(1)

ظهر مع الحداثة ما سمي(علم الرواية) وتابعه (علم السرد) تأسيساً علي أن هناك نوعا من النصوص الأدبية التي حصرت وظيفتها في إعادة إنتاج الواقع بمجموع وقائعه وشخوصه، والعلاقة الجدلية التي تربطهم، ثم تقديم هذا المنتج في لغة توصيلية ذات مواصفات أدبية، وكان ظهور مصطلح (علم الرواية) وتابعه (علم السرد) ذا تأثير واسع في المحيط الأدبي والنقدي، وازداد هذا التأثير عندما زاحمت الرواية سواها من أجناس القول، وسعت أن تجد لها مقعداً في المقدمة.

إن ترديد هذين المصطلحين في زمن الحداثة، قد استهدف تخليص الرواية من القراءة الانطباعية التي صاحبتها منذ بواكيرها حتي أوائل القرن العشرين، ومما لاشك فيه، أن هذه الانطباعية كانت وليدة (المحكاة) التي كانت تنظر في النص بوصفه محاكاة الواقع، إذا كانت المحاكاة أمينة وصادقة نال النص الرضا والقبول النقدي، وإذا انعدمت الأمانة والصدق، كان الرفض الفوري، دون نظر إلي الأداة التعبيرية التي وظفها الأديب، سواء أكان صادقا أم غير صادق، ذلك أن الانطباعية احتكمت إلي (المرآة) النصية، وأهملت سواها من الأدوات المنتجة للنص، وتناست الهيكل البنائي للرواية.

ومع سقوط الانطباعية، أو تحجيمها ـ علي أقل الاحتمالات ـ اتجهت القراءة النقدية إلي البناء الداخلي للنص الروائي، وبخاصة بعد جهود فرويد في مباحثه النفسية، وما قاله عن الوعي والعقل الباطن، وهو ما هيأ المجال الأدبي لظهور (رواية تيار الوعي) التي أسقطت المحاكاة والانطباعية نهائيا، إذ إنها تجاهلت وقائع العالم التي تسكن الخارج، وسلطت عنايتها علي الوقائع الداخلية للإنسان، أو لنقل: إنها جعلت وقائع الخارج انعكاسا لوقائع الداخل، وهو انعكاس عضوي، بل ربما يكون عشوائياً.

معني هذا أن يبدأ السرد ممارسة وظيفتة من الداخل، وهو منطقة ليس لأحد سلطان عليها، وليس هناك رقابة تحاصرها، وربما لذلك اتسم هذا التيار الإبداعي بكثير من الغموض، ولم يكن غموضا من أجل الغموض، وإنما من أجل الإفصاح.

وهذا التحول الطارئ للخطاب الروائي، صاحبته عناية واضحة من الخطاب النقدي بالأبنية المنتمية (للوعي الداخلي)، مثل (الحوار الداخلي) و(الأحلام) و (التفريغ النفسي) و (الإسقاط) ثم عناية أخري بتخليص النص من سلطة المبدع حتي لا تلاحق المتلقي.

وفي هذا السياق ظهرت بعض الإشارات لمصطلحات ما بعد الحداثة التي تختص الرواية، مثل الذي دار حول (الحوار الداخلي) من كونه حوارا مباشراً أو غير مباشر، ومثلما هو الأمر مع بعض الأبنية الصياغية (كالضمير) و(الإشارة) و(أدوات الربط)، وبعض الأبنية الدلالية، مثل (المناجاة) و (التداعي الحر)، ثم رصد بعض تقنيات الفنون البصرية، كالمونتاج والسيناريو والفضاء النصي وغيرها من التقنيات.

(2)

لقد تردد في زمن الحداثة مصطلحان متشابكان: (الخطاب ـ النص) وليس من همنا هنا الدخول في جدل حول ما دار حولهما من حدود معرفية، وعلاقة أدبية، وثم فإننا نغادرهما إلي ما سبق أن أشرنا إليه (علم الرواية) و (علم السرد) ومردودهما المعرفي، إذ كان هناك يقين بأن كل خطاب له مستويان منفصلان علي مستوي التحليل، وإن كانا متحدين علي مستوي الإنتاج، أما المستوي الأول، فهو البناء الصياغي، والمستوي الثاني هو المنتج الدلالي، وكان السؤال النقدي الملح: هل من الممكن أن ينضوي المصطلحان تحت مصطلح (النص) ؟ وأهمية السؤال جاءت من أن قراءات ما بعد الحداثة أعطت للنص حقوقا كثيرة، وأولها :حق أن يكون النص منتجا لذاته، بل في قدرته أن يكتب نفسه، علي معني أن يكون النص هو(القائل) أي (فاعل القول)، وبحق هذه القدرة فإنه يسعي للتعبير عن مكنوناته الداخلية، وكيفية إطلالها علي الخارج التي علي ضوئها يشكل مواقفه وأحواله وزاوية رؤياه، ومن ثم رفضت النصية مجموع المرجعيات الخارجية بكل مستوياتها، سواء أكانت مرجعية واقعية، أم مرجعية فكرية، معني هذا أن عناية النص البالغة تكون بالمستوي الأول .

ومن الملاحظ أن مصطلح النص ارتبط ارتباطا حميما بمصطلح (النوعية) الذي جاء ظهوره في حوار مصطلح (العولمة) بكل متغيراته الكمية والكيفية في كل المجالات الإنسانية، أي في (متغيرات الثقافة) بوصف الثقافة جامعة للمسلك البشري داخليا وخارجيا، ومن مكرور القول أن نعيد الكلام عن مرحلة (الوفاق الدولي) التي أوقفت الصدام بين الكتلتين: الغربية والشرقية.

ويبدو أن (العولمة) كان لها مواليدها، ومن هؤلاء المواليد (ظاهرة التجنيس) التي كسرت الحواجز النوعية، وكان مصطلح (النص) هو المناسب لاستيعاب هذا الكسر، علي معني أن الإيغال في النصية كان مصاحبا لتحجيم النوعية، وكان لذلك صداه ـ المباشر حينا، وغير المباشر حينا آخر ـ في الرواية، حيث تنازلت عن بعض حقوقها المحددة لخصوصيتها، وهو تنازل باعد بينها وبين المفهوم التقليدي لها، وهو مفهوم أحاطته المذاهب النقدية المتتابعة بإطار من القداسة الفنية.

ومع انكسار التنوعية، ظهرت بداية التداخل النوعي علي نحو محدود، ثم أخذت في الاتساع، فكانت تداخل الرواية بالقصة، وتداخلها بالسيرة، والمذكرات اليومية، وتداخلها بالمسرحية، ثم تداخلها بالشعر.

(3)

إن منهج البحث يقتضي أن يكون الحديث عن الرواية بدءا من مصدر إنتاجها، فمن هو منتجها؟ هل المؤلف أم الراوي؟ لقد استحضر بارت مصطلح (المؤلف) ثم أماته، ورأي أن حاشية حضوره كانت رهنا (بحقوق التأليف والنشر)، وقد سعي فوكو إلي فك الارتباط بين المؤلف والشخص الذي كتب العمل الأدبي، وهو ما يعني أن هذا المؤلف قد استحال إلي كينونة ضبابية ليس دوراً أو وظيفة تنفيذية، ومن ثم فإننا نتقبل مقولة بارت ـ مع التحفظ ـ وتقبلنا راجع إلي أن هدف بارت من إماتة المؤلف، هو الحد من سلطته علي النص (1).

وإذا نظرنا إلي المؤلف بوصفه القائم بالكتابة فحسب، فإن النظر لابد أن يتجه إلي (الراوي) بوصفه المنتج التنفيذي لهذه الكتابة، ولن نطيل الكلام حول مفهوم الراوي، فهو مفهوم يكاد يدركه عامة المثقفين، ذلك أن التراث العربي قد تعامل مع هذا المصطلح علي مستويات متعددة، منذ أن كان هناك رواة للشعر، ورواة للحكايات والأساطير، وينضاف إلي كل ذلك الوظيفة الدينية التي أداها الرواة في حفظ النصوص المقدسة.

إن استبعاد الكلام حول مفهوم الراوي، يضعنا مباشرة في مواجهة وظائفه ومواقعه التي علي أساسها يتدخل في بناء النص، وفي مسارات السرد، وفي اختيار أدوات هذا السرد، ذلك أن عقيدتنا ـ بعيدا علي الجدل حول المؤلف والراوي ـ أن هذا الراوي هو الموكل بنقل النص من المؤلف إلي المتلقي، وبحق هذا التكليف، فإنه يتمكن من توجيه النص بما يوافق ميوله الخاصة أو العامة.

وإذا كانت هذه الوظيفة المركزية للراوي، فإن مواقعه متعددة ومتنوعة، فله مواقع مكانية، ومواقع زمانية، وفي المواقع المكانية منطقتان رئيستان، لأنه إما أن يكون خارج النص، وإما أن يكون داخله، ومن المتاح له أن يتحرك بين هاتين المنطقتين، وعندما يحتل منطقة الخارج تنحصر مهمته في إنتاج الأقوال، وعندها يتحول إلي شخصية من الشخوص المنتجة للأفعال.

وسواء احتل الراوي منطقة الخارج أو منطقة الداخل، فإنه يؤثر ـ غالبا ـ المواقع الخلفية التي تتيح له قدرا واسعا من الرؤية الكلية، وقد يغادر هذا الموقع الأثير ليحتل المقدمة، بهدف أن يقود الأحداث والشخوص، وإحكام السيطرة عليهم، وقد يترك الراوي كل هذه المواقع، ليحتل موقعا فوقيا، يقود منه السرد إلي مسارات أيديولوجية أو فلسفية أو نفسية أو أسطورية بالغة التعقيد.

ويتوازي مع هذه المواقع المكانية، مواقع زمانية صالحة لحلول الراوي فيها، وإذا كان الوعي البشري قد حصر هذه المواقع في ثلاثية خالدة: (الماضي ـ الحاضر ـ الآتي) فإن الراوي يحتلها حينا، ويغادرها إلي هوامشها حينا آخر، ونعني بالهوامش: الماضي البعيد والقريب، والآتي البعيد والقريب، والحاضر المتصل بالماضي، والحاضر الممتد في الآتي، برغم تعدد هذه المواقع الزمنية، فإن الروائية لا تستريح إلا إلي الماضي، ومن ثم فإن متعلقات هذا الماضي من الأبنية الفكرية واللغوية تكون صاحبة السيادة في السرد، حيث يتعمد فتح ذاكرة الشخوص تارة، ونوافذ الحلم تارة أخري، وإفساح مساحات واسعة للأحاديث النفسية، أما الأبنية اللغوية، فسوف نعرض لها في المحور الخاص بلغة الرواية.

(4)

في المحور السابق تناولنا الراوي ووظائفه ومواقعه في بناء السرد بخصوصيته التوصيلية، أم تخلص منه تخلصا محدودا أو مؤقتا ليرتفع إلي أفق الشعرية، حيث تكون الصياغة هدفا في ذاتها.

إن طبيعة السرد أن يتخذ في النص مسارا أفقيا، تتتابع فيه الأحداث وتتطور، وتتحرك فيه الشخوص حركة أفقية ـ أيضا ـ لكن ربما تخرج علي هذه الحركة المألوفة، وتتحرك حركة رأسية، فبدلا من التتابع، يحضر العمق، وهذا يتعقد، وتتولد الدرامية.

ويجب أن يكون في الوعي أن الرواية عندما تستعين بالسرد، تستعين به وهو محمل بميراث طويل من الحكي الذي جاءه من الشفاهة في المرويات الدينية وغير الدينية، والذي جاءه من الموروث الشعبي بكل أعرافه وتقاليده وطقوسة، لكن يظل من بين كل هذا الموروث لنص (ألف ليلة) أهمية خاصة، بوصفه أهم نص سردي حفظته الذاكرة العربية، وقد أثرت هذه الأهمية تأثيراً بالغا في أبنية السرد العربي حتي يومنا هذا، ولا نجاوز الصواب إذا قلنا إن هذا التأثير قد تجاوز العربية إلي سواها من اللغات الحية في العالم كله.

وأعتقد أن أهم خصيصة تسربت من (الليالي) إلي الروائية، هو ما يمكن أن نسمه (بالسرد المركب) أو (المتعدد)، إذ يتحرك السرد في مساره الأفقي المألوف، ثم ينتابه توقف فجائي في منطقة بعينها ليفسح المجال لسرد إضافي ـ مؤقت ـ يعود بعدها إلي مساره الأول.

وبتأثير ألف ليلة، يمكن أن نلاحظ (أسطرة السرد) علي الرغم من أن النص قد يكون موغلا في واقعه وتحولاته الصاعدة الهابطة، لكنه يقود هذا الواقع ـ في خفاء ـ إلي عالم الأسطورة بعد تخليصه من بعض ركائزه، ليكون صالحا لعملية الإسقاط التي يستهدفها النص.

وأنا علي يقين أن من يعاود التأمل في الليالي، سوف يكتشف أن كثيرا من تقنيات الحداثة السردية تمتد بنسب متين إلي تقنيات هذه الليالي، سواء في ذلك تقنية الحوار أو الوصف، أو تقنية قطع الحدث، وتخليق الفجوات (بالحذف) الذي يغيب بعض الأحداث أو المعلومات، أو الحذف الذي يغيب مساحة زمنية قصيرة أو طويلة، أو تخليقها (بالاختصار) الذي يكاد يؤدي وظيفة الحذف علي نحو دلالي، بينما يؤدي الحذف وظيفته علي نحو مادي.

وهذه الفجوات بوسائلها المتعددة، تعمل علي كسر قانون السبب والمسبب الذي يحيط النص الروائي بأسوار المنطق، وهو ما ينشط (قانون التداعي) بكل ما فيه من عشوائية، ويتيح للسرد أن يقدم قفزا فيما سمي (بالاتساق) أو يتراجع فيما سمي (بالاسترجاع) إلي غير ذلك مما جاءت به تقنيات الحداثة.

(5)

إن السرد مخزون الذاكرة، ولا يصل إلي المتلقي إلا بعد تعبئته في مواد لغوية، وكل ما ذكرناه عن النصية والنوعية والراوي والحدث والشخوص لا يقع تحت طائلة القراءة إلا بعد تحوله إلي لغة، ومن ثم فإن القراءة الصحيحة، وهي التي تطل علي النص من نافذة اللغة أولا.

وهذه الإطلالة الأولية سوف تلاحق عناوين النصوص وافتتاحايتها، ثم تلاحق الصياغة التي تكشف طبيعة النص في مداخله وحواشيه، وتكشف عن أبعاده الزمنية والمكانية، وترصد وقائعه وأحداثه، وتحدد ملامح شخوصه، وهو ما يتيح للقارئ الحكم علي النص بحسب توجهه الغالب، إذ يكون النص ريفيا أو حضريا أو تايخيا أو حربيا أو بوليسيا أو صحراويا أو دينيا أو خياليا إلي آخر هذه التعريفات التي يمكن أن ينتمي إليها النص، وليس معني هذا أن النص ينفرد بنوعية من هذه الانتماءات، وإنما معناه أن نوعية منها قد تغلب علي سواها، فينسب النص لها.

وبرغم تكاثر المادة اللغوية معجمياً ونحوياً، نجد أن الرواية لها غواية خاصة مع مواد بعينها، وفي مقدمة هذه المواد (الثنائيات) ذات المرجعية المتعددة، فبعضها مرجعه لغوي خالص، وبعضها مرجعه بلاغي خالص، وبعضها مشحون بأبعاد فلسفية أو نفسية أو أيديولوجية، ومن بين هذه الثنائيات، هناك ثنائية تتقدم سواها من الثنائيات، ولا يكاد يخلو منها نص سردي، هي ثنائية (المرأة ـ الرجل) (الذكر ـ الأنثي) وتوابعها: (الزواج ـ العزوبة) (الإنجاب ـ العقم) وحواشيها: (الضعف ـ القوة) (الحب ـ الكره) ثم (الحياة ـ الموت).

وبالضرورة، فإن هذه الثنائيات سوف تشحن النص بكم وافر من التوتر الذي يتيح للمفاقة أن تحتل مساحة واسعة في السرد، سواء أكانت مفارقة صريحة أم ضمنية، وسواء أكانت ملفوظة أم ملحوظة، سواء أكانت موقفية أم حالية، وبالضرورة ـ أيضاً ـ فإن هذه المفارقة سوف تتخلي تدريجيا عن ارتباطها بهذه الثنائيات، لتحل في الأنساق الكلية، والوقائع الممتدة، دون أن يحجب ذلك الدور اللغوي لكل ثنائية.

وفي هذا المحور اللغوي، يفرض (الضمير) حضوره بوصفه أداة مركزية في بناء السرد، بل هو عنصر أساسي في تحديد النوعية، فالضميران (أنا ـ نحن) وتوابعهما، يقودان النص إلي منطقة (الشعرية) حينا، وإلي منطقة (السيرة) حينا آخر، وربما لا يكون هذا ولا ذاك، وإنما يكون حضورهما علامة واضحة علي توحد المؤلف بالراوي الداخلي.

أما ضمير المخاطب (أنت) وتوابعه، فإنه يقود النص إلي دائرة (الحوار) المسرحي علي وجه العموم، والملاحظ أن هذا الضمير له صلة حميمة بمناطق التوتر والصدام، سواء أكان صدام مواقف، أم صدام شخوص.

معني هذا أن ضمائر (التكلم والخطاب) ليست من الأبنية الأثيرة في السرد، إذ إن الضمير الأثير لديه، هو (ضمير الغياب) هذا الضمير الذي أسماه البلاغيون القدامي (ضمير الحكاية).

وغواية السرد مع ضمير الغائب، توازيها غوايته مع فعل الكينونة (كان) الذي يكاد يكون صاحب الحضور الأول في السرديات عموما، ولا يرجع ذلك إلي كونه فعلا مساعدا، بل إلي طاقته التي اكتسبها من مواضعته الأولي، ومن هوامش الاستعمال الممتدة في الزمن، فهو قادر علي فتح أبواب (الحدث) الماضي البعيد والقريب، وهو مشحون بطاقة تراثية اكتسبها من وظيفته في المرويات والحكايات، وهو قبل ذلك وبعده، له قدرة إنتاج (الحدوث والوجود والصيرورة والثبوت والوقوع).

إن اعتماد القراءة علي المادة اللغوية ببعديها: الكمي والكيفي، وجانبيها الإفرادي والتركيبي، يكاد يغلق النص علي ذاته، وهذا ما أصابه اهتزاز كبير في المرحلة الثقافية الأخيرة التي لم تعد تستريح للتعامل مع النص حال انغلاقه، ذلك أن المنجز النقدي في زمن ما بعد الحداثة لا يعول كثيرا علي مثل هذا الانغلاق، لأنه ضد طبيعة النصية ذاتها، إذ لا يكاد يفلت نص روائي أو غير روائي من الانفتاح علي سواه من النصوص القديمة والحديثة، ولا يكاد يفلت نص من امتصاص أنساق الثقافة المحلية أو الإنسانية، فالزمن أصبح زمن انفتاح النص،لا زمن انغلاقة.

(6)

إن متابعة تقنيات السرد علي هذا النحو النظري أو التنظيري، يقودنا إلي تحول التنظير إلي مجموعة إجراءات تطبيقية، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من مسيرة النقد، وهي المسيرة التي يحتل فيها جيل الشباب من النقاد مساحة واسعة، وبخاصة بعد أن ابتعد كبار النقاد عن متابعة النصوص الإبداعية، إلي مناقشة قضايا الثقافة علي وجه العموم.

والذي أراه في الإجراءات التطبيقية، يستدعي ـ من وجهة نظري ـ بعض المهن الحرفية التي تكاد تتوافق في إجراءاتها العملية مع هذه الإجراءات النقدية.

وبداية أوضح احترامي لكل المهن والحرف اليدوية وغير اليدوية، وما أذكره هنا لا ينتقص من أي مهنة أو حرفة، ومنه(حرفة السباكة) ذلك أن الواقع الأدبي العام ـ في المرحلة الأخيرة ـ قد ساده نوع من (تداخل الاختصاص) وهو تداخل مخل، ومنه تداخل النقد الأدبي مع (حرفة السباكة)، إذ اعتمد بعض النقاد الجدد كثيرا من تقنيات السباكة في نقدهم.

في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قامت حركة هائلة لنقل الثقافة النقدية الغربية إلي الواقع العربي، وقد ساعدت هذه الحركة علي تغيير النقد الأدبي، والصعود به إلي أفق الحداثة بكل إجراءاتها الكاشفة عن جوهر الأدبية، لكن الملاحظ أن هذا النقل قد أعطي عنايته الأولي للتنظير الذي طرحته المناهج الجديدة، مثل البنيوية والأسلوبية التفكيكية، وعندما انتقل النقاد من التنظير إلي التطبيق علي النص العربي، تبين لهم أن (مرحلة النقل) في حاجة إلي مرحلة تكميلية، هي: (إنتاج الثقافة النقدية) التي تلائم خصوصية النص العربي، خصوصية بيئته، ومن النقل إلي الإنتاج، تمت مرحلة من أهم مراحل النقد في العصر الحديث.

وكان المأمول من جيل النقاد الشباب أن يكملوا هذه المسيرة، وبخاصة في إجراءاتهم التطبيقية، لكن الذي حدث، أن هذا الجيل تراجع مرة أخري إلي مرحلة النقل، واستخلص كل ركائزها التحليلية، ثم أقدم علي قراءة النصوص الأدبية النثرية والشعرية محتكما إلي هذه الركائز التي قادته إلي مزلقين، الأول: تطبيق إجراءات نقدية مستخلصة من نصوص غير عربية علي نصوص عربية لها خصوصيتها الثقافية واللغوية، وبهذه الخصوصية يمكن أن تنفر من هذه الإجراءات التطبيقية، وإرغام النصوص علي تقبلها قد يؤدي إلي تشويهها وتحويلها إلي مسخ بلا هوية. المزلق الثاني: توظيف إجراءات علي أجناس القول شعرا ونثرا دون فرق، وهنا يأتي التداخل الذي أشرنا إليه بين (النقد والسباكة)، وهو تداخل بلا قصد، إن عامل السباكة يجمع في حقيبته (السمسونايت) أدوات محدودة صالحة للتعامل مع كل الأجهزة التي تدخل في دائرة اختصاصه، كذلك الناقد الأدبي، إذ يختزن في ذاكرته مجموعة محددة يوظفها في قراءة كل النصوص، فإذا كان النص الذي يقرأه روائيا، فتح ذاكرته علي أدواتها المحفوظة: العنوان ـ الزمن ـ الاسترجاع ـ الاستباق ـ المحمل ـ الوقفة ـ المشهد ـ الحذف ـ الراوي الخارجي والداخلي ـ الحوار المباشر وغير المباشر، إلي آخر الأدوات التي تحضر في كل قراءة نقدية، ومن ثم استحالت النصوص كلها إلي نص واحد.

وهذا هو التداخل الأول بين النقد والسباكة، ذلك أن أدوات السباك المحدودة صالحة لكل الأجهزة، وكذلك إجراءات الناقد صالحة لكل النصوص، أو لنقل إن النصوص كلها تستحيل إلي نص واحد يجري فيه تقنياته التي لا يستطيع تجاوزها،لأن ذاكرته ليس فيها سواها، والمتلقي المسكين يتأمل ما يقدم له دون أن يدرك الفارق بين نص لنجيب محفوظ، ونص لإدوار الخراط، أو جمال الغيطاني أو يوسف القعيد أو فؤاد قنديل أو أحمد الشيخ، (فكله عند العرب صابون) كمايقول المثل القديم.

وفي رأيي أن هؤلاء النقالد قد تناسوا أهم مقولة جاءت مع نقد الحداثة، وهي أن النص يختار الأدوات التي تصلح للتعامل معه، وهو النص الذي يفرض علي القارئ طريقة الدخول إلي عالمه الجمالي، فما يصلح لنص، ربما لا يصلح لآخر.

هنا يأتي التداخل الثاني بين النقد والسباكة، ذلك أن عامل السباكة ـ وبخاصة في المرحلة الأخيرة ـ قد وسع من دائرة اختصاصه، وضم إليها بعض اختصاصات لم تكن في مهمته أصلا، أي أنه قد ألغي مفهوم (الاختصاص)، وهو ما يحدث ـ تقريبا ـ في الحركة النقدية الأخيرة، إذ تناسي بعض أفرادها مفهوم التخصص، وأصبح الواحد منهم يجلس مجلس المتكلم في كل مجال للكلام؛ في النقد، في الفن، في الفلسفة، في السياسة، في التاريخ، في الدين، وإذا سئل في موضوع من هذه الموضوعات انطلق يتكلم في طلاقة وثقة، ولا مانع أن يوثق كلامه بمقولة لهذا الناقد أو ذاك من الأعلام، وبمقولة لهذا المستشرق أو ذاك، وكأن ذاكرته تختزن كل ثقافة العالم، وقد استمعت يوما إلي واحد منهم منذ فترة قريبة يقدم بعض آرائه وأفكاره، ثم يوثق ما قاله ببعض أقوال لصه حسين والعقاد، وبآراء الباحثين الغربيين ـ كنت أستمع إليه، وأفتح ذاكرتي علي هذه الأسماء والمقولات التي رددها الناقد منسوبة لهم، بل إني أعدت النظر في بعض مؤلفاتهم، فلم أجد فيها شيئا مما ذكره الناقد.

التداخل الثالث بين النقد والسباكة، يدفعنا إلي استعادة مرحلة قديمة نسبيا عندما بدأ استعمال (بلاط السيراميك) وظهر الإعلان الشهير: (انسف حمامك) وراجت حرفة السباكة رواجا هائلا نتيجة للمكاسب الباهظة التي حققها السباكون من عملهم، وفي هذا الزمن زاد الطلب علي (عمال السباكة) زيادة ضخمة، وهو ما أغري كثيرا ممن لا صلة لهم بهذه الحرفة إلي احترافها، وخدع كثير ممن أسرعوا بهدم حماماتهم، لأن هؤلاء الدخلاء أفسدوا كل شيء، وتسببوا في خسائر فادحة بسبب إقدامهم علي ما يجهلون.

و الملحوظ في الزمن الأخير سكوت معظم كبار النقاد عن متابعة إبداع الحداثة، وربما كان السكوت، سكوت رفض، وربما كان السكوت لأن أدوات الناقد لم تعد تصلح للتعامل مع هذا الإبداع بكل تجاوزاته ومغامراته مع الشكل والمضمون، وهو ما أتاح لأدعياء النقد الذين لا يمتلكون الثقافة والخبرة النقدية أن يقتحموا الساحة الإبداعية ويفرضوا أنفسهم في الندوات ووسائل الإعلام المختلفة، والمؤسف أن بعض المبدعين قد دخلوا هذه الساحة، وتحولوا إلي نقاد قساة، يسرفون في المديح تارة، وفي الهجاء تارة أخري، وهذا من طبيعة المبدع، لأنه ينحاز ـ بالضرورة ـ إلي مذهبه الإبداعي، وإلي ذوقه الجمالي.

إن قصدي من ذلك كله الإشارة إلي التداخل الخطر الذي يهدد مسيرة الإبداع والنقد معا، وأن تكون هناك وقفة تصحيحية، تعطي كل اختصاص لأهله، وأن يقود هذه الوقفة كبار نقادنا خلال منابرهم الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية.

أولا: السرد والأسئلة النقدية

تدخل الرواية العربية زمن التحول البنيوي منذ عقدين أو أكثر من الزمن، بفعل خصوبة حياتها السردية.يشخص ذلك التحول حالات التغير التي تعرفها السياقات الاجتماعية العربية ،والتي أصبحت تغذي الرواية بإمكانات معرفية وفنية، وتخصب نظامها بأشكال جديدة من الوعي والرؤي.

بدأ الوعي النقدي يشتغل في اتجاه البحث عن مظاهر التبدل في الحالة السردية، منذ تغير أفق انتظار القارئ، الذي تعود إستراتيجية معينة في تلقي النص السردي الروائي العربي. وهي إستراتيجية تولدت عن إيقاع اشتغال السرد في النماذج الروائية العربية التي جعلت الحكاية تتحقق روائيا، وفق نظام يجعل من الحكاية حالة تخييلية قابلة للأخذ بها دفعة واحدة. بناء علي نظام العلاقة بين المؤلف Auteur باعتباره ذاتا واقعية ملموسة تؤلف الكتاب، ولا تسرده وتبقي خارج مجال النص Texte وبين الساردNarrateur باعتباره تقنية سردية ليس إلا، تقوم بوظيفة حكي الحكاية، وجعلها تتحقق نصيا، ويمكن لشخصية تخييلية أن تقوم بوظيفة السرد، لكن ذلك يدخل في إطار نظام السرد ككل الذي يحكمه منطق الجنس الأدبي. أنتجت هذه الإستراتيجية السردية ساردا يتدبر شأن القصة من زاوية رؤيته الخاصة، المتحكمة في خيوط القصة، من خلال السرد الأفقي الذي ينتج بدوره قارئا محافظا علي صمته السردي، لكونه يتلقي القصة بإيقاع خطي، ويتموضع في زمن انتظار ما سيحكيه السارد. انعكس هذا الوضع العلائقي علي مفاهيم عديدة، تشتغل لإنجاز الحالة السردية للجنس الروائي. من بينها مفهوم الحدث الذي يأتي مكتملا ضمن بنية القصة. والحكاية التي تصبح لها محطات من التلقي، تبدأ عقدة وتنتهي تلاشيا سرديا، يحقق إشباعا لدي القارئ الذي ينتظر نهاية ،تكون في غالب الأحيان سعيدة أو لها علاقة بقيم إيجابية. والسارد العالم بكل شيء، والموجود في كل مكان. والمؤلف الذي قلما يطرح سؤالا، نظرا لكون وضعية السارد المتحكم في شأن القصة ،يضعف السؤال لأنه يمنح الحكاية المكتملة.

لقد أنتجت هذه الحالة السردية شبه اطمئنان، لدي القارئ الذي كان يرافق السارد وهو يسرد الحكاية من البداية إلي النهاية. غير أن هذا الاطمئنان سرعان ما تلاشي، و خرج القارئ من سلطة الحكي المبرمج بواسطة السارد العالم، عندما تغير إيقاع الحالة السردية، وتحول منطق السرد، وتلاشت القصة، ودخلت أصوات عديدة ومتناقضة داخل مجال النص، تنجز الكلام الروائي، وتحقق للنص حالته السردية بناء علي موقعها، ورؤيتها الخاصة.كما انفلت الزمن من سلطة الحكي الأفقي، وأصبح الوضع السردي الروائي وضعا سرديا متعددا من حيث الإنجاز السردي.

عمل هذا التحول في بنية السرد علي تنشيط أسئلة من وحي الممارسة السردية التي باتت تعرف تحولات في منطقها. وظهرت أسئلة من مثل: من يكتب؟ من يسرد؟ من يتكلم؟ من يري؟ من يؤلف؟ من ينجز الفعل الروائي؟ .وهي أسئلة وإن كانت قد رافقت زمن تكون الجنس السردي الروائي، غير أن طرحها مع التحول السردي خاصة، فيما عرف بالرواية الجديدة، كان وراءه هذا التحول الذي عرفه نظام السرد في إنتاج الرواية مما جعل مفهوم الرواية الجديدة يظهر في النظرية السردية الروائية.

اشتغلت نظرية السرد الروائي علي هذه الأسئلة ،التي انبثقت من داخل الإنتاجية التخييلية الروائية. وجاءت الطروحات النقدية متعددة ومتنوعة، تنوع الحالة السردية في الجنس الروائي. وبدون الدخول في مجال النظرية السردية، نشير فقط إلي الناقد الفرنسي Gérard Genette الذي يري بأن كل حكي Récit يتضمن بالضرورة جزءا من تشخيص الأفعال والوقائع، والذي يعني السردNarration/. وجزءا يهتم بتشخيص الأشياء والشخصيات، والذي يعني الوصف Description? وقد حظي السرد باهتمام نقدي مهم، نظرا لكونه يشكل منطق القوة في تحقيق الفعل الروائي.

- لماذا يعيش السرد تحولات في طرائق اشتغاله؟.

- هل تغير السرد يؤدي بالضرورة ، إلي الانتقال إلي حالة سردية جديدة ومن ثمة إلي نوع أدبي جديد؟

للاقتراب من هذه التساؤلات نقترح الملاحظات التالية:

1 - لا ينتمي السرد في جوهره فقط إلي المجال الأدبي، ولكنه ينتمي إلي مختلف الأشكال التواصلية الشفوية أو المكتوبة. إنه يظهر في كلام المتكلمين، وتبادل الكلام، وفي وسائل الإعلام، بل يمكن اعتباره حالة بيولوجية ستظل ترافق الإنسان الذي يوجد باستمرار في حاجة إلي التبليغ والحكي والسرد. ولذلك، فالسرد ليس ثابتا، أو مغلقا في وضعيته وطريقة اشتغاله، لأنه مرتبط بأنظمة عديدة من أهمها الموقع الذي من خلاله يتم إنجاز السرد، وموقع المتلقي. فحكاية الراوي الشعبي مثلا ليست حكاية واحدة، ولكنها تتغير بتغير طريقة سردها، فالراوي يسرد حكايته شفهيا وهو في علاقة مباشرة مع الجمهور المستمع، وكلما تغير نوع الجمهور، وتغيرت جلسة الراوي، تغير إيقاع السرد.

السرد حالة متغيرة في علاقة بنيوية مع عناصر متداخلة.

2- انطلاقا من الزمن التكوني للجنس الروائي، فإن الرواية جاءت من رحم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ومن واقع أزمة الفرد، وبالتالي فقد عبر ظهورها عن زمن التحولات التي عملت الرواية علي سرده وفق نظام العلاقات بين مكونات المجتمع. ولعله الوضع الذي أدي بالناقد الروسي ميخائيل باختين إلي اعتبار الرواية من أكثر الأجناس الأدبية التي تأخذ شرعيتها من استمرار انفتاحها علي المحتمل في التبدلات الاجتماعية. وهو وضع يجعلها قادرة علي تبني كل جديد داخل منطقها، واستثماره من أجل جعله مكونا روائيا، يتعزز به نظامها. وهذا ما جعل من الرواية جنسا أدبيا حيويا. من هنا، يمكن اعتبار الجنس الروائي باعتباره جنسا سرديا ، حالة سردية تعيش التغير والتحول باستمرار، بفعل استثمارها لمختلف تطورات الحالة السردية في الأشكال التواصلية المختلفة.وكلما تغيرت الوسائط التواصلية، تغير إيقاع التواصل العام ،ومعه تغيرت حالة السرد.

3- إن هذه الاختلافات التي نلمسها بين نصوص تبني الحكاية بشكل مختلف سرديا في التجربة العالمية ،وليس فقط العربية، عن نصوص روائية عودتنا علي نظام معين للحكاية، سواء في شكلها الأفقي مع النموذج الكلاسيكي والواقعي، حيث الحكاية تسرد وحدة متكاملة، أو في شكلها التجريبي مع النصوص التي تنزاح عن هذا الشكل، من خلال تدشين الاختراق وجعل النص أكثر انفتاحا علي التعدد في الأصوات المتكلمة والساردين، وفي اللغات وأنماط الوعي، وحضور الحكاية مجزأة ومتشظية سرديا..إن هذا الاختلاف لا يعبر عن قطيعة مع نظام الكتابة الروائية، كما لا يشكل تناقضات حادة بين أنظمة صنعة النص الروائي. فالرواية لا تعيش الثبات ، وإنما تتغذي من منطق التحول، انسجاما مع علاقة الفرد بالمجتمع والواقع. إذن، الذي يحدث مع هذه التحولات ليس تناقضات حادة ،وإنما هي اختلافات تمس نظام توزيع مكونات بناء الحكاية الروائية بسبب تغير إيقاع السرد.

4 - يتغير إيقاع السرد تبعا لتغير مواقع الساردين،ووضعية السارد، والذوات المتكلمة داخل النص الروائي. كما يعرف النص السردي تحولات في نوعه الأجناسي، بناء علي وضعية المؤلف في علاقته بالمجال النصي. مثلما بدأنا نري في نصوص كثيرة تبدأ سيرذاتية في افتتاحها السردي، وفي إعلان المؤلف عن رغبة توثيق سيرته، ثم يحدث التحول السردي باتجاه الحالة الروائية. أو كما نجد في نماذج "السير روائي" والتي باتت تعين كثيرا من النصوص العربية، بعضها يصرح بهذا التداخل الأجناسي في غلاف النص كما نجد في نماذج مغربية كثيرة منها علي سبيل المثال الضريح (1994) للكاتب عبد الغني أبو العزم الذي جاء بتجنيس" سيرة ذاتية روائية". وهناك نصوص تنتمي سرديا إلي هذا النوع الروائي، غير أنها تحافظ علي تجنيسها المألوف /رواية، ونلتقي بهذا النموذج في نصوص عربية كثيرة، علي سبيل المثال، رواية الكاتب البحريني أمين صالح "رهائن الغيب"(2004) التي تنفتح علي تمظهر سيرذاتي تشخصه إشارات إعلانية واضحة سرديا، لكن، البعد الروائي يفتت السيري ويحل محله. غير أن الوضعية البنائية لهذا النص تجعله سيرروائي تبعا لتكونه الداخلي.

تطرح هذه النماذج التي تأتي في علاقة جديدة مع المؤلف باعتباره ذاتا سردية، تدخل مجال النص بقوة الحضور السردي، سؤالا أساسيا، يتعلق الأمر بالوضعية الأجناسية لهذه النصوص، مع ما يترتب عن هذا السؤال من أسئلة تجدد النقاش حول من ينتج الفعل السردي في المجال النصي الروائي.

5- لا يقوم الجنس الأدبي علي معيار ثابت، إنه في علاقة بنيوية دائمة مع تجدد السياقات، ولهذا فهو يختلف من مجتمع إلي آخر. إنه حالة ثقافية بامتياز.وهذا ما يجعل الرواية تتغذي من التحولات التي يعرفها الإنسان في علاقته بذاته، وبالعالم من حوله.وفي الوقت نفسه تصبح الرواية شكلا من أشكال التفكير في هذه العلاقة. هذا ما يجعل من وصف النص الأدبي، وصفا للجنس الأدبي علي حد تعبيرTODOROV تودوروف.

إن ما يحدث في تركيبة الجنس السردي الروائي ، ليس إذن، تجاوزا لمنطقه القادر علي استيعاب التحولات التي تعرفها العلائق الاجتماعية، والمسألة مفهومة بالرجوع إلي زمن تأسيس الرواية التي انبثقت من رحم الأزمات والتحولات وتمكنت من تشرب ذلك باختلافاته وتناقضاته والتباساته، وحولته إلي نظام دال. إن الذي يحدث هو تغيير في نظام ترتيب البيت الداخلي للنظام السردي. وذلك انسجاما مع التحول الذي تعرفه المواقع في علاقتها بالمواضيع. عندما أخذت الذات موقع الفعل والحكي، وجعلت موضوع الحكي والفعل هو الذات نفسها، فإن رؤيتها للأشياء تغيرت، وانعكس ذلك علي اللغة والحدث الذي أصبح حالة، والموضوع الذي تحول إلي رغبة.

يؤدي بنا هذا التخريج إلي إمكانية الحديث عن مبدأ التنوع السردي داخل الجنس الروائي. وهو تنوع بدأ التصريح به من خلال مجموعة من التعيينات التجنيسية خاصة في التجربة المغربية.

ثانيا: مظاهر التحول السردي في الرواية

يتجلي التحول السردي في الرواية في مظاهر عديدة، ومتنوعة تبعا لطبيعة اشتغال الحياة السردية في المجال النصي، نقف عند مظهرين اثنين يشخصان هذا التحول بشكل واضح:

1- الحكاية من الاكتمال إلي التشظي

تبني كثير من النصوص روائيتها من عنصر تجاوز المألوف في الحياة السردية في النص العربي، فإذا تعودت الذاكرة المقروئية تلقي الرواية حكاية مكتملة ، لها مقومات منطق العلاقات بين الشخصيات والأفعال، مما جعل كثير من النصوص حاضرة بقوة في الذاكرة بحكاياتها وقصصها ، فإن النص الروائي العربي شهد انزياحا عن عنصر اكتمال الحكاية، من خلال اعتماد مبدأ الاشتغال علي الخطاب السردي الذي اهتم أكثر بمظاهر تشخيص الحكاية أكثر من الاهتمام بضمان تحقيق حكاية قابلة للأخذ بها دفعة واحدة، وهو ما عرف في الدرس النقدي بالتشظي الحكائي أحيانا، وبالاكتمال الحكاية أحيانا أخري. وهو مظهر شخصته كثير من النصوص ابتداء من منتصف الثمانينيات من القرن العشرين.نذكر علي سبيل التوضيح رواية الكاتب التونسي كمال الرياحي" المشرط"(1) التي تأتي عبارة عن شذرات نصية، أو أوراق حكاها أصحابها، فطارت في السماء وفقدت أصلها، وأعاد سارد الرواية وضعها في نظام مغاير، فجاءت غريبة في القراءة الأولي، صعبة من حيث لم شتاتها، وجمع أطرافها.

غير أن قراءة المنطق السردي للنص، تعبر عن مستوي آخر من الاشتغال علي مستوي الحكاية.

يتشكل النص من قصاصات حكائية سردية، ومن أخبار صحفية، ونصوص مفكرين ،وهو تشكل يتم عبر أزمنة يتعالق فيها الماضي بالحاضر. نص ينفتح علي مشاهدات متنوعة. يحدث أحيانا الانفلات من الحكاية، لكن الوصال السردي سرعان ما يعود بفعل كون كل حكاية تأتي مشبعة بذاكرة الحكاية السابقة. هناك ما نسميه بالإشباع السردي ليس علي مستوي الحكاية، إنما علي مستوي الخطاب التشخيصي للحكاية.

كل حكاية تذكر بالحكاية السابقة، إنه نص غير مقيد بالخط الأفقي للحكاية.بل إن الحكاية تنتعش من هذا الامتلاء القصصي وبالساردين/ الرواة الذين يخرجون من زوايا المقاهي أو مقاعد الحافلات أو أروقة الكتب. تنتعش الحكاية بنوعية الشخصيات المهمشة في الواقع (المومس/ العاهرة...)، والتي تصبح لها وظيفة في تفعيل الأحداث. ولعل دخول هذا النوع من الشخصيات إلي المجال السردي، يحرر المجال من سلط راسخة في الملفوظ ونوعية الخطاب، وطريقة التبليغ والترميز. إن الشخصية الروائية تدخل إلي المجال السردي صاحبة ملفوظ ولغة وصوت ونمط من الوعي، وكلها وضعيات ذات علاقة بالسياق الاجتماعي والاقتصادي، إنها وضعيات اجتماعية تحرر اللغة كما تحرر شكل الكلام ومعجمه.

ينتمي هذا النص إلي عينة النصوص التجريبية التي تخرج القارئ من المتلقي للحكاية ،إلي صانعها من منطلق المشارك في تفعيل الحياة السردية، التي لا تستقيم إلا بتفاعل القارئ معها.

نص حركي في زمنين متباعدين، يحكي ضمن الماضي لكنه يدخل الواقعي والراهن، ويحقق عبر منطق السرد حوارا بينهما. ولعل الإشارات الحاضرة في الزمن الراهن هي التي تذكر القارئ بأن الحكي، وإن اعتمد نصوص الذاكرة فإن مآلها الزمن الحاضر. سارد النص سارد غير يقيني ، يجعل الحكاية تنفتح علي تعددية التبليغ، سارد يشك في كل الأصوات والرهانات. وهو وضع سردي سمح بدمقرطة السرد الذي كان وراء تدمير عينة من السلط الفكرية والاجتماعية والتاريخية، فابن خلدون مثلا أخرجته الحياة السردية في نص "المشرط" من موقعه الفكري التاريخي، وزعزعت وجوده عندما جعلت تمثاله يهتز، والقمل يهاجمه " كان ابن خلدون الحزين قد ترك كتابه وانشغل بفلي القمل الذي هجم علي لحيته منذ أن أغلق الشارع، وهجره المصورون والسياح"( ص 110)? كما سيتخلي ابن خلدون عن عمامته " لذلك قررت وزارة الثقافة والمحافظة علي التراث نزع عمامة ابن خلدون تصحيحا للتاريخ واحتراما لرجل خدم البلاد والعباد"( ص 112) ( التشديد في النص وليس مني) السارد لا يحاكم هنا الفكر الخلدوني، وإنما قراءات الفكر الخلدوني، تلك التي صنعت منه تمثالا جامدا.

كما يعرف النص التجريبي تحولات سردية مختلفة، فبعض النصوص قد يوهم أفقها السردي بانتمائها إلي النموذج الكلاسيكي لكون الحكاية تسرد بطريقة متتالية، تجعل من الحكاية جوهر السرد وأفقها المنتظر، ولكن طريقة التشخيص تعبر عن شكل جديد في تبليغ الحكاية، مثلما نجده مع رواية الكاتب المصري سعد القرش"أول النهار"(2) التي تعطي الانطباع بأنها رواية ذات بعد أفقي، نظرا لاعتمادها علي نظام تسلسل أحداث القصة. إلي حد أننا نشعر أحيانا بنوع من التوازي بين زمن القصة Temps dصHistoire وزمن الخطابTemps de Discours. يدعم هذا الانطباع الأولي هيمنة السارد بضمير الغائب.

غير أن تكسيرات سردية تحدث في زمن القصة ، لكن بشكل سردي مرن ولين، منها تلاشي منطق السببية الذي يدعم نظام القصة في النمط الكلاسيكي. لأن الأحداث لا تخضع لمنطق تطور الأحداث، بقدر ما يتداخل العنصر الغيبي في تصريف الأحداث، فيساهم بدوره في خرق منطق تعاقد الأحداث وتسلسلها مثلما وجدنا مع مفهومي النبوءة والموت اللذين لعبا دورا بليغا في مسار الأحداث، وإقامة علاقة توتر مع القصة. وحضرا في التركيبة السردية في مستوي عنصر العجائبي الذي وجدناه يمنح للنص الروائي التجريبي العربي بعدا من الترميز المفتوح علي الدلالات.

نلتقي في رواية سعد القرش" أول النهار" بمحكي عام يتناول سيرة حياة الحاج عمران وأسرته. ثم هناك محكيات تولدت عن اشتغال العنصر الغيبي ( النبوءة)، نتجت عنها تحولات في مسار اشتغال المحكي العام بالإضافة إلي ظهور محكيات جديدة مثل محكي هند.إن توليد المحكيات بفضل العنصر الغيبي خرقت منطق السببية، وأجهضت قانون التسلسل السردي، وغيرت موقع القارئ الذي لم يعد منتظرا لما سيحكيه السارد، ولما سيؤول إليه المحكي العام الخاص بحياة الحاج عمران، بقدر ما أصبح قارئا مرنا في علاقته مع الحكاية.قارئ ينتظر كل الاحتمالات التي قد توقف تدفق المحكي العام، وتحول المحكيات الصغري إلي محكيات كبري.

لقد انعكس هذا الوضع التركيبي السردي علي تقنيات التبليغ ، حيث هيمنت عناصر التكثيف التعبيري، والتلخيص المركز والمقتر والذي لا يسمح بخلل في التواصل مع أحداث القصة. كما أن اللغة حضرت موضوعا للتشخيص الروائي، وليس فقط وسيطا سرديا لحكي القصة. إنها لغة مركبة، مشبعة بتنويعات لغوية تنتمي إلي سياقات مختلفة (اجتماعية، دينية، تراثية، تاريخية...)، بهذا الشكل اللغوي تم تجاوز السارد بضمير الغائب، عبر ملفوظات السياقات الاجتماعية. فلغة الشخصيات تخترق لغة السارد، وتوجهها وتتجاوزها و تقلص سلطتها في تدبير شأن القصة.

إن قراءة "أول النهار" قد تمنح بعض الانطباعات الأولية بوجود حكاية مكتملة. يتوفر السارد العالم والمتواجد في كل مكان علي خيوط فصولها، غير أن منطق اشتغال السرد يزيح الوعي النقدي عن هذه الانطباعات، ويجعلها رواية تبحث عن زمن تكون حكايتها، بناء علي نظام ترتيب حياتها السردية. وهذا ما يعزز دور القارئ الذي سرعان ما يجد نفسه يتخلي عن دور المتلقي، إلي دور المتفاعل والمنتج لحكاية مفتوحة علي احتمال اشتغال منطق الغيبي.

إنها لعبة سردية باتت تشخص كثيرا من النصوص العربية، حين تصرح بالقضية الأساسية في المظهر السردي العام، لكنها تتخلي عن القضية، لتدخل عالما آخر يتحقق نصيا ، مثلما يحدث مع نص الروائي المغربي سعيد علوش "تسانو ابن الشمس ملعون القارات"(3) فهناك تصريح بالقضية الجوهرية لزمن الحكاية، ولكن طريقة السرد انزاحت عن الأفق المصرح به من قبل الكاتب Ecrivain/ وحكت الرواية شيئا آخر له علاقة بمكونات الحياة السردية التي شكلت هوية النص الروائي.

يعلن الكاتب Ecrivain قبل النص، عن طبيعة الحكاية التي تتعلق بقصة أول مهاجر مغربي إلي أمريكا في القرن السادس عشر.أول مغربي تطأ قدماه فلوريدا. يعزز الكاتب محتوي الحكاية بمعلومات إضافية تخص الأمكنة والقارات التي عبرها المهاجر المغربي،قبل الوصول إلي أمريكا. (ابن أزمور دكالة- رحل إلي البرتغال ذبيع إلي الإسبان ذ رافقهم إلي أمريكا ذ كان الناجي الرابع من بين ستمائة بحار ذ أطلق عليه المؤلف تاسانو ذ لقبه الإسبان استبانيكو ذ نعته الهنود الحمر ابن الشمس ذ احتفلت به أريزونا في ذكراه الخمسمائة- ملعون قارات( إفريقيا/ أوربا/أمريكا) ذ قطع الهنود الحمر أوصاله إلي سبعة أطراف وزعت علي سبع مدن).

يقدم الكاتب مجموعة من المعطيات التي تحدد طبيعة الحكاية، بشكل يعطي الانطباع بالبحث عن مفقود.

يتأسس التصريح علي الاعتقاد بإمكانية تجميع شتات الحكاية التي توزعت بين ثلاث قارات سرديا، وتبريرها حكاية عبر إعادة حكي الحكاية رواية. إن إعلان الحكاية قبل النص مع ما تحمله من إغراء الاكتشاف، هو العنصر الضامن للوصال مع نص يطرح صعوبة القراءة المسترسلة بحكم اعتماده علي سياقات خارجية، تتطلب من القارئ التفاعل الوظيفي معها. لهذا، فإن الرواية وإن أعلنت عن حكايتها قبل الشروع السردي في احتواء الأفق التكويني للحكاية،فإن المحكي تنكر للحكاية كانشغال وحيد سرديا، وكسر البرنامج التعاقدي بين الكاتب والقارئ وخرق السرد أفق انتظار القارئ، دون أن يحدث شرخا في القراءة أو يتعطل فعلها،بل حول القراءة إلي ممارسة إنتاجية للنص من خلال إنتاج حكاية غير مرئية، حكاية تنبني من ملفوظات وخطابات الساردين الذين يدخلون المجال النصي في رواية علوش من باب التاريخ والتراث والدين والجغرافيا والفقه والفلسفة ، والذين يغادرون مجالات انتمائهم وينخرطون في السرد التخييلي، إذ يحولهم السرد إلي ساردين متخيلين، يعيدون حكاية نصوصهم عن طريق المناظرة التخييلية، التي معها يتلاشي سؤال البحث عن أول مغربي هاجر إلي أمريكا كا ادعت الرواية في مشروعها.

2- دخول المؤلف إلي مجال النص

أحدثت تركيبة بعض النصوص الروائية لبسا في سؤال التجنيس. وذلك عندما بدأت ذات المؤلف تظهر بكل وضوح، مع إعلان صريح في مجال النص، ومنطق التخييل. أو بعدما ارتأي بعض الروائيين تجنيس نصوصهم بغير المتعارف عليه في التقليد الكلاسيكي ( الرواية)، واستبدلوا ذلك التعيين بمصطلح آخر مثل المحكي والمحكيات والتخييل الذاتي مثلما فعل الروائي المغربي محمد برادة في نصه" مثل صيف لن يتكرر"(1999). ولعل جوهر التحول السردي في هذا المقام التجنيسي يتعلق بما سماه الناقد المغربي الدكتور رشيد بنحدو بـ "هذا أنا- هذا غير أنا"، وذلك في معرض دراسة له تحمل نفس العنوان(4). ويبدو أن المتغير هو حالة الضمير السارد الذي يأخذ بعدا واقعيا وآخر تخييليا. وقد عمل الناقد بنحدو علي توليد بعض المصطلحات الإجرائية لإدراك وضعية هذا الضمير، مثل الاستيقاع علي وزن الاستفعال الذي يعني به "نزوع النص إلي مضارعة الواقع واستلاحة الحقيقة في شكل أقرب ما يكون إلي البوح الأطوبيوغرافي"(5) والاستخيال يقصد به الناقد "توسل نفس النص بوسائط بلاغية واحتيالات أسلوبية ...من أجل كبح هذا البوح الواقعي"(6) ثم التخطيب، وهو مجموعة من الإجراءات التلفظية التي تسمح بضمان عملية العبور الرمزي من الواقعي إلي الخيالي، وهو ما يعرف عادة في النظرية الروائية بالخطابDiscours /.

لا يتعلق الأمر في هذا المقام التجنيسي السردي، بما يصطلح عليه بالسيرة الذاتية، حيث ضرورة توفر نسبة من المطابقة بين المؤلف والسارد والشخصية، مع اعتماد المرجعية الواقعية في عملية الإسناد التخييلي، وإنما صيغة هذا المحكي الذاتي تطرح النقيض من خلال اعتماد المرجعية التخييلية باعتبارها سندا لتشخيص وإدراك الحالة الواقعية.

إنه وضع تركيبي نلتقي به في كثير من النصوص حتي تلك التي تأتي تحت تجنيس رواية، غير أن نظامها السردي يحيلها إلي نوع ما نسميه بالمحكي الذاتي مثلما وجدناه مع نص الروائي المغربي عز الدين التازي "امرأة من ماء"(7) حيث يتماهي السارد مع المؤلف، أو المؤلف مع السارد ليحكي النص حكاية الذات المأزومة بسبب وضعيتها مع ذات أخري (زهرة /الزوجة)، وحكاية فضاء طنجة التي تصبح هي الأخري ذاتا مأزومة.

تسرد حكاية "امرأة من ماء" بطريقة مونولوجية ، تجعل الحركة ممكنة في التذكر، وتحول الحدث إلي حالة تتحكم في مصير الشخصيات والأزمنة واللغة.

ينطلق الحكي في «امرأة من ماء» من إحساس الذات بالفراغ، وهو فراغ من طينة الفراغ الوجودي، يدفع هذا الفراغ باتجاه البحث عن معني وجود الذات.

"امرأة من ماء" حكي ينساب مع خطوات السارد في شوارع وأزقة وأحياء طنجة، ومع يقظة الذاكرة. تحاور الذات هنا ذاتها بشكل مباشر عبر المونولوج الداخلي، أو من خلال استحضار ذات الآخر(زهرة /الزوجة). لكن في النهاية يركز السرد تبئيره علي الضمير السارد الذي يلتقي فيه الواقعي/ المؤلف والتخييلي/ السارد، وينتج عن هذا الملتقي رؤية سردية تعطي للنص بعده التجنيسي في إطار محكي ذاتي Auto- récit. تعرف بعض النصوص الروائية حضور إشكالية هذا الضمير بطريقة مغايرة عما سميناه بالمحكي الذاتي.نلتقي بشكل تجنيسي آخر، يندرج بدوره ضمن التحولات السردية التي يعرفها الجنس الروائي، ونعني بذلك تلك النصوص التي يلتقي فيها السيري بالروائي كما في رواية الكاتب البحريني "أمين صالح" رهائن الغيب"(8) حيث تذهب كثير من الإعلانات السردية إلي الإفصاح عن انتماء تجربة الافتتاح النصي لرهائن الغيب إلي السيرة الذاتية، بعضها جاء مدخلا تشويقيا لإمكانية سرد سيرة حياة "والحبلي بي كانت تصقل مرآة الولادة وتقطف قدري من رحم الصدفة، وكنت أرضع حليب الغواية من ثدي المجهول، الحامل مصيري بيدين من صلصال".(ص11). وبعضها مصرح به عبر الحكاية، نستخرجه من محكيات ضمير المتكلم" أنا"، الذي يفصح عن رغبته في حكي الطفولة وإحياء الذاكرة". وحميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض نحو مشارف الصبا، خارجا من مهب الطفولة، ومعه تتراكض منازل تشتغل حجراتها شهوة إلي المصادفات." ( ص 12).

كما تجتهد الكتابة السردية في هذا النص في تحديد تمظهرات السيرة الذاتية، من خلال تعيينات خطية، تميز مقاطع السيرة بضمير المتكلم ،عن غيرها من مقاطع السرد بضمير الغائب. فتأتي بسمك غليظ ، ولون أقرب إلي السواد الداكن، و بطريقة مختلفة في برمجتها علي الصفحة. إلي جانب كونها مقاطع تحتفي بمشاهد الطفولة وشغبها، وتركز علي توثيق سيرة أمكنة وأزمنة ذات علاقة بسيرة الضمير السارد ورفاقه.

وهي مقاطع سينطلق بها النص لتبدأ في الخفوت تدريجيا مع امتداد السرد، وانخراط ضمير الغائب في الحكي، لتتلاشي مع نهاية النص.

إنه وضع يثير مسألة العلاقة بين السيرذاتي والروائي في نص "رهائن الغياب" وهذا التجاذب بين الضميرين/ المتكلم والغائب في تجنيس النص، هو الذي يمنح للنص هويته السردية ضمن نوع السيرروائي.

تركيب استنتاجي

لا شك أن هذه التحولات السردية التي تعرفها تجربة الممارسة الإنتاجية الروائية في الزمن العربي الحديث، تنتج مجموعة من المفاهيم والدلالات، يمكن استنتاج بعضها علي شكل نقط:

- يعرف مفهوم السرد تحولات، من واقع تجربة الممارسة الروائية العربية. وهو بهذا يعكس دور التجربة الروائية العربية في تطوير منطق الجنس الأدبي، بناء علي شروط سياقاتها التاريخية.

- استعاد مفهوم التخييل الروائي باعتباره فعل تحويل المادة إلي حالة متخيلة، راهنيته بسبب التحول السردي الذي باتت تعرفه كثير من النصوص الروائية العربية ،والتي جعلت ضمير أنا يحضر بقوة سردية.

- تعمل النصوص السردية الجديدة علي تنشيط سؤال الجنس الأدبي من خلال راهنية سؤال التخييل.

- تشخص الحياة السردية المرنة في التجربة الروائية العربية الحديثة، حالات التحول التي تعرفها المجتمعات العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

- تؤكد التجارب الروائية العربية، والتي باتت تطرح شرعيتها من طبيعة بنائها للحياة السردية لنصوصها مسألة كون الجنس الأدبي (ومنه الروائي السردي) مسألة ثقافية ذات علاقة بوضع المجتمع ونوعية التفكير والإدراك.

- تجدد النصوص الروائية علاقتها بالنقد، وتحفز هذا الأخير علي تنشيط أسئلته، وتطوير أدواته من أجل علاقة متوازنة بين اللحظة الإبداعية ولحظة التفكير.

- إن تنوع تركيبة التجارب الروائية العربية انسجاما مع مبدأ اختلاف السياقات المحلية، يحول الروايات إلي مراجع لاشتغال النقد.

الهوامش

1- الرياحي (كمال): المشرط (من سيرة خديجة وأحزانه) عيون المعاصرة- دار الجنوب للنشر، الطبعة الأولي:2006 .

2- القرش(سعد): أول النهار، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولي:2005 .

علوش( سعيد): تاسانو ابن الشمس ملعون القارات، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولي: 2007 .

3- بن حدو ( رشيد): هذا أنا- هذا غير أنا، دراسة (من ص 32 إلي 44) ضمن كتاب جماعي: الشكل والدلالة، قراءات في الرواية المغربية.

5و6 : المرجع السابق، ص: 33 .

5- منشورات نادي الكتاب بكلية الآداب بتطوان، الطبعة الأولي: 2001 .

7- التازي( عز الدين): امرأة من ماء.

8 - صالح(أمين): رهائن الغيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولي، 2004


في الدورة الـ23 لمؤتمر أدباء مصر:


المبدعون ينحرفون عن النص، واستمرار عزلة كتَاب الأقاليم


شلبي يعلن دولة السرد الروائي وعبد الله يعلن إنجاز نظرية عربية


)
ة)؛ التاء المربوطة المحذوفة أو المضافة لـكلمة"جديد" بعد أسئلة السرد


موضوع الدورة الثالثة والعشرين لمؤتمر أدباء مصر، كانت سؤالاً جوهرياً طرحه الباحثون والمشاركون في المؤتمر، في جلساتهم ومداخلاتهم وأحاديثهم الجانبية.
هل ما يُكتب ويُنشر، ويُحتفى به، ويُشتبك معه، ويُنكر، ويُؤكد، هل فيضان الحكي والتلقي والتفاعل، هل كل ذلك سردُُ جديد، أم أسئلة جديدة لموضوعٍ وجودي ولا نهائي هو السرد؟
الجانب الآخر من السؤال الملغز حقاً، هل هذا السرد الجديد صناعة و ملكية الكتَاب الجدد من الشباب التسعينيين وكتاب الألفية الجديدة، أم هو السرد المغاير حتى وإن اكتشف لدى الستينيين أوالسبعينيين ومن سبقهم أو تلاهم بأجيال؟
أخيراً هل المارد الطيع المسمى بالسرد، هو السرد الروائي المتمتن على الساحة الإبداعية الآن، ويضيق بالسرد القصصي، أم يتسع ليشمله، ومعه أيضاً السرد الشعري، خاصةً بعد مقاربته لفن النثر عبر قصيدة النثر، وغيرها من تقنيات الكتابة؟
مابين تقنين المفهوم وانسيابيته، ومابين محدودية أنواعه ولانهائيتها دارت المحادثات والمشاركات وحتى المشادات، هناك بمدينة مطروح الآسرة، شكلاً ومضموناً، والتي استبقت كل ذلك الجدل بحفل استقبال خاص، قُدم خلاله شاى الزردة المطروحي، وعروض فنية لفرقتى سيوة ومطروح للفنون الشعبية، ونصبت الخيام عارضةً بعض الصناعات والمشغولات البدوية.
وبدأ المؤتمر..
بكلمته التي تصدرت الجلسة الافتتاحية كأمينٍ عام، قشر الروائي الناقد "سيد الوكيل" المؤتمر من رسميته، كفعاليةٍ أنتجتها إحدى مؤسسات الدولة، بالتشديد على رفض أشكال الوصاية والرقابة والمصادرة كافةً، وأهمها تلك الإجراءت "السياحكومية"، مؤكداً على قدرة السرد الجديد الموزع بين مختلف أشكال التعبير، والوسائط الناقلة، خصوصاً الأفضية التكنولوجية الحديثة على إظهار عبث استمرار تلك الإجراءات، مستشهداً بنجاح "شهرزاد" في مقاومة نزق السلطة، وشهوة الانتقام بالحكاية.
أما الروائي الكبير"خيري شلبي" رئيس المؤتمر، فقد أعلن قيام دولة السرد الروائي، ونصب على عرشها جيله من كتاب الستينيات، بدوره الذي حول الرواية ــ في رأيه ــ لديوان العرب، قبل أن تصبح حالياً ديواناً للعالم.
وهاجم "شلبي" بشدة جهاز التليفزيون، واصفاً إياه بقاطع طريقٍ يشن حروباً مجانيةً على الحياة. وحمله مسئولية تنسيخ البشر، وتمديد أسطح الكراهية بينهم، لكنه أكد على أن الرواية هي الفن الوحيد القادر على مقاومة ذلك المارد، وتغذية الذات الإنسانية بمشاعر المقاومة والوعي بواقعها، وإطلاعها على جوهر المسائل وحقائق الأمور، وتنبيهها إلى قواها الخفية.
وقدمت مداخلة الناقد "سيد إمام" "مدخل إلى نظرية الحكي"، والتي تصدرت أولى الجلسات البحثية في المؤتمر "السرد الجديد وإشكالية المفهوم" فرشة نظريةً وافية لعلم السرد وتطوره، على أهميتها، حال طابعها النظري دون تواصل بعض المشاركين معه، ما دفع إلى مطالبة بعضهم بنظرية نقد عربية "يفهمونها"، وهو ما أزعج "إمام" وجعله يشدد على إنسانية العلم وتراكميته، والمطالبة بالإضافة للمنتج العالمي والتواصل معه بدلاً من المطالبة بشيئٍ غير منطقي.
هذه الواقعة التي برزت في الجلسة الأولى كانت مدخلاً مباشراً للجلسة الثانية، التي ترأسها الناقد "د. محمد حسن عبد الله"، وشارك فيها الباحثان "د.سيد ضيف الله" و"د. أحمد عبد المقصود"، وتغيب عنها الناقد أ.د محمد عبد المطلب"، إذ انتقد "عبد الله" رفض "إمام" لنظرية نقد عربية، وأعلن امتلاكه لتلك النظرية قائلاً:" من استثكروا علينا نظرية نقدية، أقول لهم إنني ألَفت نظرية نقدية عربية، كأننا مستكثرين على أنفسنا أن تكون نظرية أدبية لحضارتنا المترامية في الزمن، فلا نستغرب إذن أن تهب علينا رياح العولمة لتقتلعنا من أرضنا".
مائدة عامرة
الرهان الحقيقي لمسئولي المؤتمر، ومشاركيه كان على جلسة المائدة المستديرة، التي حملت اسم"الكتابة الجديدة ومساءلة الواقع السردى"، وضمت سبعةً من المبدعين الشباب ذوي الصلة الفاعلة في المشهد الإبداعي والنقدي هم: "محمد عبد النبى، طارق أمام، عمر شهريار، هويدا صالح، سهى زكى، منى الشيمى، وهدرا جرجس"، والذين قدموا رؤىً واقعية واعية للمشهد الحالي، اختلفت وتقاطعت، واشتبكت، لكنها تكاملت في النهاية، وحققت بانورامية امتدحها الحضور الذين اكتظت بهم القاعة، وعلى رأسهم الناقد د. أحمد مجاهد، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والذي أكد أنه دون أربع صفحاتٍ من الملاحظات حول تلك الجلسة، لكنه لم ينج من الخلط بين ثلاثة مفاهيم هي: (الرواية الجديدة) و(الكتابة الجديدة)، و(السرد الجديد).
أهديت هذه المائدة لروح المبدعين الذين رحلوا مؤخراً: محمد حسين بكر، ومحمد ربيع، ونعمات البحيرى، وخيرى عبد الجواد، وأضيف إليهم ــ بناءً على طلب الكاتب "حمدي أبو جليل"ــ الشاعر أسامة الديناصوري.
لكن أهم ماميز تلك الجلسة، ومن قبلها جلسة الشهادات التي ضمت المبدعين: د.سيد البحراوي، د.زين عبد الهادى، هالة البدرى، محسن يونس، يوسف فاخورى، عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل، وأحمد والى" هو انحراف المتحدثين عن موضوعاتهم المنشورة بكتب ونشرات المؤتمر، والتي طولبوا فيها بالإيجاز، وعدد محدد من الكلمات، وكأن هذا تمرداً ضمنياً لفرسان الكتابة على كل السياقات الجاهزة، والمقيدة، فبات أضعفهم هو من قرأ بحثه السابق دون جدلٍ أو ارتجال.
آخر جلسات المؤتمر، رغم خصوصيتها، تناولت الظاهرة الأدبية في مطروح، من خلال ثلاثة أبحاث تناولت الحكاية الشعبية، والرواية، والشعر البدوي في مطروح للباحثين حمدي سليمان، ممدوح فراج النابي، وفارس خضر، وشهدت حضوراً كبيراً من مبدعي المحافظة الذين تفاعلوا مع الباحثين قبل وبعد الجلسة.
وكتقليدٍ ثابت، اختتم المؤتمر بعدة توصياتٍ تلخصت في: استمرار رفض كافة أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، المبدأ الذي انطلق من إحدى دورات المؤتمر عام 1984، وصار تقليداً ثابتاً لمجمل الدول العربية، وكفالة حرية التعبير لكافة مبدعي مصر، ورفع كافة أشكال الرقابة، والدعوة إلى توحيد صفوف القوى الوطنية بفلسطين والعراق، ورفض تعنت المؤسسات الحكومية في توفير الرعاية الصحية للكتاب والمبدعين، وتلبية الاحتياجات الثقافية للمناطق الحدودية والنائية، ودعم الفنان فاروق حسني لتولي رئاسة اليونسكو.
أخيراً ومالا يمكن تجاهله هو استمرار انفصال أغلب كتاب الأقاليم عن تلك الرحى الدائرة، والنظر إليها باعتبارها "لوغاريتمات"، والاكتفاء بتحريك رؤسهم، أو التعصب للمواريث القديمة في الكتابة، والأسماء القديمة، والتقنيات الكلاسيكية، حيث آخر ماقرأوا، أو تواصلوا، وهؤلاء هم من اكتظت بهم أمسيات الشعر والقصة، التي تزامنت مع بعض الجلسات، كخيارٍ آخر للتفاعل بالمؤتمر، هذه الأمسيات التي كانت فعلاً ذكياً من "محمد أبو المجد" مدير الثقافة العامة بالهيئة، حال دون تهميش مبدعي الفنون الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والشعر، في مؤتمر يحتفي بالسرد الروائي.



عزة حسين ــ جريدة الشروق

مرسي ... مطروح جدا


نعم أنا أشكر مطروح بالفرنسية ولو أستطعت لشكرتها بكل لغات الارض
مرسي مطروح على انك غسلت روحى
مرسي مطروح لانك حويت كل هذا الفرح
وسأحكى لكم
فى ليلة باردة بدت المدينة خالية الا من صوت الرياح و انفاس الاسفلت تتجمع فى منطقة وسطى بين الندى والسراب ، لم يكن معنا الا نحن لم يكن لدينا الا مدينة ساحلية طردت سكانها تحت الاغطية واستقبلتنا حافية كبنت دبت الانوثة فيها فاحرقت حواف الليل بحرارة جسدها ، كانت طازجة كأن الله صنعها خصيصا لنا وكأن يده أنتهت من صنعها الان والان فقط.
نظرت الى ساعتى كانت الواحدة صباحا بتوقيت الفرح لم يكن فى السماء الا بعض السحب الصغيرة تختبر اشكالها وقدرتها على تكوين الاحاسيس، للسحب فقط تجسد الاحاسيس ، وتلقى ظلال ما يعتمل داخلك على صفحة السماء.
ولذلك كانت لكل منا اشكاله الخرافية التى ترسمها روحه على وجه الليل.
كانوا سبعة وثامنهم فرحهم ، و كان عليك ان تهذى وانت تغرف براحتيك من مجرات الجنون التى اقتربت منا كثيرا وعليك ان ترقص
بأقصى ما لديك من موسيقى بدائية سكنت روحك لحظة تخلقها وعليك ان تغنى كانك تحارب فيك الخرس ، تشعل حواسك الى أقصاها كأنك تجرب الحواس خوفا من ان تكون احداهن قد عطبت منك فى الطريق ،
كما تقف امام بائع الكهرباء تجرب جهازا جديدا وتستعرض امكانياتة وترفع صوت غنائه حتى اقصاه وتظل تجرب اقاصى كل شئ كان عليك ان تفعل ذلك مع نفسك وتقول فى سرك : " حسنا كل شئ يعمل بكفاءة أذا اوافق على ان اقضى بقية عمرى فى هذا الجسد"
لكن الاجمل انك لم تفعل ذلك بمفردك كان معك اصدقائك الذين قالوا : خيرا ما فعلت مبروك عليك ذاتك وصكوا معك عقد امتلاكك لروحك وقدرتك على استدعاء مطرا خصوصيا . ورجعتم تمسكون سبعة صكوك ويتنزل عليكم سبعة امطار خصوصية لكنا من فرط اختلاطها ظننا انها واحدة .
محمد رفيع

من أرشيف صور المؤتمر


محمود الحلوانى : وكمان بتسرب أسئلة السرد
سيد الوكيل: عشان تحرم تطلع معايا مؤتمرات

من أرشيف المؤتمر









الساحرات الثلاثة يدخلن الخباء








م







معلش ياعم خيرى العيال أحباب الله







طارق إمام يفقد هدوء القتلة











ياترى مين فيهم ريا ومين سكينة










الحب تحت المطر




Blogger Template by Blogcrowds