مر زمن طويل منذ أن كان المريض يجلس صامتا أمام طبيبه في انتظار ورقة العلاج ليأخذها شاكرا , وينصرف !
إنه يريد أن يعرف كل شيء عن حالته وأسبابها ولماذا هذا الدواء بالتحديد .. و ... و ....
كذلك القارئ أيضا .. لم يعد ذلك الوديع الجالس محتضنا كتابه , متلقيا حواديتك في صمت باسم , وأنت تحكي له عن عوالم بعيدة لم يختبرها .
إنه المتلقي الذي يعترضك , ويعلق عليك سلبا وإيجابا ببساطة . وليس في الإبداع فقط ... بل حتى الصحف الورقية والتي أصبح لها نسخا إلكترونية على النت , أصبح متاحا لقرائها تقييم ما فيها من أخبار وتوضيح مدى أهميتها لهم ورضاهم أو عدم رضاهم عن التفاصيل التي قدمت لهم .
هذا التواصل تكمن خطورته في الوعي بضرورة التوازن بين الاشتباك مع تفاصيل الحياة وتناول المشاعر الإنسانية بقرب وحميمية تتسلل للمتلقي ببساطة , وبين الحفاظ على جماليات وفنيات الكتابة لتظل في مستوى أعلى من لغة الشارع ,
فما أكثر الكتابة الآن , وما أبسط النشر , ولكن لابد أن نتساءل ما الذي سيبقى من هذا الزخم ؟ سيبقى فقط الحقيقي الذي هو ببساطة لا يشبه إلا نفسه
.
عن الستينات والسبعينات وما بعد الألفين
بصراحة لا أفهم ماذا يعني أن يكون كاتبا ما ستيني أو تسعيني أو ما بعد ألفيني ... هل يرتبط ذلك بتاريخ ميلاده ؟ أم بتاريخ صدور أول كتاب له ؟ ام بتوقيت دماغه وإحساسه بما حوله ؟ ربما كان من الأوقع أن نقول الكتب التي صدرت في الستينات او السبعينات ... وهكذا
وربما بهذا التصنيف نستطيع أن نقول إن إنتاج الثمانينات والتسعينات كان ضحلا , ليس من ناحية جودته الأدبية وإنما من ناحية وصول الأدب لمستحقيه .. أقصد القراء والمشتغلين بالفكر والثقافة عموما .
فإذا كانت السينما قد ساعدت كثيرا في ذيوع وانتشار أدب الستينات , فالشبكة العنكبوتية ساعدت أكثر في انتشار وترويج الإنتاج الأدبي في السنوات الأخيرة ..
أما في التسعينات مثلا كان الواحد / والواحدة طبعا منهم يدور بمخطوط كتابه في أروقة وعتبات قصور الثقافة ثم ينتظر شهورا طويلة ليأخذ دوره في النشر .. قد يكون حينها تجاوز كتابته السابقة بمراحل فيصدر الكتاب كأنه كائن غريب عنه بلا أب أو أم .. هذا طبعا إذا كان غير متيسرا ماديا ليطبع على حسابه ليكون كمن ألقى نقوده في بحر غير آسفا أو مأسوف عليه ..
ثم تبدأ المرحلة التالية , فيحمل علي كاهله سلة الكتب يدور موزعا علي المعارف والأصدقاء - مجانا طبعا - وما يستطيع أن يصل لهم من كبار الأدباء ومسئولي النشر في الصحف الكبرى ليحظى بخبر صغير أو مقالة وينتهي الأمر .
الآن الوضع مختلف كلية , أولا لتعدد وانتشار دور النشر والصحف الخاصة , وثانيا لسهولة الاتصال والتواصل بين المشتغلين بالثقافة ..
هذه السهولة جعلت البعض يعتقد أن فعل الكتابة " ولا أبسط " خصوصا مع النظرة المادية في الترويج والتسويق لبعض الكتابات والتي تنتهجها بعض دور النشر .. وإن كنت أتفهم هذا السلوك التجاري البحت من دور نشر صغيرة وحديثة إلا إني عجزت عن تفهمه من دار نشر لها اسم عريق مثل " الشروق " حين تتبنى نشر وتسويق ثلاثة كتب مأخوذة من مدونات .. وهذا بالمناسبة ليس هجوما علي تلك المدونات ,فنجاحها له ما يبرره من تماسها الصادق مع الواقع المعاش واشتباكها مع معاناة وأحلام الكثيرين من الشباب , لكنه جعل الأمر يبدو كمن استغل ذيوع أغنية ما وأراد تحويلها لديوان شعر .
عن السرد والسرد الجديد
في مشهد من أحد أفلام هنيدي الكوميدية كان البطل يجلس في الكافيتيريا مع حبيبته محاولا أن يقول لها قصيدة غزل , وراءه كان يجلس الرجل الذي يرمز للمثقف بنظارته وكلامه الرصين .. بدأ هنيدي يقتبس من كلمات الرجل الجالس خلفه لحبيبته , حتي اضطر أن يكمل بنفسه فقال لها : الحب الحب .. الشوق الشوق .. بلوبيف بلوبيف " وينتهي المشهد بالرجل الرصين يعيد نفس الكلمات التي سمعها من هنيدي لحبيبته : بلوبيف بلوبيف
!!
ورغم هزلية المشهد إلا إنه يجعلني أقف طويلا أمام العلاقة بين الكاتب والمتلقي وتأثر كل منهما بالآخر وإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا التأثر مقبولا ...
مازلت لا أستطيع وضع تعريف محدد للسرد الجديد , ففي رأيي إن كل سرد جيد لابد بالضرورة أن يحمل شيئا جديدا متفردا ..
لكني أتوقع الكثير والكثير من هذا المؤتمر الذي يجري التحضير له بطريقه غير مسبوقة لسببين .. أولهما أمين عام المؤتمر أ . سيد الجميل والذي يتعامل مع الأمر بروح المبدع وليس بروح الموظف .. والثاني هو هذه التقنيات الحديثة التي تجبرت وتسلطت وجعلت الجميع يعيش في علبة واحدة يبدأها بكلمة
start
حتى فكرة الشللية والجماعات الأدبية المنغلقة على أنفسها وعلى أماكنها الخاصة , أصبح من السهل اختراقها والتفاعل والاشتباك معها , والاستفادة منها أو نقدها عن طريق التواصل الإلكتروني ..
فى وقت يتحدم فيه الاهتمام بالرواية ، تحاول القصة القصيرة ـ وفي صمت ـ أن تعيد رسم ملامحها على ضوء المتغيرات التى عصفت بمفهوم الإبداع الأدبي ، وظني أن القصة القصيرة استشعرت أزمتها بعد يوسف إدريس ، إذ وجد القاص نفسه سجين النموذج الأدريسى الذى سيطر قرابة ثلاثين العام منذ الخمسينيات ، وشكّل النواة الحقيقية للقصة العربية الحديثة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد إرهاصات التجديد منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، مؤسسة على دعوة للكتابة عابرة النوعية ، تنطلق من القصة القصيرة بالتحديد ، ولإدوار الخراط الذى حقق نموذجه السيادة منذ الثمانينيات ـ فضل فى هذا ، بل وألف كتابا فى التعريف بقدرات السرد القصصي على مفارقة نمط الحكاية المتبعة. وهوالكتاب المعروف بالقصة عابرة الأنواع .
لكنى أعتقد أن القصة القصيرة ـ الآن ـ تعيش مرحلة جديدة تماما ، توسع من مفهومها ، بحيث نجد تجليات جديدة لها ، ليس فقط على صفحات الجرائد والمجلات السيارة ، بل وعلى شبكات الأنترنت ، وشاشات التلفزيون من خلال الأفلام الوثائقية والإخبارية ، فكثير من الخواطر والأخبار والتقارير والحوادث واليوميات تشتمل على طابع سردى مكثف يستعير أبنية وطرائق السرد المألوفة فى القصة القصيرة ويدمغها بطوابع عديدة من التجديدالتقنى والأسلوبي .
أدى هذا ـ فى الأونة الأخيرة ـ إلى شيوع أشكال بينية فى السرد ، فلم يعد الأمر حصريا بين نمطي القصة والرواية ، سنجد مثلا : النوفيللا ، وحلقات السرد أو المتتاليات القصصية التى تنتظم عبر سردات صغيرة تتواصل فيما بينها بروابط أسلوبية أو تقنية أو موضوعية ، وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى نوازع التجريب التى يحققها قاص متميز مثل محمد المخزنجى ، الذى قدم مؤخرا نصوص : " حيوانات أيامنا " وهى بمثابة بحث سردى فى عالم الحيوان . يطيب للباحث حسين حمودة أن يطلق عليه :" الكتاب القصصى " لكونه يجمع بين صفة الكتاب العلمي البحثي والسرد القصصي ، وكان المخزنجي قد قدم من قبل ، وفى سياق التجريب القصصي ـ أيضا ـ نصوص : " غرق جزيرة الحوت " التى تعتبر بمثابة تقرير سردي لواقعة انفجار المفاعل النووي الروسي تشرنوبل .
وتأتى نصوص : " نزهة فى المقبرة " للقاص (محمد أبو الدهب ) ، فى سياق هذا النزوع التجريبي للقصة القصيرة ، فالنصوص تقوم على وحدات سردية مكثفة ومنفصلة عن بعضها البعض ، لكنها فى نفس الوقت تتواصل فيما بينها بموضوع واحد وهو الموت ، فيبدو الكتاب وكأنه بحث سردى فى الموت ، وذلك باعتبار الموت أكثر سرديات التاريخ البشرى غموضا وغرائبية وديمومة.
وإذا اعتبرنا أن السرد القصصي ليس مجرد شكل مميز عن السرد الروائى إلا بقدر ماهو زاوية نظر مختلفة للموضوع مناط السرد ، فنستطيع أن نلمح فى نصوص " نزهة فى المقبرة " محاولات سردية لرصد الموت من أكثر من زاوية . فالموت موضوع كتبت فيه روايات وتناولته السير والملاحم والأساطير والدراما المسرحية والشعر الغنائي ، ولكن ، عندما تتوفر مجموعة من النصوص القصصية على موضوع مثل الموت ، فهذا يعنى رؤية أدق ، بمعنى أنها رؤية لاتضيع ملامحها فى تشابهات أو تفاصيل جانبية .
إننا نقرا فى نصوص هذه المجموعة عدة وجوه وزوايا للموت ، وكـأننا نتأمله وندرسه ونقلبه على كل وجه . فالموت هو اليقين الوحيد الذى عرفه البشر ، وهو المجهول الغامض المحاط بالأساطير والحكايات حتى ليبدو أكثر سرديات التاريخ البشرى تعقيداً وغرائبية وتنوعا ، لهذا فإن تفكيك هذه السردية الكبرى فى عدة سردات صغرى يسهم بطريقة ما فى فهم الموت ورصد تجلياته ،وصوره التى تتفاوت بين الموت الحقيقي والموت المجازي النفسى ، فالخوف ، وإنعدام الرغبة والتوحد، مثل هذه المشاعر تبدو أحد تمثيلات الموت ، والطريف أن النصوص تكشف أن معكوسها أيضا يكون صحيحا ، فالتهور والنهم وتأخر الوعى بالذات هى من صور الموت أيضا .
وقصة ( الخوف ) تصور هذه الطبيعة المتناقضة للموت ، فللموت حيله التى لاتنفد وطرائقه التى لاتنتهي . كما أن الموت يمثل أكبر صور المفارقة فى الوجود بوصفه تغيرا من الحركة إلى الثبات ومن الوجود إلى العدم ومن الشك إلى اليقين ، لهذا نجد من الحكمة قولاً مثل :" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " . إن المقولة تنطوى على حكمة التجربة الإنسانية بين الحياة والموت ، إنها المفارقة ، ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد المفارقة ملمحا رئيسا يسري فى كل نصوص المجموعة، وتأخذ المفارقة عدة صور موضوعية وأسلوبية على نحو ما نجد فى العنوان : " نزهة فى المقبرة " الذى يحوى أكثر من دلالة ترتبط بمفهوم الموت فى الثقافة الشعبية والدينية ، سواء من حيث هو مجرد رحلة أخيرة يقوم بها الإنسان، ينتقل فيها من دار الباطل إلى دار الحق ، أو من حيث هو تجسيد دراماتيكي لسخرية الحياة . ويمكن أن نلحظ أن السخرية سمة ممتدة فى كثير من نصوص المجموعة ، حيث تتعرض الشخصيات للموت بطرائق عدة ، وحيث يأتى فى لحظات يتصور فيها الإنسان أنه أبعد ما يكون عن الموت .
فى قصة (الكاتب يبكي ) ، نجد تجسيدا ساخرا لكاتب يجلس على مكتبه يحاول الكتابة عن الموت ، ويبدأ فى استدعاء الصور والمفارقات التى ارتبطت بحكايات الموت التى سمع بها ، يقلبها جميعا فى ذهنه وكأنه يختبرها كمادة لكتابة مفارقة ، وأثناء ذلك يلقى الموت عليه بثقله ، فيجهش بالبكاء : " سقط القلم من قبضة الكاتب على غير المتوقع، فغطى وجهه بيديه ، ثم نزل به على الأوراق ، وأنبرى يبكي ، ارتعش جسده مع ارتفاع نشيجه ، وابتلت أوراقه بدموعه ، ولم يرفع رأسه ليكتب شيئا عن البكاء " .
تتميز النصوص بكثافة لغتها حتى لتقترب إلى لحظات من الشعر ، أوالإخبار ، أو الحكمة ، لتعمق هاجس الموت ، كما تكشف عن معرفة عميقة بالمفهوم الواسع للموت سواء فى تصوراته العلمية الفيزيقية ، أو فى مفهومه الشعبي والدينى ولاسيما التصور الصوفى للموت .
ونتيجة لهذاالتكثيف والالتقاط الذكي للحظات فارقة أحيانا ومتشابهة أحياناً ، تبدو النصوص فى تجاورها وكأنها تنويعات على معزوفة جنائزية ، لاتخلو من مفارقات ساخرة على نحو ما نجد فى هذا النص : " فجأة عرف الخوف . لايفهم كيف ولا متى ، هو الذى يتمنى الخلود بين مزرعة الدواجن التى امتلكها أخيراً ، ومدرسة بلدته الابتدائية التى صار ناظرها وحامل تاريخها .أحب هذه الصيغة من الحياة .. الانتقال الذي لا يراه مختلفاً بين التلاميذ والدجاج .. ابتسامته المتسامحة كل صباح ـ وقت تحية العلم ـ إذ يتذكر أمنيته القديمة بأن يصبح ضابطاً فى الطيران .. وقفته المطمئتة وهو يراقب العمال ينقلون البيض من مزرعته إلى الشاحنة المسافرة بعيداً ، لكن الخوف نغص عليه ، أرسل إليه هاتفاً بحذره من القادم ، يقوم صباحا فلايجد أثراً للمزرعة على جسر النيل .. يدخل المدرسة فيقرأ ورقة مختومة تطالبه بالخروج .. أو يأخذه شيء إلى بعيد ، فلا يرجع .
والنص السابق ، المتوسط فى طوله يعطى مثالاً لطابع الكثافة اللغوية التى تشيع فى النصوص كلها ،ومن ثم نجد نصوصا أطول من ذلك قليلاً ، كما نجد نصوصا لاتتجاوز خمسة الأسطر . لهذا فإن الكتاب يحوي بين دفتيه ( 68 نصا ) يمكنها من خلال التجاور أن تقدم هذا التنوع الهائل لصور الموت ، وكأننا بالفعل أمام تنويعات على معزوفة جنائزية كبرى .
من الطريف أن هذا ليس الكتاب السردي الوحيد للكاتب محمد أبو الدهب الذى يتناول الموت ، فمن قبل تناوله فى عدة إصدارات وكأن الموت صار مشروعه الذى يدرسه سردا ، محمد أبو الدهب له من قبل مجموعات قصصية منها : " أوراق صفراء ـ آخر الموتى ـ نصف لحية كثيفة " .
نزهة فى المقبرة : صادرة عن دار الناشر بالقاهرة ـ 2008 ।
نشر الصديق نائل الطوخى على مدونته إعتذار عن المشاركه فى مؤتمر أدباء مصر لدورته الحاليه بعنوان " أسئلة السرد الجديد " بينما كان الاستاذ سيد الوكيل مسافرا الى سوريا لحضور مؤتمر أدبى وعندما رجع رد علي على مبررات أعتذاره وننشرها هنا
لو أن الأمر أقتصر على الرسالة الشخصية التى أرسلها لى الصديق المبدع نائل الطوخى على إيميلى الشخصى، مؤكدا على اعتذاره عن المشاركة فى مؤتمر السرد الجديد، ومبررا ذلك بأنه أمر ذاتى وشخصى جدا لهان الأمر، ولكنه كان حريصا على أن يرفق برسالته رابطا لمقال كتبه عن أسباب الاعتذار، وبعد أن قرأت المقال، وجدتها أسبابا تتعلق بالمؤتمر ويعتبرها نائل عيوبا يحتج عليها وتستدعى اعتذاره عن المشاركة، بما يعنى أنه يسجل موقفا ثقافيا وليس الأمر مجرد اعتذار شخصى لظروف ما، وكنت أظن أن الأجيال الجديدة من المثقفين تخلصت من آفة تسجيل المواقف التى تميزت بها الأجيال العتيقة.
كان بوسع صديقنا أن يشارك برأيه هذا فى المؤتمر ويعلنه أثناء النقاش الحر مع الآخرين بدلا من أن يطلع به علينا من وراء المدونة، فأنا شخصيا أفضل، عندما يكون لدى مؤاخذات على عمل ما أن أناقش المسؤلين عنه وجها لوجه، لا أن أسجل موقفا أو اعتذر عنه بالكلية، فالمؤتمر الوحيد الذى لا أشارك فيه، هو المؤتمر الذى ينظمه أو يموله صهيونى ما ، ومع ذلك ، فنحن فى مصر نتكالب على مؤتمرات الأجانب مهما كانت شبهتها، و نقاطع مؤتمراتنا لأن جلسة ما من جلساته لاتعجبنا .
هذه واحدة من عجائب الثقافة المصرية ليس إلا .
عموما...فالمؤتمر لاينحصر فى جلسة المائدة المستديرة، ولا فى ملاحظة واحدة أو ملاحظتين سلبيتين. بالتأكيد هناك الكثير من الجوانب السلبية كما أن هناك الأكثر من الجوانب الإيجابية فى أى عمل ثقافى بهذا الحجم، لهذا فالأمر يستدعى المشاركة والفاعلية والنقد البناء لا الاعتذار .
على أى حال جاءت رسالة نائل الشخصية تعكس سمو أخلاقه وإنسانيته، وهذا وحده يكفى لقبول اعتذاره بلا غضاضة، وإن كان اعتذار أى مشارك فى اللحظات الأخيرة قبيل المؤتمر يؤثر سلبا على المؤتمر ويعرضه للانتقاد ويقلل من فاعلياته، ولو أن شخصا غيرى لاعتبر الأمر نوعا من المؤامرة، ولكنى لا أفكر بطريقة المؤمرات أو تسجيل المواقف فهذا كلام قديم، وكذلك لا اعتبر نفسى ممثلا للمؤتمر أو صاحبه، لهذا أفرق جيدا بين موقف نائل الطوخى منى شحصيا، والذى عبر عنه فى رسالته الشخصية وهو موقف نبيل كما قلت ، وبين موقفه من المؤتمر والاعتذار عنه .
اعتذار نائل شأن يخصه بالتأكيد ، وتقديرى له ولرأيه كبير ، كما أنى أعتبره صديقا عزيزا ومثقفا ومبدعا موهوبا، والاختلاف فى الرأى لايفسد للود قضية كما يقولون، ولهذا فإن ماسوف اكتبه هنا لاعلاقة له بأمر الاعتذار ولا بنائل الطوخى شخصيا، ولكنه توضيح لأمور جاءت فى مقاله حول المؤتمر، وبما أننى أخترت أن أكون أمينا لدورته هذه، وبما أننى حرصت طوال الوقت على أن أقدم دورة متميزة وغير نمطية، تهتم للواقع السردى فعلا، وبالكتاب الفاعلين فى رسم هذا الواقع فى حدود ما أعرف، وأنا أعرف أنه خارج هذه الدائرة التى تضم أكثر من 300 مبدعا يشاركون فى المؤتمر، من هم جديرون بالمشاركة أيضا، وربما أفضل من بعض المشاركين، ولكن ليس بوسعنا أن نلم بكل تفاصيل المشهد السردى لأنه واسع ومتعدد وأكبر من أن نحتويه كله فى دورة واحدة، يكفى هذه الدورة أنها خرجت عن نمطية الأداء والأسماء المكررة وحرصت على الحضور الفاعل لكتاب جدد، وهو ليس مجرد حضور شرفى بل حضور مشارك وفاعل .
هذه رسالة مفتوحة إلى نائل ليس له شخصيا كمبدع موهوب وإنسان جميل، ولكن بوصفه كاتبا لمقال يفند فيه أسباب اعتذاره، وهى كلها أسباب تتعلق بالمؤتمر والآداء العملى فيه، فأرى أن من واجبى الرد عليها فقط لتوضيح بعض ما التبس عليه، فربما يكون ملتبس أيضا على الآخرين. ولا تنقصنى الشجاعة أن اعترف بأى نقص أو أخطاء فى أدائى فلست نبيا لايخطئ ولست محترفا فى تنظيم المؤتمرات، فأنا قبل أى شىء مبدع وكاتب للسرد ولفرط إيمانى ومحبتى للسرد الجديد حرصت على أن أكون أمينا لمؤتمر يسهم ولو بالقليل فى تنميته.
****
الأستاذ نائل الطوخى
ردا على مانشرته بمدونتك من ملاحظات حول جلسة المائدة المستديرة بمؤتمر السرد الجديد أقول :
بفرض أن الاختيار فى المائدة المستديرة ـ كما تقول ـ تم على أساس أن يكون فيها بعض الأسماء اللامعة، وبالطبع الآخر منطفىء ( فى المقابل )، فهذا يسمى فى عرف العمل الثقافى، نوعا من تبادل الخبرات والتفاعل والتنوع بين أفراد المشهد الأدبى فى لحظة واحدة، يعنى عندما يجلس مبدع لامع إلى جوار مبدع أقل لمعانا، سيستفيد الثانى من خبرات الأول، وصدقنى ياصديقى، كثيرا ما يستفيد اللامع من المطفى، لأن من عادة اللامعين أن يكتفوا بأنفسهم فيتجمدون وعندما يواجهم أحد يكتشفون عيوبهم.فيستفيدون أيضا. والمؤتمر معنى بتقديم وجوه جديدة أكثر من عنايته بالتأكيد على نجومية النجوم، فمثل هؤلاء الذين ذكرتهم كنجوم كبار ليسوا فى حاجة لمن يقدمهم أو يعتنى بهم
ومع ذلك .. فالاختيارـ فى المؤتمر ـ لم يقم على أساس من اللامع ومن المنطفى، بل على أساس تنوع فى الخبرات والاتجاهات، ونحن لسنا جهة من شأنها أن تحكم من أكثر قيمة من الآخر؟ أو من اللامع ومن المنطفى ؟ فهذا شأن النقاد والتاريخ هما يحكمان فى النهاية ياصديقى. والتفكير بطريقة من النجم اللامع ومن المطفى هو منطق الإعلام وليس منطق العمل الثقافى. لهذا تمنيت أن تفرق بين أداء المبدع فى العمل الإعلامى، وأداءه فى العمل الثقافى. ولو كنا نفكر بالأسماء اللامعة لضمان نجاح المؤتمر لما جعلنا المؤتمر للسرد الجديد أساسا، فلدينا من الكبار اللامعين مايكفى، ولو كنا نفكر فقط بالبحث عن اللامعين بين الشباب، لوضعنا على القائمة علاء الأسوانى مثلا، وترددنا كثيرا فى البحث عن آخرين يضاهونه فى لمعانه. فمجرد اسم علاء الأسوانى يضمن للمؤتمر أن تتناقل أخباره وكالات الأنباء الأدبية فى العالم.
صدقنى ياصديقى، حسابات اللامع والمطفى لا أعرفها أبدا ولا أفهمها، فأنا قارىء ( ُعقر ) للمشهد الأدبى، ومثقف بدرجة تكفينى لأفرق بين لمعان الذهب ولمعان الصفيح. ولا تضطرنى للكلام عن نفسى أكثر من ذلك.
تقول: " مشهد "السرد الجديد" واسع جدا في مصر، ولا تمثله المائدة المستديرة المخصصة،""
بالطبع ياصديقى ـ ومعك حق ـ المؤتمر برمته ليس ممثلا للسرد الجديد، ولا يوجد مؤتمر فى العالم يمثل ظاهرة ما ولكنه يدرس الظاهرة من وجهات نظر مختلفة، والأساس فيه الباحثون، ولهذا يشارك فيه مبدعون مختلفون لهم وجهات نظر مختلفة. بما يعنى أن لا أحد من المشاركين فيه يمثل السرد الجديد. والمؤتمر ليس ملزما بقائمة الممثلين للسرد الجديد التى أوردتها أنت ولا بترتيبها لأنها فى الحقيقة قائمة نمطية وسمعناها كثيرا، ولو طلبنا من كل واحد أن يكتب قائمة كهذه لاختلفت فى كل مرة، وليس من غايتنا أن نكرس لأسماء بعينها أو لقوائم يضعها أحد، بل حريصين على أن نفتح المشهد على أكبر اتساع له بقدر الإمكان ولايعنى هذا أننا نتعمد نفى أسماء بعينها ـ أيضا ـ كالذين ذكرتهم وأكثرهم أصدقاء لى ويعرفون أننى أقدر تجاربهم الإبداعية وأنا شخصيا حزين أننى لم أستطع دعوتهم جميعا فللمؤتمر حدوده وسعته. والاختيارات لها اعتبارات أخرى غير جودة إبداع المبدع، أهمها عمق ثقافة المبدع .
ولا تضطرنى للقول بأن بعض هذه الأسماء التى ذكرتها أنت، قرأتُ لها أراء نقدية فوجدتها متواضعة وضيقة، فالبعض رؤيته النقدية أقل كثيرا من موهبته كمبدع، وجلسة المائدة المستديرة هى جلسة للنقاش الثقافى والمعرفى عن السرد الجديد وليست جلسة احتفاء أو تكريس لكتاب السرد الجديد لهذا ففكرة الجدارة الإبداعية ليست هى الشرط الوحيد هنا، لهذا تلاحظ أن بعض المشاركين فى المائدة هم نقاد شباب بالأساس مثل عمر شهريار وأحمد عزت يوسف، وبعضهم يجمع بين النقد والإبداع مثل طارق إمام ومحمد عبد النبى وهويدا صالح ، وبعضهم يمثل تجارب إبداعية مختلفة فى طرائقها بغض النظر عن قيمتها، فمعيار القيمة لاينطق به إلا الحكماء وأنا لست حكيما لامتلك هذه الثقة لأضع قائمة بالترتيب لأهميات الناس. يكفينا حكيم واحد على رأس الدولة .
وعموما فحتى الذين ذكرتهم أنت، لايمثلون السرد الجديد ولكنهم موجودن فيه ومشاركون فى صنعه، والتفكير بطريقة الممثل الأوحد، ليس أساسا فى العمل الثقافى ولايدعى أحد ذلك، فلا أنا ولا أنت ولاغيرنا يمثل أحد، فكل مبدع لا يمثل سوى نفسه ولا يعبر سوى عن تجربته وفهمه لما هو إبداع، والمشهد الآنى يتسم بالتنوع والتعدد والتجاور ، وأنا شخصيا ضد فكرة التنميط التى تحاول أن تجذب المشهد الأدبى إلى اتجاه بعينه أو أسماء بعينها تعتبر ممثلة للمشهد السردى، مثل هذا التفكير عطل تطور السرد لسنوات، عندما فرض علينا يوسف إدريس نموذجه، وعندما حاول إداورد خراط أن يفعل ذلك من بعده، ومازال لدينا كتاب بعضهم فى قائمة اللامعين التى ذكرتها يكتبون تحت المواصفات الإدريسية والخراطية . وكل منهما ينفى الآخر ويعتبر نفسه هو الممثل للإبداع الحقيقى، والذين يفكرون بهذه الطريقة لا يرون ولا يقرأون سوى أنفسهم ومع ذلك لديهم الجرأة بالحكم على الآخرين .
أظن أن ما سبق هو ردى المختصر عن أهم الأفكار التى وردت فى كلامك فقط لتوضيح الأمر لك أو لمن يهمهم أن يعرفوا .
أما عن باقى النقاط الأخرى فى كلامك، والتى وردت بوصفها تساؤلات أو استفسارات فاسمح لى أن أرد عليها فى عجالة .
طه عبد المنعم ـ أيضا ـ مبدع أولا ، صحيح هو لم ينشر حتى الآن ، ولكن لكل إنسان ظروفه، وعلينا احترام هذه الظروف، ومن ناحية أخرى فطه على علاقة وثيقة بالمشهد السردى ولاسيما الجديد، من خلال البوابة الثقافية التى تتابع السرد الجديد، ووجود طه بالمؤتمر كان اقتراحا شخصيا منى وأنا اتحمل مسؤليته، اقتناعا بأن الأنترنت له دور فى تحريك المشهد السردى والتعريف به، وهو بكل صراحة دور أوسع من الصحافة التى لاتسلم من الانتقاء والاختيار الشخصى ربما لصغر المساحة المتاحة للنشر وربما لاعتبارات المزاج الشخصى أو الترويج لكتّاب بعينهم أو ودور نشر بعينها . وهذا ليس بخاف على أحد يانائل. فالعالم مفضوحا ومكشوفا ومؤخرات النعام التى تدفن رؤوسها فى الرمال مكشوفة للآخرين. ونتيجة لذلك فبعض الأسماء اللامعة موجودة بالقوة . لمجرد أنهم يملكون نوافذ تقول أنهم لامعين ، وإذا ما نزعت عنهم هذه النوافذ ، سترى أن الملك عار .
ولهذا اعتبرت الأنترنت بابا جديدا للإعلام ربما سيتفوق فى المستقبل على الصحافة الورقية ـ والله أعلم ـ فعالم الورق يتداعى، ومن ناحية أخرى، الإعلام الأدبى على الأنترنت ظاهرة ولدت مع السرد الجديد ومرتبطة به، وأخيرا فإن طه ممثل ـ هناـ ليس بشخصه ولكن الممثل هو ( البوابة الثقافية ) التى اعتبرها البعض صاحبة دور مؤثر فى التعريف بالمشهد السردى . واسأل طارق إمام .
بالنسبة لحكاية الفخرانى ولا أدرى سبب التركيز عليها ، وكأنك تبحث عن مبررات للاعتذار، فالحكاية ببساطة أن حدث خطأ فى نشر الاسم ليكون أحمد الفخرانى بدلا من محمد الفخرانى ، وقد أعلنت هذا فى أكثر من مناسبة ونشر فى الجرائد ، فلماذا أنت مصصم على أن ثمة شيء خفى وراء الأمر، هل تعتقد مثلا أننا تلقينا تعليمات من أمن الدولة باستبعاد أحمد الفخرانى !!! أنت تعطى الأمر أكثر مما يستحق، هو مجرد خطأ فى الاسم وهذا واضح جدا . أعرف .. أحمد الفخرانى شاعر متميز والمؤتمر العام القادم سيكون عن الشعر واتمنى أن يكون أحد المشاركين فيه. وأنا أتابع مدونتيه السرديتين، وبالمناسبة ما يكتب فيهما أجمل مما يكتبه بعض اللامعين، ولكنه حريص على تقديم نفسه كشاعر ونحن نحترم هذا .
عموما ..تبرير ذكر اسمه فى قائمة المائدة المستديرة، إنه مجرد خطأ طباعى مثل ملايين الأخطاء الطباعية التى ترد فى الجرائد، وأنا شخصيا اكتويت بها وكان آخرها باخبار الأدب، ومع ذلك لم اعتبر هذا مؤامرة ضدى ولا يحزنون بل هو مجرد خطأ طباعى فى عمل مؤسسى ضخم فالأخطاء الصغيرة واردة . والبشر يخطئون لأنهم بشر .
وحتى أجيب على أى تساؤل يقوم فى نفسك أو نفس أى صديق آخر، فمحمد الفخرانى مبدع جميل وصديق عزيز، ولكنه لن يكون موجودا فى المائدة المستديرة لمجرد أنه موظف بالهيئة العامة لقصور الثقافة وكذلك حمدى أبو جليل وطاهر الشرقاوى، وذلك حتى لا يحتج أحد ما بأن الهيئة تكرس لموظفيها من الأدباء، طبعا هذا فى رأيى الشخصى ظلم لهم، ولكنه ضريبة من عمل بالمؤسسات الثقافية، وحرصا على مصداقية العمل. وأظن أنك كصحفى فى جريدة أدبية تعرف ذلك جيدا . فأنت نفسك تتنزه عن التكريس لنفسك فى أخبار الأدب .
فكرة إهداء جلسة المائدة المستديرة إلى محمد حسين بكر نشأت على الانترنت وبين الأصدقاء بعد أن كتبت سهى ذكى مقالا مؤثرا وجميلا قالت فيه أنها تمنت لو أن زوجها كان موجودا معها فى هذا المؤتمر وشهد هذه الجلسة ، وبلمسة إنسانية رددتُ عليها ( على الانترنت أيضا) قائلا : لنعتبر هذه الجلسة مهداة إلى روح زوجها بوصفه واحدا من المبدعين الذين رحلوا مبكرا بين هذا الجيل حتى يكون حاضرا بروحه معها ومعنا . إنه نوع من المواساة وتطييب الخاطر لصديقة فقدت زوجها الذى كان واحدا من هذا الجيل . فهل تعتبر هذا تحيزا لشخص ما ميت على حساب ميت آخر؟ .. بصراحة أنا مندهش أنك تعتبر هذا عيبا خطيرا يستدعى انسحابك من المؤتمر . إلا إذا كنت ستقترح علينا قائمة أخرى بترتيب الموتى اللامعين .
وعموما .. ليس ضمن عمل المؤتمر ـ رسميا ـ إهداء جلسات لأسم أى ميت، ولا المؤتمر نفسه يهدى لأسم أحد، فالمؤتمر ـ فى النهاية ـ كيان مستقل ليس ملكا لأحد حتى يهديه لمن يشاء، وأنا مجرد أمين لدورة واحدة من دوراته وتصادف أننى أول أمين له مهتم بالسرد وكاتب له نقدا وإبداعا . كما تصادف أن محمد حسين بكر كان زوجا لسهى المشاركة فى الجلسة كمبدعة، ولو أن زوجة المرحوم محمد ربيع هى التى كانت مشاركة بدلا من سهى وكتبت مثل هذا الكلام المؤثر وتصادف أن قرأته أنا، لربما كنت قد قلت لها : لنعتبر هذه الجلسة مهداة لروح محمد ربيع . ولكان واحد غيرك اعترض : لماذا محمد ربيع وليس محمد بكر ؟؟؟
وعموما فالأمر كله قائم على الاعتبارات الإنسانية والمعايير الشخصية والصدفة كما ترى وليس له علاقة بالتخطيط للمؤتمر .وليس ضمن أعمال المؤتمر أن ينشغل بمثل هذه الأمور وليس عيبا أو ميزة فيه . إنما هى حوارات إنسانية كانت بين عدد من الأصدقاء على المدونات الشخصية وتدخلت فيها بوصفى صديقا لهم .
وأنا شخصيا ، سأحرص على حضور الجلسة ، وسأطلب من المشاركين فيها، أن يتذكروا أصدقائهم من الراحلين وإن نهدى اجتماعنا معا لأرواحهم وإذا كنت سأبدا بمحمد حسين بكر فلا يمنع هذا أن نذكر محمد ربيع، أو كل من اقترحتهم أنت من الراحلين بديلا لبكر، ولكن بالنسبة للآخرين الذين ذكرتهم لنهديهم جلسة المائدة المستديرة ( خيرى عبد الجواد ونعمات البحيرى ) وهما أصدقائى وأبناء جيلى :
هل لديك فكرة أن المؤتمر سيكرم اسم المرحوم خيرى عبد الجواد ضمن المكرمين وأن هذا معلن منذ شهرين تقريبا ؟
وبالتأكيد لديك فكرة أن المرحومة نعمات البحيرى توفيت بعد انهاء كل أعمال المؤتمر . والإعلان عنها .وهذه تصاريف القدر ، ومع ذلك فنعمات كرمت قبل ذلك فى إحدى دورات هذا المؤتمر وكنت أنا من اقترح اسمها للتكريم قبل موتها .ولا أزايد على صديقة هى الآن بين يدى الله .
على أى حال هذه الاعتبارات الإنسانية ليست من ضمن العمل الثقافى، ولكنها تضفى لمسة إنسانية على الحياة. فوجودها لا يعيب المؤتمر كما أن غيابها لن يؤثر على قيمته كعمل ثقافى، ولكننا بالتأكيد نحتاج إلى مثل هذه اللمسات الإنسانية على الأعمال الرسمية حتى لاتصير جافة منفرة .
أما قولك " السرد الجديد مصطلح غامض بطبعه " فهذا حق، ولعلك تذكر أنى قلته فى حلقة تلفزيونية سجلناها معا عن زمن الرواية، ومن أجل هذا الغموض، كان المؤتمر عن السرد الجديد، لأن العمل البحثى الذى يوفره المؤتمر يسهم فى فض بعض الغموض. وهذه وظيفة المؤتمرات البحثية ، وليس التكريس لأسماء بعينها. أو إتباع مقولات عامة وشائعة عن زمن الرواية .أو موت القصة أو مثل هذا الكلام الذى يردده الإعلام من أجل ارتفاع نسبة التوزيع .
لهذا فعتابى عليك ياصديقى كبير
كان من الممكن أن تعتذر فحسب بدلا من البحث عن مبررات للاعتذار وإعلانها ، ولاسيما أننى قرأت عليك أسماء المشاركين فى جلسة المائدة المستديرة قبل أن ترسل لى بالموافقة على مشاركتك، أى أنك كنت على علم بالمائدة المستديرة وموضوعها والمشاركين فيها . لهذا اعتقد أن اعتذارك له أسباب أخرى غير ماذكرت وهو متأخر جدا، وفى جميع الحالات أنا احترم رغبتك واحترمك، واحترم رأيك فى المؤتمر فأنا لست صاحبه، فقط أنا أمين إحدى دوراته، وأنا اجتهدت قدر الإمكان، وهو فى النهاية مجرد مؤتمر سيمضى ويأتى غيره، فالمؤتمرات لا تصنعنا ولا تهدمنا ايضا، ولن يبقى غير الاحترام والود قائما، ويبقى الإبداع الحقيقى معلنا عن نفسه بغير شهادة من أحد أو رأي من ناقد، أو مقال فى جريدة أو مؤتمر فى مؤسسة ما أو حتى قائمة يمليها علينا أحد.
لتستهلك طاقتنا فى الكلام بدلا من الإنتاج الإبداعى
فمن كاتبة تعتبر جيل التسعينيات هو مخترع الكتابة والرواية الجديدة
وأخرى تعتبر جيل التسعينات لم يترك سوى ميراث ضحل وبالمرة الثمانينيات
ومن قبل كل هذا كان كتاب الثمانينيات يعترضون على الستينين ويعتبرونهم كهنة ماضويون
وهكذا نفى الأجيال بعضها لبعض مستمر
وحتى هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم الجيل الأحدث
فبعد عشر سنوات سيظهر جيل جديد وينفيهم
أنها ثقافة نفى الآخر التى تعكس حقيقة واحدة هى أن حيز الحياة الأدبية ضيق جدا ، وأن عليك أن تدفع بجارك إلى الخارج لتبقى أنت فى الضوء
الغريب أنه كان هناك مبرر عند الأجيال لسابقة لهذا التفكير
فالحيز كان ضيقا بالفعل
وفرص النشر والتعبير عن الذات كانت محدودة جدا
أما اليوم فبفضل وسائط الاتصال التكنولوجية أصبح كل شيء متاح وممكن
عشرات من دور النشر مئات الصحف والقنوات التلفزيونية وملايين المواقع على الأنترنت
ومازلنا ننفى بعضنا بعضا
فماذا يعنى هذاالتناقض الغريب ؟
أنا مندهش لأديب شاب يعتبر نفسه كاتب مابعد حداثى ، وأن كتابته فقط هى الكتابة
وهو لايعرف أن أول مفاهيم مابعد الحداثة هى التعدد والتجاور وليس الأحادية ونفى الآخر
وأن سمة مابعد الحداثة هى التداخل والسيولة ، وعدم خطية الزمن
أى أن الزمن لايمضى فى خط واحد إلى الأمام بالضرورة
ولهذا جاءت مابعد الحداثة محملة بكثير من الأصوليات ،
سواء الدينية أو الثقافية وطبعا هما لاينفصلان باعتبار الدين ثقافة
لماذ يعود شباب جديد إلى قصيدة التفعيلة التى تجاوزها الثمانيون
بل ويعود إلى القصيدة العمودية التى تجاوزها الستينيون
فلونظرنا إلى تجربة أحمد بخيت الشعرية سنرى أنها ارتداد إلى القصيدة القديمة ، وتقويض لقصيدة السبعينين ، ومع ذلك فبخيت شاعر جماهيرى وحلم لكثير من الشعراء الجدد
لماذا تعود زائقة قراء الرواية إلى الوراء خمسين سنة ، ويصبح علاء الأسوانى أشهر روائى فى مصر رغم أن تجربته بالكاد لاتتجاوز إحسان عبد القدوس
المسألة ببساطة هى أننا نعيش مابعد الحداثة
يعنى كله ماشى كما قالها منظر مابعد الحداثة المصرى إيهاب حسن
فهل يجرؤأحد فى عصر مثل هذا أن يقول أن فلانا هو الآفضل أو جيلا أفضل من جيل
أو أن رواية ما هى اول رواية تمثل الرواية الجديدة ؟
الجديد في الرواية دائما وفي ظني المتواضع أنها تعبير عن روح العالم في حقبة ما، هذه الحقبة التي تتكرر دائما وتكررت من قبل آلاف المرات، لكنها أي الحقبة ترتدي ثيابا جديدة دائما.
إن الدفاع المستميت من شباب الكتاب عن كتابتهم الجديدة سيقابله بعد حين دفاع مستميت ممن أصغر منهم سنا بأنهم لم يأتوا بكتابة جديدة وبأنهم أصحاب الكتابة الجديدة، فيما سيجابههم أيضا دفاعا مستميتا من الجيل الأسبق بأنهم أصحاب الكتابة الجديدة أو أن كتابة الجيل الأحدث ليس فيها جديد؟ إنها المعضلة الانسانية للسرد في كل جيل سواء كان هذا الجيل يقاس بعشر سنوات وفقا لمنحى الكتابة، أو للتاريخ البيولوجي للجيل وأعنى به خمسة وعشرون عاما.
لا أبحث هنا عن من يتفق أو يختلف معي، لكنها جدلية التاريخ تفرض نفسها وفقا لهيجل من جانب، والرؤية الكلية للعالم في لحظة معينة هي مايميز العمل الروائي في كل عصر، فالعلم لايستطيع أن يقدم رؤية كلية إلا في اتجاه خطي أحادي معين، هذا العالم المهووس بقدراته المعرفية، في تلك اللحظة التي يشتد فيها الهوس تصبح الرواية نبيا جديدا يضع أيادينا على أماكن التقيح في الحضارة الانسانية، فوفقا لهيرمان بروخ أن الرواية تملك مبررا للوجود يفوق العلم وأي شكل فني أو أدبي آخر، حيث كان يكرر باستمرار أن اكتشاف مايمكن للرواية وحدها أن تكتشفه؛ هو ذا مايؤلف وجود الرواية.
إن حديث بعض الأصدقاء والصديقات اللطيفات عن اكتشافاتهن أو اكتشافاتهم في الكتابة الجديدة في الرواية حديث ينقصه المبرر التارخي، والعلمي والوجودى ومبني على نماذج لم تتجاوز بعد طور التكوين، ولم تضح حتى ملامح تجربتها!.
ماأريد قوله ألا نذبح شباب الكتاب بادعاء أنهم لم قدموا جديدا، بالعكس أعتقد أنهم قدموا جديدا في التعبير عن روح عصرهم هم وربما تمثل رواية أحمد العايدي "أن تكون عباس العبد" نموذجا يمكن الاعتماد عليه هنا على سبيل المثال لا الحصر، فيما قدم سعيد نوح نموذجا جديدا تماما في الكتابة في "ملاك الفرصة الأخيرة"، ولكن العشر سنوات القادمة قد دخلت غرف نومنا جميعا، ومعنى ذلك أننا يجب أن نستمع للجيل القادم أيضا، الذي سينادي بكتابة جديدة مغايرة، لقد ظلمنا الرواية المصرية بمصطلح جيل الستينيات، وبالمصطلحات الزمنية التي سيقت لتعبر عن نوع من الشوفينية في الرواية المصرية، كأن الجميع يبحث عن قطعة الأرض التي حررها من (مدعي الكتابة الجديدة) من الجيل السابق، وأصبح تجاور الأجيال كفرا بينا.
في ظني أيضا أن التعبير عن روح العالم في حقبة زمنية محددة هي التزام كاتدرائي من قبل كل جيل يأتي، بعض الأجيال تفشل لاعتبارات تتعلق بمساحة الحرية، ووطأة الالتزام، والخوف والقهر، لكن ذلك لم يمنعها من الانتاج، هذا الانتاج الذي له معايير كثيرة يمكننا القياس على أساسه، ومادامت اختلفت المعايير والقضايا والبيئة والظروف فليس معنى ذلك أن هذا الفشل هو فشل تعبيري، إنه فشل في التوصيل فقط، لأن الوعاء الذي يحمل الفكر لم يكن متاحا بدرجة كافية!
من اللافت للنظر أيضا أن تعبير الكتابة الجديدة يرتبط في أحد محاوره بظهور مجتمع المعلومات الذي اعترف به العالم في السنوات الأخيرة، أوهي نقلة لم تحدث في التاريخ الحضاري للإنسان منذ ظهر على الأرض إلا مع ظهور وتطور أدوات الكتابة، لم يكن لهذا المجتمع تأثير على قنوات الاتصال والوصول للمجتمع القارئ أكثر من أي تطور آخر حدث في التاريخ، هذه هي الظروف الحاكمة والاستراتيجية، ومع ذلك فكل الأجيال تقف الآن جنبا إلى جنب على شبكة الإنترنت.
لم أفهم لماذا هذا الصراع، أم هي رغبة في إزاحة البعض عن قطعة من الأرض لتحريرها من مفسدي الكتابة في الأجيال السابقة التي تتمحك في الكتابة الجديدة!
ليس فكرا.. وإنما خناقة على قطعة من التورتة
إلى طارق إمام ومحمد عبد النبي طبعا
وصديقتى الرائعة نهى محمود .. بس من غير كراكيب
أفرح جدا عندما أرى المبدعين يقولون أراء نقدية ، ويمارسون حقهم فى تقييم تجاربهم وتجارب الآخرين .
أفرح جدا عندما أرى مبدعا يمتلك وعى نقدى وفكرى يمكنه من الدفاع عن مفاهيمه للسرد . لأن هذا يعنى أنه ليس مجرد حكاء حواديت بل مثقف ومسيطرعلى المعرفة ، ولأن الكتابة تحتاج دائما إلى معرفة عميقة بالعالم وإلا جاءت تافهة وهبلة .
لهذا أفرح جدا كلما قرأت أو سمعت مداخلات ثقافية أو فكرية أو نقدية لطارق أمام ومحمد عبد النبى وأعتبرهما مثقفين حقيقين ومبدعين مهمين فى نفس الوقت .
مثل هؤلاء الكتاب يشعروننى بالفرح لأنى اخترت أن أكون مثلهم ، رغم أن القدرـ فقط ـ جعلنى أسبقهم فى رسم صورة المبدع الجديد الذى أؤمن به .
عندما خضت التجربة الثقافية والنقدية من غير أن التفت إلى تحذيرات البعض من أن يؤثر هذا على تجربتى الإبداعية ، ووصل الأمر إلى السخرية عندما قال أحدهم : سيد الوكيل قلب لمفكر ، وكأنه يجب على أن ألغى عقلى حتى أكون مبدعا .
ما أعنيه أن :
الإبداع الجديد ليس مجرد طريقة جديدة فى كتابة السرد أو الشعر ، بل هو قدرة على التفكير الديناميكى والمتجدد.
فطرائق السر الجديدة موجودة دائما فى كل زمن ، ثم تصبح قديمة بمرور الوقت . وما أحدثته من تجديد فى روايتى فوق الحياة قليلا أثار الدهشة وقتها واعتبر بداية للرواية الجديدة ، أما الآن فبعد مرور عشر سنوات عليه ، صار شائعا ومنتشرا ومبتذلا ولامعنى له، حتى أننى أرفض أن أكتب مثله الآن . وهكذا يحتاج المبدع درجة كبيرة من الوعى والمعرفة ليظل ساردا جديدا ومتجددا .
السرد الجديد هو ابن زمنه ولحظته ، ولا يوجد سرد جديد للأبد .
لهذا فالحاكمية للمبدع نفسه وليس للسرد أ أقصد لوعى وثقافة المبدع.
فالمبدع المثقف الذى يمتلك وعيا متجددا ، يمتلك أيضا رؤية موسوعية شاملة ، تجعله قادرا على فهم الماضى بدرجة أعمق ، والنظر إلى المستقبل بدرجة أبعد .
ومثل هؤلاء لايتورطون فى أحكام القيمة المطلقة ، كتورط إبراهيم فرغلى بالسخرية من كتاب القصة القصيرة وإعلان موتها ، أو كتورط نهى محمود بأن جيل الثمانينيات والتسعينيات جيل ضحل . وتورط سحر الموجى بأن كتاب جيلها ( التسعينيات ) هم أصحاب الكتابة الجديدة ، وهكذا فإن مثل هذه التصريحات لاتعكس سوى مجرد خناقة على تورتة الكتابة الجديدة .
فقط أردت أن أقول : إن الأراء النقدية والمداخلات الفكرية ورطة لصاحبها، تحتاج منه أن يكون شديد الحذر قبل إطلاق مقولاته بثقة .
أخطر شيء فى حياتنا هو أننا نطلق المقولات بثقة ، بما يعنى أننا فقدنا فضيلة الشك ، والشك هو أول خطوة فى تفكير نقدى وثقافى جديد . ومن ثم إنتاج سرد جديد .
مما يدهشنى أننا الآن نتكلم عن اللايقينية ، وما بعد الحداثة ، لكن مقولاتنا تفتقد التفكير المابعد حداثى ، وتمتلك اليقين ، وتنزع إلى تثبيت اللحظة المعاشة وتضعها فى حيز الإطلاق وكأنها قرآن لايأتيه الباطل من أى جهة لامن يمينه ولاشماله ولامن بين يديه .
التفكير المابعد حداثى يقتضى التعدد والتجاور وليس نفى الآخرين
التفكير المابعد حداثى يقتضى الشك ورفض اليقينيات والمطلقات .
التفكير ما بعد الحداثى يقتضى التجريب والمراجعة المستمرة للمقولات التى ننتجها .
التفكير المابعد حداثى يقتضى التفكيك وخلخلة الثوابت ، وليس استبدال الثوابت القديمة بأخرى جديدة .
والتفكير القديم هوالذى استبدل زمن القصة فى عصر يوسف إدريس بزمن الرواية بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل .
والتفكير القديم هو الذى استبدل أيقونات جيل الستينيات بأيقونات جيل التسعينيات ، وهونفسه التفكير الذى يسعى لإنتاج أيقونات جديدة فى الألفينيات.
التفكير القديم هو التفكير الضيق الذى ينحصر فى معانى ضيقة مثل الجيل أو الزمن أوالقيمة أو الأهمية أو الريادة .
وكما ترون ، كلها معانى مطلقة ومطاطة ، ويمكن أن نطلقها على أى شخص وأى زمن . وأى عمل . مثل هذا التفكير لايرسخ سوى للأحادية ، ولا ينتج سوى الأيقونات ، إنه فى الحقيقة تفكيرالنصف الأول من القرن الماضى ، الذى أنتج الزعامات الكبرى : عبد الناصر فى السياسة ، وأم كلثوم فى الغناء ، وصالح سليم فى الكرة ، ويوسف إدريس فى القصة ....إلى آخرمثل هذا الكلام الكبير جدا .