الاديب بين التدوين والابداع
يعتقد البعض ان كل مدون باستطاعته ان يكون اديبا ، وان كل اديبا باستطاعته ان يدون فى الواقع ومن وجهة نظرى الخاصة ان التدوين على سهولته هو وسيلة شديدة التعقيد للتعبير عن النفس او عن الافكار ، ولكنه ليس بالصعوبة بالنسبة للاديب مع انه يتنافى فى واقع الامر من مزاج الاديب الخاص ، لأن التدوين يستلزم ان تفتح مدونتك دائما لتكتب فيها كل جديد يمر بك سواء فى الواقع او الخيال ، فالاديب او المبدع عموما له مزاج متقلب وصعب المراس ولا يكتب هكذا لمجرد ان هناك من ينتظرون لقراءته ، ولكن الاديب يدون بنفس روح الكتابة الابداعية ، فلو لاحظت مدونات الادباء ستجدها تختلف تماما عن المدونات الاخرى ، حيث تغلب عليها الطبيعة الخاصة للاديب ، ربما تعحب البعض من كلمة الطبيعة الخاصة وكأننى أميز الاديب عن غيره من البشر ، نعم انها حقيقة فالاديب المبدع هو مختلف ومميز عن غيره وهذا امر لا يستطيع ان ينكره الكثيرين لان المبدع يرى العالم برؤى ابداعية خاصة ومختلفة عن غيره من الناس ، لذلك فليس من السهل ان يتحول الاديب لمدون ولكن سهل عليه ان يدون كمبدع ، اما المدون فهو اذا امتلك موهبة سرد خاصة ومميزة باستطاعته ان يصبح اديبا ، فالتدوين احد مراحل الابداع الاولى اذا كان مختلفا ولافتا وخلاقا ، كلنا مررنا بمرحلة الاجندة المدرسية والكراريس والاصدقاء الذين لا قفعهمون فى الادب فنجلسهم امامنا لنسمعهم ما سطرنا كراستنا ورغم عدم فهمهم لنا الا انهم كانوا يروننا مختلفين ، فالمدونة هى هذه الكراسة او الاجندة بالنسبة للكثيرين ممن ينتظرهم مستقبل ادبى كبير ، ولا ننكر ان التدوين ساهم بشكل او بآخر فى صنع جمهور مختلف للاديب المدون ، جمهور يهتم بالشكل الاليكترونى كما يهتم بالمطبوع ، يعرف الجميع ان هناك كثير من القراء يلجأون للنت لمعرفة احدث اصدارات الكتب واماكنها مما ساهم فى صنع جمهور حقيقى ومهم عن طريق النت كما خلق نوعا من التواصل الدائم بين الاديب والقراء سواء من الادباء او من غيرهم ، فنزع عنه هذه الهالة الاسطورية الذى يخافها الكثيرين ووضع مكانها نوعا من الكاريزما النجومية لبعضهم ، والامثلة كثيرة حولنا .
الاعلى مبيعا ووهم الناشر والكاتب :
لن يسقط المبدع الحقيقى فى براثن تجار كل شىء حتى الادب ، فكما تحول الجزار ومقاول الانفار فى يوم من الايام لمنتج سينمائي تحول اخرين لا علاقة لهم بالادب من قريب او من بعيد لمسئولى دور نشر ، فقط لانهم يجيدون تسويق وبيع الورق الذى يجنى الورق ، نعم فتجد بعض دور النشر تتحمس لكتب بعينها ليس لشىء الا لانها ستحقق اعلى المبيعات سواء كانت كتب تتحدث عن الجنس او السياسة او الدين وذلك تحت يافطة "حرية الابداع " والحقيقة ان سيطرة مثل هؤلاء على دور النشر هى كارثه حقيقية بكل المقاييس .
لقد نشأت على فكرة ان الاديب لا يبيع أدبه وإبداعه أبدا وأن المبدع الحقيقى لا يتأثر بمتطلبات السوق حتى أن الفن نفسه ما بين رخيص وغالى ومتميز ومختلف تميزه ببساطه ، فترى افلام يوسف شاهين وعاطف الطيب وخيرى بشارة ورأفت الميهى فتعرف فورا ان هذه الافلام ليست لشباك التذاكر وانما للتأريخ والخلود ان جاز التعبير ولم يخضع احدهم يوما لمتطلبات السوق او رغبات الجمهور ، وكذلك الفنان التشكيلى ، فهناك الفنان الذى يعمل تجارى للجاليرى والبيوتات الكبيرة التى تقدر الفن ، وهناك من يقف فى احد الميادين الكبيرة والاماكن السياحية ليرسم الوجوه العابرة عليه بقابل مادى من الشىء الوحيد الذى يجيد صنعه ، وكذلك تجد الفنان البوهيمى الذى لا يهتم بأن يأكل او يشرب أو يرتدى ملابس جديدة ولا يفكر فى اقامة اسرة وعائلة ، واخيرا تجد الرسام الذى يصر على ان يصل للجميع بمبدئه وفنه هو ودون ان يتنازل كما قلنا سلفا ولا يستسلم لمتطلبات الذوق العام السائد ، وهكذا فأن فكرة السوق وتحكم "الافضل مبيعا" لا يهدد الادب الخالد او المبدع الصادق مع نفسه والذى يعرف جيدا ان نجاحه ليس مرتبطا بالترمومتر السلعى وانما هى مسألة تجارية مجردة حيث تنتشر الان الروايا الستينية بمعنى التى لا تزيد عن ستين صفحة غالبا وربما زادت قليلا وذلك بناءا على رغبة السوق ومتطلباته حتى ان هناك بعض دور النشر تدعى انها باعت الطبعة الاولى وانها تطبع الثانية فى حين ان الاولى لم يطبع منها الا قليلا ، انها حيلة شهيرة يرضى بها الكاتب والناشر لتحقيق الرواج للرواية او الكتاب المقصود لهثا وراء يافطة " الاعلى مبيعا " ولكن الحقيقة هما الاثنان يعرفونها ، انها خدعة كبيرة فباستطاعة اى شخص عادى ان يكتب فكرة مبهرة بطريقة عادية كما حدث فى ربع جرام او عايزة اتجوز وحققا مبيعات كبيرة بغض النظر عن القيمة الادبية المقدمة فى العمل فاذا استسلم المبدع لمتطلبات السوق اذا فلابد ان نتأكد انه لم ولن يععلى
أحب أو أوضح بعض الالتباس الذى من الممكن ان يصل لمن يقرأ خطابى المتواضع عن السرد الجديد ، عندما جائتنى الورقة البحثية للكتابة عن محاورها ، أحترت كثيرا لأن الفكرة كبيرة ومعقدة وصعب الامساك بها ، فحاولت ان أتكلم عن شىء يشغلنى انا شخصيا وهم خاص ليس مقصود منه التعميم بقدر ما هو مقصود منه محاولة لفت النظر لظاهرة ربما تسىء يوما للأدباء " فنحيت جانبا افكار مثل الشللية الادبية ، و عزلة الكتاب المميزين بحجة انهم يستهلكون ، وكذلك نحيت معاناة الاديب مع الناشر ، وأثرت ان أتحدث عن شىء غير معلن ويتجاهل ، بل يخاف الكثيرين التصريح به ، نظرا للعلاقة الوثيقة بين الاديب والصحفى ، حتى اننا بكل فخر لدينا الكثير من هذا اللقب الذى أؤكد على انه مشرف ( الاديب الصحفى ) فأنا أحترم جدا الصحافة والصحفيين وأنا شخصيا والدى صحفى وأعمل فى مؤسسة صحفية كبرى ، وكذلك أحترم جدا جدا الأديب الذى يعمل فى المجال الصحفى ، ولكننى قصدت هنا أن أوضح ان الصحافة مهنة شاقة ومتعبة وقاسية جدا والاديب فى اعتقادى يحتاج للكثير من الطاقة لممارسة ابداعه دون أن تتدخل فيه اعتبارات مهنية ربما تؤثر على ابداعه وليس معنى ذلك ان من يمتهن الصحافة من الادباء يتأثرون بشكل سلبى ولكن احيانا على العكس يكون مردوده ايجابى ورائع على ابداعه وقراءه ايضا .
كما احب أن اوضح ان الاسماء الذى ضمنتها خطابى هى اسماء أكن لها كل الاحترام والتقدير والحب وقصدت بهم التمييز فى الكتابة السردية المختلفة خارج اطار اشكال الكتابة التقليدية ، فقد عرضت اسماء لها بريقها وتميزها فى الوسط الابداعى بشكل لافت للجميع وليس لى وحدى ، وفكرة المقارنى المعقودة بين من يكتبون ومتواجدون والاخرون المنذون هى ليست مقارنة بهدف التمييز بينهم لصالح اسماء عن غيرها من اسماء اخرى وانما هى مقارنة فقط بين طبيعة هؤلاء الادباء عن غيرهم ، كما أننى قصدت بعنوان السبوبة أن يكون عنوانا لافتا وصادما لكل من يفكر ان يتعامل مع الكتابة الابداعية "كسبوبة" أو "أدينا بنقلب عيشنا "
فما يكتبة عم خيرى وأبراهيم اصلان وابراهيم عبد المجيد وغيرهم من الادباء الكبار وما كان رحمة الله عليه "مستجاب " يكتبه هى كتابة تستحق أن ترفع لها القبعة نظرا لما وراء هذه الكتابة من تجارب وخبرة سواء على مستوى الكتابة او ما وراء الكتابة ، وكذلك الكتاب الشباب الذين ذكرتهم والذى فهم بعضهم اننى أعيب عليه انه يكتب نوعا مختلفا من السرد باننى اتهمه بالاسترزاق ، اذا كنت اتهم هذه الأسماء الشابة بشىء إنما اتهمهم بأنهم تسببوا فى أن يفكر كل الناس ان هذا هو نموذج الكتابة الإبداعية نظرا لتمتع هؤلاء الشباب بمصداقية لدى جمهور القراء وخاصة من الشباب ، فأنا فقط أطالب الكتاب الشباب بشكل غير معلن من خلال خطابى ان يكون لديهم الإحساس بالمسئولية تجاه القارىء الذى يحبهم ولا يتعاملوا مع كتابتهم من خلال فكرة"السبوبة " سواء كانت فكرية او مادية زيادة فى التوضيح ليس من الضرورة ان تكون سبوبة الأدب المقصودة هنا هى السبوبة المادية ، فهى معنوية بالمعنى الأول ، فليس لمجرد التواجد باستمرار أو للفت نظر او حتى لا ينسانى الناس استمر فى الكتابة هذا اذا لم ترواد الكاتب فكرة تلح عليه ليكتبها ، اقصد بمعنى ان يكون مضطرا لارضاء (عشان خاطر) فهذه كلمة لا يمكن ان أغفرها لأى مبدع يقول لقد فعلت ما فعلت (عشان خاطر) ، فأنا أعتقد ان الكتاب الكبار الذى تستكبهم الجرائد الكبرى ما كانوا ليفعلوا ذلك إلا لأنهم كتاب كبار لهم ما لهم من تاريخ يجعل كل الصحف والمجلات تلهث وراء سطرا من كتابتهم وليس مجرد مقال أو قصة ، لذلك عندما اعرف ان هناك مقال كما يرونه وقصة قصيرة كما اتقبلها انا وغيرى من الادباء لأحد هؤلاء العمالقة من الكتاب الكبار ، فأننا نلهث لشراء الاصدار الذى سينشر هذا العمل .
فالأديب والصحفي ايضا أحرار تماما فاذا كانت الصحافة هى السلطة الرابعة كما تعرفون فالأدب من المفترض ان يكون هو السلطة الأولى ، فهو المؤثر والمحرك لوجدان الشعوب من خلال أمانة توصيل الكلمة سواء كانت هذه الكلمة شعرا او نثرا او رواية او قصة او ايا ان كان المسمى ، المهم ان تكون كلمة الأديب المكتوبة تراعى ان من يقرأه يثق فيه الى حد انه من الممكن ان يقلده فى كل شىء فالاديب كالنجم تماما بالنسبة لقراء كثيرين وبالنسبة لمبدعين يخطون خطواتهم الأولى نحو الأدب ،لذلك لابد أن أكون حرا وعادلا وأمينا فى التعامل مع كلمتى ...
ارجو ان أكون حاولت ان أصل معكم لتوضيح مرضى لما قصدته بالنسبة للعنوان وبالنسبة للأسماء التى تضمنها خطابى وخاصة ان كلها أسماء احترمها واحترم جدا ما تكتبه .
سهى زكى
23/12/2008
من أمام قصر ثقافة مرسى مطروح
الساعة 1.30ود مبدعا ربما تحول لحرفى هائل وعظيم هذا لا يعنى اننى ضد من يكتبون لاجل المال ولكن ضد السعى وراء المال بالكتابة .
أدارت أ/ فريده النقاش جلسة الشهادات فى بداية اليوم الثانى من أيام المؤتمر، ولأسباب فنية تم جمع جلستين فى جلسة واحده مجمعه السبع شهادات المشاركون فى المؤتمر، بينما غابت أ/هالة البدرى و قدمت شهادتها فريده النقاش، الكل قرأ شهادته فيما هو منشور بكتاب الشهادات، عادا د.زين عبد الهادى الذى قدم كلام آخر غير الشهادة المنشورة ولكنها ذات صلة بموضوع شهادتة وسيكلمنا عن كلامه فى الجلسة على هذة المدونه. وننشر هنا مقدمة أ/ سيد الوكيل للشهادات المقدمة فى الكتاب
الكتابة بحثاً عن الظلال يوسف فاخوري
رؤيـــة السـارد لعمــله محسن يونس
محطات للوصول.. سيراً علي الأقدام عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل
التحـولات (شهادة في الكتابة) هالة البدري
النقد والإبداع وتداخل الأنواع د. سيد البحراوي
يبدو أن مفهوم الشهادة الأدبية ما زال ملتبساً بين السيرة الشخصية والأدبية، بين الحقيقة والخيال، بين التجربة الإبداعية والتنظير لها، وملتبسًا بقوة بين العام والخاص، وعمومًا فالشهادة الأدبية ليست وثيقة علي الكتابة ولا علي الكاتب نفسه، وإن ظلت تعيننا علي فهم التجربة الإبداعية بالنظر إلي المحيط الثقافي والاجتماعي لبيئة المبدع، كما أن نقاد التحليل النفسي قد يجدون فيها مادة تعينهم، ليس علي فهم الإنتاج الإبداعي فحسب، بل وعلي فهم كيمياء التجربة الإبداعية لمبدع ما، بالنظر إلي عمليات التفاعل بين المبدع ومجاله الحيوي الدافع للإبداع.
وفي جميع الأحوال، فإن الشهادة الأدبية ليست شيئاً كاملاً ونهائياً، وكأن لها انفلات الأدب ومراوغته، وكأنها شكل أدبي مختلف يدفعنا للتفكير بطريقة مختلفة في أنفسنا، من نحن؟ ما الذي تبقي منا في التجربة الإبداعية؟ لماذا نحن هكذا بالتحديد؟ هل نحب ما نحن عليه؟ ما الذي نريده من كوننا أدباء؟ ما نصيبنا في أن نكون أنفسنا؟.
هذه أسئلة قد تكون أقرب إلي نوع من التأمل الوجودي والتحليل الذاتي. صحيح أن الذات المبدعة ـ في العمل الأدبي ـ تتشكل علي نحو مستقل، متفرد وخلاق، ومتحرر من تأثيرات الواقع المعاش للمبدع نفسه، لكن شيئاً في الخلفية يبقي منحازاً، ومتجذراً في الظرف الاجتماعي والتاريخي بكل فعلياته الثقافية، ذلك ما نسميه الواقع، لكن الواقع ـ أيضاً ـ في أحد تصوراته يكون ملتبساً وعاما. فليس في الواقع مما يخصنا سوي القليل جدًّا، لهذا تبدو شهادة الأديب علي تجربته رحلة شاقة وطويلة، قد تمتد إلي مئات السنين، بالنظر إلي أن المكون الثقافي لمجتمع ما ذي طبيعة تراكمية ورسوبية، فتبدو تجربة البحث عن الذات المبدعة، بمثابة بحث جيولوجي مضن.
وعلي نحو ظاهري، فالشهادة الأدبية بمثابة الوسيط الثالث الذي يجمع بين السيرة الذاتية والسرد الأدبي في فضاء واحد، فإذا كانت السيرة الذاتية خطابًا تاريخيا بالأساس، منطلقًا من واقع التجربة المعاشة للمبدع، وإذا كان السرد خطابا تخييليا بالأساس منطلقا من واقع التجربة الجمالية للمبدع، فإنه ثمة منطقة مشتركة بين السيرة الذاتية والسرد الأدبي يمكن أن تتجلي في الشهادة الأدبية. إنها بالتحديد المنطقة الثرية والمراوغة بين حدين وهميين هما الواقع والمتخيل.
وهكذا تبدو محاولة المبدع لكتابة شهادته الأدبية مهمة شاقة وشائكة، أشبه بمهمة استخلاص الذهب من كثير من التراب، من حيث كونها تركز الضوء علي هذه المنطقة المراوغة بين الواقعي والمتخيل، ومن حيث كون هذه المنطقة الثرية منجم الذات المبدعة. وبهذا المعني، يمكن أن تشير الشهادة الأدبية ـ أكثر من أي شيء آخر ـ إلي معني الذات المبدعة.
وكثيرا ما نقرأ بين مصطلحات النقد ما يوصف بأنه الذات الساردة أو الذات الشاعرة، من غير إدراك دقيق لماهية هذه الذات.
وظنّي أن الشهادة الإبداعية توفر للناقد فرصة دراسة هذا الكائن المراوغ ـ دائما ـ بين الحقيقة والخيال، بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والحلم به. إنها المنطقة التي تتداخل عندها كل حدود التجربة الإبداعية، أو إنها باختصار جوهر هذه التجربة.
وفي هذا الكتاب، نقدم شهاداتٍ أدبيةً كتبها عدد من المبدعين، ونعتذر عن أنه لم يتح لنا الاحتفاء بعدد أكبر مما ورد هنا من شهادات لمبدعين بالنظر إلي أهمية الشهادة الأدبية في استقراء وعي المبدعين لذواتهم المبدعة من ناحية، وللواقع الثقافي المحيط بهم من ناحية أخري، بما يضمن إفادة مميزة لدارسي الأدب من النقاد والباحثين.
وقد حرصنا قدر الإمكان علي أن تكون الشهادات ممثلة لجيل أسهم في تشكيل المشهد السردي الجديد، وهو ما يمكن أن نسميه بالجيل الثالث، إذا ما وضعنا في الاعتبار جيلين سابقين هما: جيل الرواد، والجيل التالي له أو ما اصطلح علي تسميته بجيل الستينيات، الذي ما زال يسهم بقوة وتميز في تشكيل المشهد السردي المعاصر، بل ويظل في كثير من الأحيان مسئولا عن رسم الكثير من تفاصيله.
ونحن في هذا متّسقون مع قناعتنا بأن الأدب ذو طبيعة تراكمية، بحيث ينبني فيه الجديد علي القديم، فليس في كلامنا عن السرد الجديد تكريسًا لقطيعة ما من أي نوع، لا بين الأجيال ولا بين التجارب الإبداعية ذاتها. لهذا فإن ما نعنيه بالجيل الثالث هنا، إنما هو جيل وسط بين جيلين (الثاني والرابع)، وإن الأجيال الثلاثة تتفاعل في فضاء ثقافي وإبداعي واحد، هو ما نعنيه بالمشهد الأدبي الآني.
ولعل هذا التوسط يمكّّن كتّاب هذا الجيل من رؤيةٍ أكثر اتساعا تمنحهم حق الإدلاء بشهاداتهم. فهم في الوقت الذي يعبّرون فيه عن استفادتهم وخبراتهم المتحصلة من خبرات السابقين يدمغون تجاربهم بخبراتهم الخاصة المتفردة، فضلا عن تلك النظرة المستقبلية التي يتشوفون بها لما يجب أن تكون عليه تجاربهم في المستقبل، في وقت تحتدم فيه التجربة السردية بمغامرات جيل جديد مستفيدٍ من تراكم الخبرات السردية السابقة، ومن متغير واسع يعيشه في لحظته الآنية، ينعكس عبر إفادات مؤثرة ـ لا شك ـ من مصادر جمالية لم تكن متاحة لنا في الماضي القريب، تتمثل فيما يعرف باتساع مجالات المعرفة والانهمار المعلوماتي وتعدد وسائط التعبير الجمالي علي نحو ما تمثله ميديا الاتصال الحديث.
وقد اختصت المائدة المستديرة، التي حرصنا علي أن تكون أساسا بين فعاليات مؤتمرنا هذا، بمناقشة حرة ومفتوحة بين كتاب السرد من الجيل الجديد، وهو أمر نراه محمودًا، نظراً لأن تقاليد البحث النقدي اعتادت علي ألا تنظر للتجارب غير المستقرة، وأن تنتظر إلي حين نضوجها واستبيان ملامحها.
ولهذا رأينا أن تكون المائدة المستديرة مناسَبةً لأن يطرح المبدعون الجدد أسئلتهم علي الواقع، بدلا من أن يطرح الواقع أسئلته عليهم، بما يعني تمكينهم من التعبير عن أنفسهم، ورسم ملامح رؤاهم، لمشهد سردي آني.
وقد حرصت أمانة المؤتمر أن تُخضع اختياراتِها لشهادات المبدعين، لمعايير بحثية أقرّتها لجنة الأبحاث، لتكون متواشجة ومتكاملة مع مباحث المؤتمر المختلفة.
وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلي أن شهادة الدكتور سيد البحراوي، وعلي الرغم من وجازتها، إلا أنها تكشف بوعي حاد عن منطقة قلقة وملتبسة في ذات المثقف والمبدع المعاصر، وهي أن الذات لم تعد معني واحداً ومنظّما علي نحو قسري، بل هي فضاء متسع من الإمكانات المتعددة والرؤي المتداخلة، حيث تتماهي الحدود الفاصلة بين الممارسات الأدبية، علي نحو ما يمثل لها الدكتور سيد البحراوي باحتشاد ذاته المبدعة، وتراوحها بين تجربتي النقد والإبداع، وكأنما يدلي بشهادته، علي طبيعة التداخل بين الأنواع الأدبية، وكأنما النص النقدي هو تجل آخر من تجليات الإبداع الأدبي، وهو متسق في ذلك مــع رؤية المـؤتمر لما هو سرد، بعيــدا عن تخصيصات النوع الضيقة.
فيما يقدم د. زين عبد الهادي شهادته عن السرد بعنوان: «البقاء للسرد» وهي رؤية متفائلة تحتفي بظاهرة الانفجار السردي الذي تعيشه مصر الآن، وتشير إلي أن السرد لم يعد بديلاً للفلسفة التقليدية علي نحو ما تشير الدراسات الغربية الحديثة فحسب، بل هو بديل للتاريخ أيضاً بوصفه شهادة الواقع راصدة لتفاصيل الحراك الاجتماعي، ففيما يسكت التاريخ عن كثير من هذه التفاصيل فإن السرد معني - بالدرجة الأولي - بالمسكوت عنه، ومن ثم فهو يقدم تاريخا بديلاً للتاريخ الرسمي .
كما تشير شهادة الأديب يوسف فاخوري إلي معني خصوصية التجربة في مقابل خصوصية الإبداع، مع وعي بأن الخصوصية ليست انغلاقاً، بقدر ما هي تعبير عن نوع مميز من التفاعل مع العالم، فمن المثير في شهادته، أن تقف علي معني للخصوصية شديد الثراء والتعدد، في إشارته إلي مكوناته الكنسية الأولي، بوصفه مصريا مسيحياً (قبطي) يعيش في أقصي جنوب مصر (أسوان) حيث يتعانق الوجد الصوفي الإسلامي المتسامح الذي اشتهرت به هذه المنطقة، مع التراث الفرعوني الذي ما زالت آثاره شاهدة وفاعلة في تشكيل الوعي الجمالي لإنسان هذه البيئة، فضلا عن التجارب الإنسانية التي اكتسبتها عبر الاحتكاك والتفاعل مع ثقافات حديثة لأجانب وفدوا إلي هذه المنطقة أو عاشوا فيها، سواء إبان سنوات العمل في بناء السد العالي الذي جسد نضال الشعب المصري في مواجهة الإمبريالية، أو من خلال المستشرقين وعشاق المصريات الذين وقعوا في غرام الجنوب المصري.
وإذا كان لا يمكننا الإشارة هنا إلي كثير من التفاصيل الواردة في هذه الشهادات، فإنه يمكن القول إنها عكست تنوع الخبرات الحياتية والمعرفية المكتسبة لتصبح كلاً في فضاء الذات المبدعة، ومن ثم بدت كل شهادة مُميزةً بخبرة كاتبها، ومميزةً لذاته مبدعا ومثقفًا. فشهادة المبدعة والروائية هالة البدري تعكس تجربة المرأة المبدعة في مجتمع ما زال يرعي تقاليده الأدبية والاجتماعية وفق معايير ذكورية، ومن ثم فقد جاءت شهادتها مميزة بمذاق خاص، وتعكس درجة قصوي من الوعي بالذات.
أما شهادة المبدع محسن يونس فقد تجاوز فيها وعيه بتجربته، إلي تأمُّل تجاربَ لآخرين، متوازيا مع بعضهم أو متقاطعا مع البعض الآخر، بما يعني رؤية أوسع لمفهوم الشهادة الأدبية، من مجرد انحصارها علي زاوية النظر الذاتية، ومن ثم يبدو هذا التجاوز كمعادل ثقافي لتجربة محسن يونس ـ نفسه ـ الذي نجح في كسر هامش العزلة الإقليمية، حيث آثر الحياة في مدينته الساحرة (دمياط) يقرأ علي شواطئها حكايات الصيادين ويسترق السمع إلي أسرار البحر، ورغم ذلك فقد نجح في تحقيق مكانة مميزة بين كتاب جيله، فيما اكتسبت تجربته الأدبية سحر البحر واتساعه، وقد انعكس هذا في أعماله السردية، بدءاً من عناوين هذه الأعمال، وتنوعها بين القصة والرواية والموجات السردية.
وغير ذلك لدينا شهادتان لمبدعين هما: عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل وأحمد والي.
أما شهادة الأول فتعكف علي قراءة الخبرة الحياتية عبر الاحتكاك العملي والجسدي بالواقع، وتُنصت لحضور الحواس الإنسانية في تشكيل الوعي الجمالي. وتلتفت إلي تجارب الماضي في نازع "نوستالجي"، وكأنما يعمد إلي كشف مواطن الوعي بالذات مشتبكاً مع التاريخ.
في حين تأتي شهادة الثاني ملتبسة بالتعبير الشعري تارة والسردي تارة أخري، لتقف علي حدود الوعي الجمالي عبر المعرفة الثقافية المكتسبة، مع التركيز علي لحظات متوترة ومؤثرة في التركيب النفسي له، بوصفها نقاطاً تشير إلي مدخولات الواقع المعاش في المتخيل السردي.
ويقينًا أن هذا العرض السريع والمختزل للشهادات الواردة هنا، لا يغني عن قراءتنا لها، والتعرف عليها عن قرب، تمامًا كما لا تُغني معرفتنا بموضوع ما عن قراءته سرداً، وحيث الشهادة الأدبية في إحدي صورها، سرد ترتكز بؤرته علي الذات المبدعة، وتعكس وعي المبدع بتجربته ومدي اشتباكها بالحراك السردي المعاصر له.
التسميات: شهادات
التسميات: شهادات
محطات للوصول.. سيراً علي الأقدام عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل
0 تعليق مرسلة بواسطة fawest في 3:51:00 مالتسميات: شهادات