الكتابة رسالة حضارية نبيلة . أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا . الكتابة فعل إنساني قيمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلي ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله .. الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة، وتفضح الظلم والتحيز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّي أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوي الوعي والفكر للإنسان، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالي الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها، ولن يكون لوجوده علي الأرض أي معني إلا بتأدية هذه المسئولية، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته، وبما يوفره له من أسباب العيش.. الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا في الفراغ، هي فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه، وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين، وكلما كانت الكتابة " واقعية"، والواقعية هنا لا بمعني التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل، بل بالمعالجة الواقعية، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلي وعيه المتوازن، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية، كان أدْخلَ إلي القلب وأفْعلَ في النفس .

إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل، من أجل العثور علي الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل . ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا، وتنقاد لأي مخربش بسهولة، وقد قال الجاحظ قديما :

(المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و.....) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟

من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص - أي السرد - ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولي وجهي، فهل لذلك علاقة بما قلت من أنني أحب القصص أي السرد ؟

بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس، اكتشفت حين تم لي الوعي بما حولي أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا، ليعلن بعدها أن الأوان قد صار مواتيا للخروج إلي الماء، وربما في إحدي هذه المرات التي يتطلع فيها إلي السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة، فهناك " نوة " في الأفق، كنت أري السماء حيادية، وأندهش من جرأة هذا علي التأكيد بيقين لا يقبل أي ذرة من شك، أن الرياح سوف تهب، وأنها ستكون عاتية، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها، مع أنها غشوم ما زالت، وسوف تظل، ينبغي التعامل معها بحكمة وفهم، بأفق واسع، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها، وليس لها من انتهاء، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق، وتأتي أسماء النساء، يتجلي فيهن حضور الاجتماعي، وما هو طبقي وتأتي الأسرار منفلتة من سريتها إلي العلن، ثم تأتي الشكاوي من الحياة نفسها، وتأتي السياسة أيضا، وتحط بثقلها علي الألسنة، ولا شيء يمنعها من خوف، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أي ممثل للسلطة علي المراكب في رحلة الصيد، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر، ولا تأتي الأغنيات إلا علي شكل همهمات تستغل للتحفيز علي مواصلة العمل، لا شيء إلا العمل، وكل ما كان هو تكئة لا أكثر، أكتشف الآن أنه لم يظهر علي يابستي شاعر، وأندهش، فأنا أعرف أن أي جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتي، وهذا ليس قدحا في الشعر، فأنا أحبه، وأقف هازا رأسي عندما أري كثيرا من الشعراء قد تحول إلي كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلي مملكته ؟

أهلي وعشيرتي إذن كانوا من الحكائين العظام، حتي لو أخبرك واحد منهم بخبر ما، فسوف يقدم ويؤخر، ويومئ، ويمثل، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاك دهشا، فقد استحوذ عليك كليا، ويثيرني هذا العنوان " أسئلة السرد " وأحاول تأمله من زاوية أخري غير تلك المقصودة بطرحه النقدي والجمالي مع تغير موجات من يكتبون السرد، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلي باب آخر عليك فتحه فتفاجأ بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلي الأبد فلن تنتهي إلي الباب الأخير للسرد أبدا، أحاول أن أتأمل مقولة " أسئلة السرد» من منظور الماء والسماء، فأما من ناحية الماء فيحضرني شيئان، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل، فيؤخذ خلاصه في آنية، ويوهب للماء، بعض القبائل في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص، ولكنا نهبه للماء، ويحضرني هنا - وهذا هو الشيء الثاني - ما كتبه ميرسيا إيلياد - في كتابه صور و رموز - ترجمة حسيب كاسوحة ، حيث كتب : " ترمز المياه إلي مجموعة القوي الكامنة، وإلي جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل، وإنها الحوض الذي يضم كل إمكانيات الوجود، وهي تسبق وجود كل شكل، وتدعم كل خلق، يشار إلي أن الصورة النموذجية لكل خلق هي الجزيرة التي تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج، وبالمقابل يرمز الغطس في الماء إلي الارتداد إلي حالة سبقت تشكيل الشكل، وإلي استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود. إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكوني المتمثل في ظهور الأشكال، وأما الغوص في الأعماق فيوازي انحلال الأشكال، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة علي الموت وعلي الانبعاث علي حد سواء".

أما من ناحية السماء فهي الأفق الذي ينحني علي الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برذاذه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره، هو الروح التي تظل تسعي ولا تهدأ أبدا، في مفهومي هذا المتواضع للسرد يمكنني أن أزيد وأفسر حالتي أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان علي جزيرتي بين الماء والسماء، ينبغي علي السارد أن يكون في حالة كتابة دائمة حتي لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت علي وجهه رؤية السارد لهذا العالم، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان، وقبل التحقق أخرج بصفتي السردية للناس، أثرثر كثيرا، وأثير الكثير من الأسئلة، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة، وهي لا تمتلكها، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلي المعرفة، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمي بالتجربة الإبداعية .. في كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة، وبين ما يتحقق علي الورق، إلا أن حالة "البحث" و "الدهشة" و"التأمل" و"الانغلاق" و"التفتح" تلازم السارد فترة من الزمن، ثم تأتي الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بي، ولا فكاك منها، وهذا سر خاص بالسارد، يحاول أن يفض غموضه، إلا أنه ينسي أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلي العلانية، شيء آخر - مهم جدا - قبل الشروع في عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد، يعرف السارد أنه سوف يأتي إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل، طال توتر القوس، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه، يحاول السارد مجاهدة كل هذا، ويبقي مع هذا سر العمل الكتابي الذي تقوم قيامته علي الورق .. إذن يلزم السارد في هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته، وتظل تطارده إلي أن يصرخ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..

هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟

قد تحدث - رغم هذه القاعدة ـ استثناءات، فجأة بلا مجاهدة، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر، والغضب، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهي يعج بضجيج الحياة، إذا قلنا مع "أرنست فيشر" في كتابه الهام " ضرورة الفن " إن المضمون تقليدي بينما الشكل ثوري، يجابهني فورا سؤال جاءني من القائمين علي أمر هذا المؤتمر والشعار الذي رفعوه " أسئلة السرد الجديد " توقفت قليلا إلي أن تذكرت ما كتبته ماري تيريز عبد المسيح في مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلي حال من الأزمة والالتباس، إذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر أن الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.

ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد علي مكان الكاتب، وعلي الأبعاد «السياسية» للسرد - علي رغم عدم التوصل إلي اتفاق علي تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما أدي إلي انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».

إلا أن الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون إلي مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967 . إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي أصبحت راسخة.

إلا أنه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية أو السياسية المتباينة. بل أصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد أو من دون قصد، ويتطرق إلي المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة أو علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً علي عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره علي أنه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف إقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما أصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».

وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلي عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس - وكذلك دولة الحزب الواحد - فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.

أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية».

أردت بهذا النقل المطول بعض الشيء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين علي تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما، ورجوعا إلي استكمال شهادتي الشخصية ودخولا إلي معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعني لي كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية، كما أن عقيدتي الفنية تعتقد أن القصة هي ساحة التجسيد، وأعدي أعدائها هو التجريد، إذن القصة عندي هي حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك، ولا أعطي تلك الروشتة أهمية والتي يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة - موقف واحد إلي آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها - هذه الروشتة - إنها ضد عقيدتي - إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن علي التجاوز دائما، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلي الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندي هي الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن - وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفني فيما هو الأكثر غيابا، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتي لما أري وأسمع، لا ما أري وأسمع، وأري أن تكون قدما السارد علي الأرض (الأرض - الواقع) ورأسه في السماء (السماء - الخيال) لي بيئة يعيش عليها وفيها ناسي الذين أنتمي إليهم ولا أستطيع خيانتهم - لا دهشة من قولي - فإن الكتابة لدي السارد التزام ليس بالمعني السياسي، بل بالمعني الكامل المحتوي ابتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح، وضيق الأفق وقصر النظر ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها، الشاهد عليها في تحولاتها، شهيدها كذلك، للسارد بيئة أي أن له رمزه الذي يتميز به ثقافيا، البيئة هي التي تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادي الرحب والغني، السارد نشأ في بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين، عائلات تنتظم في منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل في القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هي البداية وهي كل ما في غيب مستقبلها، وكل الكامن في حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لي أن أخون رمزي ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودي من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزي يمتلك خيالي، وخيالي يمتلك سمائي، واقعي يمتلك خيالي، خيالي يمتلك واقعي .. منظومتي إذن هي غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية علي استنطاق رمز قارئي المستخفي داخل ذاته فيري ما لا يري ويسمع ما لا يسمع في واقعه..

هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة علي لسان ساردين جدد:

صفاء النجار

الإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالي عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل أو مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.

هناك كتابة جديدة علي مستوي الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوي دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوي عدد محدود (ألف نسخة علي أقصي تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ علي ثوابتها.

مصطفي ذكري

ودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبري التي كانت محط نظر الجيل القديم.

لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي إلي الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.

إبراهيم فرغلي

نجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة أن يقتحم آفاقاً أرحب، وبدأ كل كاتب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن أسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفي ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي أبو جليل وياسر عبدالحافظ، أو محاولة كسر صيغ السرد التقليدية إلي لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة أحمد العايدي، أو احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.

منصورة عز الدين

أهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر - إن جاز لنا استخدام هذا التعبير - هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.

تتسم الكتابة الجديدة أيضاً في معظمها بالتجرؤ علي الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية. ولكن من ناحية أخري ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر إلي مأزق كبير، خصوصاً أن سهولة النشر ادت إلي تجرؤ بعضهم علي فن الرواية من دون توافر الموهبة أو الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.

لكل سارد أن يؤمن بقضيته التي يري أن يعلنها علي الناس، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية في تقسيم السرد والساردين في عقود زمنية، مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخري أشد منها شيطانية، وهي تقسيم البلاد إلي قاهرة وأقاليم، إلي أي شيء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلي الأدب، البحر ملآن وليس بفارغ علي امتداد الخريطة، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه، لا يقفز قفزة في الظلام، ولكن يبقي اجتهاده أصيلا، وليس عليه في هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة في السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أي ادعاء، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون في هذا الادعاء غائبين، وهم الذين ينبغي علي السارد أن يكونوا محل اعتباره، بعيدا عن دعاوي التطور أو التنظير البعيد عنهم، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدي ارتباطهم بشكل سردي معين، أو دراسة في تلقي عمل سردي وكيف ولماذا حاز القبول، كما أنني هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا، بمعني أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشوا مشاكل الإبداع ذاته، وكيف يوسعون رقعــة القراء، إلي جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر.

هذه شهادتي التي لا ألزم أحدا باعتناقها، ولكنها قابلة للحوار المثمر في مواجهة هذا التشرذم والتباعد بين الكتاب، وكل منهم يركب جزيرة في بحر واسع ..

هذا وعلي الله قصد السبيل ..


كولن هايتور: الأفكار الجديدة الوحيدة التي لا يمكننا التشكيك بها هي أفكارنا نحن.

الرواية هي التاريخ غير الرسمي للعالم، لم يكن يمكنني أبدا أن أتجاهل هذه الحقيقة!

نرزح نحن - علي سبيل المثال - تحت وطأة تاريخ ليس له علاقة بالناس وبالتحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدونها، فلن تقرأ في كتاب التاريخ المدرسي شيئا عن هجرة المصريين للخليج في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لكنك ستقرأ ذلك في عدة روايات خصصت لهذه القضية التي تركت تأثيرات واسعة علي الحياة المصرية في الحضر والريف بشكل عام، فهل كان يمكنني أن أتجاهل ذلك وأنا أكتب الرواية!!

التاريخ علي سبيل المثال سيذكر شيئا ما عن نكسة 1967، سيذكر شيئا عن اندحار الجيوش وانتصار الجيوش، وقادة المعارك، لكنه لن يكون معنيا باعتقال رب أسرة أثناء النكسة وانهيار تلك الأسرة وشتاتها، لن يذكر شيئا أيضا - هذا المدعو التاريخ - عن التحولات القاسية التي شهدها المجتمع المصري أثناء الستينيات، لأنه كان معنيا فقط بتسجيل انتصارات (الشعب) في الأماكن التي شهدت الاستعمار، لن يذكر التاريخ شيئا عن ذلك!

التاريخ أيضا ليس معنيا بالتغيرات النفسية السلبية التي تقع للأطفال نتيجة للحوادث الفجائية، أو نتيجة للتشوه الطبقي للمجتمع، أو نتيجة للكوارث البشرية أو حتي تلك الطبيعية، لن يذكر التاريخ شيئا عن ذلك!

لن يذكر التاريخ شيئا عن الأطفال الذين فقدوا القدرة علي الخيال، هؤلاء الصغار الذين فقدوا القدرة علي المتعة في التخيل، عن متعة التحليق بعيدا عن أرض الواقع المزري، عن علاقة الأطفال بالأساطير والجنيات والملائكة والتنانين السحرية والديناصورات المتوحشة، هؤلاء الأطفال الذين يضطرون للعمل في تلك المهن المتواضعة من أجل أن يحيا الكبار فاقدي القدرة أو فاقدي النخوة، لن يذكر التاريخ أسماءهم أو سماتهم، لن يشير إليهم علي الإطلاق، فالتاريخ معني فقط بمن يكتبه، ومن يملك القدرة علي التأثير علي من يكتبه!

لن يذكر التاريخ شيئا عن معارك المثقفين مع السلطة، ولا كيف يكتب أحد الروائيين روايته كي يحكي أوهامه المزدوجة، ولا كيف يجلس ليكتب روايته، ولا ما هي الحالات التي تنتابه لكي يكتب تلك الرواية ولا عمله الأصلي، وكيف يحتال علي الحياة من أجل الوجود، ولا عن معاركه مع نفسه والآخرين والسلطة من أجل أن يكتب تلك الرواية، ولا كيف تخرج الرواية للناس وما الذي نزفه من أجل أن تأتي تلك اللحظة التي ينتظرها بفارغ صبر، تلك اللحظة التي يقف فيها هنا ويتحدث، ما الذي يجعله يفعل ذلك، ما هذا الإلحاح الوجودي القاتل الذي يدفعه للانتحار، إذ لا تأتي المقدمة إلا لاعتبارات كثيرة بعضها للأسف ليس له علاقة بالموهبة، المجتمع ككل يتم تزييفه بشكل أو بآخر مرة أخري!

هذه هي قضيتي في السرد، خيال الأطفال وإنسانيتنا المشتركة وحروب المثقفين، هذه القضايا مجتمعة هي منابعي الحقيقية للكتابة. لقد قدم العرب للعالم ألف ليلة وليلة، لتترك تأثيرها الحالم والأسطوري علي كل ما يكتب حتي الآن، باعتقادي في هذه اللحظة أن العرب قادرون علي تقديم النسخة الثانية من ألف ليلة وليلة في هذه اللحظة علي وجه التحديد لتعزيز الوجود الإنساني، كما أعتقد أن علاقتنا بالآخر علي المستوي الإنساني العام تشكل في حد ذاتها واحدة من أهم عناصر تطورنا الحضاري، فلم يكن لظهوره دائما في حياتنا هذا الجانب السلبي، بل علي العكس فقد ساعد علي مزيد من التنوير علي الرغم من اختلافنا معه في كثير من القضايا.

لم أكن في يوم من الأيام معنيا بالكتابة لمجرد الكتابة، لقد عشت حياتي متنقلا بين الورش وحقول القطن وصيد السمك، صبيا وعاملا حتي أصبحت أستاذا في الجامعة، كنت أعلم أن هناك يقينا داخلي يتعلق بعلاقتي بكتابة الرواية، هذا اليقين الداخلي تكون داخلي حين قرأت الرواية الأولي في حياتي، كانت الرواية في تلك اللحظة هي التي منحتني القدرة علي احتمال الحياة، هي التي دفعتني للتحقق من خيالاتي، هل خيالي ينبع من رغبتي في مصادرة الواقع، أم تلوينه أو إسقاطه نهائيا وإعادة بناء عالمي الخاص!

لم تساعدني الروايات العربية كثيرا في التحقق من قيمة الخيال فهي محجوزة دائما لصالح الواقع، أدخل سينما أفكار الرواية العربية أجدها جميعا تسلط الضوء علي واقعنا المصادر كلية من قبل السلطة والجهل وتجهم حوادث الأيام، من المؤكد أن هناك الكثير من العناوين التي حققت لي المتعة والخيال معا، لكن الرواية الغربية حققت لي ذلك بشكل مضاعف.

كان السؤال في العشرينيات من العمر هل سأكتب الرواية أم أتفرغ للقمة العيش؟ هذا السؤال المرير الذي يواجه به أغلب من يكتبون الرواية في العالم العربي، وهو في مصر أشد وطأة، ما أعرفهم من روائيين يؤكدون لي أن الثقافة قيمتها الوحيدة في عقولنا، عقول المؤمنين بها، وهي لا تعني الكثير بالنسبة للآخرين.

كثيرا ما تحينت الفرصة لأسرق لحظة التخيل بعيدا عن مرارة العمل في الورش والحقول، وحين كنت في الخدمة العسكرية كتبت أول أعمالي في قلب صحراء السلوم، كانت عن الحب بين طفلين، ولخطأ ما ارتكبه مرسال الهوي بينهما انتهت تلك العلاقة لتتركهما مشوهين للأبد، في هذا الوقت لم تكن أدواتي السردية قد اكتملت وكان وعيي غارقا في مأساة الكثيرين من حولي، لكني كتبت، لا أدري كيف كتبت، لأتحقق فيما بعد من أن هذا العمل الذي فقد مني في ذلك الوقت قد قرأه أصدقائي في الكتيبة، قد اختفي، تحققت في تلك اللحظة من قدري في كتابة الرواية، لكني انتظرت طويلا حتي أستطيع أن أقدم للعالم شيئا، انتظرت لأن الحياة لن تسمح لك بالوجود بسهولة، لابد أن تقاتل أكثر في سبيل ذلك!

مع هجرتي للخليج أدركت أن الكتابة هي الحل الوحيد للخروج من مأزق الحياة، قرأت تقريبا خلال تلك الفترة أهم الأعمال العربية والغربية والشرقية، كنت ألاحظ مأزق الحياة لنا هناك، أيقنت مع قراري الأخير بالخروج من هناك أن الكتابة الروائية هي مصيري فكتبت "التساهيل" عام 1990، استمتعت بكتابتها وبطريقتي في السرد التي كانت تبحث في مفهوم متعة الكتابة المصحوبة بمتعة القراءة، كنت أكتب كأنني أتدحرج من فوق جبل عال، تماما ككرة الجليد، هذا هو أيضا ما كتبته في تلك الرواية، كتبتها في دفقه واحدة قبل الخروج من الكويت عام 1990، واستكملت تصحيحاتها في القاهرة بعد ذلك ولم تصدر إلا عام 2005، كانت تسيطر علي حالة من الأسئلة المتدافعة تبدأ لماذا ذهبنا إلي هناك؟ للعمل أم للموت؟ كان الموت يحوطني من كل مكان هل استطعت التعايش مع ذلك؟ أو كتابته لا أعرف؟ لكنه كان واحدا من الهواجس الداخلية التي سيطرت علي إبان كتابة التساهيل، لم أنم تقريبا أثناء كتابتها، كنت متحمسا للغاية أبحث عن التفاصيل داخلي، لم ألجأ للصحف فالمادة كلها كانت في ذاكرتي، كما أن بها بعض التفاصيل المتعلقة بحياتي هناك.

لقد كانت عملا ساخنا، فهي عملي الأول الذي أردت نشره لكن ذلك لم يحدث بل نشرت عملا بعنوان "المواسم" عام 1995، عملا روائيا قصيرا، أطلق عليه هو وعمل آخر بعنوان "مرح الفئران" نشر عام 2006 تجربتين روائيتين، كنت أريد الكتابة حول الماضي في الأولي والحاضر الراهن في الثانية من خلال تجربة أساليب متعددة في السرد، فهما في بنيتهما يشبهان تماما الصور السينمائية ولكن لا تغيب الأسطورة سواء التراثية أو الدينية عن الرواية الثانية معتمدا علي العناوين في الثانية كمفتاح أساسي لفهم العمل، علي أن قمت بكتابة المشاهد بشكل مفصل، المشهد أو الصورة السردية هي بنية العمل، يعقب ذلك الحوار بالعامية المصرية، السرد هو بطل العمل الأساسي والحوار يتراجع إلي حد ما في الخلف.

الزمن متحد ومتصل، يسقط أحيانا لصالح زمن قديم، تقدم فيه لحظة نادرة توحي بارتباطه المصيري بالحاضر، ليس لمرح الفئران بطل محدد، البطل هو الصراع الاجتماعي القائم داخل الحارة المصرية والقضايا الاجتماعية المطروحة هناك، ليس الفقر وحده بل العبث بجوهر الحب، الجنس لا يتحرج عن أن يصبح معادلا موضوعيا للحب والرومانسية وما يترتب علي ذلك من خلخلة للعلاقات الاجتماعية.

رواية: «التساهيل في نزع الهلاهيل - 2005»

تعتمد هذه الرواية علي الرحيل إلي منطقة جديدة في المكان علي الرواية العربية، حيث تمثل الكويت في الثمانينيات قبلة للباحثين عن الحياة الكريمة، لم يكن هناك مفر أمام بطل الرواية من الرحيل إلي هناك تاركا خلفه العديد من المآسي، الانتقال في السرد من الصحراء الغربية إلي صحراء الكويت، يواجه من خلال وجوده بالعسكرية بتجريده من ملابسه كل صباح، في مطار الكويت يتعرض لنفس الموقف، إنه عار تماما أمام السلطة، شاركت في التعرية كل أطراف علاقاته من النساء اللائي عرفهن إلي السلطة في عالمه وفي العالم الذي ذهب إليه، من حتي بعض المنتمين لدول العالم الثالث، كأنها مؤامرة كونية لجعله عار دائما أمام كل من لهم به علاقة، حتي لو كانت علاقة فوقية أو متوازية.

هلاهيله الداخلية تبدأ في التكشف أمامه، إن حبيبته لم تتركه بل تركها هو متعمدا، لأنه كان قد انهار تماما ولم تعد لديه قدرة علي القتال مع الجميع فانسحب، كان يظن أنه انسحب لمكان أفضل، لكنه اكتشف أيضا أن ذلك لم يكن حقيقيا، فها هم جميعا يموتون أمامه، أو تنهار أحلام الثراء التي أتوا بها، فكل جاء وداخله الفيروس الذي ظن أنه تركه هناك.

اعتمدت الرواية السرد الخالص، الحوار كان قليلا للغاية، العالم الباطني لبطل العمل هو المسيطر في أغلب الأحوال، كما كان العمل في أغلبه بنائيا، فكل حادثة تقابلها حادثة أخري مغايرة، وكل شخصية لها مقابلها الموضوعي أو السلبي أو حتي المتخيل، سيد العبد بطل الرواية هو الذي يملك مصيره في النهاية فيقرر الخروج فهو ليس عبدا لفكرة الثراء إنه سيد فكرة البحث عن الأمل.

المونولوج الداخلي تقريبا هو المهيمن علي العمل، إضافة إلي العديد من التكنيكات الأخري، كما أن اللغة الشعرية أيضا هي السائدة، فهو يحاكم نفسه في أغلب مراحل العمل، السرد هنا هو سرد داخلي يستبطن روح الأزمة التي يعيشها الراوي، أقترب أحيانا منه وفي أحيان أخري أتباعد كمؤلف، السياق يستمر علي هذه الوتيرة ليتيح لي التعرف علي الأزمة الحقيقية للراوي/ بطل العمل، مع تتالي الأحداث تتساقط أحلام الجميع، حتي العرب الذين يقطنون الكويت تتهاوي أحلامهم سريعا، ليس هناك ضمان لأي شيء، الضمان الوحيد هو الذات، أن تكون قادرا علي القتال، ومادمت قادرا علي القتال، فافعل ذلك هناك في المكان الذي أتيت منه، كيف تكون لغة السرد موازية لهضاب الرواية ووديانها التي تجوس فيها شخصياتها، لم يكن ذلك ليتم دون سرد سريع لاهث متوتر، فالحوادث كثيرة للغاية، والشخصيات تأتي لتعبر عن هذه القانون القدري الدائم، إنها لا تختار أقدارها، قدرتها علي المغامرة محدودة، لكنها أحيانا ما تكون مجبرة علي المغامرة، اللغة السردية هنا تحاول ذلك، المغامرة في لهاث السرد، لهاث المونولوج الداخلي، في لهاث تدخل الراوي من جانب والمؤلف من جانب آخر، لا يظهر بصورته الحقيقية، لكنه يتداخل أحيانا مع صورة الراوي.

العنوان نفسه كان مغامرة في السرد خارج النص، خارج المتن، إنه العتبة الأولي لقراءة النص السردي، أتي العنوان تراثيا ليعكس تراثنا جميعا، الصراع مع القدرية المهيمنة، إنه يتراخي مع مصطلح (التساهيل) ويتصارع مع (النزع) ولا يتهادن مع (الهلاهيل) الداخلية.

رواية "دماء أبوللو" 2007

الطفولة والخيال والآخر الإنساني هي موضوعات هذا العمل الروائي، الطفولة من الموضوعات الآسرة، كنت أسأل نفسي دائما هل حقا نحن نعرف الطفل، وهل يمكن كتابة عمل كامل عن الطفل، يحكيه الطفل نفسه، وهل يصلح سرد الكبار للتعبير الروائي إذا تمكنت من الكتابة عن الأطفال، خمسة وعشرون عاما أحاول كتابة هذا العمل علي أن يسرده طفل، سرد طفل يقترب من سرد الكبار يستطيع فيه أن يقدم الخيال في أقصي حدوده، وحين انتهيت من كتابتها اكتشفت أنني لم أقل ما أريده، فأصبح لها دون أن أدري أجزاء أخري.

عالم الطفل عالم سحري في ظننا، لكن هل هو فعلا كذلك، ألا يفكر الأطفال مثل الكبار، ألم تنتابنا تلك الأفكار نفسها ونحن كبار، لكن كيف كنا نعبر عنها.

العمل علي رواية علي لسان طفل هو عمل يتسم بمخاطرات متنوعة، فإما تكسب القارئ أو تفقده، وإما يتم تسطيح العمل إلي الدرجة التي يفقد فيها قيمته الفنية، ومخاطر السرد الروائي متعددة، هل سيقتنع القارئ.

لم تكن تلك هي القضية وحدها بل الأسطورة اليونانية التي تفجر خيال الطفل السارد، لا يجب أن تكون تلك العلاقة متوترة بشكل أو بآخر، العلاقة بين آلهة الإغريق وطفل مصري من بورسعيد، كيف يمكن بناؤها سرديا!

من المعالجات في هذه الرواية أنني كمؤلف ظللت أراقب الأطفال ونموهم وأفكارهم لفترات طويلة للغاية، قرأت الكثير عنهم، كل ذلك قد يؤهلني لكتابة عمل علمي لكنه لا يؤهلني لكتابة رواية، إنها أهم مغامراتي في السرد حتي الآن، أترك هذا العمل ليحكم عليه من يريد، لكنه في ظني مغامرة ومراهنة كاملة علي أن الطفل يمكنه أن يفعل الأعاجيب.

كان الحل الوحيد في النهاية أن أعود طفلا يكتب، أن أتقمص روح هذا الطفل الذي يناطح الآلهة ويستدعي الأساطير القديمة في زمن الحرب، علي أن أتحول إلي حالة من الهذيان السردي التي تمكنني من أن أعيش طفلا في زمن الحرب، كيف كان يمكنني أن أعري روح الطفل إن لم أتركه يتصرف كما يشاء، إنه يسرد الحكاية! لكنه لا يسردها كالكبار!

كان لابد من استخدام تقنية قريبة من الفلاش باك لكن بشكل أكثر عمقا في السرد وتقنياته، وتيار الوعي، أو ما يمكنني أن أطلق عليه تيار وعي الطفل، فالطفل لا يحكي بهذا الشكل المتعارف عليه لدي الكبار، إنه يحكي كيفما اتفق، لا يتوقف في المناطق التي يريد إظهارها، ويتوقف فيما لا يريد إظهاره حيث أعتقد أن هذا كان الأسلوب الأفضل لكتابة هذا العمل.

لذلك كان السرد يبدو كمجموعة من الحلقات الحلزونية المضفرة والممتدة، فهو يلقي بحكايات غير متصلة يمكننا متابعة بقيتها بعد حين من خلال الراوي الطفل نفسه، ونفس الراوي الذي يظهر في نهاية العمل كبيرا.

كان الأمر يحتاج مجهودا إضافيا يتعلق باللهجة البورسعيدية خاصة في الستينيات وكذلك اللغة اليونانية ببعض مفرداتها الشائعة أيضا، والبيئة في ذلك الحين، كذلك محاولة ملاحقة الزمن الممتد أحيانا بين 1956 وبين 1967، إضافة إلي الأسطورة الإغريقية الممثلة في الإله أبوللو.

السرد الحالي في الرواية المصرية

التعرض لموضوع الكتابة الجديدة يحتاج كثيراً من التأمل، خاصة وأن هناك العديد من القضايا التي تناولتها هذه الكتابات لكن أهم هذه القضايا أو السمات ما يلي:
1- التعبير عن سمات تخص عصرهم لم يتطرق إليها جيل الستينيات أو حتي من هم بعدهم، كالتعبير عن مجتمع المعلومات بكل تأثيراته.
2- محاولة إعادة تشكيل وبناء عوالم جديدة خاصة بهم تقترب في رؤاهم من الوحشية متأثرين في ذلك بالميديا الغربية من جانب وعجزهم عن تغيير العالم الذي يعيشونه من جانب آخر.
3- تناول قضايا وموضوعات تعد من المحرمات والتابوهات للكتاب من الجيل الأقدم مثل الجنس والشذوذ والدين والآخر بأعماقه والذات بكل ما فيها من نقائص.
4- التطرق للقضايا المتعلقة بشيزوفرينيا المجتمع المصري والعربي وانشطاراته.
5- التعمق في بعض الأشكال الفنية بدرجة عالية من التجريب كما في الرواية وقصيدة النثر.
6- مناقشة موضوعات تتسم بالفانتازيا والخيال العلمي وهو ما كان قليلا أو نادرا ما نجده في روايات ما قبل الجيل الجديد.

7- فيما أري أن أهم أشكال هذه الكتابات هي الإغراق في الذاتية أو الفردانية Individualism وعلي الرغم من أن التجارب الشخصية تعرضت لها الرواية من قبل إلا أن الرواية الحالية لدي كثير من الكتاب تنحو هذا المنحي.

الحقيقة أيضا أن مصطلح الجيل الجديد أو الكتابة الجديدة يحتاج إلي كثير من التأويل فقد أتحدث عن كتاب التسعينيات والألفية الجديدة بينما قد يتحدث آخرون عن ما قبل ذلك بقليل، وبصفة عامة أتفق أن الحياة الثقافية كانت تحتاج لمخاض كبير لم يستطع أن يفعله الشباب عبر كل أشكال الميديا، كالإنترنت والتليفزيون والإذاعة والنشر والمجلات، وأصبحت الكتابة والنشر يتسمان بروح ديمقراطية عالية حتي أن بعض دور النشر تنشر لمجموعات كبيرة من الكتاب معا سواء في مجلة أو كتاب، وأصبح هناك نوع من التفاعل بينهم وبين القارئ وهو ما لم يكن موجودا من قبل ويضيف الكثير إلي هذه التجربة الثرية، وأعتقد أن حرية الكتابة والنشر ستترك للسوق والقارئ بعد ذلك تحديد من هو الأفضل أو الأجدر بالقراءة، إنها الحرية بكل معانيها، وعلي الكتاب الكبار أن يشتركوا في اللعبة فليس هناك مناص من ذلك، كما أن الكتاب الجدد عل الرغم من أن الإنترنت كأحد أدوات الميديا هي التي اجتذبتهم في البداية إلا أنهم أيضا يحلمون بالنشر في الكتب والجرائد، إنهم لا يرفضون أي شكل من أشكال الميديا بل يتعاملون مع جميع وسائلها.

السرد الروائي في كتابات الشباب يتسم بالغرائبية والنحو باتجاه تناول قضايا ليست بالجديدة ولكن بأساليب أكثر تحررا عن ذي قبل، ولعل روايات مثل سرير الرجل الإيطالي لمحمد العزب وفاصل للدهشة لمحمد الفخراني وبابل لنائل الطوخي تمثل هذا الاتجاه المبني علي الغرائبية ومحاكمة الواقع العشوائي والإغراق في الجنس والفيتشية.. كل ذلك مما يؤكد علي ما ذهبت إليه.

كما أن أغلب المبادئ السردية يمكن هدمها بسهولة فلم تعد هناك مبادئ أو قواعد للكتابة، كل ذلك أثر من آثار الماضي في ظن أغلبهم، ولعل روايات أورهان باموك قد تركت هذا التأثير مثلا أو ساراماجو، أو كتاب أمريكا اللاتينية، لدرجة أن بعض الكتاب الشباب في أعمالهم يحاكون أساليب السرد نفسها والصيغ التعبيرية التي يستخدمها هؤلاء؛ إن هذا لمما يؤكد علي أن هناك انفصاما يكاد يكون شبه كامل بين الأجيال الجديدة وبين الأجيال السابقة من الروائيين المصريين لأسباب تتعلق بقيمة الأجيال السابقة في نظرهم ولارتفاع قيمة الآخر من جانب ثان، وهو في ظني سيكون واحدا من أخطر التأثيرات علي الرواية المعاصرة المصرية، لكن أيضا لن يستمر ذلك طويلا في ظل الانفتاح والليبرالية والتحولات الديمقراطية المستمرة.


ككل البشر في مرحلة النضوج والولوج من الطفولة للرجولة تمتلئ الجوانح بالحاجة للشعر.

" الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا "

جان كوكتو

أنا أزعم أن سبعة مليارات البشر حاولوا كتابة الشعر، بل أزعم أن كل الكائنات حاولت كتابته . . أليس هديل ذكر الحمام في أذن أنثاه شعرًا؟!

حتي الكلب إذا لمح أنثاه؛ تحرك ذيله برقصة أجمل من رقصة الفراشات فرحًا بها لأنه يريد أن يقول بيتين من الشعر.

وحتي النباتات.. فعباد الشمس يميل بقرصه مع حركة محبوبته الشمس!

والصفصاف.. آه من الصفصاف ومن أ.ع حجازي:

وصفصافه

علي شبَاكك الحرّان هفهافه

وكنت بحافة المخدع

تردين انبثاقة نهدك المترع

وراء الثوب.

وشاعر آخر:

مالت علي الماء الغصون كما انحنت

أمّ تعانق طفلها المحبوبا

والأحجار، حتي الأحجار

" صخرتان تحابتا فغار الماء " - رينيه شار.

أنا واحد من هذه الكائنات الشاعرة. وأتذكر الآن يحيي الطاهر عبد الله وإهداءه لي نسخة من مجموعته المعنونة ( حكايات للأمير حتي ينام ) إلي ابن الشرقية البار.. وسيفها البتارر.. الشاعر الجبّار أحمد بك والي.

كان الشعر عشقي فكنت أنسخ وأنا في المرحلة الثانوية بخط يدي دواوين كاملة أستعيرها من دار الكتب بالزقازيق لأنني غير قادر علي ثمن شرائها، فنسخت دواوين للأخطل الصغير وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والشابي وجبران وصلاح عبد الصبور ونزار قباني والعظيم محمود درويش . . فلما التحقت بطب القاهرة قادتني قدماي لقريب لي يسكن إحدي حارات السيدة زينب وكان معي جنيهات ثلاثة كي أشتري حذاءً شعبيًا بعد أن فُتق الحذاء الوحيد الذي أنتعل، فوجدت أمام بابه مخزن كتب قديمة لعجوز اسمه الشيخ علي خربوش فلم أملك نفسي عندما سألته عن ديوان المتنبي شرح البرقوقي والذي يربو علي الألف صفحة فقال جنيه واحد بس، فأخذته بحضني ومعه سقط الزند للمعري وديوان امرئ القيس بجنيه آخر لكليهما، أما الجنيه الأخير فكان من نصيب البحتري.

تخيلوا بثمن حذاء فقير اشتريت دواوين لا أعدل مال الدنيا ببيت واحد فيها . . فالله الله يا أبا الطيب، إذ تخلص الفتي الغضّ من أوهام الحب وهوس الرومانسية.

وما الحب إلا غـرّة وطمـاعةٌ

يعرّض قلبٌ نفسـه فيصـاب

أعز مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

ذلكم هو الشعر، فما هي إذًا حكاية القصة معي ؟

أنا إنسان بسيط وابنُ إنسان بسيط وفقير كان يعمل موظفًا بسيطًا بالسكة الحديد. وكنا سبعة أبناء، اثنان بكلية الطب واثنان بالصيدلة وواحد بالآداب وأخري بالحقوق وصغير يحبو هو الآن مستشار بوزارة العدل. وكنتُ شديد الولع بفيروز وكان يقتلني الحنينُ في آخر الليل وأنا عائد من صلاة الفجر أتأمَل البدر المنير أعالي الكافور المحيط بنهر مويس الذي يطلّ عليه منزلنا القديم، أموتُ حنينًا إلي صوتها وهي تشدو بواحدة من فرائد عقد الشعر العربي، وربما تكون القصيدة الوحيدة التي كتبها بالفصحي ابن الشرقية البار والشاعر الأكثر رقة وعذوبة مرسي جميل عزيز.

لم لا أحيا وظلُ الورد يحيا في الشفاه

. . . . .

ليس سرًا يا رفيقي أن أيامي قليله

ليس سرًا إنما الأيامُ بسمات طويله

إن أردت السرَّ فاسأل عنه أزهار الخميله

عمرها يوم وتحيا اليوم حتي منتهاه

سوف أحيا-

من أين آتي بالمسجلة وليس لي قريبّ ببلاد النفط، بل أني لي أن آتي بمائة من الجنيهات وراتب أبي كان ثلاثين جنيهًا إلا قليلاً؟

وينقذني إعلان صغير في لوحة الإعلانات بكلية الطب عن مسابقة تجري بين جامعات مصر في القصة والشعر والمقال ومسرحية الفصل الواحد وقيمة الجوائز تسيل اللعاب: خمسون جنيهًا للفائز الأول وأربعون للثاني في كل فرع. ولقد كان الهاجس أن الشعر العاطفي لا يحظي بالرضا لدي شيوخ المحكمين لذا اضطررت لكتابة قصيدة وطنية حتي تليق:

سائل التاريخ واقرأ ما رواه

واسأل الميدان عما قد رآه

حرةََ عاشت بلادي، شـعبها

لقّن العالم أسـرار الحياه

من قديم الدهر شيدنا الهرم

وبه نزهو علي كـل الأمم

وحديثـًا قد بنينـا سـدّنا

بمداد الفخـر فاكتب يا قلم

وكان المقال " غزلية في عشق مصر " ودارت برأسي قصةٌ عشتها طفلاً. كانت أمي تجمع ثمر الباذنجان وأقوم بحراسة أختي وهي طفلة تحبو، فلما نامت من الهدهدة فرشت لها ثوبي في ظلة التيل حتي أحميها من نتوءات الأرض، وذهبت أجمع ثمرات نخلتنا العامرية العالية التي كان الغرابُ ينقر بلحاتها الرطب الطرَية.

ياغراب يا بو قطية

وقّعَ لي بلحة عامرية

لعملك فطيرة بزيت

وأحطها لك جنب الحيط

وبينما أنا عائد أتلذذ برحيق عسلها إذا بي لا أجد أختي حيث تركتها ولمحتُ ثوبها طافيًا في القناة، ولم يأكل الرعبُ قلبي وإنما انسحق .ورفعتها إلي حضني فشهقت فعادت الروح لقلبي المسحوق وكان همي بعد أن أطمئن فؤادي وعادت لكلينا الروح أن أجفف ثوبها حتي لا تضربني أمي.

وتاقت نفسي لأبي البعيد في سرابيوم الإسماعيلية، هناك حيث يحرك عصا التحويلة الحديدية ليمرّ قطار صفارته دائمًا حزينة لأنها تذهب للبعيد بالأحباب.

عاشت أختي ودخلت كلية الصيدلة خلف مستشفي الزقازيق الجامعي، وكلما تقابلنا صدفة عند المكتبات أو بطرقات الجامعة يحمرّ وجهها فرحًا بي ويرقص قلبي الطري الطفلُ الصغيرُ لأنها عاشت.

عندما كنتُ عائدًا أتأمل البدر المنير العالي فوق الكافور وأفكر في فيروز تذكرت مطيعة التي هي كالبدر، فكتبتُ القصة لوحاتٍ بعناوينَ جانبيةٍ ثم أسميتها "الحصاد" لكني في القصة لم أنقذ أختي من الغرق ولم أنقذ الطفل الصغير الذي هو أنا من عجلات القطار ذي الصفير الحزين.

أخذت المركز الأول علي جامعات مصر في كل من الشعر والقصة والمقال وحصلتُ علي المائة جنيه ويزيد. وهكذا اشتريت آلة التسجيل وستصبح تلك هي المرة الوحيدة تقريبًا التي أتقاضي فيها أجرًا لقاء كتابتي حتي اليوم.

كنا نقوم بعمل ندوات في كليات الجامعة وتعرفت علي الشاعر حسين علي محمد ابن ديرب نجم الذي احتفي بالقصة وزاد في مديحها وتمني أن تنجب الشرقية كتابًا آخرين بقامة يوسف إدريس.

لقد اجتهدت في المرحلة الثانوية وأنا أذوبُ توقًا لأن أدخل كلية الطب لأصبح كإبراهيم ناجي شاعر الأطلال، فإذا بي في منتصف الطريق أتخلي عنه وأحمد الله لأن إدريس كان هو الآخر طبيبًا.

كتبت القصة وبدأ الشعر يتواري، لأننا لم ننجح في علاقة حب كي نذكي نار الكتابة، وأنّي للأولاد الفقراء حبٌ حتي من الفقيرات مثلهم واللواتي يتقن إلي زميل ثري ؟؟

وهكذا استجابت القصة لمشاكلنا الاجتماعية فكتبت بعد الحصاد، موسم الفقراء، وأيام العائلة الكبيرة، واللباس التحتاني، وزمن الحرب، وقطار جميل أخرس !

وجاءت الأستاذة فريدة النقاش في إحدي ندوات التجمع بالزقازيق فأعطيتها في نهاية الندوة وعلي استحياء القصص الثلاث الأولي فنشرت إحداها بأدب ونقد وأرسلت في طلبي إذ كانت إحدي صفحات " أيام العائلة الكبيرة " قد ضاعت وتريد أن تنشرها في العدد القادم، وتلك كانت المكافأة الثانية، وهكذا أصبحت مجلة أدب ونقد وبعدها " إبداع " الدكتور عبد القادر القط بيتي الذي أشعر فيه بالونس.

تخرجت وعملت في بلدتي طبيبًا وأصبحت مقلا بعد أن شغلتني العيادة قليلاً، ولأنني بحكم انتمائي الطبقي لا أميل إلي أجهزة الحكومة ولا أثق فيها أصدرت مجموعتي الأولي "ثلاث شمعات للنهر" عام 1988علي حسابي الخاص وبدأت أخسرُ من جرّاء الأدب لكنني كنتُ أكسبُ نفسي، وكان في الدنيا بقية من خير فاحتفي بعض النقاد (رغم بعُدي عن القاهرة) بالعمل وكتبوا عنه. وفي منتصف التسعينات كانت قد اكتملت لدي من القصص المنشورة مجموعة أخري أسميتها "كائنات فائضة عن الحاجة" وحاولت أن أنشرها في هيئة قصور الثقافة إذ أصبح النشر الخاص مكلفًا والتوزيع غدا بالغ الصعوبة، ولم لا وأنا أري كتابات غثّة ورديئة في سلاسل شاحبة لا تصنع كاتبًا ولا تشجعُ قارئًا.. ونزل اسمي في ترويسة آخر كتاب بالسلسلة العمل القادم "كائنات فائضة عن الحاجة" لكنها لم تنزل لأنني ببساطة بعيدٌ عن التربيطات والشلل والعنكبوت الذي كبّل الحياة الثقافية، وكانت جريرتي ليس البُعد فقط ولكن نفوري الشديد من الرياء وإطراء المشرفين.

كنا معزومين أنا وشقيقي الأكبر الدكتور بركات في فرح زميل له بإحدي قري ديرب نجم تدعي المناحريت وكانت ليلة الحناء ، جلس العريس في منتصف المندرة علي حصر السمار وحوله الأقرباء والأصدقاء وباقي المعازيم يسندون ظهورهم علي مساند الكنب العديدة التي يتطوع بها الجيران مع حصائر السمار، وفي منتصف المندرة صينية كبيرة مملوءة بالحناء ومغروس فيها الشموع التي ملأت جوانب المندرة بالأضواء المتراقصة مع أضواء الكلوبات المتبرع بها أيضا من دكاكين القرية. وبديهي أن من يقوم بجمع الحصر والمساند والكلوبات وشراء الحناء والقيام بخضب أكف العريس وقدميه وكذا من يحب من أصحابه والأقرباء هو حلاق القرية … وبجوار صينية الحناء توجد صينية أخري يلقي فيها النقوط من العملات الفضية البراقة قبل أن تختفي فتأخذ مكانها العملة القصدير وينتشر الورق ، ويكون النقوط هو مكافأة الحلاق علي رعايته العريس منذ الصغر بدءاً بالعلاج والختان وانتهاء بحلقة وزيانة العريس.

في ليلة الحناء هذه تتعب أكف الذين لم يتخضبوا في التصفيق وتتعب أقدام بعضهم من الدبدبة والرقص علي نقر الدرابك والدفوف، توشيها زغاريد النسوة في الغرف المجاورة وهن يطبخن الأرز باللبن والمهلبية ومشاريب القرفة فيتحلب ريق الراقصين والمصفقين من بخارها المضمخ برائحة الفانيليا وماء الورد ، وبين لحظات الراحة من الرقص والتصفيق وأثناء تناول شراب القرفة الدافئ والأرز باللبن ينطلق عقال النكات والحكايا فتعلو الضحكات وتفرقع القهقهات ، والنسوة هن الأخريات يتوقعن ما يدور بغرفة العريس فلابد أن الحضور دخلوا في القصص الجنسية لذا أثناء نقل الاكواب والأطباق تتصنت بعض النسوة خصوصاً المتزوجات قبل أن ينقرن خفيفاً علي باب المندرة عسي أن تلتقط آذانهن بعضاً مما يدور من حواديت الشباب لتعود هي الأخري فتحكي في غرف الحريم طرفاً مما دار وما استطاعت أذناها اللاقطة أن تقتنص.

في ليالي الاعراس يمسي اختلاط الرجال بالنساء مباحاً دون أن يلجأن إلي مداراة أفواههن بطرف طرحتهن أثناء الحديث دلالة الخفر والحياء ويسمح الرجال ببعض المرح والخروج عن بعض التقاليد والعادات دون أن يتعدي ذلك الاختلاط حدود الكلام حتي وإن شابه بعض التلميح لما هو قبيح... لتعود الحياة بعد الفرح سيرتها الاولي من الانفصال والحديث خلف الحجب من أبواب أو طرحات سود لمداراة الوشوش .

عجبت ليلتها حين حكيت واقعة تخص جارا لنا كان يتنصت علي رجل يأتي زوجته في غرفة مطلة علي الشارع وقد فتح ضلفتي الشيش ليخفف من احترار بؤونة اللزج ، ومن شدة اندماج المتنصت انزلقت رأسه بين أعواد الحديد التي تسيج الشباك .... فلما انتهي الرجل من جماعه لمح ظل الرأس يتحرك علي الحائط ومن ارتباك المتصنت لم يستطيع تخليص رأسه ، فما كان من صاحب البيت الا أن رفع بلغته ونزل علي رأس المتنصت حتي تورم صدغاه ثم انتبه لزوجه ولنفسه فأمرها بأن ترتدي لباسها وارتدي هو الآخر لباسه وأكمل الضرب الذي التم علي إثره رجال ونسوة الحارة من جعير المضروب .

فرقع العريس بالضحك وغرق الحاضرون في الكركعات وانسل واحد من الحضور فلعلعت الضحكات أكثر حتي أوجعتهم بطونهم ومسحوا دموعهم بالاكمام والكراسيع لأنهم يقبضون علي الحناء ...

كانت دهشتي أن الذي انسل من الجلسة غاضباً قد أكل في صدر شبابه علقة علي. صدغيه عندما انحسرت رأسه في الحديد هو الآخر وحسب أن أحدهم أوعز لي أنا الغريب عن قريتهم البعيدة عن بلدي حتي ألفق الحكاية فأحكيها عن جار لنا لأكيد له. عجبت من تكرار الحدث ليزداد بعد ذلك عجبي عندما ذهبت الي لبنان لمراجعة كتاب " المتننصتون " وكذا توقيع العقد ، إذ حكي لي الاستاذ رياض الريس أمد الله في عمره وكان وقتها قد تجاوز السبعين أن جده كان يحكي وقائع التنصت هذه لأصحابه وهم جلوس حول مدافئ الشتاء دون أن يأبهوا بالاطفال ولا بذاكرتهم الواعية ، واستغرب عندما سمع من بعض أصدقائه في أمريكا اللاتينية قصصاً عن التنصت شبيهة بما كتبت عما يحدث في قري مصر ونجوعها وما سمع من أحاديث جده ، كان ذلك أيام بيوت اللبن الطينية التي من دور واحد قبل أن ترتفع العمائر الحجرية من القرميد الأحمر في الريف لتختفي معها قصص المتنصتين .

كنا في سكن الأطباء بالمستشفي العام نحكي ونحن نسترجع الزمن الجميل فنقوم بعمل الارز باللبن والمهلبية وننخرط في النكات والقصص التي تغلفها القفشات الجنسية فجاءت قصص التنصت علي رأس الحكايات فاندهش عصمت النمر من روعة الحكي " لماذا لا تكتب هذه القصص ؟" فقلت سوف تفقد معناها إذا رفعت منها الالفاظ الخادشة وأي ناشر ذاك الذي يجرؤ علي نشر هاته القصص بعبلها وألفاظها الحوشية الوحشية ؟ قال اكتب وبعدها فكر في المخرج... وكنت أيامها خارجاً من أزمة نشر " كائنات فائضة عن الحاجة " فكتبت لأثار لذاتي من المؤسسة ولأثبت جدارتي وموهبتي !

وكتبتُ قصص التنصت بألفاظها الحوشية الخارجة وأسماء الأعضاء الحسية بمسمياتها كما هي في معجم أهل الشارع لا معاجم اللغة حتي لا أقطع الاسترسال عن نفسي وأنا أبدل وأغيرّ لتحتفظ الحكاياتُ بدفئها، وفي النهاية من الممكن أن نستبدل ونغيّر. وخلال أسبوعين لا أكثر كنتُ قد كتبت قصص " المتنصتون " وكأنما أمتحُ من بئر يفيض. وأسقط في يدي، لو تم تبديل الألفاظ لوقع العمل، وهكذا انتظرنا معرض الكتاب عام 1998وأعطينا المسودة لمدير التوزيع بدار رياض الريس. وكان معي نسخة مصورة من " كائنات فائضة عن الحاجة " طلبها المشرف علي سلسلة تصدر في اتحاد الكتاب وقابلنا بالمعرض صدفة وألحّ علي عصمت أن أعطيها له فرفضتُ لأنه تجاهل الموضوع، وما كان قد انقضي سوي أسبوع بعد طلبه المجموعة ( أهو ماركيز حتي ينسي من هم مثلي؟ أم تراه يريدني أن أفرك اليدين وأتوسل ثم أمتدح كتابته وبعد ذلك أعطيه القصص؟) وعدتُ من فوري إلي جناح رياض الريس وأعطيته المجموعة ليس من أجل النشر بل من أجل أن يتحمس لكتاب "المتنصتون " فلا يعتقدنّ أنه بيضةُ الديك. وكان فيما فعلتُ الإنقاذ إذ لم يمض سوي شهر علي انتهاء المعرض حتي تلقيتُ هاتفًا من بيروت يفيد بأنهم موافقون علي النشر بشرط أن يقوموا بضم الكتابين في كتاب واحد لأنهم ملتزمون بحجم وصفحات معينة وثانيًا حتي يفوتوا الفرصة علي الرقيب، وهكذا خرجت القصص متداخلة متشابكة رغم اختلاف الموضوعات، لكنني رحبتُ بذلك الإجراء حتي أحوز اعترافًا جاء من عاصمة النشر بعد أن دعّني بلدي.

وأشهدُ أن صدور الكتاب من هذه الدار أعاد لي ثقتي خصوصاً بعد محادثة هاتفية من لبنان أخبرني فيها الصديق محمد الجعيد مدير التوزيع برياض الريس أن كتاب المتنصتون قد تم الاحتفاء به في صحافة لبنان وأنه قد أرسل بالبريد علي عنواني صوراً ضوئية من بعض المقالات وتمني أن أكون علي معرض القاهرة القادم قد أنجزت رواية أخري فتمنيت أنا الآخر أن يتحقق ذلك إن شاء الله .

كان ذلك التمني محفزاً لي علي الكتابة وأنا أتململ وأتنقل بين الموضوعات والحكايات وقتها ، كنت مشغولاً بعائلة في بلدتنا مشهورة بالفشر والنخع وتحتكر في الوقت ذاته رياضة رفع الاثقال... كانوا يلقبون أنفسهم عائلة الأبطال .

وحواديت فشرهم تحتاج إلي جاحظ آخر يتتبع حكاياتهم وعوراتهم ....

في إحدي أماسي الشتاء كنت ساهراً مع صديق لي يقيم في فرنسا وقد جاء في أجازة نصف العام ومعه زوجه الفرنسية لتري الأهرام والنيل فأصابها رمد تورمت علي إثره عيناها فقررت العودة الي بلدها للعلاج خشية أن تصبح مثل "تاها هسين" ولم تشأ أن تأخذ معها زوجها حتي لا تفسد عليه متعة البقاء مع والديه الشيخين وهكذا أمضي معنا الاجازة دون الأهرام والآثار ، وقبيل الفجر بقليل سمعنا خبطاً عنيفاً علي الباب فقام المضيف يفتح ثم عاد سريعاً " الأسطي عبد الودود عايز الدكتور أحمد " فخرجت اليه حاسباً أن أحداً من أهله أو جيرانه بحاجة إلي إسعاف وكان قد نزل فهرولت خلفه فإذا به يستعجلني آمراً " أركب ورايا بسرعة "وكنت أخشي ركوب الموتوسيكلات لأني أثناء فترة الخدمة في الريف وأثناء ركوبي خلف أحد الذين استدعوني لإسعاف أمه وكان وحيدها وقعنا في المصرف وهكذا انكسر ذراعي ولم نسعف أمه فماتت !

ليلتها حلمت أمي أنني أغوص في الوحل وتناديني فلا أرد عليها دون أن ترقأ دموعي الهاطلة علي الصدغين فأيقظت أبي وأجبرته علي أن يذهب الي بوحدتي الصحية ليطمأن علي سلامتي"

- أروح فين دلوقتي يا ولية واحنا الفجر وأسافر أزاي ؟

- اتصرف يا حاج محمود ابني ضروري فيه حاجة ، قلب الام مش بيخيب.

- يا ولية دا حلم ... تكونيش فاكرة روحك من الاوليا !

لكنه طبعاً رضخ وجاء للوحدة فأخبره العامل النوبتجي أنني بمستشفي الجامعة .

حرنت في الركوب وقلت للاسطي سأتبعك لكنه نهرني " بسرعة مفيش وقت أبوك بيتقطع من الوجع "

كان أبي ليلتها نوبتجيا في بلوك السكة الحديد فأصابه المغص الكلوي الحاد وليس بمقدوره أن يطلب عربة الاسعاف ولا أن يترك البلوك وقطار الصهاريج علي وصول.

" بالصدفة كنت بأوصل محمد ابني المحطة علشان يروح الجيش فسمعت المنازعة والآهات جاية من فوق خدت سلالم البلوك في فشقة لقيته بيتقلب علي الارض الحقني يا عبد الودود شوف حد من اولادي يلحقني بحقنه لحد ما النهار يطلع وييجي البديل يستلم البلوك ، رحت للدكتور بركات قالوا عند حماته في كفر صقر ، لفيِت عليك البلد حارة حارة ودار دار لحد لما واحد ابن حلال قال أنا شايفه مع شلة من أصحابه داخلين العمارة دي يا اسطي ، قلت يبقي عند المهندس جوز الخواجاية ما أني عارفه ،أبوه صاحبي "

كان يحكي وأنا لا أستطيع أن التقط الا النزر اليسير مما تنثره رياح الشتاء الباردة من ألفاظ ، ناسياً خوفي ورهابي من الالات البخارية حتي وصلنا .... ولم يتركنا وأصر أن يذهب لشراء الحقن ويطمئن علي صديقه وجاره وصاحب عمره " أروح أيه يا جدع دا محمود إن كان أبوك فهو حتة مني ، داحنا فارزين مع بعض في الجهادية وإنشاء لله مش هيفرقنا عن بعض الا الحق" مشيراً للسماء ومكنياً عن الموت حتي لا يذكره صراحة فلا يكون فأل سوء، هكذا كان مع كل أهل البلد ... كان الاستثناء في عائلة الابطال .

في أواخر أيامه كان ابنه سانداً له وهما يمران علي الشوارع والحارات والدكاكين ليشبع من البلد والناس قبل رحيله وقد أحس بدنو الأجل ، وكنت في بقالة عبد العزيز ابن عمي فدخل وسلم وأخذني في حضنه " يا غالي يا ابن الغالي ....اتوصي بأبوك وسلم لي عليه إن مش حصل نصيب وشفته ....حطه في عنيك أنت وأخوتك... محمود استحمل كتير لحد ما وصلكوا لبر الامان وأعلا المناصب " وصدق حدسه فمات بعد أيام !

كان مغرباً كابياً ملفعاً بغبار الخماسين وكانت مضيفة المركز بها عزاء رجل مهم يعمل أبناؤه في مناصب حساسة ولم يسر خلف جنازته بالنهار الا نفرٌ قليل لانهم لا يعزون أحداً وليس عندهم واجب فاستدعوا الطبلاوي لكي يقرأ في المضيفة وكان أيامها موضة ويأخذ الف جنيه في الليلة أيام كان الجنيه جنيه بصحيح ، ذهب الناس ليس للعزاء ولكن ليسمعوا مقرئ التليفزيون ، وتحول المكان المحيط بالمضيفة الي ما يشبه المولد ... باعة السوداني والحلبة والترمس واللب ... لم يكن ينقص الا السيرك والغوازي ليصبح مولداً بصحيح... فضاع وقار العزاء واكتمل ضياع الهيبة والوقار لما انطلقت ميكروفونات الجوامع ناعية الاسطي عبد الودود فخرج القليل الذي كان بداخل المضيفة غير مصدقين وانطلق الخلق الي داره لتسير البلد بكاملها خلف نعشه .

وفي رحلة العودة من المقابر وحتي الهزيع الاخير من الليل كان كل واحد يعزي نفسه ويحكي عن الأسطي مكرمة أو طرفة أو حكاية!

تذكرت صنيعه معي منذ سنوات ليلة أصابت حصوة الحالب أبي - أمد الله في عمره -بالمغص الكلوي فراح تململ حصان الكتابة وقررت أن يكون الاسطي موضوع روايتي التي تمناها صديقي اللبناني .

كتبت عنه وعن متولي أخيه وعائلة المعاملي الأبطال الفشارين المزاعين خفيفي الظل ، وكان لابد أن اكتب عن أصدقاء الاسطي وجيرانه في شارع البحر : عبد الرحمن أبو فول والشبراوي والشيخ عبد العزيز سلامة وما جري لزوجه ليلة الدخلة ودخولها المستشفي بين الحياة والموت لانها لم تحتمل آلته العجيبة ، وكذا عن المرحوم فارس فريح الكادر الإخواني الذي اغتالت الجماعة ابنه عبد الغفار لظنهم أنه وشي بهم لدي الزعيم ناصر فأطلقت الحكومة سراحه دونهم !

كان الأسطي محباً لوطنه ولعبد الناصر وطه حسين ولم يك محباً للسادات ولا من خلفه. وظني أنه ومن هم علي شاكلته يطيلون عمر هذا الوطن بإخلاصهم وتفانيهم من أجله دون أن يملكوا فيه شروي نقير فكتبت عنه وعنهم في جغرافيا لا تتعدي شارع البحر الذي أسكنه معهم لكني أزعم أنني ربما لمست بعضاً من أفراح وجراح الوطن الكبير وأنا أحكي عنهم !

وبدأت أكتب الحكايات التي أتلوها من الذاكرة علي أصحابي فكانت "حكايات شارع البحر" وانتهيت من كتابة مسوداتها أواخر 2002ودخلت الأمة العربية والعالم أجمع أزمة العراق في مجلس الأمن الذي اكتسحت شرعيته جحافل المغول الجُدد عام 2003 وفي التاسع من أبريل انسحق فؤاد الطفل الصغير الذي غرقت أخته وهو لاهٍ وكنت حسبته قد برئ . . فواها لما جري لك يا عراق السيّاب وواها لما جري لك يا بغداد الرشيد.

أشرفتُ علي حالةٍ أشبه بالجنون من شدة العجز والضعف والهوان . . وما كان أمامي سوي أن أبيّض مسودات الحكايات لأتناسي قليلاً ما جري لبلاد الألف ليلة، وأتناسي عذابات شهرزاد.

وأعطيتُ المخطوط لرياض الريس في معرض 2004 وبعد شهر اعتذروا . وكان السبب أن الألفاظ هنا أكثر من التي وردت في " المتنصتون " الذي منع في معظم البلاد العربية (التقدمية منها والتأخرية) فيا ليتك تعيدُ النظر في بعض الألفاظ. لكنني فشلت !

ونصحتني الكاتبة والزميلة الدكتورة عزة رشاد أن أنشرها علي حسابي في دار نشر جريئة لتتكرر الأزمة بعد عام من الانتظار، وكانت حجة الناشر في التعطيل أن رسام الأغلفة قد رفض لأن بها الكثير مما يخدش الحياء.

هل أصرخ شاتمًا لاعنًا كشاعر العراق الحزين مظفر النوّاب بعد نكسة 1967:

أعترف الآن بأني مبتذل وبذيء

وحزين كهزيمتكم

يا حكامًا مهزومين ويا شعبًا مهزومًا

ما أوسخنا ما أوسخنا

ونكابر ما أوسخنا

لا أستثني أحدًا

ما أوسخ كل الأشياء.

يا حضرات الخجْلي.. أو بعد سقوط بغداد بقيت ذرةُ حياء أو حمرةُ خجل؟

تأزم الموقف وطلبت الثلاثة آلاف جنيه التي دفعتُها فماطل بدعوي أنه متحمس لنشر العمل شريطة أن أقوم بتغيير الألفاظ المسيئة المشينة وطلب وساطة الصديق العزيز والشاعر الرقيق عصمت النمر فوافقتُ علي الفور ليقيني أنه لن يوافق علي الحذف.

وهكذا جلس عصمت أمام الكمبيوتر وكنتُ قد أعطيته ثبتًا بالألفاظ التي اعترض عليها الناشران فلم تطاوعه أصابعه إلا بتبديل أربعة ألفاظ من أصل أربعين، أضاع بعض الوقت في التدخين وشرب القهوة ثم خرج علي الناشر " خلاص يا عم. . كله تمام " فأُعطي أمرُ الطبع في الحال.. وهكذا خرجت " شارع البحر " للنور بعد ثلاث سنوات من كتابتها.. ولقد تم تعتيم غريبٌ عليها من الجميع فلم يُنشر عنها خبر ولم يذكرها أحدٌ بسوءٍ حتي خشية أن يعرفها الناس. أستثني مقالين عظيمين للصديق الدكتور رشدي يوسف بأخبار الأدب تحت عنوان " تفجير قدسية اللغة " والثاني في جريدة المصري اليوم بعنوان " في الأدب المصري الجديد.. أحمد والي.. الكتابة علي اتساع الصفحة " للناقد الكبير النزيه فاروق عبد القادر الذي تتلمذنا مثل كثيرين علي يديه إلا أنني لم أكن قد التقيته من قبل!

تم التعتيم لأنني لا أملك صحفة بجريدة ولا برنامجًا بقناة، ومع هذا فقد قرأ الكثيرون روايتي واحتفوا بها فتلقيت مكالمات تهنئة من أساتذة عديدين من مصر والقدس وزغرب وأمريكا، وأقمنا لها ندوة بالأتيليه عرفت خلالها أصدقاء مبدعين أعتز للآن بهم وأدلي الكاتب الجميل سعيد الكفراوي بشهادة أحسن من عشرات المقالات وهمس في أذني"لو كنت ستبيت الليلة بالقاهرة فاذهب من فورك باكرًا إلي مؤسسة ساويرس بالزمالك وقدم لهم خمس نسخ. فالغد هو الموعد الأخير في مسابقة الرواية " فترددت لكنه شجّعني.. " أنا متأكد أنها ستكسب ثم إنك إن لم تفز فستكون قد كسبت نقادًا قرأوا " وعملت بنصيحته ثم نسيت الموضوع حتي أعلنت النتيجة وفازت رواية أخري لكنني تلقيت اتصالاً هاتفيًا علي عيادتي من الأستاذة العزيزة فريدة النقاش تؤكد فيها أنها فرحت بالرواية كثيرًا وأنها والأستاذ فاروق عبد القادر أعطياني أعلي الدرجات وكانت واثقة من فوزي إلا أن العضوين الأكاديميين قد وقفا ضدها بدعوي أن الألفاظ الخشنة ربما أطلقت الألسنة علي المؤسسة وصاحبها فلم يجيزاها.

وكانت هذه المكالمة من الأستاذة التي نشرت لي أول قصة دون أن تعرفني هي الجائزة !

وهكذا خلوت لنفسي من جديد لأكتب العمل التالي. وفي تلك الأثناء تم ضبط عصابة تسرق الجثث من المقابر الجديدة ببلدتنا. فعادت ذاكرتي لحادث قديم أوائل السبعينات حيث أقنع جارٌ لنا بطب الإسكندرية حانوتي البلدة أن يسرق له جثة يدرس عليها وبعد ذلك يعيدها إليه لدفنها وله علي ذلك أجر يُجري اللعاب وكان معوزًا وأبا بنات فوافق بعد تردد إلا أنه وقع في يد العسس قبض عليه ومات في المحبس قبل أن يصدر عليه حكم فاستلهمت من الحادثين روايتي " ديار الآخرة " عن سماسرة الأراضي ومتاجري المقابر والجثث وحكايات عن موتي رحلوا وموتي علي قيد الحياة بديار الدنيا.

ولبثت بضع أسابيع لعلني أبدّل أو أحذف أو أضيف. ثم جاءت حرب تموز علي لبنان فجلسنا أمام شاشات الجزيرة والمنار ولم أتذكر العمل إلا في نشوة الانتصار فقمت بتبييض المسودات وقلت فلتصدر من الدار التي نشرت أختها " شارع البحر " فلم ألق إلا التعطيل والتسويف عساني أضيق ذرعًا ويعال صبري فأدفع بالذي هو أحسن من الكتابة والكتّاب ألا وهو الجنيه أو الدولار إن وُجد. لكنني أبيْت الدفع لأنني ضحيت في الأولي من أجل أن تخرج الرواية كما أردت لها. أما هذه فلن.

وبعد ما يزيد علي العامين اضطررت إلي سحب العمل وقدمته إلي ناشر آخر مبدعٍ يعرف قيمة الكتابة، وهأنذا بانتظار الوليد الجديد.

ولا زال في جعبتي من الحكايات بقية إن كان في العمر بقية.





كتب مؤتمر أدباء مصر لدورتة الثالثة والعشرين فى مرسى مطروح بعنوان "أسئلة السرد الجديد" وفى البانر الخاص بالمدونة توجد لينكات الكتب و بالضغط على صوره الغلاف تحمل الكتاب



Blogger Template by Blogcrowds