجوع إلي الصفحات من 24 إلي 54 لتري السا رد وهو يناقش فكرة القبح مستشهدا بنص ينسب للمؤلف الحقيقي خارج عالم الرواية وكيف يتحدث عن كشف تلك المناقشة عن لحظةعبثية تتمثل في أن الشيء البسيط مثل تفرق أسنانه وعدم اتساقها وهو عيب من العيوب الخلقية في وجه السارد) يأخذ منه مجهودا كبيرا ليقوله مقارنة بالشيء الجاد العميق الذي يقوله بلهجة تقريرية مباشرة.

2- خيري دومه، تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 0691-0991، الهيئة العامة للكتاب 8991.

3- خيري دومة، رواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءة في روايات البنات في مصر السبعينيات مجلة نزوي.

4- راجع جاكوب كورك:اللغة في الأدب، الحداثة والتجريب 742- 942، ترجمة ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دارالمأمون للترجمة والنشر، بغداد 9891، حين أفدنا من كلامه عن استخدام المحاكاة الساخرة في سرد المواد المستعارة من الواقع الخارجي.

5- مهدي صلاح علي ، أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، 362 جائزة الشارقة للإبداع العربي (461) الإصدار الأول، الدورة (9)، 5002.


" كل من هبَّ ودبَّ يستطيع الآن أن يكتب وأن ينشر ويضع علي غلاف كتابه الجذّاب صك "رواية" دون أدني حرج، وإن لم يفلح في النشر الورقي، فالإنترنت أوسع انتشارًا ". هذا الكلام لسان حال كثير من النقاد والكتّاب الذين تشكّل عقلهم النقدي وتكونت ذائقتهم الأدبية في إطار عقد اجتماعي نصّ في أحد بنوده علي أن الكتابة موهبة أو احتراف، وبالتالي لا يحق إلا لأفراد بذواتهم أن يطلقوا علي أنفسهم مسمَّي "كاتب" وأن يطلقوا علي ما يكتبونه مسمَّي "كتابة"، بحكم أن هؤلاء الأفراد موهوبون أو محترفون في عملية الكتابة.

لا أستطيع أن أقول إن هذا العقد الاجتماعي قد عفي عليه الزمن، خاصة أنه ليس سهلاً علي مجتمعات تري أن ترميم البالي وتنكيس المتهالك قد يكون أكثر استجلابًا لبركات الاستقرار من أن تُلقي بأمنها و أمانها في غياهب المجهول الذي قد يستجلب كل مكروه.

ولا أعني بذلك أن ذلك العقد الاجتماعي المتوارث أصبح باليا أو متهالكًا، وإنما ما أعنيه بالضبط أن هذا العقد الاجتماعي الذي يخصّص مهنة الكتابة ويمنح شرفها التاريخي للموهوبين والمحترفين قد واجه في السنوات الأخيرة من استطاع أن يعترض عليه ويرفض التوقيع عليه.

ويبدو أن هذا الاعتراض ذاته ليس جديدًا في تاريخ التجريب الأدبي، فهو أمر مألوف يواجه المجتمعات في لحظات مفصلية تتحول فيها أشكال الكتابة ويتغير فيها مفهوم الجمالية أو الأدبية.

معني هذا الكلام أن ما يندرج ضمن الأدب لا يخضع لمعايير الجودة الأدبية المرتكزة علي الصفات الداخلية للنص، وإنما إلي جانب ذلك هناك معايير الجودة التي تحددها اللحظة الثقافية التي يتم فيها إنتاج هذا العمل الأدبي أو ذاك، بل الأدق أن نقول إن اللحظة الثقافية هي، بالأساس، التي تحدد المعايير التي يتم علي أساسها التواطؤ المجتمعي علي تنصيب هذا الشكل من الكتابة موقع الشكل المهيمِن في مقابل تنصيب الشكل الآخر من الكتابة موقع الشكل المقاوم والساعي للهيمنة.

وعلي هذا فـ"روائية" عمل مكتوب علي غلافه "رواية" هي عبارة عن خصائص داخلية وأخري خارجية، والعلاقة بينهما ليست بسيطة ولا ثابتة، لأنها علاقة تتشكل نتيجة تفاعلات معقدة بين النص وسياقه الثقافي. فإذا كانت اللحظة الثقافية تنحاز نقديا وإعلاميا وجماليا لنمط من الكتابة الروائية علي حساب نمط آخر، ففي المقابل هناك نصوص متفردة بقدرتها علي أن تغير شروط اللحظة الثقافية المنتجَة في ظلها لتؤسس لوعي قرائي جديد.

لكن جرت العادة أن تقع الكتابة في فخاخ التنميط بمجرد أن يسلك نصٌ مسلكًا جديدًا فينال تقديرًا أو تهليلاً، فتحذو عشرات النصوص حذوه، فيتحول الجديد إلي مبتذل، والمتفرد لتقليد، والإبداع إلي تكرار. ولاشك أن كل كاتب روائي يتمني وهو يكتب عمله أن يفقد ذاكرته القرائية فلا يكرر جملة ولا وصفًا ولا شخصية كتبها روائي قبله، وهو في سبيله هذا يدخل في محاورة مع تراثه الروائي القريب والبعيد، وما وصله من تراث النوع الروائي. وغاية كل روائي أن يحقق التفرد الذي هو أحد معاني الخصوصية. وباختلاف فهم الروائي لمكمن خصوصيته وتفرده وباختلاف مسلكه لتحقيق ذاته روائيا، يختلف تصوّره للرواية. لاسيما أن الرواية نوع أدبي يتسم بقدر عالٍ من المرونة التي تسمح، بل وتثمّن التواطؤ بين الثقافة الإنتاجية والثقافة الاستهلاكية للرواية.

وهنا تتضح أهمية إسهام الباحث مجدي توفيق في قراءة "الروايات الجديدة" التي قامت علي فرضٍ أثبت صحته، وهو أن "نصوص الأدب- بخاصة النصوص التي تبحث عن طرق جديدة تمشي فيها- تحقق إبداعها بأن تصنع ذاكرة جديدة، بما تعنيه الذاكرة الجديدة من معارف جديدة، وتصور جديد للحياة، ومن اختيار لتراثٍ جديد، ومن طرق جديدة في الكتابة، وجماليات جديدة للنصوص" (1).

إن الروايات التي قام توفيق بتحليلها من منطلق مفهوم الذاكرة الجديدة تنتمي وفق مسلك المجايلة النقدي لجيل التسعينيات، وقد كان شاغل الباحث الأهم الكشف عن خصائص سردية يقيم عليها مفهومه النقدي "الذاكرة الجديدة"، وهو ما جعله يعلن منذ البداية تجنبه الخوض في مسألة تحقيق مفهوم "الرواية الجديدة" أو السعي لتقديم تعريف له. ويبدو أن مسلك اجتناب التحقيق في التعريفات المطروحة لمفهوم الرواية الجديدة، ثم عدم التورط في عملية تبنٍ لأي من هذه المفاهيم أو عدم التورط في تقديم مفهوم جديد يضاف للمفاهيم المطروحة للرواية"الجديدة"، يفضي بالباحث لقول نصف الحقيقة حين يذهب إلي القول بأن ثمة خصائص أو سمات كامنة في عدد من الروايات صدرت حديثًا أو مؤخرًا تؤسس لكتابة"جديدة" أو "خصوصية سردية" أو "قطيعة روائية"، لأن النصف الآخر من الحقيقة المسكوت عنه هو أن ادّعاء الجدّة وادعاء المجايلة ادعاءان ينفي كل منهما الآخر، فهما متغيران لا يحكمهما ثابت، ونحن نحتاج لثابت لنحتكم إليه كمعيار نقدي ليس في التقييم الجمالي للروايات فحسب، وإنما في تصنيف الروايات وفقًا لخصائص سردية تَسِمُ خطابَها السردي. وإذا لم يكن هناك ثابت نحتكم إليه أو نتواضع عليه، فليس بمقدورنا سوي أن نقنع بأحد أمرين أولهما هو الربط بين المتغيرين (المجايلة/ الجدة) فتكون النتيجة بديهية أو مجرد تحصيل حاصل ولا جديد فيها، وهي أن لكل جيل جديده مع وجود خروجات عن القاعدة هنا أو هناك، أما ثانيهما فهو أن نطرح أحد المتغيرين جانبًا، وأعني هنا مفهوم المجايلة، ليكون البحث عن المتغير الثاني وهو " الجدّة" في كل عمل روائي ندرسه مستندين إلي تصوّر "للرواية الجديدة" نتبناه لغرض هذه الدراسة. هذا التصوّر يقدمه الباحث شكري عزيز الماضي في كتابه "أنماط الرواية العربية الجديدة" علي خلفية مقارنته بين مفاهيم ثلاثة يستدعي كل منها الآخر (الرواية التقليدية- الرواية الحديثة- الرواية الجديدة)(2) باعتبارها ثلاثة أشكال تمثل تطور الرواية العربية دون الوقوع في فخاخ التحقيب الزمني، وأحاول هنا أن أستخلص أهم السمات المائزة بينها مصنفًا إياها:

الرواية التقليدية

-تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد

- وظيفتها متمثلة بالتعليم والوعظ والإرشاد

- ظهرت في مرحلةالنشأة والبدايات بصفة أساسية لكنها مازالت موجودة.

- من صفاتها النوعية أنها ذات أفكار جاهزة تسقط داخل الشكل الروائي.

- هناك حرص علي التوثيق والتسجيل باسم الواقعية مرة وباسم الإيهام مرة

- الاهتمام بالوقائع أكبر من الاهتمام بالشخصيات

- وسائل الربط بين الأحداث القضاء والقدر أو تدخلات السارد المباشرة

- ينهض بمهمةالسرد راوٍ عليهم بكل شيء

- الشخصيات تتكلم لغة الكاتب

الروايةالحديثة

- تصميم يجسد رؤية وثوقية للعالم.

- مهمتها تقديم تفسير فني للعالم يعكس الإحساس بالقدرة علي التفسير والتعليل لظواهر العالم، من خلال التغلغل في جوهر الظواهر وتصوير العلاقات من الداخل.

- ذات بناء متماسك ومترابط ومتدرج فنيا (بداية- ذروة- نهاية)

- يختفي الكاتب من أجل الموضوعيةالفنية الإيهام بالواقعية بغرض إقناع القارئ.

- تهدف لأن يحل التناغم مكان الخلل، حتي لو كانت ذات رؤية عبثية تعكس تصور الخلل في العلاقات بين الإنسان ومحيطه.

الرواية الجديدة

- تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم.

-هي جديدة لأنها ضد التحديد والتصنيف بدليل كثرةالمسميات التي تحاول الإمساك بها:

(رواية للارواية- الرواية التجريبية- رواية الحساسية الجديدة- الرواية الطليعية- الرواية الشيئية).

- الذات المبدعة تحس غموضاً يعتري حركة الواقع، كما تشعر أنها مهددة بالتلاشي.

- تسعي لتأسيس ذائقة جمالية جديدة أو وعي جمالي جديد

- تستند لجماليات التفكك بدلا من جماليات الوحدة والتناغم لذلك تقوم بتفجير منطق الحبكة والتسلسل.

- من أجل تحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية يتدخل الروائي الجديد بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل ويخاطب القارئ ويحاوره ، ويعلق ويشرح.

يتعمد الروائي الجديد الانحرافات السرديةالمتكررة والانتقال من حدث لآخر ومن زمن لزمن، وإخفاء الزمن أو المكان أحيانا.

- موضوع الرواية لا يتصف بالتناغم أو الوحدة والشخصيات مجرد أطياف او حروف أو أصوات.

- هناك مستويات لغوية متعددة

ومن هنا يمكن القول إن أية محاولة لاستخلاص خصائص لما يسمي بالرواية الجديدة هو عمل تثبيتي لكائن متمرد يقاوم أي فعل تثبيتي. وبالتالي فإن عملنا هذا محكوم عليه بالفشل النسبي أو بالأحري النجاح المؤقت و المقتصر علي نطاق الروايات الثلاث التي ندرسها (العمة أخت الرجال لأحمد أبو خنيجر(3) - كيد النسا لخيري عبد الجواد(4)- فانيليا للطاهر الشرقاوي(5)، والتي ما هي إلا روايات تلقيناها علي اعتبار أنها ذات أنصبة متباينة من مفهوم"الجدّة"، وهي في نفس الوقت تشترك بدرجات متفاوتة في أنها تندرج ضمن ما أسماه الباحث صلاح صالح في كتابه:"سرديات الرواية العربية المعاصرة" بـ" سرد الشئون المحلية(6)".

وسرد الشئون المحلية هو السرد المعني برصد الخصوصيات الثقافية للبيئات التي تتصف بصفة المحلية من منظور قارئ الرواية، وهذا ما يفضي إلي القول بنسبية مفهوم المحلية، فكل بيئة هي بيئة محلية بمعني من المعاني ولها سماتها الثقافية التي تميزها عن البيئات الأخري. إن معيار التمايز الثقافي بين البيئات للقول بمحلية ما أو بخصوصية ما يستدعي في المقابل مفهوم التجانس الثقافي أو المشترك الثقافي للقول بالانتقال من حيز المحلية أو الخصوصية إلي حيز الدولة/ القومية. لكن ما نعتبره وطنيا وقوميا منطويا علي خصوصيات ثقافية متباينة هو نفسه يكون محليا من منظور قارئ لا ينتمي لنفس القومية.

ويبدو أن غايات اللجوء لسرد الشئون المحلية متباينة، فهناك من يعتبر ذلك مسلكًا يسيرًا للوصول للاعتراف الخارجي/ الترجمة نتيجة أنه سرد قادر علي إشباع الفضول المعرفي لدي الآخر /المترجِم عن سمات هذه البيئة المحلية أو تلك ثقافيا. كما أن هناك من يراه مسلكًا لتحقيق شكل عربي للرواية متميز عن الشكل الغربي لها والخروج بالتالي من دائرة "التبعية الإبداعية". وهناك من يعتبر ذلك رهانًا للكشف عن عالمية الشئون المحلية من خلال تجسيد الإنساني (العام) عبر المحلي (الخاص) لتبرز التقاطعات الكبري بينهما باعتبارها أدلة للباحثين عن المشترك الثقافي الإنساني.

ولم يزعم أحدٌ من كتّاب الرواية الجديدة - فيما أعلم- أنه يسلك هذا المسلك أو غيره من أجل تقديم شكل عربي للرواية خروجًا من نفق التبعية الإبداعية، لكن مثل هذا القول قد نقرأه كثيرًا لدي كثيرين من كتّاب الرواية الحديثة، لكن في نفس الوقت هناك اتهامٌ موجّه لكتّاب الرواية الجديدة خاصة في العقد الماضي باستهداف الترجمة عند الشروع في كتابة رواية الشئون المحلية.

وبغض الطرف عن الغايات المعلنة أو المضمرة وراء كتابة سرد الشئون الملحية، نجد أن طرق معالجة تلك الشئون المحلية سرديا هو الأولي بالاهتمام النقدي هنا. تختلف طرق معالجة الرواية للخصوصيات الثقافية أو البيئات المحلية تبعًا لموقف الراوي من تلك البيئة من حيث تعاطفه معها أو نفوره منها، ومن حيث كونه أحد أبنائها أو كونه غريبًا عنها يكتفي برصد المظاهر البصرية السطحية. ويصعب أن نوزع هذه المواقف علي أشكال الرواية (تقليدية/ حديثة/ جديدة) فنزعم أن الرواية التقليدية تميل للتعاطف، أو أن الرواية الحديثة أو الجديدة تميل إلي العداء مع البيئة المحلية. ولذلك ليس مستحيلاً- نظريا علي الأقل- تصور أن تتلاقي رواية تقليدية مع رواية حديثة مع رواية جديدة في واحدة من طرق التناول للبيئة المحلية التالية:

1ـ التناول الداخلي المتعاطف: (موسم الهجرة للشمال/ مدن الملح).

2 ـ التناول الخارجي المتعاطف:( فساد الأمكنة).

3 ـ التناول الداخلي غير المتعاطف:(الحرب في بر مصر).

4 ـ التناول الخارجي غير المتعاطف:( يوميات نائب في الأرياف)(7)

إن هناك أفضلية محفوظة مسبقًا لروايات السرد المحلي التي ينهض بمهمة السرد فيها راوٍ من أبناء البيئة المحلية (داخلي) علي تلك الروايات التي ينهض بالسرد فيها راوٍ غريب. وذلك لما للراوي "الداخلي" من قدرة علي رصد الجوهر وعدم الوقوف عند المظاهر البصرية أو الخصائص السطحية للبيئة. كما تتمايز روايات الشئون المحلية فيما بينها أيضًا ليس بالحشد الكمي لمظاهر الخصوصية الثقافية، وإنما بالانتقاء الكيفي للمادة التي تتفرد بها البيئة حتي لو كان لهذا الشيء النادر والمتفرد هو" الغسيل الوسخ" الذي ينشره الراوي أمام القارئ. ومن وجهة نظري يصعب علي الرواية التقليدية أن تنشر الغسيل الوسخ للبيئة المحلية لأنها تسعي بشكل عام للحفاظ علي الوعي السائد واستمرار العالم علي ما هو عليه. لكنها قد تفعل ذلك من باب الإحساس بالدونية تجاه الآخر، وهو ما تشترك فيه الرواية الحديثة أحيانًا، لكن الرواية الحديثة قد تلجأ لهذا الفعل أيضًا لتحقيق هدفها التقدمي من باب أن نقد الذات ضرورة للتقدم. أما الروائي الجديد فإنه يفعل نفس الفعل بغرض التعرية والفضح وتفكيك الصورة الإيجابية المختزنة عن تلك البيئة المحلية، دون أن يتورط في إعادة بناء جديدة لهذا العالم لأغراض أيديولوجية أو سياسية لأنه يشعر بفعله الفضائحي أنه ينتقم من عالم يشعر فيه بالتلاشي، فيما يشبه عملية تفجير للذات، بعد إدراكها يائسةً أن العالم لن يتغير من حولها ما لم تفجّر نفسها فيه، لأنها ذات عاجزة عن الحلم بالتغيير وهي في مأمن من التلاشي.

ومن هنا، يمكن القول إن ما تتمايز فيه روايات السرد المحلي يكمن بالأساس في عملية انتقاء المادة المتفردة والنادرة التي تحقق الدهشة للقارئ في مناطق متفرقة من العالم. وبنفس الدرجة تتمايز الروايات في طريقة صياغة تلك المادة. ومن هنا فإن رواية السرد المحلي تفشل جماليا وتنجح أنثربولوجيا حين تتحول لمتحف تتجمع فيه الآثار الأصلية والمقلّدة من كل صوب وحدب.

«العمة أخت الرجال» لأحمد أبو خنيجرة ..

رواية تستحي أن تتمرد

"قلت بفراغ صبر: وأنت الآن مهيأ للمّ العائلة !! قال: من حقك أن تسخر يا مثقف. (ص109) .

"كثيرًا ما كان يتهمني محمد بالخوف، قال :الكتابة تحتاج إلي شجاعة كما الحياة تمامًا ..ويبدو أنك أوقفت حياتك للفرجة دون الخوض في معركتها (.....) فأطلق ضحكة وهو يقول: ينقصك الخيال يا ابن العم. (ص113)

"خبِّرني ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة .. لم يكن الجنوب في حساباتها أبدًا، يبدو في نظرها كتلة يمكن إهمالها وتجاهلها .. فقط الانتباه لنهب خيراته وتشريد ناسه عبر طول البلاد وعرضها. (ص130)

هذه المقتطفات تثير سؤال العلاقة بين الراوي وعالمه الروائي، ليس فقط من زاوية طبيعة هذا الراوي بوصفه تقنية سردية، وإنما أيضًا بوصفه ذاتًا تربطها بهذا العالم الروائي علاقة معقدة تتراوح بين الانتماء والاغتراب عنه.

اختار أحمد أبو خنيجر الراوي بمواصفات معينة تلائم العالم الروائي الذي يدخله، فهو راوٍ مشارك في الأحداث، فهو ابن أحد الرجال الستة الذين تشتتوا في البلاد، لينطبق عليهم - اسمًا وفعلاً- عائلة الرحال تاجر العبيد، و الراوي بهذه الصفة يكتب تاريخ عائلته. وعلي الرغم من هذه الصلة الوثيقة بين الراوي وعالمه الروائي (الذي هو عائلته)، فإن المقتطفات السابقة من الرواية توضح لنا أننا أمام رؤيتين مختلفتين ليس تجاه العالم الروائي فحسب، وإنما للعالم بشكل عام.

فالشتات هي الكلمة التي تنبني عليها الرواية بوصفها تأريخًا فنيا لعائلة الرّحال، وتفسير الشتات في الرواية يروي علي ألسنة العديد من الشخصيات مرةً كعقاب أخلاقي علي تجارة العبيد التي كان يمارسها الجد الأكبر مشتتًا بذلك العبيد عن أهاليهم، ومرةً كقدر محتوم من الله علي هذه العائلة دون أن يكون في ذلك عقابًا أخلاقيا. وكلا التفسيرين ينتميان لرؤية قدرية، تعتمد علي الإيمان بالله في تفسيرها لكل ما يحيط بها من ظواهر، وما يلم بها من أحداث. وفي مقابل هذه الرؤية القدرية نجد الرؤية العقلانية لدي الراوي الذي يوظف معرفته وثقافته ليدحض الركن الأساسي في الثقافة القدرية وهو الاعتقاد بأن تجارة العبيد حرام، و يعاقب الله من يقترفها بشتات ذريته، حيث يقول الراوي ردًا علي ابن عمّه محمد الإسكندراني:"قلت بنوع من الاعتراض : في البداية حين بدأ الرجل الرحال الكبير تجارته، والتي لم يكن العبيد جزءًا منها، لم يكن هناك حس من التجريم أو التحريم لهذه التجارة، بل علي العكس كان هناك غطاء ديني كامل مشمول بدعم سلطوي يؤمِّن هذه التجارة، ويكفل لها ازدهارها، هل يمكن للأحفاد تحمُّل أوزار لم يقترفوها.. لنكن أكثر صراحة: لم تكن أوزارا عند الرعيل الأول.( ص129)

إن الراوي يرفض التفسير الأخلاقي لشتات العائلة، ليتبني التفسير الاجتماعي والسياسي لشتات الجنوب بأكمله والمتمثل في إهمال الحكومات للصعيد علي مر سنوات وعقود.

إن الزمن الثقافي لكلتا الرؤيتين مختلف بطبيعة الحال، وبالتالي من الصعب أن نتوقع من محمد الاسكندراني أن يمتثل لتلك الرؤية، خاصة أن صاحب تلك الرؤية العقلانية الشجاعة في إدانة الحكومات المتعاقبة هي شخصية موصومة بالخوف والفرجة علي الحياة دون المشاركة فيها من قبل محمد الاسكندراني وكل من ينتمي لنفس الرؤية القدرية. والمفارقة أن صاحب الرؤية القدرية (محمد) هو القادر علي مواجهة الشتات بزواجه من زينب مما يعني استمرار العائلة، وكانت وسيلته لخوض تلك المغامرة التي لا يجرؤ الراوي عليها، هي الحلم الذي رآه وأعاده من الشتات ليلمّ شمل العائلة، ذلك الحلم الذي لم يستطع سعيد ابن العمة أن يحققه من قبل. إن الحلم ضرب من الخيال، وقد استعان محمد بالخيال لمواجهة الواقع/ الشتات، فكان من الطبيعي أن يدين محمد ذلك الراوي / المثقف بنقص الخيال، وهو اتهام قاتل.

يأتي الراوي من زمن ثقافي مختلف، وهذا الاختلاف يحدد لنا ما الذي يلفت نظره فيراه جديرًا بالرواية، والأهم الكيفية التي يرويه بها.

هذه رواية تقليدية من حيث البناء، تبتدئ بمقدمة طويلة تمتد لتشمل الفصل الأول كله (كتاب العمّة)، يسير الزمن السردي فيه بطيئًا رتيبًا، وينحصر المكان في بيت الرّحال القديم حيث العمة، وذكرياتها مع العائلة، أما الراوي فلا حضور له في القص. فنحن في الفصل الأول أمام راوٍ عليم يسكن بيت الرحال وذاكرة العمّة في نفس الوقت. فهو راوي حكايات لا راوي أحداث بالدرجة الأولي. وعلي الرغم من مشاركته في الأحداث بدءًا من الفصل الثاني (كتاب الرجال) إلا أن هناك بعض المواقف التي سردها لنا دون وجه حق، فكونه راويا مشاركًا في الأحداث لا يتيح له التواجد داخل غرفة نوم العمة بعد موتها وهي تحاور امتدادها الإنساني الحي(زينب) وقد تعري جسدها، في هذه اللحظة الخاصة التي أتت فيها روح العمة فاطمة محملة برسالة من العالم الآخر حيث الجدة فاطمة لتنصح زينب "الفارسة تعرف متي ترخي اللجام"، لترخي زينب اللجام أمام محمد الإسكندراني. في هذا السياق السردي لا يحق للراوي التواجد بأي صفة، فضلاً عن أن ينقل حديث المتوفاة (فاطمة) إلي الحالمة المستيقظة(زينب):

" كانت تحاول التيقن من كونها مستيقظة، بيدها الخالية قرصت صدرها، تأوهت، والعمة أوقفت ضحكتها وأعقبتها بسعلة قبل أن تقول: الأيام بتروح يا بتي....قالت في نفسها: أنا صاحية». (ص120)

ولم ينج من أحبولة الراوي المتحدث باسم الجميع عمه عثمان العجبان نفسه، وذلك حين استوجب السياق السردي دخوله في لحظة حيرة تناسبها تقنية المونولج أو الخطاب غير المباشر الحر (8) حيث يعمد الكاتب أن يتداخل صوت الراوي بصوت الشخصية فلا نتبين لأيهما يكون الكلام بالضبط، ومع هذ لا يتحقق ذلك التداخل لتحقيق هذا الإيهام:

"وهاجمه سؤال: هل ستمتد يده علي ابن عمه، إن فازت فاطمة؟ .... لا يدري علي أي نحو يتصرف، ما الذي دفع مصطفي لهذا الفعل؟..إلخ (ص143) .

والسؤال ما هي الحكايات أو العادات والتقاليد التي رواها أو الموتيفات التي وصفها لنا هذا الراوي العليم ؟ وهل تحققت خصوصية روائية ما لهذه الرواية؟

"تذكر أن خرّاط البنات كان يغامر كي يزورها ليلا، ليجعل جسدها يستدير، كما تقول جدتها حين تأخذها في حضنها: بالليل عندما تنامين، يأتي خرّاط البنات، متلصصًا يرقب إخوتك الرجال، ولما تأخذهم الغفلة، يدخل إليك، تكونين نائمة، يعمل يديه في جسدك. (ص11)

هذا التفسير الذي تقدمه المخيلة الشعبية للبنات في سن المراهقة للتحولات الفسيولوجية التي تحدث لأجسادهن لا يقتصر علي جنوب مصر، وإنما هو تفسير شائع في أنحاء مختلفة من البلاد العربية، لكنه خاص بفئة اجتماعية معينة لا يمكّنها مستواها التعليمي من التثقيف الجنسي لبناتهن.

إن وجود الحكاية خارج الرواية له غاية التوظيف الحياتي لذاك التفسير الشعبي بين الأم والابنة، مع الوضع في الاعتبار ما يتعرض له المأثور الشعبي بشكل عام من انحسار. لكن وجود الحكاية في الرواية يجب أن يكون له وظيفة روائية حيث تأتي الحكاية في إطار تذكر العمة فاطمة لعلاقتها بالجدة فاطمة التي سميت علي اسمها، فقد كانت أقرب إليها من أمها حتي تحكي لها تحولاتها الفسيولوجية علي هذا النحو. والملحوظ أن كل الذاكرة يتم سردها بطريقة الاستعادة من الماضي لكن دون حضور معقول لصوت العمة صاحبة الذاكرة نفسها!

إن ذاكرة العمة كانت بالنسبة للروائي مصدرًا لم يقدّر قيمته فنيا، علي الرغم من حاجة السرد لها سواء لإضفاء حيوية وطابع إنساني علي المروي أو لإقناع القارئ ببعض الأحداث التي لا يقف وراءها المنطق السائد اليوم بين جمهور القراء، وإنما يقف وراءها معتقد شعبي لا يحتاج القارئ لتفسير وتبرير وإقناع بصدقه خاصة إذا كان من بيئة ثقافية مغايرة بقدر ما يحتاج لأن يصله الإحساس بمدي إيمان تلك الشخوص بذلك المعتقد ومدي تأثيره علي حياتهم. ومن هذه المعتقدات الشعبية الإيمان الشديد بالحسد، فهذا المعتقد هو أساس الشتات الذي تقوم عليه الرواية، فالجد الرّحال كان يعتقد في حسد أهل القرية له بشكل قد يراه القارئ مَرضيا ما لم يصله إحساس صاحب المعتقد بغير ذلك، وذلك حتي يمكنه أن يتقبل ما ترتب علي ذلك المعتقد من انعزال عن القرية خلافًا لطبيعة البشر في تشكيل التجمعات السكانية سواء كانت قروية أو مدينية.

إن الذاكرة قد تختزن موروثًا ثقافيا جديرًا بالحكي، لكن هذا الموروث الثقافي إنما هو في الحقيقة عبارة عن علاقات إنسانية كانت قائمة بين حاملي هذا الموروث في ذاكرتهم الفردية والجمعية. وإذا كان هذا الموروث هو المقوم الأساس للخصوصية الثقافية للمكان الذي اختاره الروائي ليكون عالمه الروائي فإن استعادة أصوات حاملي الموروث ليكونوا هم رواته هو جزء هام من عمله السردي افتقده الفصل الأول.

ومن ناحية ثانية، إذا كان المعتقد الشعبي حول الحسد يفسّر حدثًا هامًا في الرواية وهو انعزال الجد الأكبر الرحال عن القرية، فإن المعتقد الشعبي يلعب دورًا هامًا في الاعتراف بتميز وتفوق "عيد" في رسم الجداريات الخاصة بالحج، التي هي نفسها أيقونات تختزن ثقافة الجماعة الشعبية. إن الاعتراف بـ"عيد" هنا ليس كرسّام فحسب، وإنما كفنان قادر علي تمثيل روح الجماعة الشعبية بأفراحها وأتراحها من خلال أيقونات تضرب بجذورها في تاريخ الجماعة. ومن هنا كان المعتقد الشعبي في شخصية سيدنا الخضر عليه السلام وظهوره كداعم للأبطال الشعبيين، مفسِّرًا ليس لموهبة "عيد" المفاجئة في رسم الجداريات فحسب، وإنما مفسِّرًا للعلاقة الخاصة بين الرسوم والرسّام والحالة النفسية للعمّة /المرسوم.

" أين يكمن الخطأ؟ تساءل (عيد) مُحدِّثًا نفسه: في حالات مشابهة تغلبني هواجسي، لكني الآن فقط أعيد رسم الصورة القديمة. مدّ يده مشيرًا إليها، لكن ما الذي حدث، أهي الصورة التي تتحكم في إظهار ذاتها كيف تشاء، أم هي معايشتي لها ولحزنها الذي بات مُسيطرًا عليها؟ رغم قوتها التي تحاول أن تدعيها لتداري بها ضعفها وحاجتها للحماية والتعاطف!! (ص87).

إن الوصول لهذه الحالة من التوحد الإنساني بين الفنان ولوحاته سواء كانت أيقونات علي الجدران أو شخوصًا يعاشرهم، قد مهدت له الرواية باستدعاء تراث الجماعة دون حواجز تاريخية بين تلك الموروثات؛ فمن الخضر ومباركته لعيد إلي استدعاء فعل "دثريني دثريني" المحفور في الذاكرة الجمعية بوصفه علامة لغوية تستدعي كل الحالة النفسية التي عايشها الرسول (ص) بعد تلقي الوحي وعايشتها معه السيدة خديجة.

"فبعد الذي حدث بينه وبين الرجل الطيب عند ضفة النهر جري عائدًا، مرتعدًا إلي أمه التي دثرته، ومن خلال ارتجافه علمت بما جري له، قالت له : إنه سيدنا الخضر(ص27).

ثم انتقال هذه العلاقة الخاصة للراوي نفسه في نهاية الرواية، حيث تتحول الرسوم لما يشبه اللوح المحفوظ الذي يستقي منه ما سيلي من أحداث.

" وللمرة الثانية داهمني إحساس بأن ما أراه الآن سبق وشاهدته بين الرسوم، رفعت عيني للحائط المواجه لي، كان شاب حائر يتحرك بين قافلة، يريد الوصول لسيدها الذي علي جمله في المقدمة، (....) ضحك عيد ..قال : عقبالك وعقبي له. وأشار إلي محمد الذي كان في هذه اللحظة يجلس بجوار عمه وقد وضع يده علي كتفه..صعقتني المفاجأة، ...جلست مبهورًا، وعيني جرت للرسوم، وكان شاب قد توقف بجوار فتاة، لم تكن موجودة قبلاً، وكانت يده ممدودة لراكب الجمل: سيد القافلة." (ص142)

هل يمكن أن نعتبر أن ذلك بمثابة تحول في رؤية الراوي للعالم؟! يبدو أن ثمة ما يشير لاكتشاف الراوي بأن في عالم الجماعة الشعبية أشياء لا تخضع للمنطق والعقل كما كان يجادل في الفصل الأول، فإذا كان "لم الشمل" مكتوبًا في جداريات الفنان/ اللوح المحفوظ للعالم الروائي، وقد قرأه، علي هذا النحو، الراوي نفسه، فإن من قرأ "لمّ الشمل" بوصفه قدرًا مقدورًا، ليس أمامه سوي أن يعيد النظر في قراءته لـ"الشتات"!!

وهنا يمكن القول إن تحول موقف الراوي من راوٍ داخلي غير متعاطف إلي راوٍ داخلي متعاطف لدرجة الانبهار بما يكتشفه من أسرار بيئته المحلية وما فيها من شخوص، هو تحول وإن كان يتم علي استحياء وعجل في نهاية الرواية إلا أنه يمكن أن نعتبره علامة الجدّة في هذه الرواية حيث يتزعزع اليقين والرؤية الوثوقية للعالم والتي كانت مهيمنة علي رؤية الراوي وعلاقته ببيئته المحلية طوال الرواية كما تجري العادة في غالب الروايات الحديثة.

إن الشتات كلمة تحمل شحنة عاطفية سلبية، لكن إذا حاولنا تجريدها من تلك الشحنة العاطفية، لا يتبقي منها سوي أنها تشير لابتعاد عن "مركز"، وتأسيس "مراكز"جديدة، أي أنه نوع من الانتشار والتوسع للعائلة، ضريبته ضعف هيمنة المركز الأول علي الأطراف/ المراكز الجديدة.

إن الاعتقاد في أن الشتات قدرٌ، بذنب أو بدون ذنب، يعني أنه أخذ قوة "المعتقد الشعبي"، وبالتالي يستلزم أن تنتج الجماعة الشعبية حيلا حياتية أو طقوسا وشعائر قادرة علي مواجهة ذلك المعتقد لتحافظ علي استمرارها وتواصلها. وهو ما رصدته الرواية من تناسخ الأسماء فنجد عيد الجد ثم عيد الأب ثم عيد الحفيد، مع استمرار الموهبة، ونجد الجدة فاطمة والعمة فاطمة مع استمرار قوة الشخصية الفارسية وقوة الحنان وحكمة المرأة التي تعرف متي ترخي اللجام . وتسمية زينب / امتداد فاطمة باسمها احتاج من عثمان لتأكيد أن الأم /ابنة عمه الصحراوية هي التي أسمتها. ووراثة الاسم كمقاومة لموت الأحباب أو فراقهم لنا خصيصة ثقافية تستهدف استحضار كل ما هو بعيد عن المركز ليحضر معنا هنا والآن. وقد تصل المسألة إلي ما يسمي بعبادة الأسلاف، ولا يتم التخلي عن تلك العادات إلا إذا مسّ الأبناء والأحفاد سوء المصير الذي لحق بالأسلاف، أو خيف منه عليهم وهو ما دفع العمة فاطمة للكف عن تلك العادة مع أبنائها بعد فراق أبنائها الذين أسمتهم علي أسماء أخوالهم.

ويبدو أن الرواية قد بالغت في تناسخ الأسماء والمصائر حتي الغموض، وهو ما شعرت به تجاه شخصية "الغريب" . "الغريب" يظهر في الفصل الثاني "كتاب الرجال" ويضفي حيوية عالية علي السرد لقدرته علي الاستهزاء بعائلة الرحال في حلقة التحطيب، ويبدو أن من ورائه سرًا غامضًا، وهذا السر لا يبين إلا عندما يكشف الراوي علاقة العم عثمان بهذا الغريب العائد للانتقام منه. لقد ضخ العم عثمان دماء جديدة في شرايين الرواية حين أقسم بأن يصفع من ينهزم أمام أخته فاطمة في سباقات الخيل، إغلاقًا منه لباب "السداح مداح" في المنافسة، وذلك لأن الرواية لا يمكنها أن تسرد مسابقات معروفة نتائجها سلفًا بذكرها أن الفائز بالعمة فاطمة هو ابن عمها مصطفي الذي تزوجها وأنجب منها، و بالتالي كل من سيتسابق معها هو من المنهزمين، وبالتالي لا جديد في السرد، وذلك خلافًا للسرد في السير الشعبية، فعلي الرغم من معرفة الجمهور بانتصار البطل أبي زيد في هذه المعركة أو تلك إلا أن الشغف بالسرد له أسبابه الأخري، ولهذا فإن قسَم العم عثمان جعل الشغف بالسرد في هذه المسابقات يتعلق بموقف العم عثمان من المنهزم، هل سيستطيع صفعه علي وجهه أم لا؟ وماذا سيكون رد فعله؟

يعود الغريب لينتقم لكرامته من العم عثمان الذي صفعه أمام الناس، لكن هذه المرة في حلقة التحطيب وبشروطه : إما أن ينازله في حلقة التحطيب، أو يرد له الصفعة، أو يزوجه من زينب ابنته.

والسؤال: أي غريب هذا الذي كان صالحًا للتقدم للزواج من العمة فاطمة، ومازال صالحًا للتقدم للزواج من زينب الحفيدة، بل وأن يعود ليهزأ من كل من يبارزه، بل ويوصف بأنه "رباية مدارس"؟ إن عدم معرفتنا بعمر الغريب، مع وجود شخصية واحدة تحمل اسم الغريب يجعلنا نعتقد في أحد أمرين: إما أن الرواية تمارس نوعًا من أسطرة الشخصيات برفعها فوق الزمان فلا تجري عليها تغيرات الزمن، وإما أن هناك نوعًا من تناسخ الأسماء الذي تمتد الشخصية عبره في الزمن لتؤدي نفس الدور، فيكون الدور هنا أكثر أهمية من الاسم. وفي كل هذه الأحوال هي شخصية لا تعدو أن تكون طيفًا يمكن استبداله بـ"س" أو "ص". وكأنها شخصية تنتمي لعالم الرواية الجديدة في ضيافة رواية حديثة.

إن أسطرة العادي والمألوف سمة من سمات هذه الرواية(العمة أخت الرجال) محاكاةً للسرد الشعبي واليومي، فالرسوم تتحول للوح محفوظ يقرأه عيد والراوي، والنخلة تتحول لكيان مقدس، لا تقربه إلا العائلة، أو كجبل مقدس لا يصعده إلا أبناء الجد الأكبر، حتي عيد الرسام حفيد عيد الجد مستلم الموهبة من سيدنا الخضر، ممنوع من صعودها، والطيور أرواح تربطها علاقة وثيقة بروح العمّة حتي أنها تموت بموت العمة(الدجاج/ القطة)، وتنكسر عيون النعجة والخروف، وانكسار العين مذلة، لكنهما يؤديان مهمتهما القديمة التي كلفتهما بها العمة وهي تسوية الحشائش حول النخلة، بل إن الريح تُسير خصيصا لا لتلقّح النخلة كبقية النخيل، وإنما لتهزها فتسقط بلحها علي الحشائش، والأهم أنها نخلة تأبي أن ينبت بجوارها أي نخيل آخر، وكأنها، في موازاة رمزية مع عائلة الرحال واجتنابهم الناس/ الآخرين، سلف بلا خلف!! هل يمكن أن نقول إن الآخرين بالنسبة لعائلة الرحال لم يكونوا إلا العبيد أو الغريب، وأن وسيلة التعامل معهم كانت القوة وبالتالي الانتصار في مسابقات الخيل أو التحطيب، مما جعل منها عائلة منغلقة علي نفسها ومعرضة للانقراض، وأن محمد الإسكندراني بعرضه للزواج من زينب دون تحطيب كما فعل عثمان مع عمه عبد الله البشاري عند زواجه من ابنته(فاطمة أيضًا)، ودون سباق خيل (كما تزوج مصطفي من العمة فاطمة) تكون الدنيا قد بدأت تتغير بالفعل، وإن كان ما زال الوقت طويلا ً حتي يتحول الغريب إلي شريك في الحياة.

إن ميراث هذه العائلة القسوة، علي حد تعبير العم عثمان الذي رفض أن يحضر جنازة أبيه، ردًا علي طرده من البيت. وعلي الرغم من إجلال الموت في الثقافة الشعبية بشكل لا يجوز معه إلا الخشوع أمامه وليس التشفي أو الانتقام، فإن شخصية عثمان المتمردة هنا مؤهلة فنيا للانحراف عن الثقافة الجمعية / الذاكرة القديمة وتأسيس ذاكرة جديدة يتجاور فيها المدنس/ الفردي مع البطولي/ الجمعي، فالبطل عثمان هنا يدخل في عملية أسطرة مستمدة من الحكايات الشعبية والأساطير حيث يجب عليه مثلما كان يجب علي كل الأبطال الشعبيين أن يفعلوا من تخطٍ لكل العقبات لينالوا الاعتراف بكونهم أبطالاً، وبالتالي مؤهلين للزواج من الأميرة، فعليه الذهاب لخور السلم ليقطع شجرة "خور السلم" وليس معه سلاح سوي البلطة، ومن غرائب الخور أن فرع الشجرة يتحول لحية، ثم يقتلها عثمان فتنزف دمًا، والدماء تجري خلفه حتي تكاد أن تغرقه، ومع شروق الشمس تتحول الغابة إلي جبال.

إن هذا الخيال الخصب يشد الرواية شدًا إلي موروث ثقافي حكائي أنتجته الجماعة الشعبية، وبهذا تبتعد الرواية عن تاريخ طويل من الكتابة الروائية العربية التي جرت العادة فيها علي أن يكون سرد البيئة المحلية سردًا واقعيا، لكن في الوقت نفسه يجب القول إن رواية "العمة أخت الرجال" لا تعيد إنتاج مفردات عالم الحكي الشعبي علي حساب كونها رواية تكتب هنا والآن، فالبطل العم عثمان علي ما شهده من عملية أسطرة فهو لم يكن يؤمن بهذا العالم الخرافي إلا باعتباره عالم الحكايات الخرافية فقط، وهذا خلافًا لاعتقادات الأبطال في الحكايات الشعبية. كما أن مكافأة البطل بالزنا وتحقيق شهوته الفردانية مع نعيمة وتجاور ذلك مع موروثه العائلي المحافظ ومع تحقيقه للبطولة بعد ذلك هو نوع من تجاور المتناقضات الذي تبرزه الرواية في الشخصية دون إدانة أخلاقية.

إن تلك السمات ليست بسبب مفردات البيئة المحلية الجنوبية أو خصوصيتها فحسب، وإنما هي نتيجة تفاعل الرواية مع تراث سردي طويل رفضًا وقبولاً، تسعي من خلال هذا التفاعل أن تحقق لنفسها خصوصية روائية، لكن يبدو أن هذه الرواية كانت تتمرد أو تقترب من "الرواية الجديدة" علي استحياء، فهي تضع قدمًا حينًا في البناء التقليدي للرواية حيث يستنسخ الراوي العليم الشخصيات والحكايات بلغة الكاتب غير المتعاطف مع البيئة حتي قرب النهاية، وحينًا تسكن في الحيز الروائي للرواية الحديثة بامتلاك الراوي القدرة علي تفسير العالم علي أساس أيديولجي أو سياسي، وهو ما يجعلنا نري أنها رواية تستحي أن تتمرد، فهي أشبه بذاكرة قديمة يستنسخ الراوي منها الشخصيات والحكايات.

«كيد النسا» لخيري عبد الجواد ..

محاكاة السرد الشفاهي تمرُّدٌ علي قواعد كتابة الرواية الحديثة

في هذه الرواية علاقة مركبة بين الكاتب / الراوي والبيئة العشوائية (بولاق الدكرور)، حيث تسقط المسافة بين "جمال" الملقب بـ" الكاتب خيري عبد الجواد" والراوي لسيرة هذا المكان وناسه، وبالتالي لا مجال للإيهام بالواقع عن طريق خلق عالم روائي مطابق في جغرافيته وشخوصه وعلاقاته للواقع، وما يستلزمه ذلك من حيل فنية، وذلك لأن الكاتب / الإنسان يعوّل علي أن الكلام المروي يكتسب مصداقيته من كونه كلامًا علي مسئوليته الشخصية ككاتب لأنه واحد من أبناء تلك المنطقة يروي ما سمعه وما رآه، وهو لا يكتب نتفًا من سيرته الذاتية في مرحلة حرجة من حياته فحسب، إنما يكتب سيرة شخصيات كانوا بمثابة أركان بيئته المحلية التي اختزنتها ذاكرته وهو طفل حتي أصبح الكاتب والباحث في الدراسات الشعبية خيري عبد الجواد.

لا يتحايل خيري لإيهام قارئه بأن ما يرويه واقع، وإنما يتحايل ليحاور القارئ الذي يشاركه نفس الخصوصية الثقافية بهدف أن يفيقه من سطوة الخرافات المتوارثة التي تسكن عقله ووجدانه، ويدرك الباحث خيري عبد الجواد أن أقصر الطرق لإقناع الجماعة الشعبية بشيء أن تفعل ما يفعلون وتؤمن بما يؤمنون به حتي يعتبروك واحدًا منهم ليستمعوا لك بعد ذلك فيما تريد تغييره جزئيا، ومن هنا كانت منهجية خيري في الحكي هي منهجية أقرب للتمرد علي الحكي الكتابي الذي جرت عليه عادة كثير من الروايات الحديثة، ومحاكاة الحكي الشفاهي وطرائقه الذي جعل "كيد النسا" أقرب للرواية الجديدة، حيث تعتمد علي الخروجات المتعمدة من السرد وتوجيه الكلام للقارئ والاستطرادات وإخبار القارئ صراحة بالبرنامج السردي العفوي للراوي حين ينتقل من حكاية لحكاية أو حين يحتاج للعودة لحكاية لم تكتمل، أو حين يؤجل حكاية لأنه لم يأت الوقت المناسب لحكايتها.

"وقع في حب "صفاء" ابنة الناس الذين كان يبيض شقتهم في شبرا من أول عينه ما وقعت عليها وحكايتهما طويلة ومعروفة ـ ليس هذا أوانها. ( ص 22)

وكذلك:

"هذا ما ستعرفونه إذا ما تبعتموني في الصفحات التالية - فكونوا معي (ص81).

وكل ذلك محاكاة متعمدة لطرق الحكي الشفاهي الشعبي، لكن الراوي هنا هو خيري عبد الجواد الكاتب والمشارك في الأحداث.

"هنا أبدأ الحكاية وأنا علي يقين مما حدث في تلك الفترة، فقد كنت طرفًا فيها، ذلك لأن العائلة التي أقامت عندها بديعة عائلتي. (ص14)

يؤسس خيري عبد الجواد لثقة القارئ فيه كراوٍ يسرد ما يعدُّ من الحكي السري المضنون به علي غير أهله، وأهل هذا الحكي الذين يروي لهم ليسوا أقل من أصدقاء أو قراء سيرة ذاتية لا قراء رواية.

"أصبحت أنا ابن السادسة أري بديعة أمامي في كل لحظة، بل أنني كنت أصحو من نومي في بعض الأحيان لأجدها نائمة بجواري علي سريري بملابسها الداخلية... صرخت وقامت منتورة تتلفت حولها في ذعر، وبعد لحظة تنبهت إلي أن الفاعل لم يكن سواي فنظرت إلي وتبسمت. (ص14-15)

حضور"خيري" الكاتب والراوي في هذه الرواية ليس مجانيا أو من باب إشهار نفسه، كما أنه لا يكتب علي غلاف كتابه "سيرة ذاتية" وإنما كتب رواية، لكنه يعرف أن الحكي عن الذات يذيب المسافات بين الكاتب والقارئ، لاسيما إذا كان يمس الجانب الإنساني، لأن الإنسان واحد في مكان، وحيثما تجد خصوصيتك وتطلعني عليها فإنك تساعدني علي أن أجد خصوصيتي إما بطريق المشابهة أو بطريق المخالفة. وهنا نجده يؤرخ لإصدار المجموعة القصصية الأولي لخيري عبد الجواد ككاتب بأحداث في الرواية وكأنه ينتمي وشخوصه لتقويم مختلف عن التقويم المألوف في غير تلك البيئة المحلية (بولاق الدكرور).

"عشرون عاما مرت علي موت نور، وأنا كبرت وبدأت أكتب قصصا قصيرة نشرت معظمها في الصحف والمجلات، حتي تشكلت مجموعتي الأولي، وظللت أنا وأستاذي الكاتب الكبير إدوار الخراط في حيرة من اختيار الاسم، (.....)، لكني اخترت أحد عناوين القصص وأضفت إليه كلمة حكايات ليصبح عنوان المجموعة هكذا : حكايات الديب رماح" .( ص103)

وإذا كان موت نور قد أصبح أقرب لنقطة بدء التقويم علي غرار ميلاد المسيح أو هجرة النبي محمد، فإن خيري يقيم في نفس الوقت تاريخًا موازيا للتاريخ الوطني والقومي يستند لأحداث روايته. فحرب أكتوبر توازيها في تقويم "كيد النسا" حرب السحرة، وكارثة الخامس من يونيه توازيها وفاة الأخ الأكبر للراوي وإصابة جده وابن عمه بالعجز بعد أن طارت رجله بفعل أحد السحرة الأشرار.

" عشت تلك الأيام العصيبة من عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، كانت بدايتها، بالتحديد في شهر يناير، وبالتحديد أكثر، في الثالث عشر منه حين أعلنت الحرب الكبري بين نجية وأم وجدي من ناحية وبديعة وفتحية ومن بعد حليفتهما أم جمال - أمي - فكيف دخلت أمي تلك الحرب ؟ (ص81).

إن خيري لا يؤرخ لبولاق الدكرور التي اختزنها في ذاكرته بهذا التاريخ الموازي للتاريخ الوطني فحسب، وإنما يرمي ليتواضع مع القارئ علي أن يكون هذا التقويم هو التقويم الذي يؤرخ به مسيرته ككاتب ينتمي لتاريخ تلك البيئة المحلية وينفصل عنها في نفس الوقت، فكانت رواية "كيد النسا" بمثابة توثيق لظروف إنتاج كتابات خيري عبد الجواد، لاسيما كتاباته الأولي التي يستقيها من تلك البيئة المحلية ، لكنها في نفس الوقت هي التي نقلته من كونه "جمال" إلي كونه الكاتب الملقب بـ"خيري عبد الجواد".

"لاقت روايتي الأولي (كتاب التوهمات ) نجاحا ملحوظا، واستقبلها الوسط الأدبي بترحاب وحفاوة كبيرين، حتي أن البعض كتب عنها باعتبارها كتاب الموتي الحديث، مقارنا بينها وكتاب الموتي الفرعوني، ولهذه الرواية حكاية، كانت أمي قد توفيت....» (ص160)

ومن هنا بدت الرواية ذات مواضيع متعددة وكأنها جلسة سمر بين صديقين (الكاتب/ القارئ)، ينتقلان فيها من موضوع لآخر حسب ما تمليه عليهما الذاكرة والحالة النفسية للكاتب، وليس وفقًا لبرنامج سردي محدد تتسلسل فيه الأحداث زمنيا ويفضي بعضها إلي بعض علي أساس وجود علاقة سببية بينها. فخيري الراوي الذي يصحب بديعة للمقابر لزيارة زوجها نور، يستدعي خيري الكاتب صاحب التوهمات، لأنه يشعر أن في نفسه حاجة للهمس في أذن قارئه برهبة الموت في داخله، وهذا الشعور أقوي من قواعد الكتابة التي يعرفها جيدًا، لكنه يعرف أن التمرد علي تلك القواعد وليس الامتثال لها هو الإبداع. فيأخذ القارئ معه في رحلة طويلة مع مشاعره تجاه الموت في خروج عن مسار الرواية وأحداثها وكأنها لحظة شرود شاركه القارئ فيها:

"قادتني وسط الطرقات وشواهد القبور حتي توقفت أمام مقبرة بلا شاهد وأشارت :عمك نور نايم هنا . للموت رهبوته ولي معه وقفة، في التوهمات، توغلت إلي أبعد حدود التوهم، ودخلت في سكة اللي يروح ما يرجعش، وصعّبت الحياة علي نفسي، وعشت في نكد ما بعده نكد ، وكدت أفارق من شدة توغلي في تصور لحظات المغادرة، هل أطلعكم علي نتف مما كتبته في تلك الفترة المحنة ؟ وهل يسمح المجال بذلك ؟ ولم لا، واذا كانت هناك قواعد للكتابة فالتمرد عليها أولي، انظروا لهذا التوهم : توهمت أن روحي راحت ( ص107)

بعد المشاركة في هذه الحالة الإنسانية يتملك الكاتب قلب وعقل القارئ لأنهما وجدا نفسيهما في مواجهة رهبوت الموت، وهنا يعود الكاتب بصديقه القارئ إلي مسار الرواية من باب تناسي الحقيقة التي يواجهانها معًا:

"يقول شيخي محيي الدين ابن عربي : الموت سهم صوّب إليك لحظة مولدك، وحياتك بقدر وصول السهم إليك . قضي الأمر وطويت الصحف ولا راد لقضائه، فالسهم انطلق، وهو آت لا محالة، مسألة وقت ليس إلا، فصلت ذلك في توهماتي لمن أراد المزيد من النكد، أما أنا فأرد نفسي عن شرودها وأعود الي روايتي . (ص113-114)

إن العلاقة القوية التي أسسها الكاتب/ الراوي مع القارئ بإزالة الكثير من الحواجز الكتابية بينهما تعفي الراوي كثيرًا من التحايل الفني لتبرير علاقة التداخل أو "التلبس" بين صوته وصوت العديد من الشخصيات، وكذلك بين لغته و لغاتها، بل والأهم بين رؤيته ورؤيتهم.

لم يزعم الراوي موضوعية فيما يروي، وإنما أعلن صراحة أن مروياته تستند لنوع من الثقافة مشكوك من وجهة نظر الثقافة الكتابية في مصداقيته وبالتالي موضوعيته، وهي الثقافة السمعية، فكل ما هو منقول سماعيا لا يعوّل عليه كثيرًا لمن أراد الموضوعية أو التوثيق أو التدقيق وكلها أشياء قرينة الثقافة البصرية/ الكتابية.

"أما بديعة، فقد دخلت في شرنقتها الخاصة وتوحدت مع نفسها، لم أعد أراها، لكني كنت أسمع عن أحلامها وهلاوسها المتعلقة بنور وإصراره علي إقامة ضريح له بأية طريقة . (ص162)

إن "التلبس" كلمة مناسبة لوصف العلاقة بين خيري الراوي وشخصيات عالمه الروائي في بولاق الدكرور ليس لأنه أسير ذاكرة تقوده أينما ولّي وجهه ككاتب، وإنما لأنه قد تلبّسه الموروث الشعبي فأصبح مضروبًا به فتسقط المسافة بين الباحث (الذات) والمبحوث (الموضوع/ الموروث الشعبي)، ليحدث نوع من تبني الباحث لرؤية المبحوثين للعالم لأنه في واقع الأمر باحث ومبحوث أو ذات وموضوع في آن. وهذه الحالة من تلبس الشخصية للراوي ليذوب فيها لغويا واستعاريا ومعرفيا هي حالة تتجاوز علاقات التعاطف المعتادة بين الرواة وبيئاتهم المحلية سواء كانوا من أبنائها أو من ضيوفها. وقد كان خيري واعيا بذلك فنبّه القارئ لما يمكن أن يترتب علي ذلك من التباس لديه في موقف الراوي مما يروي من خرافات وأساطير:

"وفي تلك المرحلة، كان اهتمامي بالموروث الشعبي قد وصل لحد الهوس المبالغ فيه. (ص162)

حيث نجد الراوي يؤكد بوصفه شخصية مشاركة في الأحداث معجزة نور زوج بديعة الذي بقي في كفنه دون تحلل بعد عشرين سنة من وفاته، وهو ما يجعلنا نري أن خيري الكاتب والراوي قد تجاوز بذلك منطقة أنه راوٍ يروي عن الذات الجمعية أساطيرها إلي منطقة أنه واحد من المؤمنين بتلك الأساطير، وهو ما يعد تمردًا علي تقدمية وعقلانية تراثه الروائي الحديث.

"وأنا أردت التأكد فاقتربت من الجسد ولمسته بأصابعي لمسا خفيفا فسرت رعدة في جسدي، كان غضا ودافئا، والماء الذي غسّل به مازالت نداوته يحملها اللحم الطري الذي تفوح منه رائحة ماء الورد.» (ص 114-115)

بل إن حالة التلبس تلك تتعدي الرواية كنوع أدبي إلي المقالة حيث يروي خيري أنه كتبت عن الولي الذي لم يتحلل جسده مقالة ونشرت في جريدة:

"وفي إحدي الجرائد وقعت عيني علي عنوان بدا لي للوهلة الأولي أني أعرفه : الولي الذي تم اكتشافه في بولاق الدكرور . وتحت هذا العنوان وببنط أصغر :دفن حيا وبعد خمسة وعشرين عاما يخرج من قبره ليظهر كراماته.» (ص118)

وتتجسد حالة التلبس تلك لغويا ليس في نقل حكايات شعبية(كيد النسا- حكاية العجوز والقرد- حكاية المرأة التي أنجبت قردا) علي ألسنة الشخصيات الروائية بلغة الحكي الشعبي فحسب، وإنما بحدوث الهجنة بين لغة الحكي الشعبي ولغة الراوي عند نقله لخطاب الشخصيات.

" فما حكايتك الله يفتح عليك .

قالت زوجة الأسطي حمامة: ما انتهيت من قولي حتي رأيت دموعها سحت علي وجهها،. ثم أنها أجهشت بالبكاء فأخذت أطبطب علي ظهرها حتي هدأت.» (ص64)

وحين ينتقد الراوي موقف حفني الذي خانته زوجته صفاء مع محمد عبدون زوج أخته صديقة، ولم يقتلها أو يطلقها، فإنه ينتقده علي أساس ما تنص عليه التقاليد في تلك البيئة المحلية وتدعمه ثقافتها الشعبية، بل إنه كراوٍ مشارك في الأحداث يصوغ رأيه بنفس التعبيرات الدارجة علي ألسنة بقية شخصيات ذلك العالم الروائي/البيئة المحلية:

"أصبح تحت رجلها، مرمطته وحطت رأسه في الطين، وبدلاً من أن يطلقها أو يقتلها كما يفعل الرجال، أخذها ورحل فهو لا يستطيع الابتعاد عن المرة النجسة» (ص48)

إن طبيعة علاقة الراوي الذي تتلبسه أرواح شخصياته ثقافيا حتي أُصيب باللايقين فيما إذا كان المنطق العقلاني هو الذي يحكم العالم أم الخرافة، سمحت لهذا الراوي يروي من معين الثقافة السمعية ما لا يروي إلا علي لسان الشخصية، كما في روايته لأحلامهم.

" رأي حفني نفسه فيما يري النائم وكأن حجرا ثقيلا وضع علي صدره فلا يستطيع التنفس». (ص123)

أو هلاوسهم ومونولوجاتهم الداخلية، كما في تلك الغمغمة بين بديعة وزوجها المتوفي(نور):

"طب وهاتشوفه فين، انت في الجنة ونعيمها، وهوّا في النار وبئس القرار بعد عاملته السودا مع صفاء .» (ص101 )

ويصل الراوي / الكاتب إلي أن يتبني نفس الاستعارات التي تحيا بها تلك الشخصيات في بيئتها المحلية، والتي تشد انجذاب القارئ غير المحلي لها، لكنها في نفس الوقت تجسد رؤية كامنة في تلك الاستعارة تجاه مفردة من مفردات الحياة، فعلي سبيل المثال نجد استعارة تتعلق بالتخيل الشعبي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة باعتبارها مسألة قدرية "فكل فرج مكتوب عليه اسم ناكحه. (ص164) .

لكن ذلك الفرج هو إما قلعة يأتي الرجل ليهدمها..

" ودخل(نور) عليها (بديعة) فوجدها درة ما ثقبت، ومطية لغيره ما ركبت فأطلق مدفعه علي قلعتها. (ص7)

وكذلك:

" وهي(صفاء) ترهز من تحته حتي هدم(حفني) قلعتها وخربها». (ص39)

أو مغارة يأتي الرجل ليسبرغورها..

"وتتحسس ( فتحية) جسدها بأناملها فتجد اسمه (رمضان) محفورًا هناك بحروف بارزة وحادة تكاد تنطق فتشعر بالنشوة وتصبح علي يقين من أنه هو وحده سوف يمتلك جسدها ووحده فقط من سيصل إلي مكامنها، أليس اسمه مكتوبًا هناك علي باب مغارتها». (ص56)

وبالتالي إذا ما ضعفت قدرة الرجل علي هدم القلعة أو فقد ماله فعليه ألا ينتظر من وراء أية امرأة ودا.

"إلا قولي لي يا اختي كيف ترضين بالعيش مع عجوز النحس هذا، وقديمًا قال الشاعر :

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب». (ص63)

إن اللايقين الذي تملك الراوي فجعله يتساءل عن منطق العالم في حركاته وظواهره ما بين ظواهر تمتثل لقانون العقل وتستهدف التقدم، وأخري تخرق ذلك كله هو ما يجعلنا نعتبر تلك الرواية متمردة لولا أن ختامها جاء تنويريا يتبرأ من حالة اللايقين التي خلقتها علاقة التلبس مع صانعي الأساطير والخرافات، فجاء ختامًا يليق برواية حديثة بينما كنا نقرأ رواية جديدة.

" ومع مرور الزمن ينسي الناس كعادتهم كل ما هو حقيقي وأرضي ليتعلقوا بالأساطير، وفي أوقات الشدة والملمات تتراءي بديعة للناس علي هيئة قرص من النور المضيء فوق إحدي مآذن الجامع الكبير». (ص182)

«فانيليا» للطاهر الشرقاوي ..

الراوي عليم لكن ذاته منشطرة

لماذا رواية "فانيليا" في بحث عن سرد الشئون المحلية بينما أحداثها تدور في ميدان التحرير / وسط البلد الذي يعد مركزًا ثقافيا وإداريا تتبعه كل البيئات المحلية سواء كانت في شمال مصر أو جنوبها، في شرقها أو في غربها، زراعية كانت أو بدوية، عربية عرقيا كانت أو نوبية، فضلاً عن الحزام العشوائي الذي يحاصر ذلك المركز ؟

من المؤكد أن الإجابة لا تتعلق بكون الكاتب من مواليد محافظة قنا في جنوب مصر، ما دام لم يكن لذلك المولد أثر علي السرد. لكن سبق أن أشرنا إلي أنّه إذا كان القارئ هو الذي يحدد إن كانت هذه الرواية أو تلك رواية شئون محلية بالأساس، فإن نسبية المفهوم تجعل من المركز الثقافي والإداري أيضًا ذا خصائص ثقافية محلية بالنسبة لقارئ من جنوب مصر أو من شمالها أو حتي من الضواحي العشوائية التي تحاصر ذلك المركز، فضلا عن القارئ العربي، وذلك لأن الخصائص الثقافية لذلك المركز النخبوي لم تُعمم لتكون خصائص ثقافية عامة لكل القطر المصري فضلاً عن الأقطار العربية. ومن هنا فإن وسط البلد بشخوصه وعاداته وتقاليده ومشاكله النفسية والاجتماعية شأن محلي وليس شأنًا قوميا، خاصة علي مستوي الرواية.

وجرت العادة في الرواية المصرية أن يروي تلك البيئة المحلية"وسط البلد" رواة من خارجها، جاءوا إليه سعيا للعمل في الثقافة أو الصحافة، لكن لا يكون غالبًا موطن رأس لأي منهم، لأن موطن الرأس يكون إما في جنوب مصر أو في شمالها كبيئة محلية غائبة حاضرة في السرد. وهو ما يترتب عليه من صراع قيمي أحيانًا ومعاناة اجتماعية غالبًا، وشعور بالاغتراب والوحدة تصل أحيانًا لدرجة المرض النفسي المألوف في تلك البيئة المحلية "الاكتئاب". وهو ما ينطبق علي شخصيات رواية فانيليا، خاصة البنت "ذات القدم الطفلة "التي أثرت بيئتها الجديدة "وسط البلد" علي رؤيتها لموطن الرأس، فمحت الصورة الذهنية القديمة لبيت العائلة، الذي أصبح مجرد جدران متشققة وتراب تستنشقه فيه .

"في آخر زيارة لها إلي بيت العائلة، في المدينة الصغيرة، اكتشفت أنه ضيق جدًا، علي عكس ما كان مرسومًا في ذهنها». (ص51)

لكن ماذا عن الراوي الذي يمكنه أن ينقل لنا تلك البيئة المحلية المدّعية للمركزية ومشاكلها النفسية والوجودية، لاسيما إذا كان راويا غير مشارك في الأحداث؟ وكيف أمكن لتك الرواية "فانيليا" أن تتمرد علي قواعد الكتابة الروائية لنعدها رواية جديدة بامتياز؟

أعتقد أن رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي قد أقامت حوارًا مع النوع الروائي هدفه المطالبة بإعادة النظر في تقييم المؤسسة الكتابية للـ:" راوي غير الحاضر في العالم الروائي ويري العالم الروائي من داخله". علي اعتبار أن الرواية قد لجأت لهذا الخيار الفني التقليدي جدًا والذي لا يعدو كونه مجرد نقطة بدء للسرد الكتابي، لكنها استطاعت أن تقدّم تصورًا مختلفًا علي المستوي المعرفي والجمالي لتقنية الراوي العليم في ضوء الظرف الثقافي ما بعد الحداثي؛ حيث انشطار الذات وتجاور مفرداتها المتناقضة من أهم مفردات هذا المشهد الثقافي. إن هذا المشهد الثقافي لا يتم أداؤه وإخراجه باحتراف في بيئة مصرية كما يتم ذلك في تلك البيئة المحلية التي اختارها الشرقاوي لروايته وهي وسط البلد، وكأن ذلك المشهد المابعد حداثي هو الخصوصية الثقافية لتلك البيئة.

يبدو أن رواية فانيليا منذ البداية أراد لها كاتبها أن تلعب باستخفاف بالفكرة الحداثية المألوفة والمرتبطة بانقسام العالم إلي مركز وهامش، ليس بخلق مراكز متعددة أو بتفكيك المركز، وإنما بتحويل المركز إلي هامش، وتحويل الهامش إلي مركز. حيث ينقل الشخصيات العادية والمألوفة في حياتنا اليومية والتي اعتدنا أن تحتل مكان المركز بين شخصيات الرواية التقليدية ليسْكنها هامش الرواية ويطلق علي عالمها الروائي (الملاحق)، وهذه الشخصيات هي (سيدة القطط / السيدة المهووسة بالغسيل/ سيد الجنازات)، فكل شخصية تمثل نمطًا حياتيا مألوفًا ومتوفرا في الأسواق المحلية بدرجة تجعلنا نراه "الطبيعي" الذي يجب أن يقيس عليه الآخرون مدي اختلافهم عن الأنماط السائدة في المجتمع المصري، فسيدة القطط امرأة عجوز تلتف القطط حولها حين تسير بالشوارع، وهي تحاول أن تتذكّر الأماكن بها دون جدوي لأن الأماكن تبقي، بينما روادها يذهبون بلا عودة، هي امرأة بسيطة لم تحقق حلمها في شبابها بأن تصبح ممثلة، كملايين لم يحققن حلمهن، لكن حياتهن في مرحلة الشيخوخة تتحول للعيش علي الذكري سواء كانت ذكري ما تحقق أو ذكري الأحلام التي لم تتحقق. إنها نوع من أنواع الإيقاف عن ممارسة الحياة بعد فوات الحياة من بين الأصابع.

أما السيدة المهووسة بالغسيل فهي نوع آخر من أنواع تكريس الحياة لفعل عديم الصلة بالحياة، فهي تعيش لتغسل، وربما لا تتمكن من أن تلبس ما تغسله لتعيش حياتها بتلك الملابس. وهذا النوع علي ألفته الشديدة فهو توقف إرادي عن ممارسة الحياة باختزالها في فعل لا يصلح أن يكون الغاية من الحياة لدي البعض، لكنه كذلك عند هذا النمط من الناس.

وعلي مستوي الرجل، فالرجل "سيد" كما هو المألوف في ثقافتنا، لكنه هذه المرة "سيد الجنازات"، الذي يمكن اختزال حياته في كونها الخطوات التي يسيرها منذ بدء علمه بوفاة شخص ما له صلة به من قريب أو بعيد، وحتي تسليمه إلي القبر. ولم يندم "سيد الجنازات"علي شيء إلا ندمه علي أنه كان طفلاً أيام جنازة عبد الناصر فلم يحتفظ بصورة لنفسه في الجنازة، أما في جنازة السادات فقد كان مشغولاً بالمرة الأولي التي يمارس فيها عادته السرية، لكن الذنب لم يكن ذنبه فقد تسببت بنت الجيران في هذا التأخير غير المقصود عن جنازة السادات، ففاته حدثٌ مهمٌ كان يريد أن يزين به حياته!

إن هذه العملية الروائية المقصود منها تهميش المركزي، المألوفة مركزيته في المجتمع، وذلك لحساب الوجه الآخر، وهو مركزة الهامشي غير المألوف في المجتمع وذلك بجعله "متن الرواية"، وقد أسكن الروائي شخصيتين فحسب في هذا المتن وهما "الولد الصامت"، و"البنت حافية القدمين". وهاتان الشخصيتان تشتركان في كونهما طرفي الفعل المدهش علي مستوي الإنتاج والتلقي. فالبنت تثير الدهشة بقدمها الصغيرة أو كما يسميها الولد متعجبًا ومعجبًا "القدم الطفلة"، وهذا خلافًا لموقف الثقافة السائدة التي لا تري للقدم أية علاقة بعلامات الأنوثة، فالشيء الهام عندها هو نمو الأعضاء التناسلية علي النحو المألوف. وترتسم شخصية البنت ذات القدم الطفلة بوصفها كائنًا غير مألوف، فهي التي تجرؤ علي السير حافية في الشارع، وهنا نلحظ علاقة نشوة بين باطن القدم والرصيف الساخن، لكن مسار النشوة مخالف لمسار النشوة التقليدي في العلاقة الجنسية المألوفة بين رجل وامرأة، حيث تسير النشوة من أسفل إلي أعلي" وفي حركة تلقائية تخلع الصندل، وتمسكه في يدها، وتواصل سيرها بشكل عادي تمامًا، منتشية بإحساس ملمس الرصيف لباطن قدميها. لم تكن تسمع شيئًا من تعليقات المارة، الذين لاحظوا أنها تمشي حافية، أو تلقي بالاً للعيون التي تتابعها في صمت، فقط منتبهة لصوت دبيب خفيف، يسري في عروقها، ويدغدغ برقة، صاعدًا ببطء من أسفل القدم إلي الساق، ثم ما بين الفخذين، مواصلاً رحلة الصعود مارًا بالبطن، والصدر، والرقبة، والخدين، والأذنين، حتي فروة الدماغ، التي تنكمش بسرعة محدثة دغدغة يقف لها شعر الرأس.( ص14 )

وفي هذا العالم اللامألوف للسعادة أسباب بسيطة لدي هذا الكائن كصوت محمد منير، وحمام دافئ، والرقص عارية أمام المرآة، والمشط الخشبي المسكون بالعشق الذي كان لجدتها ذات يوم.

وفي عالمها اللامألوف ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببٌ، فيكفي أنك ترغب في شيء أو تشعر بشيء لتعبر عنه دون حاجة لتبرير ذلك بالبحث عن العلل والأسباب، التي يمنطق بها عالم المألوف الأفكار والمشاعر ليسيطر علي مصدرها وهو "الإنسان". ولذلك فالبنت حافية القدمين أو ذات القدم الطفلة دون أن نقيدها باسم، هي بنت تريد أن تموت في سن 48 دون سبب لهذا التحديد، وهي تريد لشقتها أن تكون كلها مطبخ .

إن الكائن اللامألوف كائن يعيش الحياة وحيدًا سعيدًا بوحدته حينًا حين تكون إرادية كما في اختيارها يوم الأحد ليكون ملكًا لها وحدها، حتي أنّ أصدقاءها يسمونها "ميس صنداي Ms.Sunday" لكن تصبح الوحدة معاناة قاسية حين تكون مفروضة عليها بسبب عزوف الآخر عنها من خلال الفشل المتكرر لعلاقات عاطفية مع الآخر / الولد، فتكون الكنبة ، التي هي مكان لممارسة الحياة لفرد واحد منعزلاً، هي المكان المفضّل لديها لممارسة الحياة متأملة سقف غرفتها وكاتبة لمذكراتها ..إلخ.

إن هذا الكائن اللامألوف هو كائن مختلف منذ كانت طفلة تتمني أن تكون زهرة أو سمكة عندما تكبر لا أن تكون طبيبة أو مهندسة، ويبدو أن هواية الاحتفاظ بمخلفات الماضي هواية تربِّي الشخصية علي القدرة علي الاختلاف مع المحيط الاجتماعي بوعيه المألوف للعالم، فمخلفات الماضي تحيل إلي فكرة جدوي الحياة ومعناها، حيث الأشياء تبقي، بينما لا يستطيع أصحابها البقاء معها!

هذا الكائن اللامألوف هو صانع الدهشة في الرواية وهو المؤهل لقدراته الإنسانية أن يخترق عالم المألوف، لأن هذه القدرات الإنسانية تأسست علي تنوع مصادر المعرفة، بل واختلاف هذه الوسائل عن وسائل المعرفة المتاحة في العالم المألوف، فالحدس وسيلة أساسية من وسائل المعرفة التي تتحصل عليها، والخيال- وليس المنطق- مهارتها وخاصتها الإنسانية الأساسية، وبالتالي من الطبيعي جدًا أن تختلط خيالات هذا الكائن غير المألوف بواقع وحدته فتتحول أفكاره إلي واقع معاش بالنسبة للشخصية (فالحيوانات بديل البشر) دون شعور بأدني حاجة لإضاعة الوقت في إقناع الآخرين المألوفين بما صنعت.

تلعب البنت حافية القدمين دور مثير الدهشة والولد هو المتلقي الأول لها غالبًا، لكنه ليس الوحيد، فجميع الشخصيات في الرواية متلقون لأفعالها غير المألوفة مع تباين المواقف منها .

"صاحب كشك السجائر، قال لولد بدت علي ملامحه الدهشة لما مرت بجواره، وهو يناوله الحساب : إنها مجنونة. لكن ماسح الأحذية العجوز، الذي يقعد دائما قدام بار "بارادايس"، ذي الباب الموارب، تمتم: قدمها صغيرة جدا ،ونظيفة....إلخ». ( ص13)

تبدأ علاقة الولد الصامت المؤهل بصمته هذا للدخول لعالم اللامألوف بموقفه المختلف من القدم الطفلة، فالقدم "خلقة ربنا" تراها شخصيات الرواية جميعها إما تثير الأسي والشفقة أو أنها غضب من الله، بينما يراها الولد وحده مثار إعجاب، وأنها قد وقع عليها ظلم تاريخي بشع مقارنة ببقية الأعضاء التناسلية. إن القدم الطفلة تلعب دور المرشد للبنت حافية القدمين للتعرف علي بقية جسدها وخاصة أعضاءها التناسلية المألوفة المعترف بها في الثقافة السائدة، وكأن العضو الذي لم يكتسب الاعتراف به تاريخيا يسهم في التعرف علي بقية الأعضاء، وكأن أيضًا كل الأعضاء لم تُختبر حتي لحظة اكتشاف القدم الطفلة لها!

ومع ذلك تبقي رغبة الولد الصامت الذي يعجب بالقدم الطفلة كرغبة علماء الآثار في الاحتفاظ بالتحف الفنية ؛ حيث يضعها ملفوفة في غلاف زجاجي. (ص12)

إن الخبرة باللامألوف تعلو عند الولد فيتحول لنوع جديد من العلاقة به وهي علاقة (موسي بالخضر) الذي يطلب أن يصحبه ليتعلم من علمه الحدسي، فالولد الصامت الذي عاش في المدينة لسنوات لم يعرفها إلا علي يد البنت حافية القدمين وكأنه كان أعمي استرد بصيرته فرأي الأشياء البسيطة التي كان يمر عليها كل يوم، ولم يكن يراها، علي الرغم من أنها كانت مما يبحث عنه (محل الحلويات ورائحة الفانيليا المحببة لديه).

إن الرؤية بالعقل في عالم المألوف لا تتيح ما أتاحته الرؤية بالحدس في عالم اللا مألوف لهذا الولد الصامت علي يد "خِضره الجديد" في المدينة البائسة، ففي هذا العالم يتعرف علي رائحة الفانيليا التي تقترن بجسد البنت حافية القدمين، وبمجرد أن يشتم الجسد/ رائحة الفانيليا تنفك عقدة لسانه لينطلق حاكيا ذاته دون توقف، بينما تكون البنت حافية القدمين قد انشغلت عنه بذاتها طارحةً علي نفسها أسئلتها الوجودية. وهنا تأتي لحظة الافتراق بين "موسي والخضر" (هذا فراق بيني وبينك).

إن الكائن اللامألوف بعد أن علّم الولد الصامت كيف يمارس الحياة، يكون قد أدي بعض رسالته، لكن البعض الآخر من رسالته لا يكتمل إلا بتحوله إلي مسيح ينقذ البشرية من الألفة / قرينة الموت. فتصعد الفتاة حافية القدمين إلي السماء لتمطر السماء علي الأرض رائحة الفانيليا، عسي أن تنفك بها عقدة ألسنة البشر فيستطيعوا أن يحكوا ذواتهم قبل أن يتحولوا لـ"سيد الجنازات" أو "سيدة مهووسة بالغسيل" أو "سيدة القطط".

إن عالم اللامألوف بشقيه ( الولد الصامت/موسي، والبنت حافية القدمين/الخضر) كان يعاني من عسر الكتابة، فالولد الصامت يود أن يكتب عن عالم لا مألوف لأنه يعيش المألوف، فيختار البنت ذات القدم الطفلة موضوعًا لكتابته، بينما البنت ذات القدم الطفلة تود أن تكتب عن عالم المألوف الذي لا تنتمي إليه، فتبدأ في كتابة قصة "السيدة المهووسة بالغسيل". إن عسر الكتابة هو همُّ الولد وهمُّ البنت كقاسم مشترك بينهما، وكلاهما لم يكتب ما يود كتابته، وإنما الذي كتبهما هو"الراوي العليم غير الحاضر في القص" الذي أعطي لنفسه الحق في أن يري ويروي أحلام البنت ذات القدم الطفلة، ويروي كذلك هواجس الولد الصامت بحرية تامة كأنه يروي ذاته أو بعض ذاته. نعم هذا ما أود الوصول إليه، ففي سياق ثقافي يعد انشطار الذات وتجاور متناقضاتها من مفرداته الأساسية، أستطيع أن أري في توظيف تقنية "الراوي العليم غير الحاضر في القص" التقليدية توظيفًا ما بعد حداثيا في رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي، حيث إن هذا "الراوي العليم غير الحاضر في القص" قد انشطرت ذاته ليكون بعضُها ذات الولد الصامت/ موسي، وبعضها الآخر "ذات" البنت حافية القدمين / الكائن اللامألوف/ الخضر/ المسيح. وعلي هذا، تكون رواية فانيليا قد أقامت حوارها الخاص مع النوع الروائي الذي تنتمي إليه باقتدار.

وفي الختام، إن وصف رواية بأنها جديدة من وجهة نظري ليس "كارنيه عضوية" في مدرسة أدبية، وإنما أنصبة تتوزع حسب قدرة هذه الرواية أو تلك علي التمرد علي مؤسسة الرواية التقليدية والحديثة. وإذا كان التمرد يقترن ثقافيا بالشباب مثلما تقترن الحكمة بالشيوخ، فإن الحكيم المتمرد أعلي قيمة من الشاب الشيخ في مجال الإبداع الروائي.

وهذا ما لا يتفق وسعي مؤسسة النقد للعمل علي "الثابت المألوف"، فإذا ما واجهه "المخر (المألوف المتغير" فإنه يسعي لتثبيته حتي يتمكن من قياسه علي أسسه النقدية الثابتة المألوفة.

ومن ناحية ثانية، فإن الشئون المحلية أو الخصوصية الثقافية لبيئة محلية ما إحدي وسائل تحقيق الخصوصية الروائية لعدد من الروائيين علي مختلف أنواع الرواية العربية من تقليدية وحديثة وجديدة، وذلك حين يحسن الروائي انتقاء المواد النادرة والمتفردة في بيئته المحلية، ثم ينجح بتمكنه من أدوات السرد في حفز قارئه علي أن يبصر إنسانية الشخوص المحلية، فإذا ما عجز الروائي عن تحقيق ذلك روائيا، فإن رواية السرد المحلي تسقط في فخ المتحف الأنثربولوجي، فلا تعدو أن تكون الرواية عملاً أنثربولوجيا فاقدًا لشروط البحث الأنثربولوجي بعدما افتقدت شروط الإبداع الروائي.


الهوامش

Align Right

1- مجدي توفيق: الذاكرة الجديدة، دارميريت للنشر، القاهرة، ص 8-9.

2- شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ع/553، الكويت سبتمبر 8002، راجع التصوير ص8-61.

3- أحمد أبو خنيجر: العمة أخت الرجال، مركز الحضارة العربية، القاهرة 8002.

4- http: www.arabic stary. het/ forum/index.php showtqpic= 8767&pid67243&mode threa& ded &st

5- الطاهر شرقاوي: فانيليا، دار شرقيات للنشر، القاهرة 8002.

6- صلاح صالح سرديات الرواية العربية، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة، ص13.

7- م، ن ص 92- 94.

8- ميخائيل باختيه: الماركسية وفلسفة اللغة، ت محمد البكري، ويمني العيد، دار توبقال، المغرب، 6891، ص202.

Blogger Template by Blogcrowds